تأملات في سور القرآن - الإسراء


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، أما بعد:

فأسأل الله سبحانه أن يجعلنا من المقبولين.

سورة الإسراء مكية إلا آيتين ذكرهما بعض أهل التفسير من قول ربنا جل جلاله: وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنْ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِي عَلَيْنَا غَيْرَهُ[الإسراء:73]، وما بعدها.

وهذه السورة المباركة تسمى: سورة الإسراء؛ لأن الله عز وجل ذكر في أولها تلك المعجزة العظيمة، التي أكرم بها سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم، وتسمى كذلك: سورة بني إسرائيل؛ لأن الله عز وجل أعقب قصة الإسراء بذكر بني إسرائيل، وفسادهم في الأرض مرتين.

وفي جامع الترمذي من حديث أمنا عائشة رضي الله عنها قالت: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينام ليلة حتى يقرأ الزمر وبني إسرائيل ).

وتسمى كذلك: سورة سبحان؛ لأن الله عز وجل افتتحها بالثناء عليه جل جلاله.

هذه السورة المباركة في آياتها الأحد عشر ومائة، مقصودها الأعظم: التنويه بشأن القرآن، وذكر فساد بني إسرائيل، ثم بيان الجزاء العادل الذي يكون في الآخرة، ثم ذكر الوصايا العشر التي أنزلها الله عز وجل في كل كتاب: الوصية بالوالدين، والنهي عن المحرمات: من الإسراف في استعمال المال، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، والزنا وأكل مال اليتيم، والكلام على الله بغير علم، والتكبر في الأرض، وغير ذلك من المعاصي والموبقات.

وقد ختمت السورة بما بدأت به من الحديث عن بني إسرائيل، قال الله عز وجل: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْألْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُوراً * قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً [الإسراء:101-102]، إلى قوله تعالى: فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً [الإسراء:104].

هاهنا موضع واحد ينبه عليه، وهو قول الله عز وجل: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وَجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً[الإسراء:97]، فهذه الآية ظاهرها: أن الكفار يحشرون يوم القيامة وهم عمي، بكم، صم، لا يسمعون، ولا ينطقون، ولا يرون. وقد جاء في آيات أخرى: إثبات أنهم يسمعون، وأنهم يرون، وأنهم ينطقون، كقول الله عز وجل: وَلَوْ تَرَى إِذْ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ [السجدة:12].

وكذلك الآية الأخرى: أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا[مريم:38]، أي: ما أسمعهم! وما أبصرهم!

وقول الله عز وجل: فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ [ق:22] وغير ذلك من الآيات.

والجواب -كما ذكر أهل التفسير- من وجوه:

الوجه الأول: أن الله عز وجل يحشرهم في أول الأمر وهم عمي، بكم، صم، حتى إذا قامت عليهم الحجة، فإنهم بعد ذلك يرون العذاب، ويسمعون لجهنم تغيظاً وزفيراً، كما قال الله عز وجل: إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً * وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُوراً * لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً [الفرقان:12-14].

الوجه الثاني: أنهم لا يبصرون شيئاً يسرهم، ولا يسمعون شيئاً ينفعهم، ولا ينطقون بشيء يبرئهم عند الله عز وجل، فسمعهم وبصرهم ونطقهم بمنزلة من ليس له لا سمع ولا بصر ولا نطق؛ لأنهم لا ينتفعون به كما كانوا في الدنيا لا يبصرون الحق ولا ينطقون به ولا يستمعون إليه، والجزاء من جنس العمل، وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً [الكهف:49].

الوجه الثالث: قال بعض المفسرين: بأنهم يخرجون من قبورهم وهم يسمعون ويبصرون وينطقون، ثم بعد ذلك إذا ألقوا في النار وبدءوا يصرخون، يقولون: رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ [المؤمنون:107]، يقول الله لهم: اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون:108]، عند ذلك تنقطع أصواتهم ويبطل سمعهم وبصرهم، ويعذبون في النار -والعياذ بالله- وهم عمي وبكم وصم، نسأل الله السلامة والعافية!

بين ربنا جل جلاله بأن الكفار يحشرون في النار على وجوههم، ويسحبون في النار على وجوههم، فقال: يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ [القمر:48].

( سأل بعض الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! كيف يمشون على وجوههم؟ فقال عليه الصلاة والسلام: إن الذي أمشاهم على أقدامهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم )، والله على كل شيء قدير.

أسأل الله أن ينجينا من النار، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الحي يوسف - عنوان الحلقة اسٌتمع
تأملات في سور القرآن - هود 2440 استماع
تأملات في سور القرآن - يس 2203 استماع
تأملات في سور القرآن - النور 2105 استماع
تأملات في سور القرآن - المائدة 2009 استماع
تأملات في سور القرآن - الحج 1870 استماع
تأملات في سور القرآن - النساء 1781 استماع
تأملات في سور القرآن - الواقعة 1762 استماع
تأملات في سور القرآن - غافر 1665 استماع
تأملات في سور القرآن - المجادلة 1657 استماع
تأملات في سور القرآن - الشورى 1585 استماع