شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [52]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الصادقين المصلحين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً وعملاً صالحا بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

كنا ذكرنا فيما سبق الطرق الحسان التي يحصن الإنسان بها نفسه من الشيطان، وقلت: إن هذه الطرق على تعددها وكثرتها وتنوعها تنقسم إلى أمرين اثنين:

أمر ينبغي أن نجتنبه وأن نحذره وأن نصون أنفسنا عنه، وأمر ينبغي أن نتحلى به وأن نفعله، تحلية وتخلية، ترك وفعل، أما ما ينبغي أن نتركه وأن نحذره وأن نصون أنفسنا عنه تقدم معنا وهو سبعة أمور: ووقفنا عند الأمر السابع.

أول هذه الأمور السبعة كما تقدم معنا: حفظ الخطرات، وثانيها: حفظ اللحظات، وثالثها: حفظ اللفظات، ورابعها: حفظ الخطوات، وخامسها: السمع، وسادسها: حفظ البطن من الشهوات والمحرمات، وسابعها وهو آخر الأمور: حفظ الفرج، نسأل الله أن يحفظنا من كل شائبة بفضله ورحمته.

وتقدم معنا أنه يراد بحفظ الفرج أمران؛ أولهما: عدم كشفه، فينبغي أن نستره وأن نصونه كما لا يجوز لأحد أن يراه إلا من أذن له ربنا، والأمر الثاني: عدم استعماله إلا فيما أحل الله عز وجل، إذاً نستره ونستعمله فيما أذن الله جل وعلا، والتفريط في هذا -كما قلت- فتح باب للشيطان ليدخل منه إلى قلب الإنسان.

وتقدم معنا أنه ينبغي أن نصون فروجنا عن الزنا، وتقدم معنا شناعة هذا الأمر، وما يترتب عليه من خطر في الدنيا والآخرة، كما ينبغي أن نصون فروجنا عن اللواط، وشرعنا في الأمر الثالث ألا وهو: أن نصون فروجنا عن مباشرة الأهل فيما حرم الله عز وجل الوطء فيه.

بقي علينا ستة أمور، هي: أولاً: حفظ الفروج من السحاق فيما يتعلق بالنساء، وهذا سنذكره إن شاء الله بعد هذا الأمر، والأمر الثاني: من الأمور الستة: أن نصون أنفسنا عن المباشرة فيما دون الفرج، مما حرم الله علينا إلا من مداعبة، وتقبيل، ومفاخذة، وإن لا يقصد بذلك إيلاج وإدخال، الأمر الثالث: أن نصون أنفسنا عن الاستمناء، وعمل الكفار بالبهائم فهذا خلق السفهاء، وعن وطء المرأة في حيضها أو نفاسها، وأكمل المبحث بأمر سادس يكثر السؤال عنه في موضوع نظر كل من الزوجين إلى فرج زوجه وإلى نفسه، وإلى غير ذلك.

حفظ الفرج سبب لدخول الجنة

لابد من أن نصون فروجنا، ومن حفظ الفرج فقد حصل له الفرَج في العاجل والآجل، وقد تقدم معنا أن: ( أكثر ما يدخل الناس النار الأجوفان: الفَم والفرْج، وأكثر ما يدخل الناس الجنة: تقوى الله وحسن الخلق ).

من حفظ فرجه مع الأمور الأخرى، وقام بها فله بشارة في العاجل والآجل فهو ولي لرب الأرض والسماوات، ويضمن له نبينا عليه الصلاة والسلام بعد الممات أن يدخل نعيم الجنات.

ثبت في مسند الإمام أحمد، ومعجم الطبراني الأوسط، والحديث رواه ابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه، ورواه الإمام النسائي في السنن الكبرى، والبيهقي في السنن الكبرى، وشعب الإيمان، ورواه ابن أبي الدنيا، والخرائطي في مكارم الأخلاق.

والحديث لا ينزل عن درجة الحسن بشواهده الكثيرة، ولفظ الحديث من رواية عبادة بن الصامت رضي الله عنه وأرضاه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( اضمنوا لي ستاً من أنفسكم أضمن لكم الجنة؛ أولها: اصدقوا إذا حدثتم، ثانيها: أوفوا إذا وعدتم، ثالثها: أدوا الأمانة إذا أتمنتم، رابعها: احفظوا فروجكم، خامسها: غضوا أبصاركم، سادسها: كفوا أيديكم )، عما حرم الله عليكم من بطش وأذى ولمس المحرم وغير ذلك، قال الحاكم في المستدرك: هذا حديث صحيح الإسناد، وتعقبه الذهبي في تلخيص المستدرك فقال: قلت فيه إرسال، وقال المنذري في الترغيب والترهيب: قلت: بل المطلب بن عبد الله بن حنطب ، لم يسمع من عبادة بن الصامت رضي الله عنهم أجمعين، وهذا هو الإرسال الذي أشار إليه الإمام الذهبي أي: الانقطاع، الذي بين المطلب بن عبد الله بن حنطب ، وبين عبادة بن الصامت رضي الله عنهم أجمعين.

وهكذا قال الهيثمي في المجمع: رجال الحديث ثقات إلا أن المطلب بن عبد الله بن حنطب ، لم يسمع من عبادة بن الصامت رضي الله عنهم أجمعين، والمطلب : صدوق كثير التدليس ،كما حكم عليه بذلك الحافظ في التقريب، وروى له البخاري في جزء القراءة خلف الإمام، وأهل السنن الأربع.

وله شاهد من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه رواه ابن أبي شيبة في مصنفه، وأبو يعلى في مسنده، والحاكم في مستدركه، والبيهقي في شعب الإيمان، كما رواه الخرائطي ، والحديث في الترغيب والترهيب في الجزء الثالث، صفحة ثمان وثمانين وخمسمائة، وأورده في أول الجزء الرابع، صفحة ثلاث، وهو في المستدرك في الجزء الرابع، صفحة تسع وخمسين وثلاثمائة، وصححه، قال المنذري في الترغيب والترهيب: رجاله ثقات، وفيه سعد بن سنان ، وهذا الذي جرى حوله الكلام، قال عنه النسائي : منكر الحديث، وقال عنه الجوزجاني : أحاديثه واهية، وقال عند الدارقطني : ضعيف في الحديث، وهذا كله من كلام المنذري، في ترجمته في آخر الجزء الرابع صفحة سبعين وخمسمائة، وبعد أن نقل كلام الأئمة في الدين قال: وروي عن أحمد توثيقه، وحسن له الترمذي حديثه، واحتج به ابن خزيمة في صحيحه في غير موضع، وسعد بن سنان حكم عليه الحافظ في التقريب: بأنه صدوق له أفراد ينفرد بها، فلا ينزل حديثه عن درجة الحسن إن شاء الله.

وقد أخرج حديثه أهل السنن الأربعة إلا النسائي ، وقال عنه الذهبي في الكاشف: ليس بحجة، وقال عنه ابن معين : ثقة. وقال عنه في المغني : ضعفوه ولم يترك، وهذه الأحكام متباينة ولعل حكم الحافظ أوسطها، وهو: أنه صدوق ينفرد أحياناً ببعض الأحاديث، ولفظ رواية أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( تقبلوا لي ستاً أتقبل لكم بالجنة )، وهناك: ( اضمنوا لي من أنفسكم ستا )، وهنا: ( تقبلوا لي ستاً أتقبل لكم بالجنة إذا حدث أحدكم فليصدق، وإذا وعد فليفِ، وإذا ائتمن فليؤد، وغضوا أبصاركم، وكفوا أيديكم، واحفظوا فروجكم )، وللحديث شاهد آخر، رواه الإمام القضاعي في مسنده الشهاب، في الجزء الأول، صفحة ثلاث وسبعين ومائتين من رواية معاوية رضي الله عنهم أجمعين، بإسناد ضعيف، ولفظه: ( تكفلوا لي بست أتكفل لكم بالجنة، اصدقوا إذا حدثتم، وأوفوا إذا وعدتم، وأدوا إذا أتمنتم، وغضوا أبصاركم، واحفظوا فروجكم، وكفوا أيديكم )، والألفاظ الثلاثة بمعنى واحد.

الشاهد: من غض بصره، وحفظ فرجه يضمن له نبينا عليه الصلاة والسلام أن يدخل الجنة مع تلك الصفات الحسنة التي ينبغي أن يتصف بها.

حفظ الفرج سبب لمغفرة الذنوب

لقد أخبرنا نبينا عليه الصلاة والسلام أن بعض الصالحين في الأمم السابقة كان يرتع فيما حرم الله عليه، ثم جاءته موعظة من ربه وهي قصة حصلت له، فصان فرجه فمات في ليلته، فغفر الله له وأصبح مكتوباً على باب بيته: إن الله قد غفر للكفل، وهو في الأمم السابقة.

وحديثه ثابت صحيح رواه أحمد في المسند، والترمذي في السنن وقال: هذا حديث حسن، ورواه الحاكم في المستدرك في الجزء الرابع، صفحة أربع وخمسين ومائتين وصحح الحديث وأقره عليه الذهبي ، والحديث رواه ابن حبان في صحيحه، وأبو داود الطيالسي في مسنده، والثعلبي في عرائس المجالس، المسمى بقصص القرآن للثعلبي .

ورواه ابن الجوزي في كتابه ذم الهوى، رواه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول، وابن أبي شيبة في مصنفه، وابن المنذر في تفسيره، والطبراني في المعجم الكبير، والبيهقي في شعب الإيمان، وابن مردويه في تفسيره، وهو في الدر المنثور الجزء الرابع، صفحة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة، وجمع الجوامع في الجزء الأول، صفحة خمس عشرة وستمائة، والحديث كما قلت صحيح من رواية عبد الله بن عمر رضي الله عنهم أجمعين، أنه قال: لو لم أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم -يعني هذا الحديث الذي سيحدث به- إلا مرة أو مرتين لم أحدث به، إنما سمعته أكثر من سبع مرات، يقول: أنا لو سمعته مرة أو مرتين لم أحدث به أخشى أن يقال لم يضبط حفظه إنما أنا متأكد منه تماماً، وفي رواية ابن حبان قال: سمعته من النبي عليه الصلاة والسلام أكثر من عشرين مرة، وانظروا تحسينه في جامع الأصول في الجزء العاشر، صفحة ثمان عشرة وثلاثمائة.

ولفظ الحديث عن نبينا على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، قال: ( كان الكفل لا يتورع منه )، يقع في جميع المنكرات والمحرمات، ليس عنده حصانة تردعه عن رذيلة ولا عن قبيحة، ( فجاءته امرأة فراودها عن نفسها وبذل لها ستين ديناراً )، والدينار من الذهب أربعة غرامات ونصف، ( فرضيت، فعندما أراد أن يقع في المحظور ارتعدت، وأخذتها قشعريرة ورعدة، فقال: ما لك؟ قالت: أخاف الله )، هذا شيء لم أفعله قبل هذه المرة، وأنت الآن ألجأتني جئت أريد المساعدة وأنت لا تبذلها إلا بهذا الأمر الوضيع، فأخذتها هذه القشعريرة وهذه الرعدة، فقال: ( أنا أحق بأن أخاف الله منك، ثم قام عنها وترك الدنانير لها، فمات من ليلته، فأصبح مكتوباً على باب بيته: إن الله قد غفر لك )، فأوحى الله إلى نبي ذلك الزمان بقصة الكفل ، وأخبرنا عنه نبينا على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، صان فرجه فغفر الله له ورحمه.

هذا الكفل اختلف أئمتنا فيه هل هو ذو الكفل الذي ذكر في سورة الأنبياء: وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ [الأنبياء:85]، أو هو غيره، قال ابن الجوزي في باب المسيء في الجزء الخامس، صفحة ثمان وثلاثمائة: خبره معروف، أي: خبر الكفل معروف، وكنت ذكرته في الحدائق، -وهو كتاب في مجلدين الحدائق لأهل الحقائق لـابن الجوزي- ، في حديث نبينا على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، قال: الثعلبي وهو أحد الوجوه في بيان المراد بـذي الكفل الذي ذكر في سورة الأنبياء، أنه كان رجلاً لا يتورع عن رذيلة، ثم بعد ذلك عندما حصل له ما حصل أكرمه الله بالمغفرة فهو المذكور في سورة الأنبياء: وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ [الأنبياء:85]، قال ابن الجوزي: وهذا غلط، ثم استظهر بعده أموراً يقرر بها قوله؛ أولها: قال: إن ذا الكفل هذا كان لا يتورع عن رذيلة وذو الكفل الذي ذكر في القرآن أخباره التي نقلت إلينا لا تنطبق عليه؛ لأنه رجل صالح وسيأتينا لم سمي بذلك، وأمر آخر أن هذا مات من ليلته بعد أن تاب فلا ينطبق الخبر عليه، الأمر الثالث: في القرآن إشارة إلى أنه نبي كما سيأتينا وإلى هذا ذهب جمع غفير من أئمتنا، ولا يليق أن يصدر من نبي ما كان يصدر من الكفل قبل توبته وأنه لا يتورع عن شيء، ثم إن المذكور في القرآن ذو الكفل ؛ وهذا الكفل ، فوهم الثعلبي فجعلهما شيئاً واحداً، وأنا أقول: إن كلمة ذو لا إشكال فيها، في موضوع أنه الكفل أو ذو الكفل ؛ لأن الكفل الذي وردت معنا قصته، ورد في صحيح ابن حبان ، وتفسير ابن مردويه أنه ذو الكفل وكان لا يتورع من ذنب، وفي بعض الروايات الأخرى الكفل ، وكونه ذو الكفل أو الكفل هذا لا إشكال فيه؛ لأنه قد يكون وافق اسم ذاك النبي الذي هو ذو الكفل ، وهذا الكفل ، فلا تعارض في هذا، لكن بقي عندنا أن هذا من أخباره التي نقلت عنه أنه مات من ليلته، وذو الكفل ذاك ليس كذلك كما سيأتينا في خبره.

الأمر الثاني: ذكره في سورة الأنبياء مع الأنبياء قرينة على أنه نبي كما ذهب إلى ذلك جمع غفير من المفسرين كما سأذكر، مما يبعد عنه ذلك الوصف الذي ورد في وصف الكفل .

بـذي الكفل المذكور في سورة الأنبياء منها: وأئمتنا أوردوا عدة أمور في سبب تسميته:

أنه تكفل بأن يصلي لله جل وعلا كل يوم مائة صلاة فوفى بذلك فأثنى الله عليه، وجعله نبيناً بعد ذلك؛ لأنه كان من أتباع الأنبياء، ولما وصل إلى رتبة الصديقين منّ الله عليه بالنبوة بعد ذلك وهو على كل شيء قدير.

وقيل: أمر آخر أنه تكفل بنصرة نبيه في ذلك الزمان، وأن يمنعه من قومه، وينصره وينصر دعوته، فأثنى الله عليه وأدرجه مع الأنبياء.

وقيل: أن بعض الجبابرة في ذلك الوقت قتل ثلاثمائة نبي في يوم واحد، وفر مائة نبي فآواهم هذا العبد الصالح وكفلهم فأكرمه الله بأن ذكره في كتابه وأثنى عليه؛ لأنه تكفل بمائة نبي حين فروا من ظلم وجبروت بعض الجبابرة في ذلك الوقت والعلم عند الله جل وعلا.

والذي يظهر كما قال الرازي في تفسيره، في الجزء الثاني والعشرين، صفحة ست عشرة وثلاثمائة، وبعده أبو حيان في البحر المحيط، وبعدهما الألوسي في روح المعاني، أنه: نبي من الأنبياء لعدة قرائن معتبرة: أولها: أنه أدرج ذكره مع الأنبياء فقال تعالى: وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ [الأنبياء:85]، والأمر الثاني: أنه ذكر في السورة التي تسمى بسورة الأنبياء، الأمر الثالث: أن الكفل معناه النصيب العظيم، ولا يمكن أن يذكر صديق له نصيب عظيم مع أنبياء الله فنصيبهم أعظم، إذاً هذا له شأن عظيم يعدل أنبياء الله مثل إسماعيل، وإدريس، هذا فيما يظهر والعلم عند الله جل وعلا، إذاً الكفل أو ذو الكفل الذي ورد خبره في حديث نبينا على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه لا يراد منه ذو الكفل الذي ورد ذكره في سورة الأنبياء.

هذا فيما يظهر في موضوع الكفل ، وذي الكفل الذي ورد ذكره في سورة الأنبياء على نبينا وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه، أما الطبري فتوقف في ذي الكفل هل هو نبي أو لا؟ ونعم ما فعل؛ لأنه لم يرد التنصيص عليه صراحة على أنه نبي أو لا.

وأما ابن كثير فذكر ما يستدعي العجب نحو حديث الكفل الذي ذكرته لكم، فقال في تفسيره في الجزء الثالث، صفحة واحدة وتسعين ومائة عند هذه الآية: وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ [الأنبياء:85]، قال بعد أن روى الحديث المتقدم من رواية عبد الله بن عمر رضي الله عنهم أجمعين قال: هذا حديث غريب لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة، وتقدم معنا أنه في سنن الترمذي وقال: هذا حديث حسن، مع أنه هو نفسه رضي الله عنه ذكر أن الترمذي خرج هذا الحديث في موضعين من كتبه، في البداية والنهاية في الجزء الأول، صفحة ستٍ وعشرين ومائتين في ترجمة الكفل قال: هذا الحديث رواه أحمد في المسند، والترمذي وقال: هذا حديث حسن، هذا في البداية، وكذلك فعل في قصص الأنبياء، في الجزء الأول، صفحة سبعين وثلاثمائة، قال: رواه أحمد في المسند، والترمذي وقال: هذا حديث حسن، ففي موضعين ينص على أن الترمذي خرج الحديث وحسنه، وفي تفسيره يقول: غريب لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة، وهو كما قلت، في المسند، وسنن الترمذي ، والمستدرك والحديث صحيح وهو في غير ذلك من دواوين السنة.

تحصين الفرج سبب لتفريج الكرب

إذا حصن الإنسان فرجه وصانه، وحفظ عورته يرفع الله ذكره وقدره في هذه الحياة ويكرمه برضوانه وجنته بعد الممات، ويجعل الله له فرجاً ومخرجاً في الدنيا، ويكرمه برحمته ومغفرته وجنته في الآخرة، وحديث أصحاب الغار -وهو الحديث المشهور بين المسلمين أجمعين- أحد أصنافه الثلاثة توسل إلى الله بأنه صان فرجه، وأنه ما وقع في المحظور بعد أن تيسر له ذلك خشية من الله العزيز الغفور، ففرج الله عنهم في هذه الحياة.

وحديثهم تقدم معنا وهو مروي في الصحيحين، وسنن أبي داود ، ورواه النسائي في السنن الكبرى، وهو من رواية عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وهو الذي روى حديث الكفل ، وحديث أصحاب الغار، في جامع الأصول في الجزء العاشر، صفحة خمس عشرة وثلاثمائة، وفي الترغيب والترهيب في الجزء الثالث، صفحة اثنتين وثمانين ومائتين وكرره في عدة أماكن من كتابه الترغيب والترهيب، وروي أيضاً من رواية أبي هريرة رضي الله عنه في صحيح ابن حبان، في الجزء الثاني، صفحة تسع وخمسين بعد المائة، وروي أيضاً من رواية أنس بن مالك رضي الله عنه، رواه أبو داود الطيالسي ، كما في منحة المعبود في الجزء الثاني، صفحة أربع وثمانين.

ونبينا عليه الصلاة والسلام يخبرنا أنه كان ثلاثة نفر ممن سبق يمشون في فلاة، فلما آواهم المبيت دخلوا إلى غار فنزلت صخرة فسدت عليهم باب الغار، فقال بعضهم لبعض: لا ينجيكم من هذه الشدة إلا أن تتوسلوا إلى الله جل وعلا بصالح أعمالكم، فكل واحد يذكر ما بينه وبين الله من عمل صالح؛ ليفرج الله عنا ما نحن فيه من المحنة فتقدم الأول وقال: اللهم إنه كان لي أبوان شيخان كبيران وكنت لا أغبق قبلهما، أي: لا يسقي أحداً، والغبوق هو اللبن الذي يقدم للإنسان في الرواح في المساء، لا أغبق قبلهما أهلاً ولا مالاً، أهلاً أي: زوجته وأولاده، ومالاً أي: من عبيده وأجرائه، يقول: فنأى بي طلب الشجر يوماً فلم أرح عليهما إلا وقد ناما، فحلبت لهما غبوقهما وحملت القدح بيدي فجئت أنتظر استيقاظهما، والصبية يتضاغون عند قدمي ولم أسق أحداً قبلهما حتى استيقظا، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه، فتوسل إلى الله ببر الوالدين، فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج، وتقدم الثاني: -وهو محل الشاهد عندنا- فقال: اللهم إنه كانت لي ابنة عم وكنت أحبها كأشد ما يحب الرجال النساء، وكان يراودها عن نفسها فتأبى حتى نزلت بها سنة، أي: شدة، فجاءت وقد استجابت فأعطاها، في حديث ذي الكفل أعطاها ستين، وهذا أعطاها عشرين ومائة دينار، وهو مال طائل، كم يبذل أهل الحرام من أجل معصية الرحمن، فلما تمكن منها وجلس بين رجليها، قالت: اتقي الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه، هذه الفتاة تذكره بأن لا يأتيها إلا عن طريق العقد الحلال، فخشي الله جل وعلا وأوقعت في قلبه خشية ربه سبحانه وتعالى، فقام عنها وتركها وترك الدنانير التي أعطاها إياها، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة، غير أنهم لا يستطيعون الخروج أيضا، وتقدم الثالث قال: اللهم إنه كان لي أجراء، ثم إني أعطيتهم أجرتهم إلا واحداً منهم كره أجرته وسخطها فنميت له أجرته فجاء بعد سنين فقال: يا عبد الله أعطني أجرتي، قلت كل ما تراه من الغنم، والبقر، والإبل، والرقيق، التي تملأ الوادي، هذا كله من أجرتك نميته لك في هذه السنين الطويلة، قال: يا عبد الله لا تهزأ بي، قلت: لا أهزأ بك هذا مالك نميته لك، يقول: فاستاقها الغنم، والبقر، الإبل، والرقيق ولم يترك شيئا، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فرج عنا ما نحن فيه فانفرجت الصخرة فخرجوا يسعون.

لابد من أن نصون فروجنا، ومن حفظ الفرج فقد حصل له الفرَج في العاجل والآجل، وقد تقدم معنا أن: ( أكثر ما يدخل الناس النار الأجوفان: الفَم والفرْج، وأكثر ما يدخل الناس الجنة: تقوى الله وحسن الخلق ).

من حفظ فرجه مع الأمور الأخرى، وقام بها فله بشارة في العاجل والآجل فهو ولي لرب الأرض والسماوات، ويضمن له نبينا عليه الصلاة والسلام بعد الممات أن يدخل نعيم الجنات.

ثبت في مسند الإمام أحمد، ومعجم الطبراني الأوسط، والحديث رواه ابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه، ورواه الإمام النسائي في السنن الكبرى، والبيهقي في السنن الكبرى، وشعب الإيمان، ورواه ابن أبي الدنيا، والخرائطي في مكارم الأخلاق.

والحديث لا ينزل عن درجة الحسن بشواهده الكثيرة، ولفظ الحديث من رواية عبادة بن الصامت رضي الله عنه وأرضاه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( اضمنوا لي ستاً من أنفسكم أضمن لكم الجنة؛ أولها: اصدقوا إذا حدثتم، ثانيها: أوفوا إذا وعدتم، ثالثها: أدوا الأمانة إذا أتمنتم، رابعها: احفظوا فروجكم، خامسها: غضوا أبصاركم، سادسها: كفوا أيديكم )، عما حرم الله عليكم من بطش وأذى ولمس المحرم وغير ذلك، قال الحاكم في المستدرك: هذا حديث صحيح الإسناد، وتعقبه الذهبي في تلخيص المستدرك فقال: قلت فيه إرسال، وقال المنذري في الترغيب والترهيب: قلت: بل المطلب بن عبد الله بن حنطب ، لم يسمع من عبادة بن الصامت رضي الله عنهم أجمعين، وهذا هو الإرسال الذي أشار إليه الإمام الذهبي أي: الانقطاع، الذي بين المطلب بن عبد الله بن حنطب ، وبين عبادة بن الصامت رضي الله عنهم أجمعين.

وهكذا قال الهيثمي في المجمع: رجال الحديث ثقات إلا أن المطلب بن عبد الله بن حنطب ، لم يسمع من عبادة بن الصامت رضي الله عنهم أجمعين، والمطلب : صدوق كثير التدليس ،كما حكم عليه بذلك الحافظ في التقريب، وروى له البخاري في جزء القراءة خلف الإمام، وأهل السنن الأربع.

وله شاهد من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه رواه ابن أبي شيبة في مصنفه، وأبو يعلى في مسنده، والحاكم في مستدركه، والبيهقي في شعب الإيمان، كما رواه الخرائطي ، والحديث في الترغيب والترهيب في الجزء الثالث، صفحة ثمان وثمانين وخمسمائة، وأورده في أول الجزء الرابع، صفحة ثلاث، وهو في المستدرك في الجزء الرابع، صفحة تسع وخمسين وثلاثمائة، وصححه، قال المنذري في الترغيب والترهيب: رجاله ثقات، وفيه سعد بن سنان ، وهذا الذي جرى حوله الكلام، قال عنه النسائي : منكر الحديث، وقال عنه الجوزجاني : أحاديثه واهية، وقال عند الدارقطني : ضعيف في الحديث، وهذا كله من كلام المنذري، في ترجمته في آخر الجزء الرابع صفحة سبعين وخمسمائة، وبعد أن نقل كلام الأئمة في الدين قال: وروي عن أحمد توثيقه، وحسن له الترمذي حديثه، واحتج به ابن خزيمة في صحيحه في غير موضع، وسعد بن سنان حكم عليه الحافظ في التقريب: بأنه صدوق له أفراد ينفرد بها، فلا ينزل حديثه عن درجة الحسن إن شاء الله.

وقد أخرج حديثه أهل السنن الأربعة إلا النسائي ، وقال عنه الذهبي في الكاشف: ليس بحجة، وقال عنه ابن معين : ثقة. وقال عنه في المغني : ضعفوه ولم يترك، وهذه الأحكام متباينة ولعل حكم الحافظ أوسطها، وهو: أنه صدوق ينفرد أحياناً ببعض الأحاديث، ولفظ رواية أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( تقبلوا لي ستاً أتقبل لكم بالجنة )، وهناك: ( اضمنوا لي من أنفسكم ستا )، وهنا: ( تقبلوا لي ستاً أتقبل لكم بالجنة إذا حدث أحدكم فليصدق، وإذا وعد فليفِ، وإذا ائتمن فليؤد، وغضوا أبصاركم، وكفوا أيديكم، واحفظوا فروجكم )، وللحديث شاهد آخر، رواه الإمام القضاعي في مسنده الشهاب، في الجزء الأول، صفحة ثلاث وسبعين ومائتين من رواية معاوية رضي الله عنهم أجمعين، بإسناد ضعيف، ولفظه: ( تكفلوا لي بست أتكفل لكم بالجنة، اصدقوا إذا حدثتم، وأوفوا إذا وعدتم، وأدوا إذا أتمنتم، وغضوا أبصاركم، واحفظوا فروجكم، وكفوا أيديكم )، والألفاظ الثلاثة بمعنى واحد.

الشاهد: من غض بصره، وحفظ فرجه يضمن له نبينا عليه الصلاة والسلام أن يدخل الجنة مع تلك الصفات الحسنة التي ينبغي أن يتصف بها.

لقد أخبرنا نبينا عليه الصلاة والسلام أن بعض الصالحين في الأمم السابقة كان يرتع فيما حرم الله عليه، ثم جاءته موعظة من ربه وهي قصة حصلت له، فصان فرجه فمات في ليلته، فغفر الله له وأصبح مكتوباً على باب بيته: إن الله قد غفر للكفل، وهو في الأمم السابقة.

وحديثه ثابت صحيح رواه أحمد في المسند، والترمذي في السنن وقال: هذا حديث حسن، ورواه الحاكم في المستدرك في الجزء الرابع، صفحة أربع وخمسين ومائتين وصحح الحديث وأقره عليه الذهبي ، والحديث رواه ابن حبان في صحيحه، وأبو داود الطيالسي في مسنده، والثعلبي في عرائس المجالس، المسمى بقصص القرآن للثعلبي .

ورواه ابن الجوزي في كتابه ذم الهوى، رواه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول، وابن أبي شيبة في مصنفه، وابن المنذر في تفسيره، والطبراني في المعجم الكبير، والبيهقي في شعب الإيمان، وابن مردويه في تفسيره، وهو في الدر المنثور الجزء الرابع، صفحة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة، وجمع الجوامع في الجزء الأول، صفحة خمس عشرة وستمائة، والحديث كما قلت صحيح من رواية عبد الله بن عمر رضي الله عنهم أجمعين، أنه قال: لو لم أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم -يعني هذا الحديث الذي سيحدث به- إلا مرة أو مرتين لم أحدث به، إنما سمعته أكثر من سبع مرات، يقول: أنا لو سمعته مرة أو مرتين لم أحدث به أخشى أن يقال لم يضبط حفظه إنما أنا متأكد منه تماماً، وفي رواية ابن حبان قال: سمعته من النبي عليه الصلاة والسلام أكثر من عشرين مرة، وانظروا تحسينه في جامع الأصول في الجزء العاشر، صفحة ثمان عشرة وثلاثمائة.

ولفظ الحديث عن نبينا على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، قال: ( كان الكفل لا يتورع منه )، يقع في جميع المنكرات والمحرمات، ليس عنده حصانة تردعه عن رذيلة ولا عن قبيحة، ( فجاءته امرأة فراودها عن نفسها وبذل لها ستين ديناراً )، والدينار من الذهب أربعة غرامات ونصف، ( فرضيت، فعندما أراد أن يقع في المحظور ارتعدت، وأخذتها قشعريرة ورعدة، فقال: ما لك؟ قالت: أخاف الله )، هذا شيء لم أفعله قبل هذه المرة، وأنت الآن ألجأتني جئت أريد المساعدة وأنت لا تبذلها إلا بهذا الأمر الوضيع، فأخذتها هذه القشعريرة وهذه الرعدة، فقال: ( أنا أحق بأن أخاف الله منك، ثم قام عنها وترك الدنانير لها، فمات من ليلته، فأصبح مكتوباً على باب بيته: إن الله قد غفر لك )، فأوحى الله إلى نبي ذلك الزمان بقصة الكفل ، وأخبرنا عنه نبينا على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، صان فرجه فغفر الله له ورحمه.

هذا الكفل اختلف أئمتنا فيه هل هو ذو الكفل الذي ذكر في سورة الأنبياء: وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ [الأنبياء:85]، أو هو غيره، قال ابن الجوزي في باب المسيء في الجزء الخامس، صفحة ثمان وثلاثمائة: خبره معروف، أي: خبر الكفل معروف، وكنت ذكرته في الحدائق، -وهو كتاب في مجلدين الحدائق لأهل الحقائق لـابن الجوزي- ، في حديث نبينا على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، قال: الثعلبي وهو أحد الوجوه في بيان المراد بـذي الكفل الذي ذكر في سورة الأنبياء، أنه كان رجلاً لا يتورع عن رذيلة، ثم بعد ذلك عندما حصل له ما حصل أكرمه الله بالمغفرة فهو المذكور في سورة الأنبياء: وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ [الأنبياء:85]، قال ابن الجوزي: وهذا غلط، ثم استظهر بعده أموراً يقرر بها قوله؛ أولها: قال: إن ذا الكفل هذا كان لا يتورع عن رذيلة وذو الكفل الذي ذكر في القرآن أخباره التي نقلت إلينا لا تنطبق عليه؛ لأنه رجل صالح وسيأتينا لم سمي بذلك، وأمر آخر أن هذا مات من ليلته بعد أن تاب فلا ينطبق الخبر عليه، الأمر الثالث: في القرآن إشارة إلى أنه نبي كما سيأتينا وإلى هذا ذهب جمع غفير من أئمتنا، ولا يليق أن يصدر من نبي ما كان يصدر من الكفل قبل توبته وأنه لا يتورع عن شيء، ثم إن المذكور في القرآن ذو الكفل ؛ وهذا الكفل ، فوهم الثعلبي فجعلهما شيئاً واحداً، وأنا أقول: إن كلمة ذو لا إشكال فيها، في موضوع أنه الكفل أو ذو الكفل ؛ لأن الكفل الذي وردت معنا قصته، ورد في صحيح ابن حبان ، وتفسير ابن مردويه أنه ذو الكفل وكان لا يتورع من ذنب، وفي بعض الروايات الأخرى الكفل ، وكونه ذو الكفل أو الكفل هذا لا إشكال فيه؛ لأنه قد يكون وافق اسم ذاك النبي الذي هو ذو الكفل ، وهذا الكفل ، فلا تعارض في هذا، لكن بقي عندنا أن هذا من أخباره التي نقلت عنه أنه مات من ليلته، وذو الكفل ذاك ليس كذلك كما سيأتينا في خبره.

الأمر الثاني: ذكره في سورة الأنبياء مع الأنبياء قرينة على أنه نبي كما ذهب إلى ذلك جمع غفير من المفسرين كما سأذكر، مما يبعد عنه ذلك الوصف الذي ورد في وصف الكفل .

بـذي الكفل المذكور في سورة الأنبياء منها: وأئمتنا أوردوا عدة أمور في سبب تسميته:

أنه تكفل بأن يصلي لله جل وعلا كل يوم مائة صلاة فوفى بذلك فأثنى الله عليه، وجعله نبيناً بعد ذلك؛ لأنه كان من أتباع الأنبياء، ولما وصل إلى رتبة الصديقين منّ الله عليه بالنبوة بعد ذلك وهو على كل شيء قدير.

وقيل: أمر آخر أنه تكفل بنصرة نبيه في ذلك الزمان، وأن يمنعه من قومه، وينصره وينصر دعوته، فأثنى الله عليه وأدرجه مع الأنبياء.

وقيل: أن بعض الجبابرة في ذلك الوقت قتل ثلاثمائة نبي في يوم واحد، وفر مائة نبي فآواهم هذا العبد الصالح وكفلهم فأكرمه الله بأن ذكره في كتابه وأثنى عليه؛ لأنه تكفل بمائة نبي حين فروا من ظلم وجبروت بعض الجبابرة في ذلك الوقت والعلم عند الله جل وعلا.

والذي يظهر كما قال الرازي في تفسيره، في الجزء الثاني والعشرين، صفحة ست عشرة وثلاثمائة، وبعده أبو حيان في البحر المحيط، وبعدهما الألوسي في روح المعاني، أنه: نبي من الأنبياء لعدة قرائن معتبرة: أولها: أنه أدرج ذكره مع الأنبياء فقال تعالى: وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ [الأنبياء:85]، والأمر الثاني: أنه ذكر في السورة التي تسمى بسورة الأنبياء، الأمر الثالث: أن الكفل معناه النصيب العظيم، ولا يمكن أن يذكر صديق له نصيب عظيم مع أنبياء الله فنصيبهم أعظم، إذاً هذا له شأن عظيم يعدل أنبياء الله مثل إسماعيل، وإدريس، هذا فيما يظهر والعلم عند الله جل وعلا، إذاً الكفل أو ذو الكفل الذي ورد خبره في حديث نبينا على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه لا يراد منه ذو الكفل الذي ورد ذكره في سورة الأنبياء.

هذا فيما يظهر في موضوع الكفل ، وذي الكفل الذي ورد ذكره في سورة الأنبياء على نبينا وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه، أما الطبري فتوقف في ذي الكفل هل هو نبي أو لا؟ ونعم ما فعل؛ لأنه لم يرد التنصيص عليه صراحة على أنه نبي أو لا.

وأما ابن كثير فذكر ما يستدعي العجب نحو حديث الكفل الذي ذكرته لكم، فقال في تفسيره في الجزء الثالث، صفحة واحدة وتسعين ومائة عند هذه الآية: وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ [الأنبياء:85]، قال بعد أن روى الحديث المتقدم من رواية عبد الله بن عمر رضي الله عنهم أجمعين قال: هذا حديث غريب لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة، وتقدم معنا أنه في سنن الترمذي وقال: هذا حديث حسن، مع أنه هو نفسه رضي الله عنه ذكر أن الترمذي خرج هذا الحديث في موضعين من كتبه، في البداية والنهاية في الجزء الأول، صفحة ستٍ وعشرين ومائتين في ترجمة الكفل قال: هذا الحديث رواه أحمد في المسند، والترمذي وقال: هذا حديث حسن، هذا في البداية، وكذلك فعل في قصص الأنبياء، في الجزء الأول، صفحة سبعين وثلاثمائة، قال: رواه أحمد في المسند، والترمذي وقال: هذا حديث حسن، ففي موضعين ينص على أن الترمذي خرج الحديث وحسنه، وفي تفسيره يقول: غريب لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة، وهو كما قلت، في المسند، وسنن الترمذي ، والمستدرك والحديث صحيح وهو في غير ذلك من دواوين السنة.