شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [30]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين, وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين! اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين!

سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد: فلا زلنا في آخر مباحث الجن، ألا وهو الصلة بيننا وبينهم، وقلت: هذا المبحث يقوم على أربعة أمور:

أولها: على حكم الاستعانة الإنس بالجن.

وثانيها: على حكم التناكح بين الإنس والجن.

وقد مر الكلام على هذين المبحثين.

والمبحث الثالث: في صرع الجن للإنس.

وآخر المباحث معنا وهو الرابع: تحصن الإنس من الجن.

وكنا نتدارس صرع الجن للإنس، وقلت: إن الصرع ينقسم إلى ثلاثة أقسام: صرع معنوي، وهذا أشنع أنواع الصرع، وهو أن يصاب الإنسان من قبل أعدائه شياطين الجن, فيلتقم الشيطان قلبه، ويوسوس له، فيصغي الإنسان إلى هذه الوسوسة، وقلت: هذه بلية عظيمة, ونسبة الصرعى فيها كثيرون كثيرون، ونسبة من صرع بهذا الصرع تسعمائة وتسعة وتسعون من الألف، وواحد فقط هو الذي نجا، وأكثر الناس في غفلة عن هذا الصرع، فكل واحد يهتم بجسمه وببدنه وبماله، ولا يفكر في دينه، فجسمك بالحماية حصنته مخافةً من ألم طاري، فالأولى بك أن من المعاصي خشية النار، وحقيقة: إن الناس لا يشعرون إلا إذا أصيبوا في أبدانهم وأموالهم، أما إذا أصيب في دينه فلا يشعر ولا يبالي.

ومن الرجال بهيمة في صورة الرجل السميع المبصر

فطن بكل مصيبة في ماله وإذا أصيب بدينه لم يشعر

ولذلك يقول أئمتنا: الرجل هو الذي يخاف من موت قلبه لا من موت بدنه، والمأسور من أسر قلبه ومن أسره الشيطان, لا من أسر بدنه، فإذا أسرك الشيطان وصرت عبداً له من دون الرحمن فهذا هو الصرع الحقيقي، وهذا هو الأسر الحقيقي, أن تكون حراً في الظاهر لكنك في الحقيقة مقلد تابع لهذا الشيطان الرجيم.

وقد تقدم معنا أن المعصية موت، وأن أول من مات من الخليقة إبليس, مع أنه منظر إلى يوم الدين، فحياته وجودها وعدمها سواء، أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا [الأنعام:122]. والرجل هو الذي يخشى من ضياع دينه, لا من ضياع درهمه.

وذكر ابن القيم في كتابه الوابل الصيب في صفحة اثنتين وستين ما يقرر هذا المعنى عن شيخ الإسلام ابن تيمية فيقول عند البحث في فوائد الذكر وثمراته: وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لا يدخل جنة الآخرة.

وقال لي مرة: ما يصنع أعدائي بي، أنا جنتي وبستاني في صدري، أنى رحت فهي معي لا تفارقني، إن حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة.

وكان يقول في مجلسه في القلعة التي سجن بها: لو بذلت ملء هذه القلعة ذهباً ما عدل عندي شكر هذه النعمة؛ لأنني خلوت مع ربي, أذكر الله, وآنس به سبحانه وتعالى، أو قال: ما جزيتهم على ما تسببوا لي فيه من الخير، وكان يقول في سجوده وهو محبوس: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.

وقال لي مرة: المحبوس من حبس قلبه عن ربه تعالى، والمأسور من أسره هواه.

ولما دخل إلى القلعة وصار داخل سورها نظر إليه وقال: فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة، وظاهره من قبله العذاب.

قال تلميذه ابن القيم : وعلم الله ما رأيت أحداً أطيب عيشاً منه، مع ما كان فيه من ضيق العيش، وخلاف الرفاهية والمعين بل كان على ضدها، ومع ما كان فيه من الحبس والتهديد والإرهاب، كان من أشرح الناس صدراً، وأقواهم قلباً، وأسرهم نفساً، تلوح نضرة النعيم على وجهه، وكنا إذا اشتد بنا الخوف وساءت منا الظنون وضاقت بنا الأرض أتيناه فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه فيذهب ذلك كله، فينقلب انشراحاً وقوةً ويقيناً وطمأنينة، فسبحان من أشهد عباده جنته قبل لقائه، وفتح لهم أبوابها في دار العمل, فأتاهم من روحها ونسيمها وطيبها ما استفرغ قواهم لطلبها والمسابقة إليها.

هذه هي حقيقة الرجولة، وهذه هي الصحة، وهذا هو الطيب، وهذه هي الحياة، أن يكون الإنسان عبداً لرب الأرض والسموات، ألا يأسره هواه، وألا يستولي عليه شيطانه، كما قال تعالى: اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ [المجادلة:19].

إن الصرع المعنوي أشنع أنواع الصرع، والناس في غفلة عنه، وكل من وقع في معصية فقد صرعه الشيطان، ونسبة الصرع تختلف من إنسان لإنسان، وكل عاص فهو مصروع.

وهناك صرع ثان, وهو صرع حسي بحيث يصرع البدن ويتأثر، والإنسان أحياناً قد يتكلم بما لا يعي، ويتخبط ويقع على الأرض ويغيب عن وعيه, فهذا صرع حسي، يشتكي منه من يصاب به، ونسبة المصابين بهذا النوع من الصرع لعله واحد من الألف أو من مائة ألف أو واحد من مليون، ومع ذلك أرى كثرة من يفتتن به. وقد يجتمعان, أي: صرع حسي وصرع معنوي، وهذا في الصرع الذي يقع بسبب الشيطان.

وتقدم معنا أن الصرع الحسي قد يكون له نوع ثان, وهو صرع بسبب الأخلاط واختلاف نسبتها بحيث يتغير مزاج الإنسان مما يحصل عنده من عفونات ورياح غليظة تكون في مجاري الدماغ, فيصاب بجنون وخبل وصرع وليس بواسطة الجن.

فهذه الأنواع تدارسنا الأول منها، وقلت بعد ذلك: سنتدارس النوع الثاني منها, هو ثابت وسأقرره بعدد من الأحاديث الصحيحة والحسنة والضعيفة المنجبرة، وكما قلت: سأذكر أحاديث لا تقل عن عشرة, بل ستزيد, وأبدؤها بكلام ابن القيم ، وسأختمها بكلام شيخه ابن تيمية .

كلام ابن القيم في تقسيم الصرع الحسي إلى قسمين

أما كلام ابن القيم فقد ذكره في كتابه زاد المعاد في هدي خير العباد عليه الصلاة والسلام في الجزء الرابع صفحة ست وستين، فقد تكلم على أقسام الصرع، ويأتي كلامه، ثم أذكر بقضايا وحوادث وقعت في زمن نبينا عليه الصلاة والسلام، وعالجها بنفسه الشريفة عليه صلوات الله وسلامه، وتلك الحوادث من وقف عليها يقطع جازماً أن الصرع واقع، وأن نبينا عليه الصلاة والسلام عالج الناس منه، ولا يرتاب أحد في ذلك كما سيأتينا، وقلت مراراً: إن الروايات إذا انضمت إلى بعضها تفيد القطع عند من يتأملها وينظر فيها.

أورد ابن القيم فصلاً نقله عنه بكامله الإمام القاسمي في محاسن التأويل في الجزء الثالث صفحة أربع وستين ومائتين.

يقول: فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في علاج الصرع:

أخرجا في الصحيحين من حديث عطاء بن أبي رباح . وسيأتينا هذا الحديث وسنذكر تخريجه في غير الصحيحين.

قال عطاء : قال ابن عباس : ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ قلت: بلى، قال: هذه المرأة السوداء، واسمها كما سيأتينا سعيرة , وقيل: شقيرة ، وقيل: شعيرة ، وقيل سقيرة , يعني: بالسين المعجمة مع ضبط ما بعد السين إما عين أو قاف, وبالسين المهملة وبعدها عين وكنيتها أم زفر رضي الله عنها، هذه المرأة السوداء ( أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إني أصرع وأتكشف, فادع الله لي، فقال: إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله لك أن يعافيك؟ فقالت: أصبر، قالت: فإني أتكشف فادع الله ألا أتكشف, فدعا لها ).

والحديث نص صحيح صريح في أن الصبر على المرض أفضل من التداوي، ولو تداوى لا يقال: خلاف الأولى، يقال: أخذ بمباح، لكن الفضيلة والتي يحصل الإنسان بها أجراً وهي عزيمة ألا يتداوى، وأن يصبر، والله جل وعلا ما قدره كائن سبحانه وتعالى، فإذا قوي يقين الإنسان وعظم توكله على ربه فترك التداوي فهذا أقوى لإيمانه، وإن تداوى فلا حرج على الإطلاق، وهنا النبي عليه الصلاة والسلام يقول لها: أنت بين خيارين: إن شئت دعوت لك وشفيت، وإن شئت صبرت ولك الجنة، قالت: أصبر، لكن إذا صرعت أتكشف، وأخشى أن يبدو مني ما أكره، فادع لي إذا صرعت ألا أتكشف، فدعا لها، فكانت إذا صرعت لا يبدو منها شيء من بدنها, رضي الله عنها وأرضاها.

قلت قال ابن القيم : الصرع صرعان:

الصرع الناتج عن الأرواح الخبيثة الأرضية

صرع من الأرواح الخبيثة الأرضية، وصرع من الأخلاط الرديئة، والثاني هو الذي يتكلم الأطباء في سببه وعلاجه.

قال: وأما صرع الأرواح فأئمتهم وعقلاؤهم -أي: الأطباء- يعترفون به ولا يدفعونه، ويعترفون بأن علاجه بمقابلة الأرواح الشريفة الخيرة العلوية لتلك الأرواح الشريرة الخبيثة. يعني: يعالج بواسطة تسليط جند الله الملائكة، فعندما نلجأ إلى الله جل وعلا عن طريق الرقى الشرعية والأدعية والأذكار الشرعية يسلط الله الملائكة من أجل دفع عدوان الجن عن الإنس، فيسلط القوى العلوية الخيرة على القوى السفلية.

قال: فتدافع آثارها، وتعارض أفعالها وتبطلها، وقد نص على ذلك بقراط في بعض كتبه, فذكر بعض علاج الصرع, وقال: هذا إنما ينفع من الصرع الذي سببه الأخلاط والمادة، أي: تغير المزاج بسبب فساد الأخلاط في الإنسان.

قال: وأما الصرع الذي يكون من الأرواح فلا ينفع فيه هذا العلاج، يعني: هذا العلاج الحسي لا ينفع لصرع الجن، إنما ينفع لمرض يطرأ على البدن.

قال: وأما جهلة الأطباء وسقطهم وسفلتهم ومن يعتقد بالزندقة فضيلة فأولئك ينكرون صرع الأرواح، ولا يقرون بأنها تؤثر في بدن المصروع، وليس معهم إلا الجهل، وإلا فليس في الصناعة الطبية ما يدفع ذلك، والحس والوجود شاهد به، وإحالتهم ذلك على غلبة بعض الأخلاط هو صادق في بعض أقسامه، لا في كلها. يعني: أحياناً ليس في بدن الإنسان أي آفة بالتحليلات الدقيقة التي يجريها المتخصصون الحاذقون، لكن يشهد لهذا الصرع أنه يتخبط أمامهم ويغيب عن وعيه ويخرج الزبد من فيه، ويتكلم بما لا يعي، ثم بعد ذلك يجرون عليه التحليلات, وليس فيه شيء في أخلاطه وفي تركيبه وفي مادته.

قال -أي: ابن القيم -: وقدماء الأطباء كانوا يسمون هذا الصرع المرض الإلهي، وقالوا: إنه من الأرواح، وأما جالينوس وغيره فتأولوا عليهم هذه التسمية، وقالوا: إنما سموه بالمرض الإلهي لكون هذه العلة تحدث في الرأس, فتضر بالجزء الإلهي الطاهر الذي مسكنه الدماغ. يعني: قيل له: مرض إلهي لأن هذه العلة إذا حصلت في بدن الإنسان رقت إلى الدماغ وخذلت الإنسان وصار في حكم المجنون، وهذا الدماغ به الإنسان يعرف ربه ويعبده ويوحده، فإذا غاب عن وعيه صار كأنه عزل عن ربه, فقيل له: مرض إلهي, يعني: يفسد صلة الإنسان بينه وبين ربه جل وعلا.

قال: وهذا التأويل نشأ لهم لجهلهم بهذه الأرواح وأحكامها وتأثيراتها، وجاءت زنادقة الأطباء فلم يثبتوا إلا صرع الأخلاط وحده، ومن له عقل ومعرفة بهذه الأرواح وتأثيراتها يضحك من جهل هؤلاء وضعف عقولهم.

علاج الصرع الناتج عن الأرواح الخبيثة

وعلاج هذا النوع -الصرع الذي يكون عن طريق القوى الشريرة الخبيثة أعني الجن- يكون بأمرين: أمر من جهة المصروع، وأمر من جهة المعالج.

فالذي من جهة المصروع يكون بقوة نفسه، وصدق توجهه إلى فاطر هذه الأرواح وباريها، والتعوذ الصحيح الذي قد تواطأ عليه القلب واللسان؛ لأن هذا نوع محاربة. يعني: إذا كنت تحارب قوى خفية بأدعية شرعية فلا بد من صدق توجه، وأن يكون عندك عزيمة بالتوجه إلى الله جل وعلا ليستجيب, وليسلط بعد ذلك من يدفع عدوان الجن عنك من الملائكة الخيرة الطيبة المباركة.

قال: والمحارب لا يتم له الانتصاف من عدوه بالسلاح إلا بأمرين:

أن يكون السلاح صحيحاً في نفسه جيداً.

والرقى الشرعية والأدعية الشرعية كلها سلاح ماض, ليس فيه آفة من الآفات، لكن إذا كان في الضارب الآفة, يعني: عندك سلاح جيد مثبت محكم، ورميت به نفس, فعادت الرصاصة على رأسك فقتلك، بدلاً من أن تقتل عدوك قتلت نفسك, فالبلاء من الضارب، ولذلك يقولون: السلاح بضاربه، والفرس بخيالها، وكما يقولون: إذا الرجل رجل فسيسير المرأة، وإذا كانت المرأة تسير الرجل فلا امرأة ولا رجل، أي: ضاع البيت.

قال: وأن يكون الساعد قوياً. فمتى تخلف أحدهما لم يغن السلاح كثير طائل، فكيف إذا عدم الأمران جميعاً: يكون القلب خراباً من التوحيد والتوكل والتقوى والتوجه، ولا سلاح له.

والثاني: من جهة المعالج, بأن يكون فيه هذان الأمران أيضاً, حتى إن من المعالجين من يكتفي بقول: اخرج منه يأتي إلى الجني الذي هو في بدن الإنسي فيقول له: اخرج فقط, فيقول: سمعاً وطاعة, ويولي هارباً.

قال: أو يقول: باسم الله، وسيأتينا في الأحاديث الثابتة الصحيحة من رواية يعلى بن مرة وغيره معالجة نبينا عليه الصلاة والسلام لأحد أصحابه وقوله: ( اخرج عدو الله, أنا عبد الله ورسوله ) فسعل سعلة وخرج منه مثل الجرو الأسود، فقام وما به شيء، كما سيأتينا في الأحاديث الثابتة الصحيحة.

قال: أو بقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، والنبي عليه الصلاة والسلام كان يقول: ( اخرج عدو الله، أنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ).

ذكر ابن القيم علاج شيخ الإسلام ابن تيمية للمصروع

يقول ابن القيم : وشاهدت شيخنا -يعني: ابن تيمية - يرسل إلى المصروع من يخاطب الروح التي فيه ويقول: قال لك الشيخ: اخرجي، فإن هذا لا يحل لك، فيفيق المصروع، وربما خاطبها بنفسه، وربما كانت الروح ماردة فيخرجها بالضرب, فيفيق المصروع ولا يحس بألم، وقد شاهدنا نحن وغيرنا منه ذلك مراراً. وكان كثيراً ما يقرأ في أذن المصروع: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ [المؤمنون:115].

وسيأتينا أن هذه الآيات قرأها عبد الله بن مسعود رضي الله عنه على مصروع فبرأ بإذن الله، ولو قرئت على جبل من رجل مخلص لزال, كما أخبر بذلك نبينا صلى الله عليه وسلم.

يقول ابن القيم : وحدثني أنه قرأها مرة في أذن المصروع أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ [المؤمنون:115]. فقالت الروح التي في بدن المصروع ومد بها صوته: نعم، خلقنا عبثاً ولن نرجع إلى الله، قال: فأخذت له عصا, فضربت بها في عروق عنقه حتى كلت يداي من الضرب، ولم يشك الحاضرون أنه يموت بذلك الضرب، وفي أثناء الضرب قالت: أنا أحبه، فقلت لها: هو لا يحبك، قالت: أنا أريد أن أحج به، فقلت لها: هو لا يريد أن يحج معك، فقالت: أنا أدعه كرامة لك، -وهذا الآن باب الغرور فإن رضي الشيخ كلامها لم تخرج-، قال ابن تيمية مجيباً: قلت: لا، ولكن طاعة لله ولرسوله عليه الصلاة والسلام، أي اخرجي طاعة لله ورسوله، فإنه لا يجوز العدوان, وهو محرم في شرع الإسلام.

قالت: ها أنا أخرج منه، قال: فقعد المصروع يلتفت يميناً وشمالاً, ثم قال: ما جاء بي إلى حضرة الشيخ؟ وقد ضربه الشيخ والمصروع مغمى عليه، قالوا له: هذا الضرب كله ولم تعرف، فقال: وعلى أي شيء يضربني الشيخ ولم أذنب؟ وهذه القصة يحكيها ابن القيم عن شيخه الإمام ابن تيمية بلا واسطة.

يقول: وكان يعالج بآية الكرسي، وسيأتينا بركة هذا وأنه من أعظم ما يحصن به الإنسان نفسه من عدوه عند المبحث الرابع في تحصن الإنس من الجن إن شاء الله.

يقول: وكان يأمر المصروع بكثرة قراءتها.

وبالجملة فهذا النوع من الصرع وعلاجه لا ينكره إلا قليل الحظ من العلم والعقل والمعرفة.

ونوجه هذا الكلام لـمحمد رشيد رضا ولأتباعه من أصحاب المدرسة الردية في هذه الأيام.

ذكر ابن القيم أسباب تسلط الأرواح الخبيثة

قال ابن القيم : وأكثر تسلط الأرواح الخبيثة على أهله تكون من جهة قلة دينهم، وفراغ قلوبهم وألسنتهم من حقائق الذكر والتعاويذ والتحصنات النبوية والإيمانية، فتلقى الروح الخبيثة الرجل لا سلاح معه وربما كان عرياناً, فيؤثر فيه هذا. ولذلك من صرع صرعاً معنوياً يسهل أن يصرعه الجن بعد ذلك صرعاً حسياً.

قال: ولو كشف الغطاء لرأيت أكثر النفوس البشرية صرعى هذه الأرواح الخبيثة. وهو الصرع المعنوي الذي يكون لمن ليس عندهم تحصن بالله، وقلوبهم خالية من حقائق الذكر والتعاويذ وما شاكل هذا.

يقول: وهي في أسرها وقبضتها تسوقها حيث شاءت، ولا يمكنها الامتناع عنها ولا مخالفتها، وبها الصرع الأعظم الذي لا يفيق صاحبه إلا عند المفارقة والمعاينة، وهناك يقال له: لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ [ق:22]. فهناك يتحقق أنه كان هو المصروع حقيقة، والله المستعان.

وعلاج هذا الصرع باقتران العقل الصحيح إلى الإيمان بما جاءت به الرسل الكرام على نبينا وعليهم جميعاً أفضل الصلاة وأزكى السلام، وأن تكون الجنة والنار نصب عينيه وقبلة قلبه، ويستحضر أهل الدنيا وحلول المثلات والآفات بهم. والمثلات هي النكبات والمصائب والتغير الذي حل بهم، كيف تفرقوا وكيف تقطعت أبدانهم عندما دفنوا.

قال: ووقوعها خلال ديارهم كمواقع القطر, وهم صرعى لا يفيقون، وما أشد داء هذا الصرع، ولكن لما عمت البلية به بحيث لا يرى إلا مصروعاً لم يصر مستغرباً ولا مستنكراً، بل صار لكثرة المصروعين عين المستنكر المستغرب خلافه. يعني: لو وجدوا رجلاً لم يصرعه الجن في هذه الأيام وهو الصرع المعنوي يستغرب منه، يقول: هذا لا يزال يعيش في العصور المتقدمة, ويقال: إلى الآن يعيش وليس في بيته تلفاز؟ فيظنون أن هذا من الشيوخ الشاذين.

حقيقة هذا هو الواقع، فلا ينكرون على المصروعين فقط، بل يستعظمون حال من لم يصرع، ويستشنعونه ويستغربونه وينكرونه, وتعارف القوم الذين عرفوا بالمنكرات, فعطل الإنكار والتصحيح. كما قال شيخ الإسلام مصطفى صبري عليه رحمة الله: فأنكر الإنكار.

قال -أي ابن القيم -: فإذا أراد الله بعبد خيراً أفاق من هذه الصرعة، ونظر إلى أبناء الدنيا مصروعين حوله يميناً وشمالاً على اختلاف طبقاتهم، فمنهم من أطبق به الجنون. وهو الذي جعل إلهه هواه، ومعبوده درهمه وديناره، أطبق به الجنون إطباقاً ليس بعده إطباق.

قال: ومنهم من يفيق أحياناً قليلة ويعود إلى جنونه، فأحياناً يعود إلى وعيه, ويستمع موعظة تؤثر في قلبه, ثم بعد ذلك يرجع إلى الجنون مرة أخرى. ومنهم من يفيق مرة ويجن أخرى، فإذا أفاق عمل عمل أهل الإفاقة والعقل, ثم يعاوده الصرع فيقع في التخبط. وهذا كما قلت تخبط معنوي.

الصرع الناتج عن الأخلاط الرديئة

قال: وأما صرع الأخلاط فهو علة تمنع الأعضاء النفسية عن الأفعال والحركة والانتصاب منعاً غير تام.

وسببه: خلط غليظ لزج يسد منافذ بطون الدماغ سدةً غير تامة، فيمتنع نفوذ الحس والحركة فيه وفي الأعضاء نفوذاً تاماً من غير انقطاع بالكلية، وقد تكون لأسباب أخر كريح غليظ يحتبس في منافذ الروح, أو بخار رديء يرتفع إليه من بعض الأعضاء، أو كيفية لاذعة, فينقبض الدماغ لدفع المؤذي، فيتبعه تشنج في جميع الأعضاء، ولا يمكن أن يبقى الإنسان معه منتصباً, بل يسقط ويظهر في فيه, يعني: الزبد غالباً.

وهذه العلة تعد من جملة الأمراض الحادة باعتبار وقت وجوده المؤلم خاصة، وقد تعد من جملة الأمراض المزمنة باعتبار طول مكثها وعسر برئها, لا سيما إن تجاوز في السن خمساً وعشرين سنة وهذه العلة في دماغه وخاصة في جوهره، فإن صرع هؤلاء يكون لازماً, قال أبقراط : إن الصرع يبقى في هؤلاء حتى يموتوا, يعني: إذا جاوز بهم سن الخامسة والعشرين.

إذا عرف هذا فهذه المرأة الصحابية أم زفر رضي الله عنها التي جاء الحديث أنها كانت تصرع وتتكشف هل يجوز أن يكون صرعها من هذا النوع. أي من صرع الأخلاط؟

هذا ليس بصحيح؛ لأنه سيأتينا ضمن روايات الحديث في رواية البزار أنها قالت: ( إني أخاف الخبيث أن يجردني ). وهو الشيطان الرجيم. أي: إذا صرعني فادع لي ألا أتكشف، وكان صرعها بواسطة تخبط الشيطان وتمكنه منها, وهي مصيبة وقعت على بدنها, ثم خيرها النبي عليه الصلاة والسلام بين الدعاء لها بالعافية والشفاء وبين الصبر, فاختارت الصبر.

قال: فوعدها النبي صلى الله عليه وسلم الجنة بصبرها على هذا المرض، ودعا لها ألا تتكشف، وخيرها بين الصبر والجنة وبين الدعاء لها بالشفاء من غير ضمان -بالجنة، فيدعو لها بالشفاء وأمرها موكول لمشيئة الله، هل هي من أهل الجنة أو لا- فاختارت الصبر والجنة.

وفي ذلك دليل على جواز ترك المعالجة والتداوي، وأن علاج الأرواح بالدعوات والتوجه إلى الله يفعل ما لا يناله علاج الأطباء، وأن تأثيره وفعله وتأثر الطبيعة عنه وانفعالها أعظم من تأثير الأدوية البدنية وانفعال الطبيعة عنها، وقد جربنا هذا مراراً نحن وغيرنا، وعقلاء الأطباء معترفون بأن لفعل القوى النفسية وانفعالاتها في شفاء الأمراض عجائب، وما على الصناعة الطبية أضر من زنادقة القوم وسفلتهم وجهالهم.

والظاهر: أن صرع هذه المرأة كان من هذا النوع.

ويجوز أن يكون من جهة الأرواح، ويكون رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خيرها بين الصبر على ذلك مع الجنة وبين الدعاء لها بالشفاء, فاختارت الصبر والستر. والله أعلم.

هذا كلام هذا الإمام في هذا المكان.

تفاوت الصرع الحسي من إنسان لآخر

إن الصرع الحسي تتفاوت نسبته وشدته من إنسان لآخر، فقد يصرع الإنسان في اليوم مرة، وقد تكون نسبة الصرع ساعة، وقد يطرأ عليه في الأسبوع مرة أو في الشهر أو في السنة، حسب تمكن الجني منه. وهذا الصرع يدخل فيه أيضاً اختطاف الجن للإنس، وله حكم الصرع الحسي، فقد يختطفون بعض الإنس ويغيبونهم, فلا يعلم بهم أهلوهم، وسيأتينا أن هذا وقع في زمن الخلافة الراشدة في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه: وأن رجلاً خطفته الجن, وبقي عندهم ما يزيد على أربع سنين، وحكم سيدنا عمر رضي الله عنه بفراق الزوجة منه وطلاقها، وبعد أن تزوجت عاد هذا الإنسي بعد أن قاتل فريق من الجن المؤمنين جناً كافرين, فأعادوه بعد ذلك إلى المدينة المنورة، والأثر إسناده صحيح كالشمس.

إذاً: الصرع أحياناً نسبته تتساوى، وأحياناً يكون خطفاً، وأحياناً يكون قتلاً.

هذه ثلاثة أنواع تدخل في الصرع الحسي، والقتل تقدم معنا أنه عن طريق الوخز، وهو الضرب الخفي الذي لا يرى من الداخل، كما أن الطعن هو الضرب الظاهري الذي يرى على البدن، وهو طعن من قبل الإنس، وذاك وخز من قبل الجن, وسأشرح هذا إن شاء الله فيما يتعلق بالطاعون, وأنه وخز أعدائنا من الجن كما جاء في الأحاديث الصحيحة الثابتة، وأن من أصيب بذلك فله أجر شهيد عند ربنا المجيد.

أما كلام ابن القيم فقد ذكره في كتابه زاد المعاد في هدي خير العباد عليه الصلاة والسلام في الجزء الرابع صفحة ست وستين، فقد تكلم على أقسام الصرع، ويأتي كلامه، ثم أذكر بقضايا وحوادث وقعت في زمن نبينا عليه الصلاة والسلام، وعالجها بنفسه الشريفة عليه صلوات الله وسلامه، وتلك الحوادث من وقف عليها يقطع جازماً أن الصرع واقع، وأن نبينا عليه الصلاة والسلام عالج الناس منه، ولا يرتاب أحد في ذلك كما سيأتينا، وقلت مراراً: إن الروايات إذا انضمت إلى بعضها تفيد القطع عند من يتأملها وينظر فيها.

أورد ابن القيم فصلاً نقله عنه بكامله الإمام القاسمي في محاسن التأويل في الجزء الثالث صفحة أربع وستين ومائتين.

يقول: فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في علاج الصرع:

أخرجا في الصحيحين من حديث عطاء بن أبي رباح . وسيأتينا هذا الحديث وسنذكر تخريجه في غير الصحيحين.

قال عطاء : قال ابن عباس : ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ قلت: بلى، قال: هذه المرأة السوداء، واسمها كما سيأتينا سعيرة , وقيل: شقيرة ، وقيل: شعيرة ، وقيل سقيرة , يعني: بالسين المعجمة مع ضبط ما بعد السين إما عين أو قاف, وبالسين المهملة وبعدها عين وكنيتها أم زفر رضي الله عنها، هذه المرأة السوداء ( أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إني أصرع وأتكشف, فادع الله لي، فقال: إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله لك أن يعافيك؟ فقالت: أصبر، قالت: فإني أتكشف فادع الله ألا أتكشف, فدعا لها ).

والحديث نص صحيح صريح في أن الصبر على المرض أفضل من التداوي، ولو تداوى لا يقال: خلاف الأولى، يقال: أخذ بمباح، لكن الفضيلة والتي يحصل الإنسان بها أجراً وهي عزيمة ألا يتداوى، وأن يصبر، والله جل وعلا ما قدره كائن سبحانه وتعالى، فإذا قوي يقين الإنسان وعظم توكله على ربه فترك التداوي فهذا أقوى لإيمانه، وإن تداوى فلا حرج على الإطلاق، وهنا النبي عليه الصلاة والسلام يقول لها: أنت بين خيارين: إن شئت دعوت لك وشفيت، وإن شئت صبرت ولك الجنة، قالت: أصبر، لكن إذا صرعت أتكشف، وأخشى أن يبدو مني ما أكره، فادع لي إذا صرعت ألا أتكشف، فدعا لها، فكانت إذا صرعت لا يبدو منها شيء من بدنها, رضي الله عنها وأرضاها.

قلت قال ابن القيم : الصرع صرعان:




استمع المزيد من الشيخ عبد الرحيم الطحان - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح الترمذي - باب الاستتار عند الحاجة، والاستنجاء باليمين، والاستنجاء بالحجارة [4] 4042 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في فضل الطهور [6] 3975 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [9] 3903 استماع
شرح الترمذي - مقدمات [8] 3783 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [46] 3783 استماع
شرح الترمذي - باب مفتاح الصلاة الطهور [2] 3769 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [18] 3565 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [24] 3481 استماع
شرح الترمذي - باب ما يقول إذا خرج من الخلاء [10] 3462 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [59] 3412 استماع