خطب ومحاضرات
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [29]
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
في البداية وردت مسألة متعلقة بملك اليمين، وهل يجوز للرجل الواحد أن يملك عشر أخوات بملك اليمين، وأن يتمتع بهن؟
فنقول: يجوز أن يملك عشر أخوات بملك اليمين، لكن إن اقترب من واحدة منهن فلا يجوز أن يطأ البقية، يعني: هو مخير في وطء من شاء، لكن يحرم أن يجمع بالوطء بين أختين عن طريق ملك اليمين أو عن طريق عقد النكاح، فيجوز له أن يملك أماً ومعها بنتها وكلاهما أمتان رقيقتان، لكن لو قدر أنه وطئ الأم فلا يجوز بعد ذلك أن يتصل بالبنت، يعني: ما ينبغي أن يكون حكمه في النكاح كذلك عن طريق ملك اليمين، وإلا الآن يقال: وَأُحِلَّ لَكُمْ [النساء:24] ولا يقال: إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ [المؤمنون:6]. بمعنى: أن هذه عن طريق ملك اليمين، فيجوز أن يجمع بين الأخوات، وأن يطأ الأم مع ابنتها, وهذا لا يجوز.
إخوتي الكرام! بعض الإخوة عرض هذه الورقة، كتب فيها: أن فتاة ولدت في بلاد مصر بعين واحدة في وسط وجهها، بدون أنف أو حاجبين، ثم يقول: ماتت هي بعد ذلك، والأطباء يحملون هذه الولادة الشاذة على أمرين اثنين، أما الأمر الأول -وهذا مردود عليهم، وهذا من ترهاتهم وأوهامهم وتخريفهم- يقولون: لعله بسبب زواج الأقارب؛ لأن الأم متزوجة من ابن عمها، وهذه وسوسة شيطانية، لكن الوسوسة الشيطانية قد تكون من قبل شياطين الإنس أو من قبل شياطين الجن.
والأمر الثاني وفيما يظهر أنه هو السبب والعلم عند الله: وهو تناول أدوية ضارة بالأجنة أثناء الحمل؛ لأن الأم مصابة بالسكري. فنقول للأطباء الذين يمنعون الحياة في هذه الأوقات باسم معالجة الناس: من الذي اخترع حبوب منع الحمل أوليس أنتم؟ ولا تخلو من ضرر إما على المرأة، أو عليها وعلى طفلها إن حصل حمل في المستقبل، أو عليها وعلى جنينها وعلى زوجها، وفي الغالب الأضرار الثلاثة تجتمع، فسرطان الرحم أكثر أسبابه تناول حبوب منع الحمل، فأنتم الآن تنتجون ثم تقولون بعد ذلك: لعله أو لعله.
والسبب الثاني وهم منكم ولا حقيقة له، وهو كونه بسبب زواج الأقارب، أي مضرة ومنقصة في زواج الأقارب؟ إذا تزوج الإنسان قريبته كان ماذا؟ لا حرج ولا شيء في ذلك، فإذا حصل مثلاً بعض الصفات الوراثية في الجنين كأن زادت فيه صفة يتناقلونها، فليس معنى هذا أن الخلق سيخرج بهذا التشنيع: عين واحدة بالوسط ولا أنف ولا أذنان ولا ولا، هذا كله كما قلت لا علاقة له بزواج الأقارب على الإطلاق، إنما هذا بسبب تناول أدوية ضارة, وما أكثرها وأكثر من يتناولها هذه الأيام.
إخوتي الكرام! ختام الكلام على هذه المسألة: أنه لا يجوز التزاوج والتناكح بين الإنس والجن.
آخر الأدلة كما تقدم معنا: أن الأصل في الأبضاع التحريم، وكذلك في اللحوم؛ لأن الأصل في اللحوم أنها ميتة، حتى تأتي ببرهان على حل التذكية، ونحن قد حرمت علينا الميتة, وهنا كما حرم علينا أن نستعمل فروجنا في أي شيء إلا فيما قام الدليل على حله أمرنا بحفظ فروجنا، ونهينا عن استعمالها إلا فيما أبيح لنا، ونهينا عن أكل الميتة إلا في حال الضرورة. وعليه فإن كل لحم مذبوح إذا لم تتحقق من تذكيته فهو ميتة وحرام.
وقد أشار إلى هذه القاعدة أئمتنا الكرام فيما استنبطوه من حديث نبينا عليه الصلاة والسلام، هذه القاعدة يشير إليها الإمام ابن دقيق العيد في كتابه إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام في الجزء الرابع صفحة تسع وتسعين ومائة، وينقل هذه القاعدة عنه الحافظ ابن حجر عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا في الفتح في الجزء التاسع صفحة اثنتين وستمائة.
وكنت أسمع شيخنا المبارك الشيخ محمد المختار الشنقيطي عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا يذكر هذه القاعدة بكثرة، ويقول: أكثر طلبة العلم يغفلون عنها، وهي: أن الأصل في اللحوم الحظر والمنع والتحريم حتى يثبت الحل كما هو الحال في الفروج تماماً، وتختلف هذه القاعدة عن قاعدة: الأصل في الأشياء الإباحة من تفاح وبرتقال وسكر ورز وما شابهه, هذه الأصل فيها الحل إلا أن تأتي وتقول: نوع كذا حرم عليكم؛ لأنه مسكر .. لأنه مخدر .. لأنه ضار, فتأتي بعلة شرعية أو بنص على نوع واحد من هذه الأشياء.
أما هنا فالأصل أنك ممنوع من أن تأكل لحماً؛ لأنه ميتة، إلا إذا قام الدليل على تذكيته وذبحه وحل التذكية، يقول: الأصل التحريم في الميتة, واللحم كما قلت من جنس الميتة, وله حكمها، يقول: فإذا شككنا في السبب المبيح رجعنا إلى الأصل، فإنه ما يجوز أن تأكل لحماً؛ لأنه ميتة. وهذا أئمتنا أوردوه عند الحديث الصحيح الثابت في المسند والكتب الستة ورواه أبو داود الطيالسي وابن الجارود في المنتقى والإمام البيهقي في السنن الكبرى, وهو من أصح الأحاديث وأعلاها درجة، ولفظ الحديث عن عدي بن حاتم رضي الله عنه وأرضاه عندما سأل النبي عليه الصلاة والسلام عن الاصطياد بالكلاب، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: ( إذا أرسلت كلبك المعلم وسميت الله فكل ). ثم قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( إلا أن يأكل الكلب فلا تأكل؛ فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه )، يعني: إذا أرسلت كلبك واصطاد صيداً من أرنب أو غزال وأكل منه فلا تأكل؛ فإني أخاف أن يكون إنما أمسك ليأكل هو ما أمسك، لا ليصطاد لك. ( فإن خالطها ) تكملة الحديث ( كلب من غيرها فلا تأكل ). أنت ما تعلم الآن أي الكلاب صادت؟ فأرسلت كلابك واختلط معها كلب آخر ووجدت بعد ذلك الصيد فلا تأكل؛ أي فإنك لا تدري أي الكلاب اصطادته, وأنت أرسلت كلبك وسميت عليه، إذا أرسلت كلبك وسميت الله عند إرساله ثم أكل الكلب من هذا الصيد الذي أمسكه لا يجوز أن تأكل منه؛ لأن الأصل فيه التحريم, لعله أمسك لنفسه وما اصطاد لك، وإذا أمسك لنفسه صار إذاً ميتة فلا يجوز أن تأكله، وقد أبيح لنا عندما نرسله بنص، فنقف عند هذا الأمر، وما عدا هذا الأصل فيه التحريم، فالأصل في الميتة التحريم، فإذا شككنا في السبب المبيح رجعنا إلى الأصل.
ولذلك إخوتي الكرام! ما يأتي من لحوم من غير البلاد الإسلامية في هذه الأوقات وحصل عندنا نبأ أنها لا تذكى ذكاة شرعية هذا يوجب علينا أن نمتنع عن كل لحم حتى يثبت عندنا حله, وأنه تمت تذكيته، أما البلاد الإسلامية فالأصل فيها الحل؛ لأنهم يذكون، لكن لو قدر أنه جاءك أيضاً خبر عن بلد من البلاد أنهم لا يذكون التذكية الشرعية فنقول: كل ما يأتي من لحم من تلك الجهات لا يؤكل إلا أن يأتي بعد ذلك معه برهان ويقين تطمئن إليه أنه مذكى أو تم تحت إشراف شرعي؛ لأنه إذا شككت ترجع إلى الأصل، وهو التحريم، إلا أن يثبت حل تذكيته.
فانتبه لهذا! فالأصل في اللحوم التحريم، والأصل في الفروج التحريم, إلا أن يثبت دليل الإباحة والحل، والعلم عند الله.
الإمام السيوطي في الأشباه والنظائر بعد أن بحث في مسألة التزاوج بين الإنس والجن قال: فإن قلت: ما عندك من ذلك؟ يعني: أنت إلى أي شيء تذهب؟ أي: للإمام السيوطي ؟ قلت: الذي أعتقده التحريم لوجوه، يعني: يحرم التزاوج بين الإنس والجن لوجوه، وذكر بعض الأوجه التي ذكرتها, وقد أوصلتها إلى سبعة أوجه جمعاً من كلام أئمتنا رحمة الله ورضوانه عليهم أجمعين.
بقي إخوتي الكرام! تعليق يسير حول هذا عند قول من أباح, أرده ثم ننتقل إلى الأمر الثالث, ألا وهو تلبس الجن بالإنس. ذهب بعض العلماء في هذه الأمة إلى حل التناكح بين الإنس والجن، منهم: الإمام الأعمش ، وهو من التابعين الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، فقد تقدم معنا أنه حضر نكاح جني من إنسية، وإنسي من جنية، ولولا ذهابه إلى القول بالحل لما استجاز أن يحضر نكاحاً حرمه الله جل وعلا، وقلنا: إن الإسناد صحيح ثابت إلى الأعمش كما تقدم معنا ضمن هذا المبحث.
ومن جملة من كان يذهب أيضاً إلى إباحة التناكح بين الإنس والجن: أحد القضاة وهو قاضي هراة زيد العمي, ويقال له: زيد بن الحواري أبو الحواري العمي البصري, وقيل له: العمي نسبة إلى العم، قيل: لأنه كان إذا سئل عن شيء يقول: حتى أسأل عمي؟ فقيل له: زيد العمي , وقيل: إنه من بني العم هكذا, فالعمي نسبة إلى بني العم من تميم، إما أنه يقول: حتى أسأل عمي، أو نسبة إلى قبيلة من تميم يقال لهم: بنو العم. والعلم عند ربنا العظيم.
هذا القاضي قاضي هراة رجال السنن الأربع أخرجوا حديثه, لكنه ضعيف من حيث الرواية, كان يرى حل التناكح بين الإنس والجن، وكان يسأل الله أن يسهل له جنية ليتزوجها، فقيل له: ما تفعل بها؟ قال: تسافر أينما سافرت، إذا سافر تسافر معه لا تحتاج إلى كلفة، والإنسية تحتاج إلى كلفة ومؤنة وتعب، يقول: تسافر معي عندما أسافر، هذه الجنية تصحبني ولا تكلفني شيئاً، فكان يرى القول بالجواز.
أدلة الأقفهسي على جواز التناكح بين الإنس والجن
الأول: قال: إن الله سماهم ناساً ورجالاً، فقال: وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا [الجن:6]. والنبي عليه الصلاة والسلام اعتبرهم إخواناً لنا، فقال في الحديث الذي معنا وهو حديث الزاد: ( فإنه زاد إخوانكم من الجن ).
وورد تسميتهم ناساً, وذلك ثابت في صحيح البخاري من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، والحديث رواه الإمام الحاكم في المستدرك وهو في صحيح البخاري كما سمعتم، ورواه الإمام الطبري في تفسيره ورواه غير هؤلاء، انظروا الدر المنثور في الجزء الرابع صفحة تسع وثمانين ومائة، ولفظ حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه قال: ( كان ناس من الإنس يعبدون ناساً من الجن، فأسلم الجن وبقي الإنس على عبادتهم، فأنزل الله هذه الآية يعير الإنس بها, فقال جل وعلا: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا [الإسراء:57] ). والآية من سورة الإسراء.
ففي هذا الأثر تسمية الجن ناساً. وقد استشكل الإمام ابن التين كما في فتح الباري في الجزء الثاني صفحة سبع وتسعين وثلاثمائة أثر عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه في تسمية الجن ناساً من حديث أن الناس ضد الجن. قال الحافظ ابن حجر : وأجيب بأن الناس هنا مأخوذون من ناس ينوس إذا تحرك، فصفة الحركة موجودة في الجن كما هي موجودة في الإنس، وقيل: إنهم سموا بذلك للتقابل مع الإنس، فهؤلاء ناس من الإنس، وهؤلاء ناس من الجن. ثم قال الإمام ابن حجر عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا: ويا ليت شعري على من يعترض الإمام ابن التين ؟ يعترض على صحابي عربي هو أدرى بلغة العرب من المعترض؟ والعلم عند الله جل وعلا.
بناء على هذا فالأحكام التي تنطبق علينا تنطبق عليهم, ونحن نستوي معهم في ذلك, فيحل لنا أن ننكح منهم وأن ينكحوا منا، كما يجوز هذا في الإنس مع الإنس وفي الجن مع الجن يجوز بين الصنفين.
كما قلت هذا استدلال لا يدل على المطلوب؛ لأنه لا بد من البحث في الأدلة الخاصة، فلو أن إنساناً جاء واستدل بقول الله: فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ [النساء:3] على جواز الزواج بالوثنية؛ لأن الآية عامة في النساء؛ فنقول له: الاستدلال بالعموم على هذه القضية لا يصلح؛ لأنه لا بد من الإتيان بدليل خاص؛ لأننا نهينا بعد ذلك بأدلة خاصة. وتقدم معنا آيات حصرت النكاح فيما هو من جنسنا كما في آية النحل وآية الروم, ثم عندنا نهي عن النبي عليه الصلاة والسلام، والحديث ملزم، واعتضد بفتيا التابعين، ثم عندنا أدلة أخرى ذكرناها. فالقول بأنهم يسمون رجالاً وهم إخوان لنا فيجوز أن ننكح منهم، هذا لا دلالة فيه على هذا المطلوب أبداً، فلابد من أن تأتي بدليل خاص في المسألة، وأما أن تأتي بعمومات فلا ثم لا، فالمرأة الكافرة أيضاً من بني آدم، وهي أيضاً من النساء ولا يجوز أن ننكحها؛ لقيام الدليل الخاص على المنع منها، وهنا كذلك، فهذه الأدلة العامة لا تقابل الأدلة الخاصة التي هي كما قلت نص في محل النزاع.
وتقدم أن كل واحد منها قوي، يعني: الأصل في الفروج والأبضاع التحريم, لو لم يكن إلا هذا لكفى دليلاً على المنع.
ثم تقدم معنا قياس الأولى، فلا يستدل بهذا العموم على هذا الخصوص, والعلم عند الله جل وعلا.
الاستدلال بقصة سليمان مع بلقيس على جواز التناكح بين الإنس والجن
الأمر الأول: بالنسبة لزواجها من نبي الله سليمان على نبينا وعليه الصلاة والسلام هذا لا دليل عليه، والذي ورد أن أحد أبويها كان من الجن، وقلت: هو الراجح, والأدلة في ذلك تعتضد وتتقوى, وقلت: هذا هو المعتمد والعلم عند الله، تقدم معنا هذا. لكن زواج نبي الله سليمان منها على نبينا وعليه الصلاة والسلام لا يوجد دليل على ذلك لا في القرآن ولا في السنة، وأخبار أهل الكتاب مختلفة، بعضهم يقول: تزوجها، وبعضهم يقول: عرض عليها الزواج ليس منه بل من غيره, فقالت: ملكة تتزوج؟! قال: لابد في الإسلام من الزواج, فزوجها من أحد الأمراء. وقيل: لم تتزوج أبداً. والعلم عند الله جل وعلا. يعني: حتى أخبار أهل الكتاب المنقولة عنهم قيل: تزوجها نبي الله سليمان على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وقيل: زوجها لأمير.
إذاً: كونه تزوج هو منها أو لا هذا محل بحث وليس بمسلم, وعلى التسليم بأن نبي الله سليمان على نبينا وعليه الصلاة والسلام تزوج منها فلا يجوز أن يستدل بالقاعدة: أن شرع من قبلنا شرع لنا؛ لأن هذه لها عدة أحوال, فانتبه لها!
أولها: شرع من قبلنا يعتبر شرعاً لنا إلا في أمور الاتفاق، فإذا قام الدليل على نسخ ذلك وفي شرعنا خلاف هذا وهنا دل شرعنا المنزل على نبينا عليه الصلاة والسلام على المنع من التناكح بين الإنس الجن فلو كان هذا جائزاً في الأمم السابقة فنحن منعنا منه، والعلم عند الله جل وعلا.
ثانيها: شرع من قبلنا إذا لم يقم دليل على ثبوته في موضوع ولا حكي في كتاب ربنا ولا سنة نبينا عليه الصلاة والسلام لا يستدل به؛ لعدم الوثوق بثبوته، وعليه ما حكي في أخبار أهل الكتاب أنه كان عندهم كذا وكذا إذا لم يحفظ في شريعتنا ولم يثبت عندنا لا يجوز أن نقول: هذا شرع من قبلنا.
ثالثها: متفق عليه، شرع من قبلنا شرع لنا فيما أقر في شرعنا وألزمنا به.
هذه ثلاثة أمور متفق عليها: فما نسخ من شرع من قبلنا وإن أخبرنا به وأن شريعتنا تخالفه فلا يقال: شرع من قبلنا شرع لنا في هذه المسألة.
الأمر الثاني: ما لم يثبت عندنا أنه شرع من قبلنا؛ لأنه ما ورد في شرعنا الخبر عنه لا يجوز أن نقول: إنه شرع من قبلنا، الله عليم هل هذا كان أو لا، وأخبار أهل الكتاب لا يوثق بها.
الأمر الثالث: ما ثبت عندنا من شرع من قبلنا وأمرنا به في شريعتنا، هذا يحتج به بالاتفاق.
حكم العمل بشرع من قبلنا إذا لم يوجد في شريعتنا ما يخالفه أو ينسخه
والذي يظهر والعلم عند الله أن شرع من قبلنا في الأصل شرع لنا إلا إذا قام في شرعنا ما يعارضه وما ينسخه. وقد ثبت في مسند الإمام أحمد وصحيح البخاري والحديث في السنن الأربع إلا سنن ابن ماجه، ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه والبيهقي في السنن الكبرى، وهو في تفسير ابن مردويه ، والحديث صحيح صحيح، وهو في تفسيره, فهو في صحيح البخاري عن مجاهد عليه رحمة الله قال: قلت لـابن عباس عليهم جميعاً رحمة الله ورضوانه: أأسجد في ص؟ وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ [ص:24]. فقرأ عبد الله بن عباس رضي الله عنهما عليه آيات في سورة الأنعام, في آخرها قول الله جل وعلا: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ [الأنعام:90]. من جملة الأنبياء الذين ذكروا على نبينا وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه: داود . ونص الآيات الكريمات كما قال رب الأرض والسماوات في سورة الأنعام: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ * وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ [الأنعام:83-90].
فإذاً: نبي الله داود عندما ذكر والله يقول في آخر الآيات: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ [الأنعام:90]. قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما لـمجاهد: هو -أي: داود- ممن أمر نبيكم صلى الله عليه وسلم أن يقتدي به. فكما سجد نبي الله داود على نبينا وعليه الصلاة والسلام نسجد نحن.
وكان عبد الله بن عباس رضي الله عنهما يقول: سجدة ص ليست من عزائم السجود، لكنني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد فيها. من أجل أنه أمر أن يقتدي بنبي الله داود على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه، ونحن أمرنا أن نقتدي بنبينا عليه الصلاة والسلام. فعليه يستنبط من هذا أن شرع من قبلنا -والعلم عند الله- شرع لنا, إلا إذا ورد في شرعنا ما يعارضه.
وخلاصة القول في هذه المسألة: أن ما حكي لنا من شرع من قبلنا ونسخ في شريعتنا لا يحتج به اتفاقاً.
الحالة الثانية: ما لم يرد في شرعنا ذكره على أنه شرع من قبلنا ونقل عن أهل الكتاب لا يوثق به مطلقاً ولا يعول عليه اتفاقاً.
الحالة الثالثة: ما حكي لنا من شرع من قبلنا في شريعتنا وأقر في شريعتنا وأمرنا به، يحتج به اتفاقاً.
الحالة الرابعة: ما ورد من شرع من قبلنا في شريعتنا ولم يرد في شرعنا إلزامنا به ولا نسخه، فهذا مما اختلف فيه أئمتنا هل يعتبر شرع من قبلنا شرعاً لنا أو لا؟ فذهب الجمهور كما تقدم معنا أن شرع من قبلنا شرع لنا والعلم عند الله جل وعلا.
إذاً: الدليل الثاني لا يصلح أن يستدل به، وهو زواج نبي الله سليمان من هذه التي أحد أبويها من الجن؛ لأنه ورد في شرعنا ما يعارض ذلك وما يمنعنا من ذلك.
الدليل الثالث عندهم وهو بمثابة رد على بعض الأدلة التي استدل بها الجمهور، قالوا: النهي عن نكاح الجن الوارد في حديث الزهري المرسل الذي تقدم معنا يمكن حمله على الزنا، نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نكاح الجن, أي: قال: عن الزنا، لم؟ قال: لأن المراد من الزنا أنه يفعل سراً وخفية من الاجتنان، ليس نهياً عن التناكح بين الإنس والجان، وإنما عن الزنا الذي يفعل سراً ويزين به الجن, وليس المراد به التناكح بين الإنس والجن. وهذا التأويل متكلف مردود، وما عولنا نحن في التحريم على هذا الدليل فقط حتى إذا أولوه بهذا التأويل يقال: إذاً يجوز التناكح بين الإنس والجن. بل تقدم معنا أدلة سبعة تدل على المنع، وهو الذي يظهر والعلم عند الله جل وعلا.
وأما قول الإمام مالك عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا فقد تقدم معنا أنه يرى أن الأصل جواز التناكح بين الإنس والجن، لكنه يرى المنع من ذلك؛ خشية وقوع الفساد في بلاد الإسلام، وتقدم معنا هذا القول وتوجيهه, وقول الجمهور أقوى وأحوط، والعلم عند الله عز وجل.
ومن جملة من كان يرى القول بالجواز: الإمام الأقفهسي, وهو شهاب الدين أحمد بن عماد بن محمد توفي سنة ثمان وثمانمائة للهجرة، أخذ عن الإمام الأسنوي . وسمع منه الإمام ابن حجر كما في شذرات الذهب في الجزء السابع صفحة ثلاث وسبعين، وهو مترجم في الضوء اللامع للإمام السخاوي وغيره، انظروه في الجزء الثاني صفحة سبع وأربعين، وفي البدر الطالع للشوكاني في الجزء الأول صفحة ثلاث وتسعين إلى غير ذلك. له كتاب سماه: توقيت الأحكام على غوالب الأحكام، ذهب الأقفهسي إلى أن التناكح بين الإنس والجن جائز، فقال: الذي يظهر لي جوازه، ثم علل هذا بأمرين ذكرهما:
الأول: قال: إن الله سماهم ناساً ورجالاً، فقال: وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا [الجن:6]. والنبي عليه الصلاة والسلام اعتبرهم إخواناً لنا، فقال في الحديث الذي معنا وهو حديث الزاد: ( فإنه زاد إخوانكم من الجن ).
وورد تسميتهم ناساً, وذلك ثابت في صحيح البخاري من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، والحديث رواه الإمام الحاكم في المستدرك وهو في صحيح البخاري كما سمعتم، ورواه الإمام الطبري في تفسيره ورواه غير هؤلاء، انظروا الدر المنثور في الجزء الرابع صفحة تسع وثمانين ومائة، ولفظ حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه قال: ( كان ناس من الإنس يعبدون ناساً من الجن، فأسلم الجن وبقي الإنس على عبادتهم، فأنزل الله هذه الآية يعير الإنس بها, فقال جل وعلا: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا [الإسراء:57] ). والآية من سورة الإسراء.
ففي هذا الأثر تسمية الجن ناساً. وقد استشكل الإمام ابن التين كما في فتح الباري في الجزء الثاني صفحة سبع وتسعين وثلاثمائة أثر عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه في تسمية الجن ناساً من حديث أن الناس ضد الجن. قال الحافظ ابن حجر : وأجيب بأن الناس هنا مأخوذون من ناس ينوس إذا تحرك، فصفة الحركة موجودة في الجن كما هي موجودة في الإنس، وقيل: إنهم سموا بذلك للتقابل مع الإنس، فهؤلاء ناس من الإنس، وهؤلاء ناس من الجن. ثم قال الإمام ابن حجر عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا: ويا ليت شعري على من يعترض الإمام ابن التين ؟ يعترض على صحابي عربي هو أدرى بلغة العرب من المعترض؟ والعلم عند الله جل وعلا.
بناء على هذا فالأحكام التي تنطبق علينا تنطبق عليهم, ونحن نستوي معهم في ذلك, فيحل لنا أن ننكح منهم وأن ينكحوا منا، كما يجوز هذا في الإنس مع الإنس وفي الجن مع الجن يجوز بين الصنفين.
كما قلت هذا استدلال لا يدل على المطلوب؛ لأنه لا بد من البحث في الأدلة الخاصة، فلو أن إنساناً جاء واستدل بقول الله: فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ [النساء:3] على جواز الزواج بالوثنية؛ لأن الآية عامة في النساء؛ فنقول له: الاستدلال بالعموم على هذه القضية لا يصلح؛ لأنه لا بد من الإتيان بدليل خاص؛ لأننا نهينا بعد ذلك بأدلة خاصة. وتقدم معنا آيات حصرت النكاح فيما هو من جنسنا كما في آية النحل وآية الروم, ثم عندنا نهي عن النبي عليه الصلاة والسلام، والحديث ملزم، واعتضد بفتيا التابعين، ثم عندنا أدلة أخرى ذكرناها. فالقول بأنهم يسمون رجالاً وهم إخوان لنا فيجوز أن ننكح منهم، هذا لا دلالة فيه على هذا المطلوب أبداً، فلابد من أن تأتي بدليل خاص في المسألة، وأما أن تأتي بعمومات فلا ثم لا، فالمرأة الكافرة أيضاً من بني آدم، وهي أيضاً من النساء ولا يجوز أن ننكحها؛ لقيام الدليل الخاص على المنع منها، وهنا كذلك، فهذه الأدلة العامة لا تقابل الأدلة الخاصة التي هي كما قلت نص في محل النزاع.
وتقدم أن كل واحد منها قوي، يعني: الأصل في الفروج والأبضاع التحريم, لو لم يكن إلا هذا لكفى دليلاً على المنع.
ثم تقدم معنا قياس الأولى، فلا يستدل بهذا العموم على هذا الخصوص, والعلم عند الله جل وعلا.
دليل ثان يستدل به من ذهب إلى جواز التناكح بين الإنس والجن، وقد بنوه على أمر أولاً يحتاج إلى ثبوته، ثم لو ثبت لا دلالة فيه كما سأوضح، قالوا: نبي الله سليمان على نبينا وعليه الصلاة والسلام عندما تزوج بلقيس وأحد أبويها كان جنياً، فهذا يدل على أنه يجوز التناكح بين الإنس والجن. ووجه الاستدلال بذلك قالوا: شرع من قبلنا شرع لنا، فهذا نبي كريم مبارك على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه, ولو كان لا يجوز لما تزوج هذه المرأة التي أحد أبويها جنيٌ؛ لأنه يحرم نكاح من في أحد أبويه من لا يحل نكاحه كإنسي مع جنية, إذا كان الجني لا يحل لك أن تتزوجه لو كان امرأة فما يأتي من أولاد هذه الجنية لا يجوز أن يتزوجه بعد ذلك الإنس وإن كان الزوج من الإنس. فإذاً هنا نبي الله سليمان على نبينا وعليه الصلاة والسلام تزوج بلقيس ملكة سبأ, وأحد أبويها من الجن.
الأمر الأول: بالنسبة لزواجها من نبي الله سليمان على نبينا وعليه الصلاة والسلام هذا لا دليل عليه، والذي ورد أن أحد أبويها كان من الجن، وقلت: هو الراجح, والأدلة في ذلك تعتضد وتتقوى, وقلت: هذا هو المعتمد والعلم عند الله، تقدم معنا هذا. لكن زواج نبي الله سليمان منها على نبينا وعليه الصلاة والسلام لا يوجد دليل على ذلك لا في القرآن ولا في السنة، وأخبار أهل الكتاب مختلفة، بعضهم يقول: تزوجها، وبعضهم يقول: عرض عليها الزواج ليس منه بل من غيره, فقالت: ملكة تتزوج؟! قال: لابد في الإسلام من الزواج, فزوجها من أحد الأمراء. وقيل: لم تتزوج أبداً. والعلم عند الله جل وعلا. يعني: حتى أخبار أهل الكتاب المنقولة عنهم قيل: تزوجها نبي الله سليمان على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وقيل: زوجها لأمير.
إذاً: كونه تزوج هو منها أو لا هذا محل بحث وليس بمسلم, وعلى التسليم بأن نبي الله سليمان على نبينا وعليه الصلاة والسلام تزوج منها فلا يجوز أن يستدل بالقاعدة: أن شرع من قبلنا شرع لنا؛ لأن هذه لها عدة أحوال, فانتبه لها!
أولها: شرع من قبلنا يعتبر شرعاً لنا إلا في أمور الاتفاق، فإذا قام الدليل على نسخ ذلك وفي شرعنا خلاف هذا وهنا دل شرعنا المنزل على نبينا عليه الصلاة والسلام على المنع من التناكح بين الإنس الجن فلو كان هذا جائزاً في الأمم السابقة فنحن منعنا منه، والعلم عند الله جل وعلا.
ثانيها: شرع من قبلنا إذا لم يقم دليل على ثبوته في موضوع ولا حكي في كتاب ربنا ولا سنة نبينا عليه الصلاة والسلام لا يستدل به؛ لعدم الوثوق بثبوته، وعليه ما حكي في أخبار أهل الكتاب أنه كان عندهم كذا وكذا إذا لم يحفظ في شريعتنا ولم يثبت عندنا لا يجوز أن نقول: هذا شرع من قبلنا.
ثالثها: متفق عليه، شرع من قبلنا شرع لنا فيما أقر في شرعنا وألزمنا به.
هذه ثلاثة أمور متفق عليها: فما نسخ من شرع من قبلنا وإن أخبرنا به وأن شريعتنا تخالفه فلا يقال: شرع من قبلنا شرع لنا في هذه المسألة.
الأمر الثاني: ما لم يثبت عندنا أنه شرع من قبلنا؛ لأنه ما ورد في شرعنا الخبر عنه لا يجوز أن نقول: إنه شرع من قبلنا، الله عليم هل هذا كان أو لا، وأخبار أهل الكتاب لا يوثق بها.
الأمر الثالث: ما ثبت عندنا من شرع من قبلنا وأمرنا به في شريعتنا، هذا يحتج به بالاتفاق.
بقيت صورة رابعة: شرع من قبلنا الذي حكي في كتابنا وذكر ولم ينسخ ولم نؤمر به فهل يستدل به ويعتبر شرعاً لنا أم لا؟ الجمهور من أئمتنا على أنه شرع لنا، إذا حكي في شريعتنا ولم يعارض ولم ينسخ ولم يبين أن في شريعتنا ما يخالفه فالأصل أن يستدل به، والله جل وعلا عندما قصه علينا قصه علينا إذاً من أجل أن نعمل به، فالشرائع في الأصل متفقة, إلا ما قام عليه دليل النسخ. وهذا الذي ذهب إليه جمهور العلماء الكرام: أبو حنيفة ومالك والشافعي وهو قول للإمام أحمد عليهم جميعاً رحمة الله، وتنظر المسألة في تفسير القرطبي في الجزء الأول صفحة اثنتين وستين وأربعمائة. وأئمتنا فصلوا الكلام عليه, والظاهر عند الشافعية أيضاً خلاف في هذا، ففي حاشية العطار في الجزء الثاني صفحة أربع وتسعين وثلاثمائة ينقل عن الشافعية خلاف ما تقدم, وهو أن شرع من قبلنا في غير الصور المتفق عليها الثلاث أي: ما حكي دون أن يتبع بأن شرعنا يوافقه أو يعارضه هل يستدل به في هذه الصورة؟ هذه ينقلون أيضاً عن الإمام الشافعي أنه لا يستدل به.
والذي يظهر والعلم عند الله أن شرع من قبلنا في الأصل شرع لنا إلا إذا قام في شرعنا ما يعارضه وما ينسخه. وقد ثبت في مسند الإمام أحمد وصحيح البخاري والحديث في السنن الأربع إلا سنن ابن ماجه، ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه والبيهقي في السنن الكبرى، وهو في تفسير ابن مردويه ، والحديث صحيح صحيح، وهو في تفسيره, فهو في صحيح البخاري عن مجاهد عليه رحمة الله قال: قلت لـابن عباس عليهم جميعاً رحمة الله ورضوانه: أأسجد في ص؟ وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ [ص:24]. فقرأ عبد الله بن عباس رضي الله عنهما عليه آيات في سورة الأنعام, في آخرها قول الله جل وعلا: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ [الأنعام:90]. من جملة الأنبياء الذين ذكروا على نبينا وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه: داود . ونص الآيات الكريمات كما قال رب الأرض والسماوات في سورة الأنعام: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ * وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ [الأنعام:83-90].
فإذاً: نبي الله داود عندما ذكر والله يقول في آخر الآيات: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ [الأنعام:90]. قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما لـمجاهد: هو -أي: داود- ممن أمر نبيكم صلى الله عليه وسلم أن يقتدي به. فكما سجد نبي الله داود على نبينا وعليه الصلاة والسلام نسجد نحن.
وكان عبد الله بن عباس رضي الله عنهما يقول: سجدة ص ليست من عزائم السجود، لكنني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد فيها. من أجل أنه أمر أن يقتدي بنبي الله داود على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه، ونحن أمرنا أن نقتدي بنبينا عليه الصلاة والسلام. فعليه يستنبط من هذا أن شرع من قبلنا -والعلم عند الله- شرع لنا, إلا إذا ورد في شرعنا ما يعارضه.
وخلاصة القول في هذه المسألة: أن ما حكي لنا من شرع من قبلنا ونسخ في شريعتنا لا يحتج به اتفاقاً.
الحالة الثانية: ما لم يرد في شرعنا ذكره على أنه شرع من قبلنا ونقل عن أهل الكتاب لا يوثق به مطلقاً ولا يعول عليه اتفاقاً.
الحالة الثالثة: ما حكي لنا من شرع من قبلنا في شريعتنا وأقر في شريعتنا وأمرنا به، يحتج به اتفاقاً.
الحالة الرابعة: ما ورد من شرع من قبلنا في شريعتنا ولم يرد في شرعنا إلزامنا به ولا نسخه، فهذا مما اختلف فيه أئمتنا هل يعتبر شرع من قبلنا شرعاً لنا أو لا؟ فذهب الجمهور كما تقدم معنا أن شرع من قبلنا شرع لنا والعلم عند الله جل وعلا.
إذاً: الدليل الثاني لا يصلح أن يستدل به، وهو زواج نبي الله سليمان من هذه التي أحد أبويها من الجن؛ لأنه ورد في شرعنا ما يعارض ذلك وما يمنعنا من ذلك.
الدليل الثالث عندهم وهو بمثابة رد على بعض الأدلة التي استدل بها الجمهور، قالوا: النهي عن نكاح الجن الوارد في حديث الزهري المرسل الذي تقدم معنا يمكن حمله على الزنا، نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نكاح الجن, أي: قال: عن الزنا، لم؟ قال: لأن المراد من الزنا أنه يفعل سراً وخفية من الاجتنان، ليس نهياً عن التناكح بين الإنس والجان، وإنما عن الزنا الذي يفعل سراً ويزين به الجن, وليس المراد به التناكح بين الإنس والجن. وهذا التأويل متكلف مردود، وما عولنا نحن في التحريم على هذا الدليل فقط حتى إذا أولوه بهذا التأويل يقال: إذاً يجوز التناكح بين الإنس والجن. بل تقدم معنا أدلة سبعة تدل على المنع، وهو الذي يظهر والعلم عند الله جل وعلا.
وأما قول الإمام مالك عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا فقد تقدم معنا أنه يرى أن الأصل جواز التناكح بين الإنس والجن، لكنه يرى المنع من ذلك؛ خشية وقوع الفساد في بلاد الإسلام، وتقدم معنا هذا القول وتوجيهه, وقول الجمهور أقوى وأحوط، والعلم عند الله عز وجل.
استمع المزيد من الشيخ عبد الرحيم الطحان - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
شرح الترمذي - باب الاستتار عند الحاجة، والاستنجاء باليمين، والاستنجاء بالحجارة [4] | 4045 استماع |
شرح الترمذي - باب ما جاء في فضل الطهور [6] | 3979 استماع |
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [9] | 3906 استماع |
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [46] | 3793 استماع |
شرح الترمذي - مقدمات [8] | 3787 استماع |
شرح الترمذي - باب مفتاح الصلاة الطهور [2] | 3771 استماع |
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [18] | 3570 استماع |
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [24] | 3486 استماع |
شرح الترمذي - باب ما يقول إذا خرج من الخلاء [10] | 3465 استماع |
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [6] | 3416 استماع |