أرشيف المقالات

شاعر السودان

مدة قراءة المادة : 11 دقائق .
للأستاذ عبد القادر رشيد الناصري بقية ما نشر في العدد الماضي إذن فشعر العباسي هو شعر الفخامة والجزالة والموسيقى العربية الأصيلة ذات الإيقاع الكلاسيكي والرنين البدوي العنيف الذي يعيد لنا تارة صوراً من شعراء بني العباس وأخرى من شعراء الأمويين الذين عاصروا الخلفاء الراشدين وعمروا حتى أوائل الدولة التي اتخذت دمشق عاصمة لها. على أنني وقد قرأت الديوان بإمعان رأيت ناحيتين مهمتين تطغي على شعره وهما: 1 - حبه لمصر: عرفنا أن الشاعر جاء إلى مصر في مطلع حياته ودخل المدرسة الحربية في القاهرة ليعد نفسه حامياً لسياج الوطن، وعلمنا أيضاً أنه مكث فيها مدة سنتين وكان آنذاك طري الإهاب، ندي العود، في فجر شبابه الريان فلذلك لم تعجب إذا ما ظل وفيا إلى الديار التي أبلى فيها بعض سني شبابه، ولا نستغرب منه حنينه إلى معاهد شبيبته ورفاق صباه؛ خاصة بعد ما ترك فيها أستاذه الشيخ زناتي الذي كان له الفضل الأكبر في توجيه وتثقيفه، لذلك نسمعه يقول فيها: مصر وما مصر سوى الشمس التي ...
بهرت بثاقب نورها كل الورى ولقد سعيت لها فكنت كأنما ...
أسعى لطيبة أو إلى أم القرى وبقيت مأخوذاً، وقيد ناظري ...
هذا الجمال، تلفتاً وتحريرا ووقفت فيها يوم ذاك بمعهد ...
كم من يد عندي لن تكفرا دار درجت عال ثراها يافعاً ...
ولبست من برد الشباب الأنضرا ثم يسترسل في وصف ربى مصر ومغانيها ورياضها وطيب هوائها العليل: فهنا يسكب الشاعر ألمه الذي يحس به منذ فارق مصر وفرحة بالعودة إلى الذي أحبه وعقد عليه رجاءه ورجاء شعبه الكريم لذلك يهتف في مدح (ملك الوادي) من منبعه إلى مصبه أقوى المالكين عزيمة ...
وأسدهم رأيا، وأكرم عنصراً فأقام من صرح العروبة ركنه ...
مذ قام فيها منذراً ومبشراً ثم يقول مولاي يا زين الملوك ومن غدت ...
مصر به زين العواصم والقرى علمت جاهلها وعلت فقيرها ...
وسقتهمو يمنى يديك الكوثرا بوركت من ملك وبورك عهد ...
ك الميمون ما أبها سناه وأبهرا انضر إلى السودان نضرة مشفق ...
فلقد أمض زمانهم وتنكرا وهمو بعرشك لائذون ومالهم ...
إلاك من يذر العسير ميسرا فلذا تراهم كالعطشان تطلعوا ...
بالدو يرتقبون مزنا ممطرا ثم يصرخ صرخته الموجعة فيشرح لملك النيل حال شعبه وما فعل به المستعمر البغيض من تفرقة الصفوف وسجن الأحرار وخنق الحريات وكم الأفواه فيقول: ضربوا بأقفاص الحديد عليهم ...
مثل الذي فعلوا بآساد الثرى صبروا لها صبر الجبال رواسياً ...
وسروا وما ملوا مغالبة السرى وسهرت أحدوهم بذكرك دائماً ...
وحدي وأشدو بلبلا أو مزهر حتى لصغت كل أذن منهمو ...
قرطاً وكنت فريده المتخير ونراه في قصيدة أخرى يتشوق فيها إلى عهد الشباب الذي قطعه في مصر وهو ناعم البال مستريح القلب فيقول: هل إلى مصر رجعة وبنا ش ...
رخ شباب غض وزهرة عمر وليال قد أشرقت في رباها ...
كلها في الأقدار ليلات قدر ومكان كأن كل نسيم ...
ناشر في أرجائه طيب النشر يبهر العين منه مرأى أنيق ...
من مروج قيد النواضر خضر وهناك النسيم يبعث بالما ...
ء، ويزري والورق للماء تغري وهناك البهي من كل زهر ...
وهناك الشجي من كل طير بقعة شاكلت هوى كل نفس ...
فصبا نحو حسنها كل فكر رب هل تلك جنة الخلد أدخل ...
نا إليها أم تلك جنة سحر كنت في ذلك الحمى ناعم البا ...
ل خليا من كل قيد وأسر فيك يا مصر لذتي وسروري ...
وسميري وقت الشباب ووكري ويجدر بنا هنا أن نشير إلى أن أكثر شعراء السودان لا يزالون متعلقين بمصر، يبنون عليها آمالهم وآمال شعبهم وبلادهم غير ملتفتين إلى صيحات دعاة التفرقة والاستعمار.
هاتفين بالوحدة والتمسك بأهداف أمهم الحنون.
وعلى رأس هذه الطبقة من الشباب المرحوم شاعر الإبداع التيجاني يوسف بشير.
فهو يقول في قصيدته (ثقافة مصر) عادني اليوم من حديثك يا (مص ...
ر)
رؤى وطوفت بي ذكرى وهفا باسمك الفؤاد ولجت ...
بسمات على الخواطر سكرى من أتى صخرة الوجود ففرا ...
ها وأجرى منها الذي كان أجري سلسبيلا عذب المشارع ثرا ...
راً، رويا جم الأوذاي غمرا كلما مصر المسود منها ...
زاد في مجده جلالا وكبرا كلما طوق (الكنانة) علماً ...
خولتنا منه روافد تترى هو من صاغنا على حرم الن ...
يل وشطآنه دعاء وشكرا فجر النيل يوم نشر في الأر ...
ض ضحاها وصاغ للناس فجرا قال: كن فاستجاش يقذف دفا ...
عاً ويجري على الشواطئ خمرا ويقول أيضاً في قصيدته (رسل الشباب في مصر) وشباب من الكنانة حمس ...
ينثرون الحماس صاعا بصاع صرخوا بالعرين صرخة ذي مج ...
د مذال وذي مقر مضاع في سبيل الجهاد عن ...
مصر بنو بمنصل ويراع وأرى مصر الشباب حليفي ...
مجد فرعون أو ضجيعي يفاع مصر دين الشباب في الحضر الراف ...
ة والبدو من قرى وبقاع مصر أم الشعوب ماذا عراها ...
واعترى الشرق من وجي وضياع حبذا الموت في سبيلك يا مص ...
ر لنشئ عن الحمى دفاع قل لمصر وحيها في شباب ...
صيغ من جرأة ومن إزماع شاد أركانها وشد ذراها ...
وابتنى صرح مجدها المتداعي في جهاد عن العقيدة صدق ...
ونضال عن الحمى وقراع مصر يا مهبط الحضارة والن ...
ور ويا مبعث الهدى كل ساع وهكذا نجد أكثر أرباب الفن والقلم في السودان لا ينكرون فضل مصر عليهم بل يتجهون دائما وأبدا صوب زعيمة النهضة وأم البلاد العربية متخذين منها قبلة يوجهون إليها صلاتهم وتسابيحهم وأناشيدهم لأنها الملجأ الوحيد والمأمل الذي يخلصهم مما هم فيه، ولا غرو ففضل أعلام مصر وأدبائها وشعرائها يستوي فيه السوداني والسوري والعراق واللبناني وكافة العرب في أقطارهم.
. والناحية الثانية الظاهرة في شعر العباسي التي تظهر واضحة جلية في شعره هي بكاؤه على شبابه الذاهب وتذكره أيامه السالفة 2 - ذكري الشباب: تطالعنا لوعة تذكرة لأيام صباه في كل قصيدة من قصائده، فهو ببكي على ساعات لهوه وسني مراحه وذكريات أفراحه، والناظر في ديوانه يلمس هذه الظاهرة بوضوح تام فلنستمع إليه وهو يقول: فارقتها والشعر في لون الدجى ...
واليوم عدت به صباحاً مسفرا (سبعون) قصرت الخطى فتركنني ...
أمشي الهوينا ضالعاً متعثرا من بعد أن كنت الذي يطأ الثرى ...
زهوراً، ويستهوي الحسان تبخترا يا من وجدت بحبهم ما أشتهي ...
هل من شباب لي يباع ويشترى ولو انهم ملكوا لما بخلوا به ...
ولأرجعوني والزمان القهقري لأظل أرفل في شباب فاتني ...
زمن الشباب، وفته متحسرا أو يقول: ولله قلب قد سلا نشوة الصبا ...
وقد كان في ريعانه جد جاهد وهل أبقيت الأيام شيئا ألذه ...
وقد أسلمتني للردى والشدائد لذا بعت لذات الصبا غير نادم ...
وعدت لشيب لم يكن خير وافد أو يقول: ليت الشباب عاد لي ...
بعد المشيب والكبر حتى أرى أين محط ...
الرجل كم كف القدر أو قوله: واليوم قصر بي عما أحاوله ...
وعاقني من لحاق الركب ما عاقا وأنكر القلب لذات الصبا وسلا ...
حتى النديمين: أقداحاً وأحداقا أحبو إلى الخمس والستين من عمري ...
حبواً وأحمل أقلاما وأوراقا أو قوله: ما أنس لا أنس إذ جاءت تعاتبني ...
فتانة للحظ ذات الحاجب النوني يا بنت عشرين والأيام مقبلة ...
ماذا تريدين من موءود خمسين؟ أو قوله: ولى شبابي وانطوت ...
أيام غصني الندي جادك نجاح الحيا ...
من مبرق ومرعد لأنت ريحان القلو ...
ب عدت أو لم تعد وهكذا فنحن كلما قلبنا صفحات الديوان لا تقع أعيننا الإ على ذكرى مؤلمة لشباب مضى.
.
فهو كلما مرت به عجلة الحياة سجل أعوامها في شعره وهذا يرجع سببه كما يقول (علماء النفس) إلى كبت عواطفه وعدم الانسياق في ظرف اللهو التي يزينها الشباب وعدم إطاعة نوازع الجسد في دور الصبا؛ وذلك لوجده في بيئة جامدة محافظة ووجوده بين أحضان عائلة دينية متمسكة بتقاليدها، لذلك نجد طابع الألم مرتسما على كل بيت يذكر فيه شبابه كما يفعل اليوم أكثر الرجال الذين يحرمون في شبابهم من متع الحياة لفقرهم أو لانصرافهم إلى العلم ولكنهم عندما تتاح لهم الفرصة ولو في كهولتهم نراهم يركضون وراء الملذات كأنهم منطلقون من السجون، كما حدث للشاعر الرصافي فإنه بعد أن قضى شبابه وهو منطو على نفسه رأيناه في صدر رجولته يعب من كؤوس اللذة عبا، دون ما وازع أو رادع ولذلك فإن العباسي محق ببكائه على أيام شبابه لأنه حرم من لذته وهو في كل ما قاله صادق العاطفة يحس فيه قارئه حرارة اللوعة وصدق الإيمان إلى هنا نمسك عن الحديث لنترك المجال إلى غيرنا للكتابة عن هذا الشاعر لنعود مرة أخرى إلى تقديم جديدة من شعراء السودان الشباب في أعداد قادمة إن شاء الله بغداد عبد القادر رشيد الناصري

شارك الخبر

ساهم - قرآن ١