خطب ومحاضرات
مقدمة في الفقه - فقه الإمام مالك وعمل أهل المدينة [2]
الحلقة مفرغة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.. أما بعد:
فلا زلنا نتحدث عن عمل أهل المدينة المنورة على منورها صلوات الله وسلامه.
قال القاضي عياض: وعمل أهل المدينة مع أحاديث الآحاد لا يخلو من ثلاثة وجوه:
أولها: أن يكون مطابقاً لها، حديث آحادي رُوي عن سيدنا النبي على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه وعمل به أهل المدينة، فعملهم وافق حديثاً مروياً في موضوع ما ومسألة ما، قال: فهذا آكد في صحة عمل المدينة؛ لأنه عمل ووجد عليه دليل عن نبينا عليه الصلاة والسلام، لكن هذا يختلف عن الأول، هناك العمل -كما قلت- مستنده النقل، وهنا ليس هذا العمل مستنده النقل، فهم عملوا لكن دل على عملهم حديث آحادي، فليس الحديث منقولاً بالتواتر، إنما حديث آحادي وهم يعملون بما في الحديث، ودل على صحة عملهم، فهذا آكد على صحة عملهم من عمل غيرهم، وعليه فعملهم هنا يعتبر صحيحاً سليماً؛ لأنه دل عليه حديث، قال: هذا آكد في صحة عملهم وصحة أيضاً هذا الحديث الآحادي.
الوجه الثاني إخوتي الكرام: إذا عمل أهل المدينة بعمل عارض وخالف حديث آحاد وطابق حديث آحاد آخر، يعني: نُقل خبران من أحاديث الآحاد عن نبينا عليه الصلاة والسلام، فعمل أهل المدينة وافق خبراً وعارض خبراً آخر؛ لأن الخبرين في الأصل بينهما معارضة، فعمل أهل المدينة وافق أحد الخبرين، قال: فعملهم يرجح خبرهم، وهو أقوى ما ترجح به الأخبار والآثار.
عندنا خبران في حكم قضية واحدة، فعمل أهل المدينة وافق أحد الخبرين، فهذا يرجح هذا الخبر على الآخر، ويستدل بهذا الخبر الذي وافق عمل أهل المدينة المنورة على منورها صلوات الله وسلامه، وهذا أقوى ما تُرجح به الأخبار، عندنا قرينة على تقوية هذا الحديث على ذلك الحديث وتقديمه عليه بعمل أهل المدينة.
الحالة الثالثة: أن يخالف عمل أهل المدينة الحديث الآحادي بالجملة، هناك طابق، وفي الحالة الثانية وافق حديثاً وخالف حديثاً، وهنا خالف الحديث الآحادي بالجملة، قال القاضي عياض: إن كان إجماعهم مستنده النقل -كما تقدم معنا عن طريق النقل- تُرك الخبر، أي: الخبر الآحادي؛ لأنه لا يترك القطعي بخبر آحادي، أي: إن كان الإجماع الذي يعملون به وعملهم مستنده النقل والحكاية، ترك هذا الحديث الآحادي؛ لأن الحديث الآحادي لا يعارض القطعي، وهو المنقول المحكي عن النبي عليه وآله وصحبه صلوات الله وسلامه بنقل الجيل عن الجيل، أتباع التابعين عن التابعين، عن الصحابة الكرام الطيبين رضوان الله عليهم أجمعين.
وسأمثل لهذا بحديث لنرى كيف تركوا حديث الآحاد لعمل أهل المدينة، حتى قال الإمام مالك: ليس العمل عليه، وذلك في أمر الرضاع، الحديث هو ( خمس رضعات يحرمن ) ، قال الإمام مالك: ليس العمل عليه, العمل عندنا في المدينة على خلاف هذا، وعملهم بُني على أحاديث منقولة من قول نبينا عليه الصلاة والسلام، ومما توارثوه، فليس العمل على هذا الحديث، مع أنه سيأتينا أنه في صحيح مسلم والسنن الأربعة وغير ذلك، من حديث أمنا عائشة، لكنه قال: ليس العمل عليه.
إذاً: إذا كان مستند العمل النقل والحكاية وعارض أحاديث الآحاد فإنه يترك هذا الحديث ويقدم العمل، وإذا كان عملهم مستنده الاجتهاد والاستدلال، فهنا اختلف المالكية: هل يقدمون عمل أهل المدينة الذي استند على الاجتهاد والاستدلال على الحديث الآحادي، أو يقدمون الحديث ويطرحون هذا العمل الذي بُني على اجتهاد واستدلال؟ عندهم قولان: ظاهر عمل المالكية تقديم عمل أهل المدينة على الحديث الآحادي، وإن كان عملهم مستنده الاجتهاد والاستدلال.
ثم قال القاضي عياض: وإن لم يكن لأهل المدينة عمل بخلاف ولا وفاق الأحاديث، فيجب الرجوع إلى الآثار، وهذا بالاتفاق، فلو نقلت أحاديث، وما يُعلم لأهل المدينة موافقة ولا معارضة لهذه الأحاديث، لا يوجد إجماع لأهل المدينة لا في العمل بها ولا في معارضتها، فنرجع للاستدلال بالآثار كما هو مقرر عند سائر العلماء الأبرار.
ثم يقول القاضي عياض: أنه يرجح ما رواه أهل المدينة على ما رُوي في غيرها من الأمصار إذا تعارضا، وهذا يبقى لهم مزية، فإذا لم يكن لهم عمل متفق عليه يوافق بعض الآثار أو يعارضها، ورُويت آثار بعد ذلك في حكم شرعي، فما رواه أهل المدينة يقدم على ما رواه أهل الكوفة، وعلى ما رواه أهل الشام، وعلى ما رواه أهل البصرة، وعلى ما رُوي في غير ذلك من الأمصار، حتى على ما رواه أهل مكة الكرام، فرواية أهل المدينة عند المالكية تقدم على رواية غيرهم، إذا كان هذا الحديث مخرجه مدني يقدم على الحديث الذي رُوي في مكة وفي غيرها من أمصار المسلمين.
وهذا التقديم -إخوتي الكرام- له وجاهة وله اعتبار، والسبب في ذلك: أن هذا الحديث قيل في هذه البقعة المباركة المطهرة، ونُقل بينهم، فضبطه في منتهى القوة، هناك حُمل هذا الحديث إلى البصرة وإلى الكوفة، فقد يحتمل أنه نسي ووهم، ولو حدث وأخطأ لا يوجد من يصحح له، ويقال: قيل الحديث بين ظهرانينا بخلاف ما نقلت وذكرت، فهناك احتمال الخطأ أكثر، وهنا احتمال الخطأ أقل، ولو قُدر أنه روى الحديث بينهم في البقعة التي قيل فيها، ووهِم في لفظ منه، لصُحح له.
ولذلك إذا لم يكن لأهل المدينة اتفاق على عمل لا يوافق الآثار ولا يعارضها، إنما عندنا آثار مروية في المدينة المنورة على منورها صلوات الله وسلامه، وعندنا آثار مروية في الشام وغير ذلك من أمصار أهل الإسلام، فيقول: إذا تعارضت تقدم رواية أهل المدينة.
ولذلك كان يقول الإمام مالك رضي الله عنه وأرضاه: نزلوا أخبار أهل العراق منزلة أخبار أهل الكتاب، إن وافقوا ما عندنا على العين والرأس، وإن عارضوا رواياتنا نردها مباشرة، وإذا ما عارضوا نستدل بأخبارهم، أما أنهم يعارضون فخبرنا يقدم، الخبر الذي مخرجه مدني يقدم على الخبر الذي مخرجه كوفي؛ لأنه هناك يوجد احتمال إن لم يكن للكذب، فللوهم، وللخطأ، وللنسيان، أما هنا فالاحتمال ضعيف.
إخوتي الكرام! من باب التمثيل على ما يتعلق بالحديث المروي وخالفه عمل أهل المدينة: حديث الرضعات.
عند إمامين من الأئمة الأربعة وهما أبو حنيفة رضي الله عنه وأرضاه، والإمام مالك رضي الله عنه وأرضاه، أن الرضاع مطلقاً يحرم قليله وكثيره، ولو مصة، ولو بعض مصة، ما يفطر الصائم وهي قطرة، إذا دخلت في جوف الغلام الذي في المهد المولود الذي في المهد مدة الرضاع أي: قبل سنتين ونصف عند الإمام أبي حنيفة ، أو سنتين وأيام إلى شهرين عند الإمام مالك ، ففي هذه الفترة إذا دخلت قطرة واحدة، وهي التي تفطر الصائم إذا شربها، فقد ثبت حكم الرضاع بقطرة واحدة.
وقد استدلوا بعموم قول الله جل وعلا: وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ [النساء:23]، وسيأتينا أحاديث مطلقة يقول: وهذا عليه عمل أهل المدينة، فعندهم أن الرضاع يثبت حكمه بقطرة واحدة، والأحاديث -كما قلت- عمومها يشير إلى هذا القول، لكن عارضها ما هو خاص في محل النزاع، فتُرك لعمل أهل المدينة، والحنفية قالوا: تركناه لأنه عارض ما هو أقوى منه، وهو قول الله جل وعلا: وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ [النساء:23]، وإطلاق الأحاديث الأخرى، وهذه الأحاديث دون ذاك في الاحتجاج والرتبة، وعليه إذا تعارضت معها كأنها ستلغي تلك فتلك تقدم عليها، وهذه كأنها لم ترو، هذا عند الحنفية.
والمالكية قالوا: هذه تعارض عمل أهل المدينة، الحنفية قالوا: الزيادة على النص نسخ، عندنا آية: وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ [النساء:23] أي: مطلقاً ولو قطرة، وعندنا أحاديث أثبتت حكم الرضاع بأي شيء يحصل منه دون أن تقيده برضعة أو رضعتين أو ثلاث أو أربع، وعليه فما عارض من أنه لابد من خمس، أو لا تحرم المصة والمصتان والإملاجة والإملاجتان، قالوا: هذا عارض ذاك، ولا يقوى على نسخه وإلغائه وتركه، فيترك هذا ويعتمد على ذاك، لكن سبب الترك عند المالكية هو عمل أهل المدينة، وعند الحنفية هو النص، يقولون: الزيادة عليه نسخ، وهذه النصوص أضعف من تلك، فلا تقوى على نسخها وإلغائها، فتطرح؛ لأن تلك أقوى منها.
الحديث -إخوتي الكرام- ثبت في المسند، والكتب الستة، وموطأ الإمام مالك، وسنن الدارمي، وهو في السنن الكبرى للبيهقي وغير ذلك من دواوين السنة، من رواية أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يحرم من الرضاع ما يحرم من الولادة)، وفي بعض رواية الحديث: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب)، وهنا أطلق ولم يقيد برضعة أو رضعتين أو أكثر، وفي بعض الروايات: (حرموا من الرضاع ما يحرم من النسب)، والحديث في أعلى درجات الصحة من رواية أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها، ورُوي أيضاً في المسند، والصحيحين، وسنن النسائي، وابن ماجه، من رواية سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب).
والحديث رواه الإمام الترمذي في السنن، والإمام أحمد في المسند من رواية سيدنا علي رضي الله عنهم وأرضاهم، وعليه فقد روي عن ثلاثة من الصحابة: عن أمنا الصديقة المباركة سيدتنا عائشة، وعن سيدنا علي رابع الخلفاء الراشدين، وعن سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهم أجمعين: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب)، مطلقاً، فهذا حجة الحنفية والمالكية، مع إطلاق قول الله جل وعلا: وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ [النساء:23]، في ذكر المحرمات، حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ [النساء:23] إلى قوله: وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ [النساء:23]، يضاف إلى ذلك عند المالكية عمل أهل المدينة.
الإمام الشافعي عنده خمس رضعات تحرم، والإمام أحمد له ثلاثة أقوال: قول كقول الحنفية والمالكية، أن مطلق الرضاع قليله وكثيره ولو قطرة يحرم، وقول كقول الشافعي : خمس رضعات، وقول وسط وهو: ثلاث رضعات، والمعتمد عند الحنابلة خمس رضعات، وجميع هذه الأقوال عليها دليل صحيح من كلام نبينا عليه الصلاة والسلام.
فقد ثبت عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: (لا تحرم المصة والمصتان، ولا الإملاجة والإملاجتان)، وفي رواية: (ولا الخطفة والخطفتان)، والحديث صحيح، رُوي في المسند، وصحيح مسلم، والسنن الأربعة، ورواه الإمام الدارقطني في سننه، والبيهقي في السنن الكبرى، وهو في سنن الدارمي، ورواه ابن حبان في صحيحه، والإمام الشافعي في مسنده من رواية أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها، فقد روت هي الحديث الأول: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب)، وروت حديث: (لا تحرم المصة والمصتان، ولا الإملاجة والإملاجتان)، كما روت تحريم الخمس الرضعات، كما سيأتينا، رضي الله عنها وأرضاها.
إذاً: روي من رواية أمنا عائشة رضي الله عنها، وهو صحيح فهو في صحيح مسلم، ورُوي هذا الحديث من رواية أم الفضل رضي الله عنها وأرضاها في المسند، وصحيح مسلم أيضاً، وسنن النسائي وابن ماجة، وسنن الدارمي، ورواه الإمام الدارقطني في سننه، والبيهقي في سننه الكبرى.
فالإمام أحمد قال: ما زاد على المصتين وهي الثلاث فإنها تحرم، هذا في قول من أقواله الثلاثة الذي انفرد به، فله قول وافق به إمامين، وقول وافق به الشافعي، وهذا انفرد به، والمعتمد عند الحنابلة خمس رضعات كقول الشافعي، لكن هذا قول موجود في المذهب، انظروه في المغني في الجزء الثاني صفحة اثنتين وتسعين ومائة أن الثلاث تحرم؛ لمفهوم الحديث.
دليل الشافعي رضي الله عنه وأرضاه والراوية الثالثة عن الإمام أحمد أن التحريم لا يكون إلا بخمس رضعات:
ما رواه أحمد في المسند، والكتب الستة إلا صحيح البخاري، ورواه الإمام مالك في الموطأ، لكنه بعد روايته قال: ليس العمل عليه، ورواه الدارمي في السنن، عن أمنا الصديقة المباركة سيدتنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها قالت: (كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات يحرمن، فنسخن بخمس معلومات، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن مما يقرأ في القرآن)، توفي النبي عليه الصلاة والسلام وهذه الآيات تقرأ، وكما تقدم معنا توجيه هذا الحديث ضمن محاضرات الجمعة، قلت: هذا للإشارة إلى قرب النسخ، أي: أنها نسخت آيات الخمس المعلومات -وهي لا توجد في القرآن- قرب وفاة النبي عليه الصلاة والسلام، بحيث خفي هذا النسخ على بعض الناس، فاستمر على قراءتها ولم يعلم أنه نسخ رسمها، كما نسخ رسم العشر المعلومات.
وقد ذكرنا أن الإمام مالك بعد أن روى هذا الحديث في الموطأ قال: ليس العمل على هذا، في الجزء الثاني صفحة ثمان وستمائة، وكما تقدم معنا أنه قد يروي الحديث ثم لا يعمل به؛ ليشير إلى أنه عن علم تركه، فلا يقولن قائل بعد ذلك: ما بلغه الحديث، بل بلغه، لكن عنده ما هو أقوى منه، وهو أنه ليس العمل عليه.
وتقدم معنا ما يشبه هذا من كلام بعض أئمتنا حينما يروي الحديث ثم يخالفه، فيقال له: كيف خالفته؟ فيقول: ليعلم الناس أنا عن علم خالفناه، وقلت: ليس هذا من باب المحادة لنبينا عليه الصلاة والسلام، فهذا كفر، إنما نحن اطلعنا على ما هو أقوى وأن هذا متروك، وليس العمل عليه.
هذه المسألة إخوتي الكرام! الإمام الليث بن سعد رضي الله عنه وأرضاه حكى الإجماع فيها، وهو واهم، قال الإمام ابن قدامة في المغني: زعم الليث بن سعد -إمام أهل مصر رضي الله عنه وأرضاه- زعم الليث أن أئمة الإسلام أجمعوا على أن قليل الرضاع وكثيره يحرم في المهد ما يفطر به الصائم. يعني: المقدار الذي يفطر به الصائم إذا رضعه من هو المهد ثبت له حكم الرضاع، ويحكي الإجماع على ذلك، لكن الإمام ابن قدامة يقول: زعم الليث بن سعد . والإمام ابن عبد البر رضي الله عنه وأرضاه في الاستذكار، في الجزء الثامن عشر صفحة ستين ومائتين يقول: لم يقف الإمام الليث بن سعد على الخلاف في ذلك، لم يقف على خلاف العلماء في ذلك، الخلاف موجود في هذه المسألة، لكنه لم يقف عليه، فحكى الإجماع على أن قليل الرضاع وكثيره يحرم إذا كان المولود في المهد يرضع، إذا رضع مقداراً يفطر به الصائم.
وانظروا تفصيل الكلام في هذه المسألة في فقه السادة الحنفية في الاختيار، في الجزء الرابع صفحة سبع عشرة ومائة، وفي الاستذكار بسط الكلام فيها في المكان الذي ذكرته، وانظروها في المغني، في الجزء التاسع صفحة اثنتين وتسعين ومائة، وانظروا الأحاديث في الرضاع التي ذكرتها وغيرها معها، في الجزء الحادي عشر صفحة ثمانين وأربعمائة من جامع الأصول.
إذاً: عندنا هنا حديث العمل على خلافه، وقد استند العمل إلى نصوص واردة: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب)، وكأنهم تلقوا هذا عن النبي على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، فصار عمل له شأن يقدم على الحديث الآحادي الذي هو (خمس رضعات معلومات يحرمن)، قدمه وقال: العمل على خلاف ذلك.
هذا إخوتي الكرام! ضمن الأمر الأول، وهو: أن العمل إذا كان مبناه على الرواية، على النقل، على الحكاية، يُستدل به بالاتفاق.
بُني عمل أهل المدينة على الاجتهاد، فكما تقدم معنا أن المالكية انقسموا إلى ثلاثة أقسام: معظمهم لا يستدل به، وبعضهم يستدل به، وبعضهم يعتبره مُرجِّحاً لا حجة، ثم موقفهم بعد ذلك من العمل عند أحاديث الآحاد إما أن توافق أو تعارض، أو توافق البعض وتعارض وتخالف البعض، فما هو الموقف نحو ذلك؟ مر الكلام على هذا.
هذا التفصيل الذي ذكره القاضي عياض أضيف إليه تفصيلاً في مجموع الفتاوى للإمام ابن تيمية:
النوع الأول من الذي ذكره القاضي عياض وافقه عليه الإمام ابن تيمية كما تقدم معنا، إجماع مستنده الحكاية والرواية والنقل عن نبينا عليه الصلاة والسلام من قوله أو فعله أو تقريره على الفعل أو الترك حجة، ويعتبر مصدراً للاستدلال بالاتفاق عند العلماء.
العمل القديم قبل مقتل عثمان رضي الله عنه حجة
وهذا إخوتي الكرام الذي ذكره الإمام ابن تيمية منقول عند أئمتنا ومقرر في كتب أصول الفقه، يقول شيخنا عليه رحمة الله في مذكرة أصول الفقه، في صفحة ثلاث وثمانين ومائة: عمل الخلفاء الراشدين حجة لا إجماع، ليس بإجماع لكنه حجة يستدل به.
وقال الإمام ابن تيمية في مجموع الفتاوى أيضاً، في الجزء الحادي والعشرين صفحة تسع عشرة وثلاثمائة: ما سنه الخلفاء الراشدون ليس بدعة شرعية يُنهى عنها.
وقال الإمام محمد عبد الحي اللكنوي في كتابه إقامة الحجة على أن الإكثار في التعبد ليس ببدعة، في صفحة ثلاث وعشرين، قال: الحادث في زمن الخلفاء الراشدين لا يسمى بدعة، إنما هو سنة كسنة النبي على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام أمرنا بالاقتداء بهم كما نقتدي بسنته فقال: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ)، والحديث صحيح، تقدم معنا مراراً أنه في المسند والسنن الأربعة إلا سنن النسائي، ورواه الإمام ابن حبان، والحاكم في مستدركه، وهو في غير ذلك من دواوين السنة من رواية سيدنا العرباض بن سارية رضي الله عنه وأرضاه.
إذاً: هذا نوع ثان، وهو عمل الخلفاء الراشدين والإجماع القديم.
إذا تعارض دليلان ووافق عمل أهل المدينة أحدهما فإنه يرجح على الآخر
يقول الإمام ابن تيمية: هنا يرجح هذا الحديث وهذا الدليل، دليلان تعارضا من حديثين أو قياسين، فهذا الحديث يرجح بعمل أهل المدينة، وهذا القياس يرجح على ذاك بعمل أهل المدينة، وهذا عند مَن وافقهم في ذلك، عند الإمام الشافعي والمالكية هذا متفق عليه، وأما أبو حنيفة فلا يعتبر عمل أهل المدينة هنا مرجحاً, يلغي عملهم كأنه لم يوجد, إنما يلجأ بعد ذلك إلى النصوص والترجيح بينها بالمرجحات التي عنده، وإلى الأقيسة، ويرى ما هو أقرب إلى أصول الشرع فيأخذ به ولا ينظر إلى عمل أهل المدينة في هذه الحالة أبداً.
إذاً: إذا عملوا عملاً، ولا يوجد لهم إجماع في مستنده النقل، إنما عندنا اجتهاد لهم، هذا الاجتهاد وافق حديثاً آحادياً، أو وافق قياساً، وعارض حديثاً آحادياً، أو عارض قياساً، فالإمام أبو حنيفة يقول: عملهم الآن وجوده وعدمه سواء، ويستدل بالأدلة كما لو لم يكن لأهل المدينة عمل، وللإمام أحمد قولان: قول كقول الإمام مالك والشافعي، وقول كقول أبي حنيفة، ومعظم الحنابلة على القول الأول، ونقلوا عن الإمام أحمد رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: إذا روى أهل المدينة أثراً وعملوا به فهو الغاية، يعني في الاستدلال والصحة والثبوت.
هذه الحالة الثالثة، تعارض دليلان كحديثين أو قياسين، وعمل أهل المدينة وافق واحداً منهما، فكما تقدم معنا في كلام القاضي عياض أنه اعتبره مرجحاً، والشافعي وافق، والإمام أحمد وافق في أحد قوليه، والإمام أبو حنيفة ما اعتبر هذا المرجح من المرجحات، بل قال: الدليلان يرجح بينهما بالمرجحات الأخرى ولا علاقة لعمل أهل المدينة في الترجيح.
العمل المتأخر بعد عصر الصحابة والتابعين
قال الإمام ابن تيمية: وخلاصة الكلام في عمل أهل المدينة النبوية، على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه: أن عملهم تارة يكون حجة قاطعة، وهو فيما أجمعوا عليه إذا كان مستند إجماعهم النقل والحكاية عن النبي عليه الصلاة والسلام، كما تقدم معنا، وتارة يكون إجماعهم حجة قوية. هناك حجة قاطعة لا يجوز خلافها؛ لأنه حديث متواتر قطعي، وهنا حجة قوية، قال: وتارة يكون عملهم حجة مرجحة، كما تقدم معنا تفصيل ذلك.
إخوتي الكرام! هذا فيما يتعلق بفقه الإمام مالك رضي الله عنه وأرضاه فيما يتعلق بعمل أهل المدينة المنورة، على منورها صلوات الله وسلامه.
النوع الثاني: يقول الإمام ابن تيمية: العمل القديم في المدينة المنورة على منورها صلوات الله وسلامه، وضابطه قبل مقتل سيدنا عثمان رضي الله عنه وأرضاه، العمل القديم قبله في زمن الخليفتين الراشدين، وفي زمن سيدنا عثمان في مدة خلافته، ثم بعد ذلك حصل ما حصل من التشتت وعدم الاتفاق، فالعمل القديم قبل مقتل سيدنا عثمان رضي الله عنه وأرضاه، قال الإمام ابن تيمية: حجة أيضاً، وما يُعلم لأهل المدينة عمل قديم على عهد الخلفاء الراشدين مخالف لسنة النبي الأمين، على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه, لا يوجد عمل قديم من زمن سيدنا عثمان إلى زمن سيدنا أبي بكر صادم السنة وعارضها، وعليه فالعمل إذا نُقل في هذه المرحلة فقط يستدل به، وهو حجة عند أئمة الإسلام.
وهذا إخوتي الكرام الذي ذكره الإمام ابن تيمية منقول عند أئمتنا ومقرر في كتب أصول الفقه، يقول شيخنا عليه رحمة الله في مذكرة أصول الفقه، في صفحة ثلاث وثمانين ومائة: عمل الخلفاء الراشدين حجة لا إجماع، ليس بإجماع لكنه حجة يستدل به.
وقال الإمام ابن تيمية في مجموع الفتاوى أيضاً، في الجزء الحادي والعشرين صفحة تسع عشرة وثلاثمائة: ما سنه الخلفاء الراشدون ليس بدعة شرعية يُنهى عنها.
وقال الإمام محمد عبد الحي اللكنوي في كتابه إقامة الحجة على أن الإكثار في التعبد ليس ببدعة، في صفحة ثلاث وعشرين، قال: الحادث في زمن الخلفاء الراشدين لا يسمى بدعة، إنما هو سنة كسنة النبي على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام أمرنا بالاقتداء بهم كما نقتدي بسنته فقال: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ)، والحديث صحيح، تقدم معنا مراراً أنه في المسند والسنن الأربعة إلا سنن النسائي، ورواه الإمام ابن حبان، والحاكم في مستدركه، وهو في غير ذلك من دواوين السنة من رواية سيدنا العرباض بن سارية رضي الله عنه وأرضاه.
إذاً: هذا نوع ثان، وهو عمل الخلفاء الراشدين والإجماع القديم.
استمع المزيد من الشيخ عبد الرحيم الطحان - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
مقدمة في الفقه - المكفرات من المخالفات [1] | 4383 استماع |
مقدمة في الفقه - تقوية اليقين بأخبار الصالحين [2] | 3678 استماع |
مقدمة في الفقه - فضل العلم [2] | 3660 استماع |
مقدمة في الفقه - الجنسية الإسلامية [2] | 3541 استماع |
مقدمة في الفقه - الجنسية الإسلامية [1] | 3309 استماع |
مقدمة في الفقه - عبادة سيدنا أبي حنيفة [1] | 3293 استماع |
مقدمة في الفقه - لم يتبدل موضوع الفقه | 3260 استماع |
مقدمة في الفقه - عبادة سيدنا أبي حنيفة [2] | 3259 استماع |
مقدمة في الفقه - فقه الإمام الشافعي [2] | 3214 استماع |
مقدمة في الفقه - فقه الإمام أبي حنيفة [3] | 3166 استماع |