شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [43]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين!

اللهم زدنا علماً نافعاً وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين, سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك, سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك, اللهم صلِّ على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:

إخوتي الكرام! لا زلنا نتدارس مبحث الجن، ونحن الآن في آخر مباحثه, ألا وهو: تحصن الإنس من الجن, وقلت: لتحصن الإنس من الجن أمورٌ كثيرة، أبرزها -كما تقدم معنا- خمسة عشر أمراً, وقد تقدم معنا أن هذه الأمور على كثرتها تدور على أمرين اثنين:

على اجتناب وتخلية، وعلى اكتساب وتحلية.

أما ما ينبغي أن يجتنبه الإنسان ويتخلى عنه فهي سبعة أمور:

ينبغي أن يتخلى عن الخواطر الرديئة, وعن النظرات الخائنة, وعن اللفظات المنكرة المحرمة, وعن الخطوات المذمومة, وينبغي أن يحفظ الأذن والبطن والفرج.

هذه الأمور السبعة إذا حصن الإنسان نفسه منها وما أتي من قبلها؛ فقد أحرز أحد الأمرين مما ينبغي أن يقوم به الإنسان في تحصنه، ألا وهو اجتناب وتخلية.

وهناك تحلية، وهي تدور على ثمانية أمور كما تقدم معنا.

فالتخلية بعدد أبواب النار, والتحلية بعدد أبواب الجنة! فينبغي أن يتصف بهذه الأمور الثمانية أيضاً بعد أن تخلى عن تلك الأمور، أولها: أن يستعيذ بالرحمن من الشيطان, وسوف يأتينا صيغ متعددة ينبغي أن يقولها الإنسان لربه عز وجل ليحصن بها نفسه من عدوه.

وثانيها: أن يكثر من قراءة القرآن.

وثالثها: أن يكثر من ذكر الرحمن على الدوام.

ورابعها: أن يُكثر من الصلاة والسلام على نبينا خير الأنام عليه الصلاة والسلام.

وخامسها: أن يحافظ على الطهارة فهي سلاح المؤمن.

وسادسها: أن يلازم جماعة المؤمنين وأن يكون مع الصادقين.

وسابعها: أن يكثر من الصوم.

وآخر الأمور وهو الثامن منها: أن يحرص على حلق العلم.

إخوتي الكرام! ما زلنا نتدارس الأمر الأول من هذين الأمرين، وهو: التخلية والاجتناب, وقلت له سبعة أنواع:

أول أمر: ينبغي أن نتخلى عن الخواطر الرديئة, وقلت: إن هذه النفوس وهذه القلوب التي بين جنبينا لا تفتر, فلا بد لها من هم وحركة، فإما أن تهم بخير وإما أن تهم بشر, فإذا حصنتها عن الشر ستجول بعد ذلك في الخير، وتقدم معنا أن النفوس جوالة؛ إما أن تجول حول العرش, وإما أن تجول حول الحش، والحش بفتح الحاء وبضمها -مكان قضاء الحاجة-، أي: إما أن تجول حول المزابل، وإما أن تجول في الملأ الأعلى, وقلت: إنها كالرحى التي لا تفتر ولا تقف، فإما أن تطحن براً وتخرج دقيقاً, لتعجنه وتأكله وتنتفع به, وإما أن تطحن شوكاً لا تحصل من ورائه فائدة.

وهذه الخواطر لا بد من ضبطها, وقلت: إن القلب هو ملك الأعضاء, وإذا فسد الملك فسدت الرعية؛ ولذلك لا بد من ضبطه، وقد أشار إلى هذا نبينا خير البرية عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح الثابت في الصحيحين والسنن الأربع من رواية النعمان بن بشير رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الحلال بيِّن والحرام بيِّن وبينهما أمور مشتبهات, لا يعلمها كثير من الناس, فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه, ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام, كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه, ألا وإن لكل ملك حمى, ألا وإن حمى الله في أرضه محارمه, ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله, وإذا فسدت فسد الجسد كله, ألا وهي القلب ).

فالقلب لا بد من ضبطه ومراقبته، وما يدور فيه من خواطر فانتبه لها غاية الانتباه, فهذه الخواطر ستتحول إلى هم ثم يتحول إلى أفعال، ثم تكون عادة لك يصعب الإقلاع عنها, فالخواطر حالها كحال النبتة الصغيرة, اقتلاعها يسير في صغرها، فإذا صارت شجرة بعد ذلك عسر قلعها؛ فانتبه لهذا.

وتقدم معنا إخوتي الكرام! ما روي عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( نية المؤمن خير من عمله ), وقلت: لا يخلو طريق من طرق هذا الحديث من ضعف, لكن تتقوى هذه الروايات ببعضها كما قال شيخ الإسلام الإمام السخاوي, ووجه هذه الخيرية -كما قررت- عدة أمور، منها:

قلت: إن النية عمل القلب، وهو عمل الرئيس والملك, وعمل الملك أشرف من عمل الجنود وعمل الأتباع, فعمل القلب له شأن, ولذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله, وإذا فسدت فسد الجسد كله, ألا وهي القلب ). ‏

فالقلب لا بد له من عمل، إما أن يعمل الخير وإما أن يعمل الشر, وعمل القلب هو الميل إلى الشيء, وإرادة الشيء, والهم به، ثم يحبه أو يتعلق به، هذا كله عمل قلبي, ثم يدفع الأعضاء بعد ذلك لتمثيل ما مال إليه القلب, فالقلب لا يخلو من عمل، كما أن بدنك لا يخلو من حركة.

أصدق الأسماء: حارث وهمام

ولذلك أصدق اسم ينطبق على الإنسان ويوافق مسماه وحقيقته: حارث وهمام، كما أشار إلى ذلك نبينا عليه الصلاة والسلام.

ففي مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود والنسائي ، والحديث رواه الإمام البخاري في الأدب المفرد من رواية أبي وهب الجشمي رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( تسموا بأسماء الأنبياء, وأحب الأسماء إلى الله: عبد الله وعبد الرحمن, وأصدقها: حارث وهمام, وأقبحها: حرب ومرة ).

أسماء الأنبياء: كإبراهيم, يوسف, موسى, عيسى... إلخ، وأفضل أسماء الأنبياء: قرة أعيننا ونبينا محمد عليه الصلاة والسلام، كأن تسمي ولدك محمداً وأحمد.

وقد ثبت في صحيح مسلم وغيره من دواوين السنة من رواية المغيرة بن شعبة رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: ( كانوا يسمون بأسماء أنبيائهم والصالحين قبلهم )، هذا في الحقيقة مطلوب، وقد سمى نبينا عليه الصلاة والسلام ولده بـإبراهيم على اسم خليل الرحمن إبراهيم على نبينا وعليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.

وقوله: ( وأحب الأسماء إلى الله: عبد الله وعبد الرحمن ) هذا ثابت في صحيح مسلم وغيره من رواية عبد الله بن عمر رضي الله عنهما, فأحب الأسماء إلى الله: عبد الله وعبد الرحمن، ويلحق بهذين الاسمين كل ما أشعر بعبوديته لله عز وجل؛ كعبد الرحيم وعبد الرزاق وعبد الغفار وهكذا عبد العليم, وعبد القدوس، هذه كلها أحب الأسماء إلى الله عز وجل؛ لأنها هي التي تبين الصلة بين المخلوق والخالق، وبين العبد والرب.

قال: ( وأصدقها: حارث وهمام )، الحارث: هو المكتسب الفاعل، والهمام: هو الذي يهم بقلبه، فلك عملان: عملٌ ظاهري، وعمل باطني، ولا تخلو من حركة؛ ولذلك بنو آدم يسمون ناساً -كما تقدم معنا في الاشتقاق- من (النوس) وهو الحركة.

لكن إما أن يتحرك في الخير وإما أن يتحرك في الشر, إما أن تجول نفسه حول العرش وإما أن تجول حول الحُش أو الحَش: ( كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها ).

هذا حال الإنسان, وهذان أصدق اسمين ينطبقان على الإنسان, لذلك الذي يميز الحي عن الميت هذان الأمران: العمل والنية.

ثم قال: ( وأقبحها ) نعوذ بالله منها: ( حربٌ ومرة ), وكلما أشعر بكراهية وشدة أو سوء فهو من الأسماء المنكرة, وهي أقبح الأسماء عند الله جل وعلا.

إخوتي الكرام! الشاهد من هذا الحديث: ( أصدقها: حارث وهمام ), فقلبك لا يفتر.

تخريج حديث أبي وهب الجشمي: (تسموا بأسماء الأنبياء...)

وهذا الحديث إخوتي الكرام رواه عقيل بن شبيب عن أبي وهب الجشني .

ولم يروه عن عقيل بن شبيب إلا محمد بن مهاجر فقط، والذي عليه الجمهور أنه مجهول؛ لأنه ما روى عنه إلا راوٍ واحد، وبذلك حكم عليه الحافظ في التقريب, فقال: مجهول, ثم رمز له (بخ)، من رجال البخاري في الأدب المفرد, و(د.س) لـأبي داود والنسائي, والحديث في أبي داود والنسائي كما قلت وفي الأدب المفرد، ورواه الإمام أحمد أيضاً في المسند.

لكن كما تقدم معنا مراراً تابعي لا يعلم فيه جرح ولم يروِ عنه إلا راوٍ واحد، فالحديث له شواهد كما تقدم معنا فيقبل، ولذلك سكت عنه أبو داود وما سكت عنه فهو حسن أو صالح كما تقدم معنا مراراً, على أن الإمام الذهبي يقول في ترجمة عقيل بن شبيب في الكاشف عقيل بن شبيب ولعله يشير إلى توثيق ابن حبان والعلم عند ذي الجلال والإكرام, والحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب نقل توثيق عقيل بن شبيب عن ابن حبان.

ولا أدري هل يقصد توثيق ابن حبان أو غيره؟

على كل حال؛ فالحديث كما قلت: له شواهد، ومعناه ثابت. وقلت مراراً إخوتي الكرام: ما لا يتعلق بالدماء والفروج والأموال وبالأحكام بين العباد، وشهدت له أصول الشريعة فعدم التحقيق والتدقيق في رِجال الإسناد كثيراً هو مسلك أئمتنا، وهنا حديث واضح وصحيح: ( تسموا بأسماء الأنبياء وأحب الأسماء إلى الله: عبد الله وعبد الرحمن).

وبعض الأسماء المكروهة ظهرت في أحاديث كثيرة أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يغيرها. أما حارث وهمام فقد قلت: أنها تسمية تنطبق تمام الانطباق على الإنسان، والإمام ابن تيمية يقرر هذا في كثير من كتبه، وفي مجموع فتاوى في صفحات متعددة من أجزاء مختلفة يقرر معنى هذا الحديث، بل تساهل رحمة الله ورضوانه عليه ونسب الحديث إلى صحيح مسلم ، وأصله في صحيح مسلم: (أحب الأسماء عند الله: عبد الله وعبد الرحمن)، ولكن الزيادة بعد ذلك حارث وهمام ليست في صحيح مسلم.

على كل حال؛ هو يقرر -كما قلت لكم- ما يحصل في الإنسان من اكتساب، وأن الإنسان لا ينفك عن ذلك. ولذلك ينبغي أن تضبط الخواطر غاية الضبط, واعلم أن هذه الخواطر هي التي سيترتب عليها ما بعدها.

التعليق على كلام ابن القيم في حفظ الأوقات والخطرات

وللإمام ابن القيم عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا كلام في منتهى السداد والإحكام، ذكره في كتابه الفوائد في صفحة واحدة وثلاثين، ثم بسطه أكثر وأكثر في نفس الكتاب في صفحة اثنتين وسبعين فما بعدها فيما يقرب من خمس صفحات، يقول كلاماً محكماً أقرأ بدايته ثم نصل إلى محل الشاهد منه, وكتابه الفوائد ككتاب صيد الخاطر للإمام ابن الجوزي ليس له موضوع معين، إنما فوائد وسوالف وخواطر تعن لهذا الإمام فيقيدها عند المساء، هذا عمله في هذا الكتاب, وهكذا فعل في بدائع الفوائد، لكنها في أربعة أجزاء، والفوائد جزء لطيف فقط، وحقيقة كل ما فيه فوائد.

يقول في صفحة 31 عليه رحمة رب العالمين: (إضاعة الوقت أشد من الموت) وهذا لا شك فيه، لكن أكثر الناس يحزنون لحلول الموت ولا يحزنون لضياع الوقت, وضياع الوقت هو موتك الحقيقي. وكان أئمتنا يقولون: تضييع الوقت من المقت، هذه لا تغيبن عنكم، وقد كان شيخنا الشيخ محمد نجيب خياط عليه رحمة الله لا يفتر لسانه عن تردادها لنا، فتضييع الوقت من المقت، وإذا مقت الله عبداً جعله يضيع الأوقات بلا فائدة بحيث تذهب سدى. قال: (لأن إضاعة الوقت تقطعك عن الله والدار الآخرة, والموت يقطعك عن الدنيا وأهلها). إذاً الموت يخلصنا من العناء والبلاء بلقاء رب الأرض والسماء سبحانه وتعالى.

ثم قال: (الدنيا من أولها إلى آخرها لا تساوي غم ساعة فكيف بغم العمر).

نسأل الله أن يحسن ختامنا، وأن يجعل خير أيامنا يوم لقاه.

ثم قال: (محبوب اليوم يعقبه المكروه غداً, ومكروه اليوم يعقبه المحبوب غداً) وهذا حق؛ لأن الجنة حفت بالمكاره, والنار حفت بالشهوات.

فمحبوب اليوم بعده غصة وترحة، ومكروه اليوم يعقبه فرحٌ وسرور.

ثم قال: (أعظم الربح في الدنيا أن تشغل نفسك كل وقت بما هو أولى بها وأنفع لها في معادها).

وقال: (كيف يكون عاقلاً من باع الجنّة بما فيها بشهوة ساعة؟!).

إخوتي الكرام! لو خُير الإنسان بين البعر والدُّر, فاختار البعر!

ماذا يقول الناس عنه؟ مجنون أم أحمق؟ فكيف تترك جنة لا نهاية للبقاء فيها، (وفيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر)، بلذة منغصة زائلة؟! وكنت ذكرت مراراً كلام أئمتنا: لو كانت الآخرة خزفاً يبقى والدنيا دُراً يفنى لآثر العاقل الخزف على الدُر، فكيف والآخرة دُرٌ يبقى والدنيا خزفٌ يفنى!

لو كانت الآخرة من فخار -طين- لكنه باق, والدنيا من ذهب لكنه فانٍ لآثر الإنسان الباقية.

فكيف والأمر بالعكس! طين فانٍ وذهب باقٍ.

ثم قال: (يخرج العارف من الدنيا ولم يقضِ وطره من شيئين: بكاؤه على نفسه، وثناؤه على ربه).

المؤمن لا يشبع من هذين الأمرين: يبكي على نفسه, ويذم نفسه, وينتقص نفسه ويحتقرها لما يفرط ويقصر في حق ربه, ويرى أنه لا شيء يبقى على الدوام, ولا يفتر لسانه من ذكر ذي الجلال والإكرام والثناء عليه.

لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين.

ثم قال: (المخلوق إذا خفته استوحشت منه وهربت منه, والرب تعالى إذا خفته أنست به وقربت إليه لو نفع العلم بلا عمل لما ذم الله أحبار أهل الكتاب, ولو نفع العمل بلا إخلاص لما ذم الله المنافقين).

علم بلا عمل طريق اليهود, وعمل بلا إخلاص عمل المنافقين.

جاء الآن لمحل الشاهد وهو الذي أريده، وهذه كلها كما قلت: دُرر في كتابه الفوائد, وكما ترون لا يربطها رباط، يعني: وما يجمعها على موضوع معين بل هي حكم ينثرها رحمة الله ورضوانه عليه.

ثم يقول عن مدافعة الخطرات: (دافع الخطرة)، وهي الخواطر التي نتكلم بدافعها, فإذا وقع في قلبك خاطر رديء ادفعه.

(دافع الخطرة فإن لم تفعل صارت فكرة، فدافع الفكرة فإن لم تفعل صارت شهوة), يعني: النفس بدأت تميل إليها بعد أن فكرت وتعلقت (فحاربها)، يعني: الآن لست مدافعاً بل تحتاج إلى محاربة شديدة، (فحاربها، فإن لم تفعل صارت عزيمة وهمة، فإن لم تدافعها صارت فعلاً، فإن لم تتداركه بضده صار عادة! فيصعب عليك الانتقال عنها).

انظر لهذا الترتيب والإحسان! وحقيقة ما أيسر الأمر من بداية الطريق وهي خطرة، وهذا الخاطر خطم النفس عنه سهل, فإن لم تفعل صار فكرة, فإن لم تفعل صار شهوة, فإن لم تفعل صار عزيمة وهمة, فإن لم تفعل خرج إلى حيز الوجود وصار فعلاً، فإن لم تقابله بضده وتخليت عنه صار عادةً وخُلقاً لك يصعب الانتقال عنه, ولذلك الشيطان يرضى منا بالخاطرة؛ لأنه يعلم أنها تسوقنا إلى المخاطر, وإذا سرنا في الخواطر أخذتنا إلى المخاطر من حيث لا ندري, ولذلك من البداية إياك أن يقع في قلبك خاطر رديء, وإذا وقع حصن نفسك, وإذا لم تحصن وسوس الشيطان، وصعب الأمر.

هذا كما قلت ذكره هنا باختصار، ثم أفاض الكلام فيه في ص172.

هناك ذكر قرابة خمس صفحات، حتماً لا أريد أن أقرأها كلها، إنما أريد البداية فهي حقيقة حلوة وجميلة، وعنوانه عليها والمبحث كله في الخطرة, ثم يترتب عليها قاعدة جليلة, وضعها لها ثم نثرها ص171 ضمن الكلام، ثم وضحها في آخر الكتاب.

مراتب الخطرات القلبية

وحقيقة إخوتي الكرام! ما سيذكره حق، وكل واحد يعلمه من نفسه، وأئمتنا يقولون: ما يدور في نفس البشر أوله هاجس: وهو ما يهجم عليك من غير اختيارك، ثم يزول من غير اختيارك.

يليه خاطر: وهو الذي هجم من غير اختيارك لكن استقر زمناً أطول من زمن الهاجس.

يليه حديث النفس؛ لأن ذاك الهاجس تحول إلى خاطر، فبدأت الآن تحدث نفسك فيه، وتبحث فيه، تفعل أو لا تفعل!

يليه الهم: إذا رجحت جانب الفعل على الترك أو الترك على الفعل فهذا هم.

يليه العزم: عزمت على فعله فلو لم يمنعك مانعٌ خارجي لفعلت ما عزمت عليه.

قال أئمتنا عن مراتب القصد، وهي ما تقصده وتنويه وتريده في قلبك:

مراتب القصد خمسٌ هاجسٌ ذكروا فخاطر فحديث النفس فاستمعا

يليه همٌ فعزمٌ كلها رفعت سوى الأخير ففيه الأخذ قد وقع

أي: هذه كلها لا تكتب عليك في الآثام إلا الأخير وهو العزم، فهذا يكتب عليك كما لو فعلته؛ لأنه إن لم تفعله فبسبب مانع خارجٍ عنك, ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إنه كان حريصاً على قتل صاحبه) كما في حديث أبي بكرة رضي الله عنه في الصحيحين وغيرهما: (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار. قلت: يا رسول الله! هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصاً على قتل أخيه)، فهو عزم على قتل أخيه عزماً أكيداً، لكنه عجز؛ فعليه إثم القتل.

والله يقرر هذا في كتابه فيقول: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النور:19]، فإذا أحب في قلبه مال بقلبه لهذا الخاطر الرديء، والميل هو عزم، فالأمر صار عزيمة، فيتمنى ويفرح أن يتكلم الناس على أعراض عباد الله المسلمين.

فإذا تمنى فقط بقلبه فله هذه العقوبة عند ربه: لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النور:19].

إذاً إخوتي الكرام! الشعور بأمر من الأمور في جانب الخير أو الشرور يدور في صورة خاطر ثم حديث نفس وهم وعزم، انتبه لها كلها فهي مركبة على بعضها، الهاجس والخاطر لا يكتبان لا في الخير ولا في الشر، وحديث النفس والهم والعزم يكتب لك في الخير, والعزم فقط يكتب عليك في الشر، وعليه فأربع عفي لنا عنها: الهاجس، والخاطر، وحديث النفس، والهم، هذه كلها لو دارت في قلبك في جانب الشر فلا تؤاخذ بها بفضل الله ورحمته.

فمن همّ بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه, وإن تركها من خشية الله كتبت له حسنة, وإن هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة, وإذا حدث نفسه أن يعمل حسنة يقول الله: اكتبوها له حسنة! وهذا من فضل الله تعالى.

كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النور:19]. فانتبه لما سيذكره هذا الإمام المبارك في هذه القاعدة الجليلة التي شرحها كما قلت في خمس صفحات يقول: (مبدأ كل علم نظري وعمل اختياري هو الخواطر والأفكار، فإنها توجب التصورات, والتصورات تدعو إلى الإرادات, والإرادات تقتضي وقوع الفعل, وكثرة تكراره تعطي العادة، فصلاح هذه المراتب بصلاح الخواطر والأفكار التي هي من البداية, وفسادها بفسادها).

ولذلك أصدق اسم ينطبق على الإنسان ويوافق مسماه وحقيقته: حارث وهمام، كما أشار إلى ذلك نبينا عليه الصلاة والسلام.

ففي مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود والنسائي ، والحديث رواه الإمام البخاري في الأدب المفرد من رواية أبي وهب الجشمي رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( تسموا بأسماء الأنبياء, وأحب الأسماء إلى الله: عبد الله وعبد الرحمن, وأصدقها: حارث وهمام, وأقبحها: حرب ومرة ).

أسماء الأنبياء: كإبراهيم, يوسف, موسى, عيسى... إلخ، وأفضل أسماء الأنبياء: قرة أعيننا ونبينا محمد عليه الصلاة والسلام، كأن تسمي ولدك محمداً وأحمد.

وقد ثبت في صحيح مسلم وغيره من دواوين السنة من رواية المغيرة بن شعبة رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: ( كانوا يسمون بأسماء أنبيائهم والصالحين قبلهم )، هذا في الحقيقة مطلوب، وقد سمى نبينا عليه الصلاة والسلام ولده بـإبراهيم على اسم خليل الرحمن إبراهيم على نبينا وعليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.

وقوله: ( وأحب الأسماء إلى الله: عبد الله وعبد الرحمن ) هذا ثابت في صحيح مسلم وغيره من رواية عبد الله بن عمر رضي الله عنهما, فأحب الأسماء إلى الله: عبد الله وعبد الرحمن، ويلحق بهذين الاسمين كل ما أشعر بعبوديته لله عز وجل؛ كعبد الرحيم وعبد الرزاق وعبد الغفار وهكذا عبد العليم, وعبد القدوس، هذه كلها أحب الأسماء إلى الله عز وجل؛ لأنها هي التي تبين الصلة بين المخلوق والخالق، وبين العبد والرب.

قال: ( وأصدقها: حارث وهمام )، الحارث: هو المكتسب الفاعل، والهمام: هو الذي يهم بقلبه، فلك عملان: عملٌ ظاهري، وعمل باطني، ولا تخلو من حركة؛ ولذلك بنو آدم يسمون ناساً -كما تقدم معنا في الاشتقاق- من (النوس) وهو الحركة.

لكن إما أن يتحرك في الخير وإما أن يتحرك في الشر, إما أن تجول نفسه حول العرش وإما أن تجول حول الحُش أو الحَش: ( كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها ).

هذا حال الإنسان, وهذان أصدق اسمين ينطبقان على الإنسان, لذلك الذي يميز الحي عن الميت هذان الأمران: العمل والنية.

ثم قال: ( وأقبحها ) نعوذ بالله منها: ( حربٌ ومرة ), وكلما أشعر بكراهية وشدة أو سوء فهو من الأسماء المنكرة, وهي أقبح الأسماء عند الله جل وعلا.

إخوتي الكرام! الشاهد من هذا الحديث: ( أصدقها: حارث وهمام ), فقلبك لا يفتر.

وهذا الحديث إخوتي الكرام رواه عقيل بن شبيب عن أبي وهب الجشني .

ولم يروه عن عقيل بن شبيب إلا محمد بن مهاجر فقط، والذي عليه الجمهور أنه مجهول؛ لأنه ما روى عنه إلا راوٍ واحد، وبذلك حكم عليه الحافظ في التقريب, فقال: مجهول, ثم رمز له (بخ)، من رجال البخاري في الأدب المفرد, و(د.س) لـأبي داود والنسائي, والحديث في أبي داود والنسائي كما قلت وفي الأدب المفرد، ورواه الإمام أحمد أيضاً في المسند.

لكن كما تقدم معنا مراراً تابعي لا يعلم فيه جرح ولم يروِ عنه إلا راوٍ واحد، فالحديث له شواهد كما تقدم معنا فيقبل، ولذلك سكت عنه أبو داود وما سكت عنه فهو حسن أو صالح كما تقدم معنا مراراً, على أن الإمام الذهبي يقول في ترجمة عقيل بن شبيب في الكاشف عقيل بن شبيب ولعله يشير إلى توثيق ابن حبان والعلم عند ذي الجلال والإكرام, والحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب نقل توثيق عقيل بن شبيب عن ابن حبان.

ولا أدري هل يقصد توثيق ابن حبان أو غيره؟

على كل حال؛ فالحديث كما قلت: له شواهد، ومعناه ثابت. وقلت مراراً إخوتي الكرام: ما لا يتعلق بالدماء والفروج والأموال وبالأحكام بين العباد، وشهدت له أصول الشريعة فعدم التحقيق والتدقيق في رِجال الإسناد كثيراً هو مسلك أئمتنا، وهنا حديث واضح وصحيح: ( تسموا بأسماء الأنبياء وأحب الأسماء إلى الله: عبد الله وعبد الرحمن).

وبعض الأسماء المكروهة ظهرت في أحاديث كثيرة أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يغيرها. أما حارث وهمام فقد قلت: أنها تسمية تنطبق تمام الانطباق على الإنسان، والإمام ابن تيمية يقرر هذا في كثير من كتبه، وفي مجموع فتاوى في صفحات متعددة من أجزاء مختلفة يقرر معنى هذا الحديث، بل تساهل رحمة الله ورضوانه عليه ونسب الحديث إلى صحيح مسلم ، وأصله في صحيح مسلم: (أحب الأسماء عند الله: عبد الله وعبد الرحمن)، ولكن الزيادة بعد ذلك حارث وهمام ليست في صحيح مسلم.

على كل حال؛ هو يقرر -كما قلت لكم- ما يحصل في الإنسان من اكتساب، وأن الإنسان لا ينفك عن ذلك. ولذلك ينبغي أن تضبط الخواطر غاية الضبط, واعلم أن هذه الخواطر هي التي سيترتب عليها ما بعدها.

وللإمام ابن القيم عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا كلام في منتهى السداد والإحكام، ذكره في كتابه الفوائد في صفحة واحدة وثلاثين، ثم بسطه أكثر وأكثر في نفس الكتاب في صفحة اثنتين وسبعين فما بعدها فيما يقرب من خمس صفحات، يقول كلاماً محكماً أقرأ بدايته ثم نصل إلى محل الشاهد منه, وكتابه الفوائد ككتاب صيد الخاطر للإمام ابن الجوزي ليس له موضوع معين، إنما فوائد وسوالف وخواطر تعن لهذا الإمام فيقيدها عند المساء، هذا عمله في هذا الكتاب, وهكذا فعل في بدائع الفوائد، لكنها في أربعة أجزاء، والفوائد جزء لطيف فقط، وحقيقة كل ما فيه فوائد.

يقول في صفحة 31 عليه رحمة رب العالمين: (إضاعة الوقت أشد من الموت) وهذا لا شك فيه، لكن أكثر الناس يحزنون لحلول الموت ولا يحزنون لضياع الوقت, وضياع الوقت هو موتك الحقيقي. وكان أئمتنا يقولون: تضييع الوقت من المقت، هذه لا تغيبن عنكم، وقد كان شيخنا الشيخ محمد نجيب خياط عليه رحمة الله لا يفتر لسانه عن تردادها لنا، فتضييع الوقت من المقت، وإذا مقت الله عبداً جعله يضيع الأوقات بلا فائدة بحيث تذهب سدى. قال: (لأن إضاعة الوقت تقطعك عن الله والدار الآخرة, والموت يقطعك عن الدنيا وأهلها). إذاً الموت يخلصنا من العناء والبلاء بلقاء رب الأرض والسماء سبحانه وتعالى.

ثم قال: (الدنيا من أولها إلى آخرها لا تساوي غم ساعة فكيف بغم العمر).

نسأل الله أن يحسن ختامنا، وأن يجعل خير أيامنا يوم لقاه.

ثم قال: (محبوب اليوم يعقبه المكروه غداً, ومكروه اليوم يعقبه المحبوب غداً) وهذا حق؛ لأن الجنة حفت بالمكاره, والنار حفت بالشهوات.

فمحبوب اليوم بعده غصة وترحة، ومكروه اليوم يعقبه فرحٌ وسرور.

ثم قال: (أعظم الربح في الدنيا أن تشغل نفسك كل وقت بما هو أولى بها وأنفع لها في معادها).

وقال: (كيف يكون عاقلاً من باع الجنّة بما فيها بشهوة ساعة؟!).

إخوتي الكرام! لو خُير الإنسان بين البعر والدُّر, فاختار البعر!

ماذا يقول الناس عنه؟ مجنون أم أحمق؟ فكيف تترك جنة لا نهاية للبقاء فيها، (وفيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر)، بلذة منغصة زائلة؟! وكنت ذكرت مراراً كلام أئمتنا: لو كانت الآخرة خزفاً يبقى والدنيا دُراً يفنى لآثر العاقل الخزف على الدُر، فكيف والآخرة دُرٌ يبقى والدنيا خزفٌ يفنى!

لو كانت الآخرة من فخار -طين- لكنه باق, والدنيا من ذهب لكنه فانٍ لآثر الإنسان الباقية.

فكيف والأمر بالعكس! طين فانٍ وذهب باقٍ.

ثم قال: (يخرج العارف من الدنيا ولم يقضِ وطره من شيئين: بكاؤه على نفسه، وثناؤه على ربه).

المؤمن لا يشبع من هذين الأمرين: يبكي على نفسه, ويذم نفسه, وينتقص نفسه ويحتقرها لما يفرط ويقصر في حق ربه, ويرى أنه لا شيء يبقى على الدوام, ولا يفتر لسانه من ذكر ذي الجلال والإكرام والثناء عليه.

لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين.

ثم قال: (المخلوق إذا خفته استوحشت منه وهربت منه, والرب تعالى إذا خفته أنست به وقربت إليه لو نفع العلم بلا عمل لما ذم الله أحبار أهل الكتاب, ولو نفع العمل بلا إخلاص لما ذم الله المنافقين).

علم بلا عمل طريق اليهود, وعمل بلا إخلاص عمل المنافقين.

جاء الآن لمحل الشاهد وهو الذي أريده، وهذه كلها كما قلت: دُرر في كتابه الفوائد, وكما ترون لا يربطها رباط، يعني: وما يجمعها على موضوع معين بل هي حكم ينثرها رحمة الله ورضوانه عليه.

ثم يقول عن مدافعة الخطرات: (دافع الخطرة)، وهي الخواطر التي نتكلم بدافعها, فإذا وقع في قلبك خاطر رديء ادفعه.

(دافع الخطرة فإن لم تفعل صارت فكرة، فدافع الفكرة فإن لم تفعل صارت شهوة), يعني: النفس بدأت تميل إليها بعد أن فكرت وتعلقت (فحاربها)، يعني: الآن لست مدافعاً بل تحتاج إلى محاربة شديدة، (فحاربها، فإن لم تفعل صارت عزيمة وهمة، فإن لم تدافعها صارت فعلاً، فإن لم تتداركه بضده صار عادة! فيصعب عليك الانتقال عنها).

انظر لهذا الترتيب والإحسان! وحقيقة ما أيسر الأمر من بداية الطريق وهي خطرة، وهذا الخاطر خطم النفس عنه سهل, فإن لم تفعل صار فكرة, فإن لم تفعل صار شهوة, فإن لم تفعل صار عزيمة وهمة, فإن لم تفعل خرج إلى حيز الوجود وصار فعلاً، فإن لم تقابله بضده وتخليت عنه صار عادةً وخُلقاً لك يصعب الانتقال عنه, ولذلك الشيطان يرضى منا بالخاطرة؛ لأنه يعلم أنها تسوقنا إلى المخاطر, وإذا سرنا في الخواطر أخذتنا إلى المخاطر من حيث لا ندري, ولذلك من البداية إياك أن يقع في قلبك خاطر رديء, وإذا وقع حصن نفسك, وإذا لم تحصن وسوس الشيطان، وصعب الأمر.

هذا كما قلت ذكره هنا باختصار، ثم أفاض الكلام فيه في ص172.

هناك ذكر قرابة خمس صفحات، حتماً لا أريد أن أقرأها كلها، إنما أريد البداية فهي حقيقة حلوة وجميلة، وعنوانه عليها والمبحث كله في الخطرة, ثم يترتب عليها قاعدة جليلة, وضعها لها ثم نثرها ص171 ضمن الكلام، ثم وضحها في آخر الكتاب.