طول الأمد


الحلقة مفرغة

الحمد الله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم! صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم! بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالة في النار.

أخي المسلم! نحن نعرف أن كلمة (ملتزم) شاعت في بداية الصحوة الإسلامية كمهرب يهرب به الإخوة من وصف الناس بالكفر، وأيضاً للتمييز بين المسلم الذي يدخل في اسم عموم الإسلام مع أنه مقصر ومفرط في دينه، فكأنها صارت تعبيراً عن مسلم حسن إسلامه، فراراً من تكفير المسلمين بالمعاصي والتقصير، وفراراً أيضاً من وصف المسلم العام الذي يفرط ويقصر في دينه، والذي كنا جميعاً نلحظه أن كلمة (ملتزم) هذه كانت كلمة لها شأن عظيم جداً؛ لأنها كانت تعبر عن نقطة تحول كاملة في كل السلوك الحياتي والفكري والحد الفاصل بين ما مضى وبين الأمس، وبين اليوم وبين الغد، كانت نقطة تحول يتحول الإنسان فيها ويعيد تخطيط حياته كاملةً في ضوءِ ما يمليه عليه دينه الذي جدد العهد مع الله تبارك وتعالى أن يلتزم به، وينبغي أن نشتغل بدعوة الناس عموماً إلى الالتزام بدينهم، وأن نقوم بتحسين إسلامهم، ويتوجب علينا بين الحين والآخر أن لا ننسى أنفسنا، فنحن محتاجون إلى تصحيح إسلامنا وتجديد إيماننا، مع الاهتمام بالفقرة العددية والانتشار الأفقي في ساحة الدعوة، وربما كان هذا على حساب التغذية الفردية والسلوكية في بعض الناس، وخاصة إذا ضممنا إلى ذلك أن إنساناً يكون في أغلب عمره قد قضى هذا العمر من طفولته إلى صباه إلى أوائل شبابه طبقاً لنظام معين في المجتمع، وفي تعاملاته وأخلاقه وسلوكه، فإذا أراد تغيير بعض الصفات في الكبر فإنه يكون فيه شيء من الصعوبة، وربما حمل الإنسان على فعل ما كان عليه من قبل هذا الالتزام أو أن يترخص فيما لا يجوز له فيه الترخص أنه لم ينشأ على طاعة الله منذ الصغر، فنرجو أن تكون الأجيال القادمة بإذن الله أسعد حظاً منا.

وأكثر ما نعانيه الآن أنه بطول الأمد وبمرور الوقت يحصل فينا تغير وتحول، وهذا التحول الذي بقي يصيب المظهر أحياناً، وليس في الأمر كبير خطورة، لكن المشكلة أن هذا التحول مع الوقت يصيب الجوهر لا المظهر فقط، وينفذ إلى الصفات، ويعدل القيم والموازين التي ما كنا نتصور أنه في يوم من الأيام أن نتنازل عنها أو نمعن التفكير فيها.

أيضاً التحول في ترتيب الأولويات التي تشغل الإنسان في حياته، فبعد أن كان الأخ يعاهد الله تبارك وتعالى حينما يلتزم على أنه إذا تزوج سيفعل كذا، وأنه إذا رزق بأولاد سيربيهم على كذا، وسيجعلهم يحفظون القرآن في سن كذا... إلى آخر هذه الخطط والآمال إذ أنه يغير هذا كله، والواقع أننا نكون قد تنازلنا عن هذه الأشياء أو قصرنا أو فرطنا، وربما تغيرت نظرة الناس إلى أشياء كثيرة حتى يجوز أن يسمى حالهم بالافتتان، وقد قال بعض السلف في حد الفتنة: أن تستحل ما كنت تراه حراماً. يحمل هذا على أن الإنسان يترخص في شيء كان يراه حراماً، ولا يكون تحوله هذا عن زيادة علم ورسوخ في الفقه، وإنما مجرد جريان وراء الهوى والشهوات، وضعف أمام الفتن والمغريات، فنحن الآن ينبغي أن نلتفت إلى ضرورة أن نسعى لتحقيق صحوة جيدة أو زيادة الصحوة، فتوبتنا تحتاج الآن إلى توبة، والتزامنا يحتاج إلى التزام، وعلينا أن نجدد العهد مع الله تبارك وتعالى، وليس في هذا معرة أو أي نقص، وإنما هذه طبيعة البشر، إننا في الطريق إلى الله بصفتنا البشرية قد نتعثر، وليس الخطأ أن تتعثر ولكن الخطأ أن تتخذ الحفرة التي وقعت فيها مستقراً ومقيلاً، وتأوي إليها، وتخضع وترضخ لهذا الأمر، والواجب على الإنسان أن ينهض من العثرة ويجدد التوبة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من عبد مؤمن إلا وله ذنب يعتاده الفينة بعد الفينة، أو ذنب هو مقيم عليه لا يفارقه حتى يفارق، إن المؤمن خلق مفتناً تواباً نسياً، إذا ذكر ذكر) أو كما قال صلى الله عليه وسلم.

ونفس هذا المعنى الذي يشير إليه عبر عنه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، حتى لا ينزعج بعض الناس من هذا التعبير الذي نقوله، وهو أننا ينبغي أن نبحث عن تحقيق الصحوة، وتجديد الإيمان، وتحقيق الالتزام من جديد، وتجديد التوبة، وقد ألفنا خيراً من شيخ الإسلام ومجدد شباب الإسلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تبارك وتعالى، حكا عنه ابن القيم رحمه الله في أواخر حياته المباركة يقول: هذا كلام شيخ الإسلام : والله منذ أن احتلمت وبلغت وعقلت إلى الآن ما أعلم أني أسلمت إسلاماً جيداً، وإني أجدد إسلامي إلى الآن. فما هناك شك في أن أمثالنا أحوج إلى تصحيح الإسلام وتجديد العهد مع الله تبارك وتعالى من وقت إلى آخر.

الله تبارك وتعالى أمرنا بتجديد هذا الإيمان والإسلام، والتقصير طبيعة البشر، فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم) أو كما قال صلى الله عليه وآله وسلم، ولما سأله بعض الصحابة الوصية قال: (اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن) مع أنه سيحرص على تحقيق التقوى، لكن لا يمنع أنه يقع في تقصير، والمهم أنه لا يستسلم للشيطان، ينهض من العثرة، ويجدد توبته، ويستأنف المسير إلى الله عز وجل.

(وأتبع الحسنة السيئة تمحها) لأن الإنسان غير معصوم، (كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون)، وقال عز وجل في مدح المؤمنين وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً [آل عمران:135] ولم يقل: هم معصومون من فعل المعاصي. لكن قال: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:135]، لذلك قال عليه الصلاة والسلام: (ويل لأقماع القول، ويل للمصرين الذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون) شبههم بالقمع، وهو الذي يوضع فيه السائل فيخرج من أسفله، فمعنى ذلك أن هؤلاء لا ينفعلون بالنصيحة، وإنما تدخل فيهم من أعلى وتخرج من أسفل كأنها لا فائدة منها، وكأنهم لا يستفيدون ولا ينتفعون بها، والله تبارك وتعالى هو الذي يأمرنا أن نستجيب له فقال تعالى: اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ * فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ [الشورى:47-48]، والله عز وجل ينادينا إلى التوبة، وهو أرحم بنا من أنفسنا تبارك وتعالى، ليس هذا فحسب، بل هو يأمرنا بالمبادرة والمسارعة والمسابقة، فيقول: فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ [الذاريات:50] هذه هي الروح التي ينبغي أن تحكمنا في مسيرنا إلى الله، أننا نحقق في قلوبنا أن لا ملجأ من الله إلا إليه، فنفر من الله إلى الله (أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك) كما كان يدعو صلى الله عليه وآله وسلم.

ويقول تبارك وتعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186]، ويقول عز وجل: وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلامِ [يونس:25] هذه دعوة الله، هذه هي دعوة الحق، فهو يدعو إلى دار السلام.

وقال عز وجل في شأن المشركين: (أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ [البقرة:221]، ويقول تبارك وتعالى: وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا * يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا [النساء:27-28] ويقول النبي صلى الله عليه وسلم في تنبئه في فتن آخر الزمان: (دعاةٍ على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها)، ونحن اليوم تتخطفنا دعوات الشر من كل جانب، ومن كل حدب وصوب، فلا ملجأ ولا منجى من الله إلا إليه، ومثل هذه الفتن التي تحيط بنا من كل مكان ليس لها من دون الله كاشفة، فينبغي أن نعتصم بالله عز وجل، ونجتهد في النجاة، ولا تغرنا تلك القوافل أو الكتل التي تهوي إلى جهنم وهي غافلة عن هذا المصير ولا تهتم به، ولا تنظر فيما يكون فيما بعد الموت أو بعد الحياة.

ومما يقوي همتنا على ذلك أن الله عز وجل عظم ثواب التدين في وقت غفلة الناس وانخراطهم عن دين الله عز وجل، فالجزاء من جنس العمل، فكما أنه بالقدر الذي تعاني من الفتن حولك وتصبر لوجه الله بقدر ما يعظم ثوابك عند الله، كما قال عليه الصلاة والسلام لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (أجرك على قدر نفقتك ونصبك) فبقدر ما تعاني في طريق الاستقامة في سبيل الله بقدر ما يعظم أجرك عند الله تبارك وتعالى، ويقول صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الذي رواه مسلم : (العبادة في الهرج كهجرة إليَّ) الذي يعبد الله وقت الهرج ووقت الفتن ووقت اختلاط أمور الناس وكثرة القتل ووقت انصراف الناس عن الدين إلى الدنيا، فإن هذه هجرة تكون في القلب، فهو ربما يعجز، إذ قد لا توجد طريق للهجرة إلى دار إسلام أو إلى بلد أخف شراً، فإذا عمت الفتن فليهاجر الإنسان بقلبه، ويهجر السوء وأهله إلى الخير وأهله، يكون ثوابه حينئذ كهجرة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فيعظم ثواب التدين وقت الغفلة، لذلك لما سئل أبو ثعلبة الخشني رضي الله عنه عن تفسير قوله تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة:105] فقال للسائل: سألت عنها خبيراً، أنا سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلاً فقال: (مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، حتى إذا رأيتم هوىً متبعاً، وشحاً مطاعاً، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه عليكم أنفسكم، لا يضركم ضلال غيركم) لا تغتر بكثرة الهالكين، كما قال الفضيل بن عياض : الزم طريق الهدى ولا يضرك قلة السالكين، وإياك وطرق الضلالة! ولا تغتر بكثرة الهالكين.

حب الدنيا

وهناك أسباب لهذا المرض كما أن هناك علاجاً له، فما من شك في أن أعظم أسباب طول الأمد وضعف الدين وقسوة القلوب هو (حب الدنيا)، كما جاء في بعض الآثار أن حب الدنيا سبب كل خطئية، تأمل في أي ذنب يمكن أن الإنسان يقع فيه تجد أصله وأسه هو (حب الدنيا) كما قال عز وجل: كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ [القيامة:20-21]، وقال عز وجل: إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا [الإنسان:27]، فمن أحب شيئاً شغل به وقدمه على غيره، ويقول عليه الصلاة والسلام: (من أصبح والآخرة همه جمع الله له شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن أصبح والدنيا همه شتت الله عليه شمله، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له) فالناس إذا أصبح الصباح وردت إلى أبدانهم الأرواح ينقسمون إلى قسمين:

هناك إنسان يبيت على عد الأموال وحسابها، وهناك إنسان يبيت على الخصومات التي بينه وبين الآخرين، وهناك إنسان يبيت على الشهوات والمعاصي ويصحو أيضاً على طلب الدنيا، والإنسان إذا أراد أن يعرف ما هو أحب شيء إليه فلينظر ما هو الشيء الذي يقفز إلى ذهنه عندما ينام، أحب شيء إليك هو الشيء الذي عندما تأوي إلى فراشك تجده قد طغى على تفكيرك حتى تنام وأنت مشغول به.

كذلك الشيء الذي هو أحب الأشياء إليك، والشخص الذي هو أحب الأشخاص إليك هو من يخطر في ذهنك بمجرد أن تنتبه، كما يقول الشاعر في حق من يحبه:

وآخر شيء أنت في كل هجعةٍ وأول شيء أنت عند هبوبي

فكذلك من كان مشغولاً بالآخرة وكان محباً لله عز وجل أو رسوله حباً صادقاً أكثر من حبه لأهله وماله وولده وكل شيء في الدنيا قفز إلى قلبه دائماً حُب الله وحُب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وحب ما يحبه الله ويرضاه، إذا أصبح يقفز إلى قلبه هم الآخرة فيصحو على ذكر الله، وينام على ذكر الله، ويشغل قلبه دائماًً: ما الذي يرضي الله؟ فإذا نظر حكّم شرع الله: هل النظر هذا حلال أم حرام؟ وإذا لبس حكّم شرع الله، وإذا أكل وإذا شرب وإذا عمل، في كل حركاته وسكناته يبحث عما يرضي الله، فهذا هو الشخص الذي يكون من أصحاب الآخرة، كل شيء في الدنيا يذكره بالآخرة، وهذا هو العاقل، فإن الله تبارك وتعالى ما جعل كل ما في الدنيا إلا لكي ينبهنا على الآخرة، الدنيا لذاتها لا تشتهى ولا تطلب، فإن نعيمها عذاب، ولا بد أن يكون نعيم الدنيا مخلوطاً بالآفات والمكدرات، كما يقول الله عز وجل في شأن أصحاب الجنة: (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:25] (وأتوا به متشابها) نعيم الدنيا إنما خلق لكي يذكرك بالآخرة، وما في الجنة من الدنيا إلا الأسماء، فعنب الجنة ليس كعنب الدنيا، وثمر الجنة ليس كثمر الدنيا، إنما هو الاتفاق في الأسماء للتقريب فقط، أما الإنسان إذا حرم تماماً في الدنيا من النعيم فلن يستطيع أن يتخيل نعيم الآخرة، فمثلاً يحس بعينيه متعة النظر إلى الجمال الذي بثه الله تبارك وتعالى في هذا الخلق وفي الأشجار والحدائق والثمار ونحو ذلك، فهذا الشخص الذي فقد نعمة البصر لن يستطيع أن يتذوق نعمة النظر، وإذا كان الإنسان ليس له لسان -جدلاً- لن يحس بطعم ما يأكله، فأعطانا الله هذا النعيم في الدنيا لا لذاته، ولكن لينبهنا على نعيم الآخرة، ولكن خلط كل نعيم في الدنيا بالمكدرات والشوائب، فلا يوجد نعيم إلا ولا بد أن يكون مكدراً من عند أقل الأشياء إلى أكثرها. فمثلاً: إذا كان يحب أنواعاً معينة من الفواكه كالبطيخ والبرتقال فإنه يجد ما يكدره عليه، فالقشرة يجب أن تزيلها أولاً، ولا بد في البذر أن تتضايق فتجد بعض التعب في تخليصه، وربما إذا أسرفت فيه يترتب عليه أضرار صحية، وهكذا حتى النكاح، فتجد المكدرات والعناء الشديد، وأما في الآخرة فإنه لا يوجد شيء من هذا، لكن وجدت هذه الأمور في الدنيا، وقصّر الله عز وجل وقتها وخلطها بالآفات تنبيهاً على أنها ليست مقصودة بذاتها، إنما المقصود أن نتنبه إلى ما يكون في الآخرة من النعيم الذي لا يضاهى ولا يقارن بما في الدنيا، هذا في جانب النعيم.

أيضاً في جانب العذاب، وقد نص القرآن على ذلك كما في قوله تعالى: أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنْتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ * نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ [الواقعة:71-74] فبين الله عز وجل من خلق النار أمرين:

الأمر الأول -وقدمه لأنه أهم-: (نحن جعلناها) يعني: خلقناها (تذكرة ومتاعاً للمقوين) والمتاع معروف، تستدفئون بها وتطبخون بها الطعام، وتستضيئون بها، أما الهدف الأول من خلق النار في الدنيا فهو أن تكون تذكرة، إذا رأيتموها ذكرتم نار الآخرة فتعوذتم بالله منها، وحرصتم على أن لا تقعوا فيها، ولذلك قال صلى الله عليه وآله وسلم: (اشتكت النار إلى ربها فقالت: يا رب! أكل بعضي بعضاً. فأذن لها بنفسين: نفس في الصيف، ونفس في الشتاء، فهو أشد ما تجدون من الحر، وأشد ما تجدون من الزمهرير)، وألوان العذاب متنوعة ليست كما يتخيل الناس أن العذاب فقط بالحرارة المرتفعة التي هي سبعون ضعفاً من نار الدنيا، فهناك عذاب بالبرد الشديد الذي لا يقارن ببرد الدنيا وهو الزمهرير، وهذا أيضاً من أنواع ما يعذب به، يعذبون بالبرد كما يحرقون بالنار، والشاهد في قوله عز وجل: نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ [الواقعة:73] النار خلقت كي نتذكر بها نار الآخرة، ونتعوذ بالله إذا رأيناها، ونتخيل ما يصيبنا إذا وقعنا فيها، والزيارة إلى عنبر الحرائق في أي مستشفى يفسر للشخص معنى (نحن جعلناها تذكرة ومتاعاً للمقوين)، فهذا أول إنذار من حب الدنيا وانشغالنا بها، وانصراف قلوبنا عما خُلقت له من محبة الله ورجاء الله والخوف من الله، صارت الدنيا تغلب وتطغى على قلوبنا حتى صرنا من أصحاب هم الدنيا، وصاحب هم الدنيا يعاقب بتشتيت همه فيعامل بنقيض قصده؛ لأن الله لما فتح عليه باب الخير والعلم الشرعي وباب العمل بطاعة الله فآثر الهوى على ما يرضي الله عوقب بعكس مراده، فأنت تريد الراحة في الدنيا، وتريد أن تجد لنفسك الراحة بدلاً من أن يقولوا: متطرف وتصبح الحكاية نكداً في نكدٍ، تتهاون قليلاً وتترخص وتبحث عن زلة عالم هنا ورخصة هناك، وتفتش في الكتب لعلك تجد شيئاً يثبت ما تفعله، نتعامل مع البنوك، نترخص في الكلام مع النساء، أو أي شيء من هذه الأشياء التي يستدرجنا الشيطان بها رويداً رويداً حتى يخلعنا من الدين، فإذا حصل مثل هذا وهو يريد الراحة فيعاقب بالتعب والنكد، لا في الدين فقط، لكن في الدنيا يعامل بنقيض قصده، والجزاء من جنس العمل، لما هان الله عليك هنت عليه وتركك ونفسك، ورفع عنايته عنك، وأرسلك للشيطان، وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم! رحمتك أرجو، فلا تكلني إلى نفسي ولا إلى أحد من خلقك طرفة عين، وأصلح لي شأني كله) الله عز وجل وهو مدرك الحال، وهذا يقين عند كل إنسان راسخ في قلبه، فالله لو تخلى عنك طرفة عين ما أفلحت أبداً، فالشاهد في هذا كله أن من أراد الدنيا وأصبحت الدنيا هي همه وشغله الشاغل وقدمها على الدين انحصر التعارض، فهذا يعاقب كما بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم (من أصبح والدنيا همه شتت الله عليه شمله) وما أدراك ما تشتيت الشمل! لا تقضى له حاجة، لا يستريح، فهو في نكد وهم وذل دائم في الليل والنهار.

(وجعل فقره بين عينيه) هو يريد الدنيا، وقدمها على الدين حتى يغنى ويجمع المال، لكن عومل بنقيض قصده، فلو جمع الملايين فهو فقير؛ لأن الغنى غنى القلب، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام : (ليس الغنى بكثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس) فإذا احتجت إلى شيء فأنت فقير إليه.

وينبغي أيضاً أن يكون الإنسان على يقين من هذا المعنى، أن الغنى ليس بكثرة العرض، والراحة لا تكون بالمال، إنما الراحة بطاعة الله تبارك وتعالى، والسعادة في ذلك، فرب رجل غني تقي -أعني غني النفس- قانع بما يعطيه الله يبارك الله له في هذا القليل، وإذا أوى إلى فراشه يبيت هادئ البال حتى لو نام على صخرة، ما ينام على ريش النعام، ولا على الفرش الوثيرة، ولا القصور الفخمة، لكنه ينام ولو على قش ولو على صخرة يتوسدها هادئ البال مرتاحاً، بينما تجد ملوك ورؤساء الدنيا إذا نام أحدهم يهُم بالليل ويهُم بالنهار، وربما يكون اجتلاب النوم عنده شيء عسير جداً، حتى لا يستطيع أن ينام، وربما يتعاطى المنومات حتى ينعم بلحظات الراحة، ورب رجل معه المال الكثير سلطه على هلكته في الباطل والمعاصي، فهو ما بين شراء الفيديو والتلفاز والأفلام والمسرحيات وأكل الحرام وشرب الخمر والمخدرات والربا، ويسلط الله عليه الأمراض، فمعه مال كثير لكن ليس فيه بركة، وأما الرجل الفقير التقي الصالح الغني فبالعكس من ذلك، فأولاده فيهم بركة يحفظون القرآن، ويطيعون الله.

فالشاهد أن من آثر الدنيا على الآخرة عوقب بنقيض قصده، وحرم من الدنيا، وأيضاً حرم من الآخرة، قال تعالى:وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ [الشورى:45]، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201].

وأما من جعل همه الآخرة فإنه يجعل الله غناه في قلبه، فهذا أعلى درجات الغنى، الغنى غنى النفس والقلب، يقنع بالقليل فيبارك الله له فيه.

غنيت بلا مال عن الناس كلهم وإن الغنى العالي عن الشيء لا به

التأثر بالحرب الإعلامية ضد المتدينين

من أسباب ظاهرة طول الأمد وضعف التدين عند كثير من الناس التأثر بعمليات الحملات الإعلانية التي لا ييأس أعداء الله في وسائل الإعلام ليل نهار من التشويه والتحريض على المتدينين ووصفهم بالصفات المنفرة، كالتطرف والتزمت والرجعية وغير ذلك، خاصة إذا كان الإنسان يُعرض نفسه لهذه الإشعاعات المدمرة، ولو أنه جعل بينه وبين وسائل الإعلام الخبيثة سوراً لحمى نفسه من تأثيرها، لكن إذا كان يلتفت إليها فلا شك أنه سوف يتأثر برؤية وجوه الظالمين، وبرؤية وجوه العصاة والمجرمين، ألا ترى إلى قصة جريج العابد حينما نادته أمه وهو يصلي ثلاثاً فلم يجبها، وكان في كل مرة يقول: أي رب! أمي وصلاتي! فيقبل على صلاته، فدعت عليه أن لا يموت حتى يعاقب بعقوبة معينة، فقالت: (اللهم! لا تمته حتى يرى وجوه المومسات) أي: الزانيات من النساء. فهذه عقوبة أن تقع عين الإنسان على هؤلاء المجرمين والمجرمات، فكيف بتعمد ذلك؟!

وهكذا القلب السليم يحس بذلك، فنحن الآن ندفع الأموال حتى نجلب سخط الله ونشتري النار بالنقود، عذاب وفقدان مال، نشتغل بالأفلام والفيديو والتلفاز، ونجلس أمامه خاشعين صامتين كأننا في محراب العبادة والتبتل، وبأنفسنا نجلب ما يغضب الله ويسخطه، ونفتح على المجلات والجرائد، وننظر إلى ما حرم الله عز وجل النظر إليه، ثم نقول: إننا من أحسن الناس، وليس بعد التزامنا التزام.

فمن آثار هذه الظاهرة استجابة بعض الناس وخضوعهم أمام هذه الحملات، وتأثرهم بها، خاصة الأوساط المنفرة، فإن من أساليب الشيطان وأوليائه أن ينفروا من الحق بتغيير الألفاظ والتعبير عن الحق بالألفاظ المنفرة القبيحة المذمومة، يقول الشاعر:

تقول هذا مجاج النحلِ تمدحه وإن تشأ قلت ذا قيء الزنابير

مدحاً وذماً وما جاوزت وصفهما والحق قد يعتريه سوء تعبير

فيعبرون عن الحق ويلبسونه ثوباً منفراً، حتى يصدوا به الناس عن دين الله تبارك وتعالى، فما هو التطرف؟

التطرف: الأخذ بأطراف الأمور. أي: الابتعاد عن الوسط.

وكلا طرفي قصد الأمور ذميم.

الحق وسط، والأمة هذه هي أمة الوسط، والدين هو دين الوسط: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [البقرة:143] عدولاً، وخير الأمور الوسط، لكن أي وسط؟ ما هو المقياس الثابت؟ وما هو هذا الوسط؟

الوسط: هو ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومن حاز عنه يمنةً أو يسرةً فهذا هو المتطرف الذي انحرف عن الميزان الوسط المعتدل القوام، فالشخص الذي ينحرف عن هدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإفراط أو تفريط بغلو أو جفاء هو المتطرف، ففي الحقيقة هم المتطرفون حينما يستحلون ما حرم الله، وحينما يزينون المعاصي للناس، وحينما يخالفون هدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

أيضاً من هذه الأسباب التي أضعفت إلى حدٍ ما التزام كثير من الناس أن هناك بعض الجماعات المنسوبة إلى الدعوة الإسلامية تقدم للناس نماذج ممسوخة لهذا الالتزام، إرضاءً لأهواء الناس، وربما تكثيراً للأعداد دون مبالاة بالكيف والتربية، فيحصل التسيب الفقهي، ويحصل الاستهتار ببعض الأشياء من السنة أو من الدين، فما من شك أن الإنسان إذا فرط في الشيء الصغير أو اليسير فالصغير إلى الصغير يصيره كبيراً كما قال الشاعر:

لا تحقرن شيئاً من الذنوب صغيراً إن الصغير غداً يعود كبيراً

إن الصغير وإن تقادم عهده عند الإله مفصل تفصيلاً

وقال عليه الصلاة والسلام: (إياكم ومحقرات الأعمال! فإن لها من الله قالباً) وقال أنس : (إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر إن كنا لنعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الموبقات).

هجر القرآن والمخاصمة فيه

كذلك من هذه الأسباب هجر القرآن والمخاصمة فيه، فهجر القرآن على أنواع، فهناك هجر القرآن بعدم الإيمان به، وهجر القرآن بترك التحاكم إليه، وعدم تصديق شريعة القرآن، وهجر القرآن بهجر تلاوته حتى تتراكم عليه أكوام الأتربة، قال تعالى:وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا [الفرقان:30].

الانفتاح على رفقاء السوء

ومن هذه الأسباب أيضاً الانفتاح على رفقاء السوء وهجر الصالحين من عباد الله تبارك وتعالى؛ لأن الصالحين حتى لو لم يتكلموا تنتفع برؤيتهم، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أولياء الله الذين إذا رءوا ذُكر الله) وربما يمشي الإنسان أحياناً في الطريق ويكون غافلاً عن ذكر الله، فيجد رجلاً ماشياً في الطريق يذكر الله، أو له هيئة تدل على الصلاح والسمت الصالح، أو بمجرد أن تقع عينك عليه تتذكر وترى فمه لا يفتر عن ذكر الله فتقتدي به، وإذا رأيته تذكر الله، فهذا رجل ممن يذكرون الله، فتجد بركته تعود على كل من يقترن به ويتحقق فيه الدعاء أو الوصف: وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ [مريم:31] ينتفع به الناس حيث كان، فهؤلاء هم الذين إذا رءوا ذُكر الله تبارك وتعالى، فالإنسان يهجر إخوانه الصالحين الذين ينبهونه إذا غفل، ويذكرونه إذا نسي، وكثير من الناس يقول: أنا أريد أن أعتزل الإخوة؛ لأن فيهم عيوب كذا، وفيهم أناس يقصرون في كذا. لكن ما من شك أن الملتزمين بدينهم أقرب إلى الحق من غيرهم، الخير غالب عليهم، وبعض التقصير الذي يوجد في أحد من الناس لسبب أو لآخر إنما هو من آثار صفة البشرية، فهم ليسوا معصومين، والإنسان إذا هجر إخوانه الذين يعينونه على العلم وطاعة الله، وذكر الله، وصلاة الجماعة والدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فما من شك أن هؤلاء كالماء بالنسبة للسمك، إذا خرج منه ربما لا تبقى فيه حياة، فهذه حقيقة الأخوة في الله تبارك وتعالى، فإذا هجر إخوانه هل سيذهب ويعتزل في الجبال أم ينغمس تماماً في مجتمع كل ما فيه يبعده عن الله ويقصيه عن طريق الله؟! فإذا استبدل صحبة الخير بأناس لا يعظمون الدين فينضح ذلك عليه، ويضعف التزامه إذا أحاط نفسه بمن لا يعظمون ما يعظمه الله تبارك وتعالى.

أيضاً ضعف الهمة والفتور الذي يصيب الناس بمرور الوقت، وهذا سنزيده إيضاحاً إن شاء الله فيما بعد.

التهاون في قضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

من الأسباب التهاون في قضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتعلل بحجج باردة لا تغني عن صاحبها شيئاً، والإنسان إذا قصّر في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خاصة إذا وجب عليه فهذا يضعف الغيرة في القلب على الحرمات، فالشيطان يلبس على الناس فيقول المرء: أنا آمر وأنهى ولم أتعلم علماً كثيراً من العلم. لكن تستطيع أن تأمر وتنهى فيما هو معلوم في الدين من الضرورة وما أكثره في مجتمعنا! رجل يضيع الصلاة هل هذا يحتاج إلى أن تتفقه عشر سنوات حتى تأمره بصلاة الجمعة التي يهجرها أو صلاة الجماعة أو الصلاة أصلاً إذا كان تاركاً للصلاة؟

والربا والخمر ونحو هذه الأشياء لا يسع مسلماً أن يجهلها، ولا تحتاج إلى مراجع كبيرة وسنوات كثيرة حتى تتعلمها لتنكرها، والتبرج والتهتك الذي يحصل من النساء، كل هذه الأشياء لا بد للإنسان من أن ينكرها، وكلما مررت على المنكر ولم تنكره أو المعروف ولم تأمر به ففي هذه الحالة لا تظن أن قلبك في حالة سكون، لا بد أن يتأثر بكل ما يراه، يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (تُعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عوداً عوداً) يعني: الفتن تعرض على نفس الشكل على القلوب كعرض الحصير عوداً عوداً. ولم يقل: تُعرض على العين وإنما: على القلوب. وربما تكون الوسيلة هي العين وربما تكون هي الأذن، لكن في النهاية تصل إلى القلب ويتأثر شئت أم أبيت، ومعنى (تُعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير) أنه إذا نام الإنسان وقد كشف جنبه على الحصير فبعدما يستيقظ يجد أثراً لهذا الحصير في جنبه على هيئة خطوط في لحمه وجلده، فهذا هو عرض الحصير، فمعنى ذلك أن الفتن مثل الحصير، والجنب مثل القلب، فما دام الإنسان يتعرض للفتن ويعيش في جو فيه فتن لا بد أن قلبه سيتخذ موقفاً من هذه الفتنة، ويتأثر سلباً أو إيجاباً، زيادةً أو نقصاناً، فإن القلب يتأثر بالفتن كما يتأثر الجنب بالحصير إذا نام عليه، ولا بد أن ينطبع في قلبك شيء إزاء كل فتنة، يقول عليه الصلاة والسلام: (تُعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عوداً عوداً، فأيما قلبٍ أُشربها-تشرب بها وقبلها- نُكتت فيه نكتةٌ سوداء) إذا مرت عليك فتنة لم تنكرها بدرجة الإنكار الواجبة عليك سواء الإنكار باليد إن كنت قادراً على ذلك وبشروطه، أو الإنكار باللسان أو الإنكار بالقلب الذي هو فرض عين على كل مسلم، أما إنكار المنكر بالقلب فليس فرض كفاية، وليس بعده شيء اسمه استطاعة، والحديث فيه: (فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه) ولم يقل: (فإن لم يستطع) بعد إنكار القلب؛ لأن القلب لا سلطان لأحد عليه، حتى الإكراه، فقد قال تعالى: (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ [النحل:106]، فالقلب إذا رضي بالمنكر فإنه يموت ويخرج منه الإيمان؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (وليس وراء ذلك من الإيمان مثقال حبةٍ من خردل)، فينتفي الإيمان من القلب في هذه الحالة.

(وأيما قلب أنكرها نكتت فيه نكتةٌ بيضاء، حتى تصير القلوب على قلبين) تنقسم القلوب بعد حصول هذه الفتن والتعرض لها إلى نوعين: قلب أسود مرباد - معكر- كالكوز مجخياً. أي: كالكوز المنكوس المقلوب الذي قاعدته إلى أعلى فلا يستوعب الخير، فإذا وضعت فيه أي شيء كسائل أو حبوب فإنه سيقع لأنه منكوت، كذلك هذا القلب إذا ابتلي -والعياذ بالله- بالاستجابة وقبول الفتن وتشربها فإنه يمرض ويعتل، ولا يعرف معروفاً، ولا ينكر منكراً إلا ما أُشرب من الهوى.

وقلب أبيض لا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، فإذاً الشيطان يزين للإنسان كما يزين لبعض الناس الجهلة، يقول: أنا سأحج لكن حين يقوى إيماني، وسألتحي لكن لما يقوى إيماني قليلاً، وتقول المرأة: سأتحجب لكن لما يقوى إيماني. كلا، الطاعة هي التي تقوي الإيمان، والإيمان يزيد وينقص كما هو مقرر عند أهل السنة، يزيد بأسباب وينقص أيضاً بأسباب، فعليك أن تأخذ بهذه الأسباب وتستعين بالله، وتجتنب أسباب النقص، فيزيد الإيمان بالطاعات وينقص بالمعاصي، فمن أعظم الطاعات التي ترضي الله عز وجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال تعالى: وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ [العصر:1-2] كل إنسان دب على وجه هذه الأرض فهو في خسر، فهذه قاعدة إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:3] حتى الإنسان ولو كان مقصراً فإنه يجب عليه -ما دام يستطيع- أن ينهى عن المنكر، يقول بعض العلماء: فرض على شاربي الكئوس أن يعظ بعضهم بعضاً، فالذين جلسوا في منتزه يشربون الخمر عليهم وزران:

الوزر الأول: أنهم يشربون الخمر.

الوزر الثاني: وزر ترك الإنكار؛ لأنهم مجموعة، والواجب أن يتواصوا بالحق، ويتواصوا بالصبر على هذا الحق، فهم يقصرون أولاً بمعصية شرب الخمر، ويقصرون ثانياً أنهم لم ينه بعضهم بعضاً عن هذا المنكر، قال تعالى: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المائدة:78-79] لماذا؟ لأنهم لم ينه بعضهم بعضاً عن المنكر، فبعض الناس يقول: كيف أنهى وأنا مقصر؟

نعم أنت مأمور بالأمرين: أن لا تقصر وأن تنهى عن المنكر، لكن أن تضيع أمراً واحداً أهون من أن تضيع أمرين، ولعلك إذا أخلصت النية لله ونويت فلعل الله يقوي إيمانك، وببركة هذا الإخلاص لوجه الله يصلح الله حالك وقلبك، ويعالجه من علله، ففي هذه الحالة تكون فيه بركة عظيمة، فلو لم يوعظ إلا من كان نقياً من الذنوب فمن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان سيعظ الناس؟ من كان سيحمل رسالة الإسلام ويجاهد في سبيلها؟ فالإنسان لا يستسلم للشيطان بسبب ذنوبه وتقصيره، لكن عليه أن ينهض من العثرة ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ولا يسوف. ولا يؤجل، ولا يعتذر بالتقصير والمعاصي بقوله: حينما يقوى إيماني سأنهى عن المنكر. كلا، إذا أردت أن تقوي إيمانك فمن أعظم أسباب قوة الإيمان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والآن وأنت خارج من المسجد، وأنت تسير في الشارع توجد منكرات -والعياذ بالله- كثيرة، فجرب نفسك أسبوعاً كاملاً، إذا رأيت منكراً تُنكر باللسان، وسوف تحسها في نفسك، وتجد حلاوتها في قلبك، فأنت منتفع على كل الأحوال، أنت لا يحاسبك الله بأن تحول قلوب الناس فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ [الغاشية:21-22] يعني: لا تصطدم ولا تيأس ولا تفتر وتضعف همتك إذا لم يستجب الناس لك، وإذا آذاك الناس، وإذا ردوا عليك رداً سيئاً.

ومع ذلك كثير من الناس ما زال فيهم خير لا يؤذون من يأمرهم وينهاهم، لكن نحن الذين نقصر ونبتعد عن الناس، وربما الإنسان عندما يقرأ في بعض الجرائد أو المجلات الإسلامية قصص توبة بعض هؤلاء الملقبين بالفنانين والممثلين والمغنين يعجب، فعلى ما هم فيه من الغفلة لا نتصور أن فيهم شيئاً من الخير أبداً، لكن عندما تسمع القصص والحوار، وكيف بدأت توبة فلانة وتقول مثلاً: أول من هنأتني على التوبة فلانة وفلانة وفلانة. وتذكر أسماء أناس كانوا رواد الفسق والمعاصي والتمثيل، إذاً تحس من خلال واقع هؤلاء التائبين أن هناك تقصيراً من الدعاة، لكن ضالة الداعية إلى الله الشخص الكافر، وإلا يكون الأمر تحصيل حاصل إذا كان من نخاطبهم ونوصل دعوتنا إليهم هم الملتزمون، فهذه ليست ضالة الداعية، ضالة الداعية هو الفاسق والمقصر والعاصي، تبحث عنه وتزين له بضاعتك كما يزين التاجر بضاعته، اصبر على أذى الذين يرفعون شعار (الزبون دائماً على حق) لماذا؟ حتى يحصل على مال، وحتى يحسن علاقته مع الزبون، ويخاف العمال الذين يعملون في المتجر من أن يسيئوا أخلاقهم مع الزبائن، فهذا أسلوب منفر، فيرفع شعار (الزبون دائماً على حق)، ويزين المحل، ويعمل له ديكوراً في الخارج، ويعلن عن تخفيض الأسعار، ويعمل كل شيء من أجل أن يزين بضاعته ولا ينفر منها من يدعوه إلى الشراء، ولماذا نحن نقصر في هذا؟ لماذا لا نزين دعوتنا للناس؟ لماذا لا نحاول أن نبحث عن أفضل ثوب ونعرضها فيه؟

لماذا لا نصبر على من يؤذينا؟ التاجر يصبر لأجل العيش وأنت تصبر وتقول: أريد الجنة التي هي أوسع من السماوات والأرض، هذا عرضها فكيف بطولها؟ ألا إن سلعة الله غالية ألا إن سلعة الله الجنة! إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ [التوبة:111]، فلماذا سلعة الله تريدها وأنت مقصر ومفرط؟!

فالشاهد أنك تسلك هذا المسلك بل تكون أعظم اجتهاداً؛ لأنك تريد أعظم مما يريده ذلك التاجر.

موت الغيرة على الحرمات في القلوب

أيضاً من أسباب طول الأمد موت الغيرة على الحرمات في القلوب؛ لأنه كلما كان الإنسان منكراً للمنكر آمراً بالمعروف يبقي قلبه حياً حساساً إزاء المنكرات، فبعض الناس يكون عندهم حساسية من نوع من الأدوية، فإذا أخذه تحصل له هذه الحساسية، كذلك قلب المؤمن إذا رأى المنكر ينفعل ويثور دمه ويغلي، وكان عليه الصلاة والسلام لا يغضب إلا لله، كان لا ينتصر لنفسه صلى الله عليه وآله وسلم، فكذلك الإنسان على الأقل فيما يخص نفسه، يقول النبي عليه الصلاة والسلام في إحدى علامات حياة القلب التي يجد فيها الإنسان حلاوة الإيمان: (أن يكره أن يعود إلى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار) فتكره الكفر والمعاصي، فالفساد ينبغي أن تكرهه وتبغضه بقلبك؛ لأن الله يبغضه فضلاً عن أن تفتن به أو تستجيب لفتنته، فالإنسان يكره ويبغض بقلبه ما يكرهه الله تبارك وتعالى، حتى يتحقق فيه قوله عز وجل: حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ [الحجرات:7]، فهل الإيمان وأفعال الإيمان مزينة في قلبك؟ هل الذي لا يغض بصره يعرف أن الله مطلع عليه وأن الله يبغض منه هذه المعصية حين ينظر إلى ما حرم الله؟! وهل هذا يكره المعصية كما يكره أن يقذف في النار؟ كلا.

إهمال الجانب السلوكي والتربوي

أيضاً من هذه الأسباب التركيز على الجانب العقلي أو الجانب النظري مع إهمال الجانب السلوكي والتربوي، إهمال الروح والنفس مع أن تزكية النفس من أعظم الوظائف التي بُعث رسولنا صلى الله عليه وآله وسلم من أجل تحقيقها، يقول الله عز وجل: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [الجمعة:2]، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس:9] أي: النفس وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:10].

ويقول تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى [الأعلى:14] فالفلاح منوط بالتزكية، وهي تطهير القلب بالتوحيد والعقيدة الصحيحة، أي: مراعاة حرمات الله واجتناب ما يسخطه عز وجل. يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الإيمان ليَخلقُ في جوف أحدكم كما يخلق الثوب، فاسألوا الله تعالى أن يجدد الإيمان في قلوبكم).

اللهم! إنا نسألك أن تجدد الإيمان في قلوبنا.

فقوله عليه الصلاة والسلام: ( إن الإيمان ليخلق) يعني: يبلى (كما يخلق الثوب) إذا كان عندك ثوب فيه ألوان أو خطوط فمع كثرة الغسيل والمواد الكيماوية وتعرضه للشمس والاستعمال تجد الثوب يدرس وجهه وتنمحي معالمه رويداً رويداً، فيخبر الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى بهذه الحقيقة، وينبغي أن نصدق بما يخبرنا عليه الصلاة والسلام.

(إن الإيمان يَخلقُ في جوف أحدكم) أي: يضعف، ومع طول الوقت تنمحي معالمه كما يخلق الثوب. ويرشدنا النبي صلى الله عليه وسلم إلى أسباب معينة لا بد من أن نلاحق بها هذا البِلى، فلا بد من أن يحصل عامل مضاد نواجه به هذا البِلىَ وهذا الانجراف، ويذكر هنا عليه الصلاة والسلام دعاءً معيناً لزوال هذا المرض، فهذا هو المضاد لعملية ضعف الإيمان في القلوب (فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم) يعني: حتى لا يبقى في قلوبكم رغبة في غير الله عز وجل.

وهناك أسباب لهذا المرض كما أن هناك علاجاً له، فما من شك في أن أعظم أسباب طول الأمد وضعف الدين وقسوة القلوب هو (حب الدنيا)، كما جاء في بعض الآثار أن حب الدنيا سبب كل خطئية، تأمل في أي ذنب يمكن أن الإنسان يقع فيه تجد أصله وأسه هو (حب الدنيا) كما قال عز وجل: كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ [القيامة:20-21]، وقال عز وجل: إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا [الإنسان:27]، فمن أحب شيئاً شغل به وقدمه على غيره، ويقول عليه الصلاة والسلام: (من أصبح والآخرة همه جمع الله له شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن أصبح والدنيا همه شتت الله عليه شمله، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له) فالناس إذا أصبح الصباح وردت إلى أبدانهم الأرواح ينقسمون إلى قسمين:

هناك إنسان يبيت على عد الأموال وحسابها، وهناك إنسان يبيت على الخصومات التي بينه وبين الآخرين، وهناك إنسان يبيت على الشهوات والمعاصي ويصحو أيضاً على طلب الدنيا، والإنسان إذا أراد أن يعرف ما هو أحب شيء إليه فلينظر ما هو الشيء الذي يقفز إلى ذهنه عندما ينام، أحب شيء إليك هو الشيء الذي عندما تأوي إلى فراشك تجده قد طغى على تفكيرك حتى تنام وأنت مشغول به.

كذلك الشيء الذي هو أحب الأشياء إليك، والشخص الذي هو أحب الأشخاص إليك هو من يخطر في ذهنك بمجرد أن تنتبه، كما يقول الشاعر في حق من يحبه:

وآخر شيء أنت في كل هجعةٍ وأول شيء أنت عند هبوبي

فكذلك من كان مشغولاً بالآخرة وكان محباً لله عز وجل أو رسوله حباً صادقاً أكثر من حبه لأهله وماله وولده وكل شيء في الدنيا قفز إلى قلبه دائماً حُب الله وحُب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وحب ما يحبه الله ويرضاه، إذا أصبح يقفز إلى قلبه هم الآخرة فيصحو على ذكر الله، وينام على ذكر الله، ويشغل قلبه دائماًً: ما الذي يرضي الله؟ فإذا نظر حكّم شرع الله: هل النظر هذا حلال أم حرام؟ وإذا لبس حكّم شرع الله، وإذا أكل وإذا شرب وإذا عمل، في كل حركاته وسكناته يبحث عما يرضي الله، فهذا هو الشخص الذي يكون من أصحاب الآخرة، كل شيء في الدنيا يذكره بالآخرة، وهذا هو العاقل، فإن الله تبارك وتعالى ما جعل كل ما في الدنيا إلا لكي ينبهنا على الآخرة، الدنيا لذاتها لا تشتهى ولا تطلب، فإن نعيمها عذاب، ولا بد أن يكون نعيم الدنيا مخلوطاً بالآفات والمكدرات، كما يقول الله عز وجل في شأن أصحاب الجنة: (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:25] (وأتوا به متشابها) نعيم الدنيا إنما خلق لكي يذكرك بالآخرة، وما في الجنة من الدنيا إلا الأسماء، فعنب الجنة ليس كعنب الدنيا، وثمر الجنة ليس كثمر الدنيا، إنما هو الاتفاق في الأسماء للتقريب فقط، أما الإنسان إذا حرم تماماً في الدنيا من النعيم فلن يستطيع أن يتخيل نعيم الآخرة، فمثلاً يحس بعينيه متعة النظر إلى الجمال الذي بثه الله تبارك وتعالى في هذا الخلق وفي الأشجار والحدائق والثمار ونحو ذلك، فهذا الشخص الذي فقد نعمة البصر لن يستطيع أن يتذوق نعمة النظر، وإذا كان الإنسان ليس له لسان -جدلاً- لن يحس بطعم ما يأكله، فأعطانا الله هذا النعيم في الدنيا لا لذاته، ولكن لينبهنا على نعيم الآخرة، ولكن خلط كل نعيم في الدنيا بالمكدرات والشوائب، فلا يوجد نعيم إلا ولا بد أن يكون مكدراً من عند أقل الأشياء إلى أكثرها. فمثلاً: إذا كان يحب أنواعاً معينة من الفواكه كالبطيخ والبرتقال فإنه يجد ما يكدره عليه، فالقشرة يجب أن تزيلها أولاً، ولا بد في البذر أن تتضايق فتجد بعض التعب في تخليصه، وربما إذا أسرفت فيه يترتب عليه أضرار صحية، وهكذا حتى النكاح، فتجد المكدرات والعناء الشديد، وأما في الآخرة فإنه لا يوجد شيء من هذا، لكن وجدت هذه الأمور في الدنيا، وقصّر الله عز وجل وقتها وخلطها بالآفات تنبيهاً على أنها ليست مقصودة بذاتها، إنما المقصود أن نتنبه إلى ما يكون في الآخرة من النعيم الذي لا يضاهى ولا يقارن بما في الدنيا، هذا في جانب النعيم.

أيضاً في جانب العذاب، وقد نص القرآن على ذلك كما في قوله تعالى: أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنْتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ * نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ [الواقعة:71-74] فبين الله عز وجل من خلق النار أمرين:

الأمر الأول -وقدمه لأنه أهم-: (نحن جعلناها) يعني: خلقناها (تذكرة ومتاعاً للمقوين) والمتاع معروف، تستدفئون بها وتطبخون بها الطعام، وتستضيئون بها، أما الهدف الأول من خلق النار في الدنيا فهو أن تكون تذكرة، إذا رأيتموها ذكرتم نار الآخرة فتعوذتم بالله منها، وحرصتم على أن لا تقعوا فيها، ولذلك قال صلى الله عليه وآله وسلم: (اشتكت النار إلى ربها فقالت: يا رب! أكل بعضي بعضاً. فأذن لها بنفسين: نفس في الصيف، ونفس في الشتاء، فهو أشد ما تجدون من الحر، وأشد ما تجدون من الزمهرير)، وألوان العذاب متنوعة ليست كما يتخيل الناس أن العذاب فقط بالحرارة المرتفعة التي هي سبعون ضعفاً من نار الدنيا، فهناك عذاب بالبرد الشديد الذي لا يقارن ببرد الدنيا وهو الزمهرير، وهذا أيضاً من أنواع ما يعذب به، يعذبون بالبرد كما يحرقون بالنار، والشاهد في قوله عز وجل: نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ [الواقعة:73] النار خلقت كي نتذكر بها نار الآخرة، ونتعوذ بالله إذا رأيناها، ونتخيل ما يصيبنا إذا وقعنا فيها، والزيارة إلى عنبر الحرائق في أي مستشفى يفسر للشخص معنى (نحن جعلناها تذكرة ومتاعاً للمقوين)، فهذا أول إنذار من حب الدنيا وانشغالنا بها، وانصراف قلوبنا عما خُلقت له من محبة الله ورجاء الله والخوف من الله، صارت الدنيا تغلب وتطغى على قلوبنا حتى صرنا من أصحاب هم الدنيا، وصاحب هم الدنيا يعاقب بتشتيت همه فيعامل بنقيض قصده؛ لأن الله لما فتح عليه باب الخير والعلم الشرعي وباب العمل بطاعة الله فآثر الهوى على ما يرضي الله عوقب بعكس مراده، فأنت تريد الراحة في الدنيا، وتريد أن تجد لنفسك الراحة بدلاً من أن يقولوا: متطرف وتصبح الحكاية نكداً في نكدٍ، تتهاون قليلاً وتترخص وتبحث عن زلة عالم هنا ورخصة هناك، وتفتش في الكتب لعلك تجد شيئاً يثبت ما تفعله، نتعامل مع البنوك، نترخص في الكلام مع النساء، أو أي شيء من هذه الأشياء التي يستدرجنا الشيطان بها رويداً رويداً حتى يخلعنا من الدين، فإذا حصل مثل هذا وهو يريد الراحة فيعاقب بالتعب والنكد، لا في الدين فقط، لكن في الدنيا يعامل بنقيض قصده، والجزاء من جنس العمل، لما هان الله عليك هنت عليه وتركك ونفسك، ورفع عنايته عنك، وأرسلك للشيطان، وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم! رحمتك أرجو، فلا تكلني إلى نفسي ولا إلى أحد من خلقك طرفة عين، وأصلح لي شأني كله) الله عز وجل وهو مدرك الحال، وهذا يقين عند كل إنسان راسخ في قلبه، فالله لو تخلى عنك طرفة عين ما أفلحت أبداً، فالشاهد في هذا كله أن من أراد الدنيا وأصبحت الدنيا هي همه وشغله الشاغل وقدمها على الدين انحصر التعارض، فهذا يعاقب كما بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم (من أصبح والدنيا همه شتت الله عليه شمله) وما أدراك ما تشتيت الشمل! لا تقضى له حاجة، لا يستريح، فهو في نكد وهم وذل دائم في الليل والنهار.

(وجعل فقره بين عينيه) هو يريد الدنيا، وقدمها على الدين حتى يغنى ويجمع المال، لكن عومل بنقيض قصده، فلو جمع الملايين فهو فقير؛ لأن الغنى غنى القلب، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام : (ليس الغنى بكثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس) فإذا احتجت إلى شيء فأنت فقير إليه.

وينبغي أيضاً أن يكون الإنسان على يقين من هذا المعنى، أن الغنى ليس بكثرة العرض، والراحة لا تكون بالمال، إنما الراحة بطاعة الله تبارك وتعالى، والسعادة في ذلك، فرب رجل غني تقي -أعني غني النفس- قانع بما يعطيه الله يبارك الله له في هذا القليل، وإذا أوى إلى فراشه يبيت هادئ البال حتى لو نام على صخرة، ما ينام على ريش النعام، ولا على الفرش الوثيرة، ولا القصور الفخمة، لكنه ينام ولو على قش ولو على صخرة يتوسدها هادئ البال مرتاحاً، بينما تجد ملوك ورؤساء الدنيا إذا نام أحدهم يهُم بالليل ويهُم بالنهار، وربما يكون اجتلاب النوم عنده شيء عسير جداً، حتى لا يستطيع أن ينام، وربما يتعاطى المنومات حتى ينعم بلحظات الراحة، ورب رجل معه المال الكثير سلطه على هلكته في الباطل والمعاصي، فهو ما بين شراء الفيديو والتلفاز والأفلام والمسرحيات وأكل الحرام وشرب الخمر والمخدرات والربا، ويسلط الله عليه الأمراض، فمعه مال كثير لكن ليس فيه بركة، وأما الرجل الفقير التقي الصالح الغني فبالعكس من ذلك، فأولاده فيهم بركة يحفظون القرآن، ويطيعون الله.

فالشاهد أن من آثر الدنيا على الآخرة عوقب بنقيض قصده، وحرم من الدنيا، وأيضاً حرم من الآخرة، قال تعالى:وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ [الشورى:45]، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201].

وأما من جعل همه الآخرة فإنه يجعل الله غناه في قلبه، فهذا أعلى درجات الغنى، الغنى غنى النفس والقلب، يقنع بالقليل فيبارك الله له فيه.

غنيت بلا مال عن الناس كلهم وإن الغنى العالي عن الشيء لا به

من أسباب ظاهرة طول الأمد وضعف التدين عند كثير من الناس التأثر بعمليات الحملات الإعلانية التي لا ييأس أعداء الله في وسائل الإعلام ليل نهار من التشويه والتحريض على المتدينين ووصفهم بالصفات المنفرة، كالتطرف والتزمت والرجعية وغير ذلك، خاصة إذا كان الإنسان يُعرض نفسه لهذه الإشعاعات المدمرة، ولو أنه جعل بينه وبين وسائل الإعلام الخبيثة سوراً لحمى نفسه من تأثيرها، لكن إذا كان يلتفت إليها فلا شك أنه سوف يتأثر برؤية وجوه الظالمين، وبرؤية وجوه العصاة والمجرمين، ألا ترى إلى قصة جريج العابد حينما نادته أمه وهو يصلي ثلاثاً فلم يجبها، وكان في كل مرة يقول: أي رب! أمي وصلاتي! فيقبل على صلاته، فدعت عليه أن لا يموت حتى يعاقب بعقوبة معينة، فقالت: (اللهم! لا تمته حتى يرى وجوه المومسات) أي: الزانيات من النساء. فهذه عقوبة أن تقع عين الإنسان على هؤلاء المجرمين والمجرمات، فكيف بتعمد ذلك؟!

وهكذا القلب السليم يحس بذلك، فنحن الآن ندفع الأموال حتى نجلب سخط الله ونشتري النار بالنقود، عذاب وفقدان مال، نشتغل بالأفلام والفيديو والتلفاز، ونجلس أمامه خاشعين صامتين كأننا في محراب العبادة والتبتل، وبأنفسنا نجلب ما يغضب الله ويسخطه، ونفتح على المجلات والجرائد، وننظر إلى ما حرم الله عز وجل النظر إليه، ثم نقول: إننا من أحسن الناس، وليس بعد التزامنا التزام.

فمن آثار هذه الظاهرة استجابة بعض الناس وخضوعهم أمام هذه الحملات، وتأثرهم بها، خاصة الأوساط المنفرة، فإن من أساليب الشيطان وأوليائه أن ينفروا من الحق بتغيير الألفاظ والتعبير عن الحق بالألفاظ المنفرة القبيحة المذمومة، يقول الشاعر:

تقول هذا مجاج النحلِ تمدحه وإن تشأ قلت ذا قيء الزنابير

مدحاً وذماً وما جاوزت وصفهما والحق قد يعتريه سوء تعبير

فيعبرون عن الحق ويلبسونه ثوباً منفراً، حتى يصدوا به الناس عن دين الله تبارك وتعالى، فما هو التطرف؟

التطرف: الأخذ بأطراف الأمور. أي: الابتعاد عن الوسط.

وكلا طرفي قصد الأمور ذميم.

الحق وسط، والأمة هذه هي أمة الوسط، والدين هو دين الوسط: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [البقرة:143] عدولاً، وخير الأمور الوسط، لكن أي وسط؟ ما هو المقياس الثابت؟ وما هو هذا الوسط؟

الوسط: هو ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومن حاز عنه يمنةً أو يسرةً فهذا هو المتطرف الذي انحرف عن الميزان الوسط المعتدل القوام، فالشخص الذي ينحرف عن هدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإفراط أو تفريط بغلو أو جفاء هو المتطرف، ففي الحقيقة هم المتطرفون حينما يستحلون ما حرم الله، وحينما يزينون المعاصي للناس، وحينما يخالفون هدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

أيضاً من هذه الأسباب التي أضعفت إلى حدٍ ما التزام كثير من الناس أن هناك بعض الجماعات المنسوبة إلى الدعوة الإسلامية تقدم للناس نماذج ممسوخة لهذا الالتزام، إرضاءً لأهواء الناس، وربما تكثيراً للأعداد دون مبالاة بالكيف والتربية، فيحصل التسيب الفقهي، ويحصل الاستهتار ببعض الأشياء من السنة أو من الدين، فما من شك أن الإنسان إذا فرط في الشيء الصغير أو اليسير فالصغير إلى الصغير يصيره كبيراً كما قال الشاعر:

لا تحقرن شيئاً من الذنوب صغيراً إن الصغير غداً يعود كبيراً

إن الصغير وإن تقادم عهده عند الإله مفصل تفصيلاً

وقال عليه الصلاة والسلام: (إياكم ومحقرات الأعمال! فإن لها من الله قالباً) وقال أنس : (إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر إن كنا لنعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الموبقات).

كذلك من هذه الأسباب هجر القرآن والمخاصمة فيه، فهجر القرآن على أنواع، فهناك هجر القرآن بعدم الإيمان به، وهجر القرآن بترك التحاكم إليه، وعدم تصديق شريعة القرآن، وهجر القرآن بهجر تلاوته حتى تتراكم عليه أكوام الأتربة، قال تعالى:وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا [الفرقان:30].

ومن هذه الأسباب أيضاً الانفتاح على رفقاء السوء وهجر الصالحين من عباد الله تبارك وتعالى؛ لأن الصالحين حتى لو لم يتكلموا تنتفع برؤيتهم، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أولياء الله الذين إذا رءوا ذُكر الله) وربما يمشي الإنسان أحياناً في الطريق ويكون غافلاً عن ذكر الله، فيجد رجلاً ماشياً في الطريق يذكر الله، أو له هيئة تدل على الصلاح والسمت الصالح، أو بمجرد أن تقع عينك عليه تتذكر وترى فمه لا يفتر عن ذكر الله فتقتدي به، وإذا رأيته تذكر الله، فهذا رجل ممن يذكرون الله، فتجد بركته تعود على كل من يقترن به ويتحقق فيه الدعاء أو الوصف: وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ [مريم:31] ينتفع به الناس حيث كان، فهؤلاء هم الذين إذا رءوا ذُكر الله تبارك وتعالى، فالإنسان يهجر إخوانه الصالحين الذين ينبهونه إذا غفل، ويذكرونه إذا نسي، وكثير من الناس يقول: أنا أريد أن أعتزل الإخوة؛ لأن فيهم عيوب كذا، وفيهم أناس يقصرون في كذا. لكن ما من شك أن الملتزمين بدينهم أقرب إلى الحق من غيرهم، الخير غالب عليهم، وبعض التقصير الذي يوجد في أحد من الناس لسبب أو لآخر إنما هو من آثار صفة البشرية، فهم ليسوا معصومين، والإنسان إذا هجر إخوانه الذين يعينونه على العلم وطاعة الله، وذكر الله، وصلاة الجماعة والدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فما من شك أن هؤلاء كالماء بالنسبة للسمك، إذا خرج منه ربما لا تبقى فيه حياة، فهذه حقيقة الأخوة في الله تبارك وتعالى، فإذا هجر إخوانه هل سيذهب ويعتزل في الجبال أم ينغمس تماماً في مجتمع كل ما فيه يبعده عن الله ويقصيه عن طريق الله؟! فإذا استبدل صحبة الخير بأناس لا يعظمون الدين فينضح ذلك عليه، ويضعف التزامه إذا أحاط نفسه بمن لا يعظمون ما يعظمه الله تبارك وتعالى.

أيضاً ضعف الهمة والفتور الذي يصيب الناس بمرور الوقت، وهذا سنزيده إيضاحاً إن شاء الله فيما بعد.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور محمد إسماعيل المقدم - عنوان الحلقة اسٌتمع
قصتنا مع اليهود 2627 استماع
دعوى الجاهلية 2562 استماع
شروط الحجاب الشرعي 2560 استماع
التجديد في الإسلام 2514 استماع
تكفير المعين وتكفير الجنس 2505 استماع
محنة فلسطين [2] 2466 استماع
انتحار أم استشهاد 2438 استماع
تفسير آية الكرسي 2404 استماع
وإن عدتم عدنا 2395 استماع
الموت خاتمتك أيها الإنسان 2394 استماع