أنين المذنبين


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد..

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

حياكم الله وبياكم، وسدد على طريق الحق خطاي وخطاكم.

وأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجمعني وإياكم في دار كرامته إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ.

وأسأله سبحانه أن يغفر ذنب المذنبين، ويقبل توبة التائبين، وأن يدل الحيارى، ويهدي الضالين، ويغفر للأحياء وللميتين.

أمر الله عز وجل بالتوبة فقال: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31]، ووعد جل في علاه بالقبول، فقال: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ [الشورى:25]، ثم فتح الرحمن باب الرجاء، فقال: لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ [الزمر:53].

أخرج مسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يا أيها الناس! توبوا إلى ربكم، فإني أتوب إليه في اليوم مائة مرة.

وأوحى الله إلى داود عليه السلام: يا داود! لو يعلم المدبرون عني كيف انتظاري لهم، ورفقي بهم، وشوقي إلى ترك معاصيهم لماتوا شوقاً إلي، ولتقطعت أوصالهم من محبتي، يا داود! هذه إرادتي في المدبرين عني، فكيف إرادتي في المقبلين علي؟).

يا من يرى ما في الضمير ويسمع أنت المعد لكل ما يتوقع

يا من يرجى للشدائد كلها

يا من إليه المشتكى والمفزع

يا من خزائن رزقه في قوله كن

امنن فإن الخير عندك أجمع

مالي سوى فقري إليك وسيلة

فبالافتقار إليك فقري أرفع

مالي سوى قرعي لبابك حيلة

فلئن رددت فأي باب أقرع

ومن الذي أدعو وأهتف باسمه

إن كان فضلك عن فقيرك يمنع

حاشا لفضلك أن تقنط عاصياً

فالفضل أجزل والمواهب أوسع

عنوان اللقاء: قوافل العائدين.

وسيتكون اللقاء من: مقدمة، وبداية، وختام، وبينهما أخبار خمسة:

الخبر الأول: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ [يوسف:111].

الخبر الثاني: سبحان مغير الأحوال.

الخبر الثالث: أترضى أن تكون مثل هذا؟

الخبر الرابع: طريق المخدرات.

الخبر الخامس: هدايتي على يديه، ثم الختام.

روى البخاري رضي الله عنه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن لله ملائكة يطوفون في الطريق يلتمسون أهل الذكر، فإذا وجدوا قوماً يذكرون الله تنادوا: هلموا إلى حاجتكم، قال: فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا، فيسألهم ربهم جل في علاه وهو أعلم بهم: ما يقول عبادي؟ فيقولون: يسبحونك ويكبرونك ويمجدونك ويحمدونك، فيقول جل في علاه: هل رأوني؟ فيقولون: لا والله ما رأوك، فيقول: كيف لو رأوني؟ فيقولون: لو رأوك كانوا أشد لك عبادة، وأشد لك تمجيداً وتحميداً وأكثر تسبيحاً).

اللهم لا تحرمنا لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين.

(قال: فيقول جل في علاه: فما يسألونني؟ قال: فيقولون: يسألونك الجنة، فيقول: هل رأوها؟ فيقولون: لا والله يا رب ما رأوها، فيقول: فكيف لو رأوها؟ فيقولون: لو أنهم رأوها لكانوا أشد عليها حرصاً، وأشد لها طلباً، وأعظم فيها رغبة)، فأين المشمرون؟

(قال فيقول: فمم يتعوذون؟ فيقولون: من النار، فيقول: هل رأوها؟ فيقولون: لا والله يا رب ما رأوها، فيقول: كيف لو رأوها؟ فيقولون: لو رأوها لكانوا أشد منها فراراً، وأشد لها مخافة)، اللهم أجرنا من النار.

(فيقول: أشهدكم أني قد غفرت لهم، فيقول ملك من الملائكة: فيهم فلان ليس منهم، إنما جاء لحاجة، فيقول جل في علاه: وله قد غفرت، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم)، فأبشروا يا أهل مجالس الذكر فربكم ذو رحمة واسعة.

هذا منادي الله ينادي: ألا قد طال شوق الأبرار إلى لقائي، وإني أشد شوقاً لهم، ألا من طلبني وجدني، ومن طلب غيري لم يجدني، من ذا الذي أقبل علي وما قبلته، وطرق بابي فما فتحته؟

من ذا الذي توكل علي وما كفيته، ودعاني فما أجرته، وسألني فما أعطيته؟ أهل ذكري أهل مجالستي، أهل شكري أهل زيادتي، أهل طاعتي أهل كرامتي، وأهل معصيتي لا أقنطهم أبداً من رحمتي، إن تابوا فأنا حبيبهم، وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم، أبتليهم بالمصائب لأطهرهم من المظالم.

من أقبل علي تقبلته من بعيد، ومن أعرض عني ناديته من قريب، ومن ترك لي أجري أعطيته المزيد، ومن أراد رضاي أردت ما يريد، ومن تصرف بحولي وقوتي ألنت له الحديد، من صفا معي صافيته، من أوى إلي آويته، من فوض أمره إلي كفيته، ومن باع نفسه مني اشتريته، وجعلت الثمن جنتي ورضاي، وعد صادق، وعبد سابق، وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ [التوبة:111].

فيا فرحة التائبين بمحبة الله إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة:222]. الهج بحمده، واهتف بشكره، وقل: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت.

قل: أنا الميت الذي أحييته فلك الحمد، وأنا الضعيف الذي قويته فلك الحمد، وأنا الصغير الذي ربيته فلك الحمد، وأنا الفقير الذي أغنيته فلك الحمد، وأنا الضال الذي هديته فلك الحمد، وأنا الجاهل الذي علمته فلك الحمد، وأنا الجائع الذي أطعمته فلك الحمد كله، ولك الشكر كله، وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر كله، لا إله إلا أنت.

يا رب حمداً ليس غيرك يحمد

يا من له كل الخلائق تصمد

أبواب غيرك ربنا قد أوصدت

رأيت بابك واسعاً لا يوصد

روي عن منصور بن عمار قال: خرجت ليلة وظننت أني أصبحت، وإذا علي ليل، فقعدت عند باب صغير، فإذا بصوت شاب يبكي ويقول: وعزتك وجلالك ما أردت بمعصيتي مخالفتك، وقد عصيتك حين عصيتك وما أنا بنكالك جاهلاً، ولا لعقوبتك متعرضاً، ولا بنظرك مستخفاً، ولكن سولت لي نفسي، وغلبتني شقوتي، وغرني سترك المرخى علي، فالآن مِن عذابك مَن يستنقذني؟ وبحبل من اعتصم إن قطعت حبلك عني؟ واسوأتاه على ما مضى من أيامي في معصية ربي؟ ويا ويلي كم أتوب وكم أعود، وقد حان لي أن أستحي من ربي.

قال منصور : فلما سمعت كلامه قلت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6].

قال: فسمعت صوتاً واضطراباً شديداً, ومضيت لحاجتي، فلما أصبحنا، رجعت وإذا أنا بجنازة على الباب، وعجوز تذهب وتجيء، فقلت لها: من الميت؟ فقالت: لا تجدد علي أحزاني، قلت: إني رجل غريب، فقالت: هذا ولدي، مر بنا البارحة رجل، لا جزاه الله خيراً، فقرأ آية فيها ذكر النار، فلم يزل ولدي يضطرب ويبكي حتى مات، قلت: إنا لله وإنا إليه راجعون!

هكذا والله صفة الخائفين يا ابن عمار !

سبحان من وفق للتوبة أقواماً، و

ثبت عليها أقداماً

أيا من ليس لي منه مجير

بعفوك من عذابك أستجير

فإن عذبتني فبسوء فعلي وإن

ترحم فأنت به جدير

إن علاج مشاكل الشباب والشيب وأصحاب الهموم والغموم هو الفرار إلى الله، بالانضمام إلى قوافل العائدين إلى الله بعد طول غياب، الذين أحرقتهم الذنوب والمعاصي، والذين جربوا الحياة في الظلام، ثم اكتشفوا النور، والذين بدلوا ذل المعصية بعز الطاعة، وانتصروا على النفس والهوى والشيطان وحزبه، والذين آثروا الجنة على النار، وندموا على ما فرطوا في جنب الله.

قال صلى الله عليه وسلم: (الندم توبة)، وقال بعضهم: إن العبد ليذنب الذنب، فلا يزال نادماً حتى يدخل الجنة، فيقول إبليس: ليتني لم أوقعه في الذنب.

وقال طلق بن حبيب : إن حقوق الله أعظم من أن يقوم بها العباد، ولكن أصبحوا تائبين وأمسوا تائبين.

فليس عيب أن تخطئ، ولكن كل العيب أن تصر على الخطأ، وتتمادى فيه، وتنسى فضل الله عليك ورقابة الله لك.

جاء رجل إلى إبراهيم بن أدهم فقال: يا إبراهيم ! لقد أسرفت على نفسي بالذنوب والمعاصي، فقل لي في نفسي قولاً بليغاً، قال: أعظك بخمس، قال: هات الأولى، قال: لا تأكل من رزق الله إذا أردت أن تعصيه، قال: كيف يا إبراهيم ! وهو الذي يطعم ولا يطعم؟ قال: عجباً لك تأكل من رزقه وتعصيه؟

قال: هات الثانية!

قال: الثانية: لا تسكن في أرض الله واعص الله، قال: كيف يا إبراهيم ! والأرض أرضه والسماء سماؤه؟ قال: عجباً لك، تأكل من رزقه وتسكن في أرضه وتعصيه؟

قال: هات الثالثة!

قال: الثالثة: اذهب في مكان لا يراك فيه الله واعص الله، قال: أين يا إبراهيم ! وهو الذي لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ؟ قال: عجباً لك، تأكل من رزقه، وتسكن في أرضه، وفي كل مكان يراك ثم تعصيه؟

قال: هات الرابعة!

قال: الرابعة: إذا أتاك ملك الموت ليقبض الروح، فقل له: إني لا أموت الآن. قال: من يستطيع يا إبراهيم ! والله يقول: إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [يونس:49]؟ قال: عجباً لك، تأكل من رزقه، وتسكن في أرضه، وفي كل مكان يراك، ولا تستطيع رد الموت إذا أتاك وتعصيه؟

قال: هات الخامسة، قال: الخامسة: إذا جاءتك ملائكة العذاب تأخذك إلى النار فخذ نفسك إلى الجنة، قال: من يستطيع هذا يا إبراهيم ؟! قال: عجباً لك، تأكل من رزقه، وتسكن في أرضه، وفي كل مكان يراك، ولا تستطيع رد الموت إذا أتاك، ولا تملك لنفسك جنة ولا ناراً ثم تعصيه؟

قال: اسمع يا إبراهيم ! أنا أستغفر الله وأتوب إليه. فأعلنها توبة وإنابة وفراراً إلى الله، ورجعة وانضماماً إلى قوافل العائدين.

وأنت يا من تأكل رزقه، وتسكن في أرضه، وفي كل مكان يراك، ولا تستطيع رد الموت إذا أتاك، ولا تملك لنفسك جنة ولا ناراً، أما آن لك أن تتوب وتستغفر علام الغيوب؟ أما آن لك أن تنضم إلى قوافل العائدين؟

أما آن لما أنت فيه متاب

وهل لك من بعد الغياب غياب

تقضت بك الأعمار في غير طاعة

سوى عمل ترجوه وهو سراب

وليس للمرء من سلامة دينه

سوى عزلة فيها الجليس كتاب

أي: القرآن.

كتاب حوى كل العلوم وكل ما حواه من العلم الشريف صواب

وفيه الدواء من كل داء فثق به

فوالله ما عنه ينوب كتاب

هذه هي أخبار قوافل التائبين ماضياً وحاضراً، فلنأخذ من قصصهم العبرة الممزوجة بالندم والدموع، والمليئة بالصور والعبر، يشكو أصحابها قبل الانضمام إلى قوافل العائدين من الهموم والغموم والمآسي والآهات، حيث غرقوا في لجج المعاصي والمنكرات، من خمور ومخدرات، وفواحش ومنكرات، وكانت النجاة بالفرار إلى الله، والانضمام إلى قوافل العائدين.

لقد كان في قصصهم عبرة

الخبر الأول: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ [يوسف:111].

عن أبي هشام الصوفي رحمه الله قال: أردت البصرة فجئت إلى سفينة أركبها وفيها رجل معه جارية، فقال لي الرجل: ليس ههنا موضع، فسألته الجارية أن يحملني ففعل، فلما سرنا دعا الرجل بالغداء فوضع، فقالت الجارية: ادع ذاك المسكين ليتغدى معنا، فجئت على أنني مسكين، فلما تغدينا قال: يا جارية! هاتي شرابك، فشرب وأمرها أن تسقيني، فقالت: يرحمك الله، إن للضيف حقاً، فتركني، فلما دب فيه الشراب قال: يا جارية! هاتي عودك وهاتي ما عندك، فأخذت العود وغنت، ثم التفت إلي فقال: أتحسن مثل هذا؟ فقلت: عندي ما هو أحسن منه وخير منه، فقال: قل؟ قلت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ * وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ * وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ * وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ * وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ [التكوير:1-9]، حتى انتهيت إلى قوله: وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ [التكوير:10] وجعل الرجل يبكي ثم قال: يا جارية! اذهبي فأنت حرة لوجه الله تعالى.

ثم ألقى ما معه من الشراب، وكسر العود، ثم دعاني فاعتنقني وجعل يبكي، ويقول: يا أخي! أترى الله يقبل توبتي؟ فقلت: نعم، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة:222]، وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئَاتِ [الشورى:25]، فتاب واستقام، وثبت على حاله، وصاحبته بعد ذلك أربعين سنة حتى مات، فرأيته في المنام فقلت له: إلام صرت؟ فقال: إلى الجنة، قلت: بماذا؟ قال: بقراءتك علي: وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ [التكوير:10].

فلا إله إلا الله كيف سيكون حالنا إِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ، وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ، وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ، وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَت، عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ، يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ.

فلا إله إلا الله إذا نطقت العينان وقالتا: أنا للحرام نظرت، ونطقت الأذنان وقالتا: أنا للأغاني والحرام استمعت، ولا إله إلا الله إذا نطقت اليدان وقالتا: أنا للربا والحرام أخذت، ونطقت الرجلان وقالتا: أنا للحرام مشيت: الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [يس:65] .. وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ * فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ [فصلت:22-24].

مثل لنفسك أيـها المـغرور

يوم القيامة والسماء تمور

قد كورت شمس النهار وأضعفت

حراً على رأس العباد تمور

وإذا الجبال تقلعت بـأصولـها

فرأيتها مثل السحاب تسير

وإذا النجوم تساقطت وتناثرت

وتبدلت بعد الضياء كدور

وإذا العشار تعطلت عـن أهلها

خلت الديار فما بها معمور

وإذا الوحوش لدى القيامة أحضرت

وتقول للأملاك أين نسير

فيقال سيروا تشهدون فضائحاً

وعجائباً قد أحضرت وأمور

وإذا الـجـنين بـأمه متعلق

خوف الحساب وقلبه مذعور

هذا بلا ذنب يخاف لـهولـه

كيف المقيم على الذنوب دهور

حتى ننجو ونفوز بذلك اليوم ونفرح لابد من الفرار إلى الله بالانضمام إلى قوافل العائدين، قال سبحانه: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31].

سبحان مغير الأحوال

الخبر الثاني: سبحان مغير الأحوال.

قال الراوي: لقد تغير صاحبي، فضحكاته الوقورة تصافح أذني كنسمات الفجر الندية، وكانت من قبل ضحكات ماجنة مستهترة تصك الآذان وتؤذي المشاعر، ونظراته خجولة تنم عن طهر وصفاء، وكانت من قبل جريئة وقحة، وكلماته تخرج من فمه بحساب، وكان من قبل يبعثرها هنا وهناك، تصيب هذا وتجرح ذاك، لا يعبأ بذلك ولا يهتم، ووجهه هادئ القسمات تزينه لحية وقورة، وتحيط به هالة من نور، وكانت ملامحه من قبل تعبر عن الانطلاق وعدم المبالاة والاهتمام.

نظرت إليه وأطلت النظر في وجهه ففهم ما يدور في خاطري، فقال: لعلك تريد أن تسأل: ماذا غيرك؟

قلت: نعم، هو ذاك، فصورتك التي أذكرها منذ لقيتك آخر مرة قبل سنوات تختلف عن صورتك الآن!

فتنهد قائلاً: سبحان مغير الأحوال!

قلت: لابد أن وراء ذلك قصة؟

قال: نعم، وسأقصها عليك، ثم التفت إلي قائلاً: كنت في سيارتي على طريق ساحلي، وعند أحد الجسور الموصلة إلى أحد الأحياء فوجئت بصبي صغير أمامي يقطع الطريق، فارتبكت واختلت عجلة القيادة من يدي، ولم أشعر إلا وأنا في أعماق المياه، فرفعت رأسي إلى أعلى لأجد متنفساً، ولكن الماء بدأ يغمر السيارة من جميع النواحي، مددت يدي لأفتح الباب فلم ينفتح، فتأكدت حينها أني هالك لا محالة، وفي لحظات -لعلها ثوان- مرت أمام ذهني صور سريعة متلاحقة، هي صور حياتي الحافلة بكل أنواع العبث والمجون، وتمثل لي الماء شبحاً مخيفاً وأحاطت بي الظلمات الكثيفة، وأحسست بأني أهوي إلى أغوار سحيقة مظلمة، فانتابني فزع شديد، فصرخت في صوت مكتوم: يا رب أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ [النمل:62].

ودرت حول نفسي ماداً ذراعي أطلب النجاة، لا من الموت الذي أصبح محققاً، بل من خطاياي التي حاصرتني وضيقت علي الخناق، وأحسست بقلبي يخفق بشدة، فانتفضت وبدأت أزيح من حولي تلك الأشباح المخيفة، وأستغفر ربي قبل أن ألقاه، وأحسست أن كلما حولي يضغط علي، كأنما استحالت المياه إلى جدران من الحديد، فقلت: إنها النهاية لا محالة، فنطقت بالشهادتين، وبدأت أستعد للموت، وحركت يدي فإذا بها تنفذ في فراغ يمتد إلى خارج السيارة، وفي الحال تذكرت أن زجاج السيارة الأمامي مكسور، فقد شاء الله أن ينكسر في حادث منذ ثلاثة أيام، فقفزت دون تفكير، ودفعت بنفسي من خلال هذا الفراغ، وخرجت من أعماق الماء، فإذا الأضواء تغمرني، وإذا بي خارج السيارة.

ونظرت فإذا جمع من الناس يقفون على الشاطئ، وكانوا يتصايحون بأصوات لم أتبينها، ولما رأوني نزل اثنان منهم وأخرجاني من الماء، فوقفت على الشاطئ ذاهلاً عما حولي، غير مصدق أني نجوت من الموت، وأني الآن بين الأحياء، كنت أتخيل السيارة وهي غارقة في الماء فأتخيلها وهي تموت، وقد ماتت فعلاً، وهي الآن راقدة في نعشها أمامي.

لقد تخلصت منها وخرجت مولوداً جديداً لا يمت إلى الماضي بسبب من الأسباب، وأحسست برغبة في الركض بعيداً والهرب من هذا المكان الذي دفنت فيه الماضي الدنيء، ومضيت إلى البيت إنساناً آخر غير الذي خرج قبل ساعات، فدخلت البيت وكان أول ما وقع عليه بصري صور معلقة على الحائط لممثلات وراقصات ومغنيات، فاندفعت إلى الصور أمزقها، ثم ارتميت على سريري أبكي، ولأول مرة أبكي، وأحسست بالندم على ما فرطت في جنب الله، فأخذت الدموع تنساب في غزارة من عيني، وأخذ جسمي يهتز، وبينما أنا كذلك إذا بصوت لطالما سمعته وتجاهلته، إنه صوت الأذان يجلجل في الفضاء، وكأني أسمعه لأول مرة، فلعلكم تقرءون كلماتي هذه وأنا تحت التراب، قد فارقت الروح الجسد، وصعدت إلى باريها، فاسألوا الله لي الرحمة.

اللهم يا من وسعت رحمته كل شيء! ارحم عبدك الضعيف المسكين.

يا رب إن عظمت ذنوبي كثرة

فلقد علمت بأن عفوك أعظم

إن كان لا يرجوك إلا محسن

فبمن يلوذ ويستجير المجرم

مالي إليك وسيلة إلا الرجا

وجميل عفوك ثم إني مسلم

لو رأيت تائباً لرأيت جسماً مطروحاً تراه في الأسحار على باب الاعتذار مطروحاً، سمع قول الإله يوحي فيما يُوحَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً [التحريم:8].

التائب مطعمه يسير، وحزنه كثير، ومزعجه مثير، وكأنه أسير، قد رمي مجروحاً، ولسان حاله يردد: توبوا إلى الله توبة نصوحاً، التائب أنحل بدنه الصيام، وأتعب قدمه القيام، وحلف بالعزم على هجر المنام، فبدل بدناً وروحاً وهو يردد: تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا [التحريم:8] .

الذل قد علاه، والحزن قد وهاه، يذم نفسه على هواه، وبهذا صار ممدوحاً، يردد ويعيد: تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا [التحريم:8].

التائب يبكي جنايات الشباب التي بها قد اسود الكتاب، فإن من يأتي إلى الباب يجد الباب مفتوحاً، يردد ويقول قول الله: تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا [التحريم:8].

اللهم إننا نسألك التوبة ودوامها، ونعوذ بك من المعصية وأسبابها.

هدايتي على يديه

الخبر الثالث: هدايتي على يديه.

يقول الشاب: لم أكن قد بلغت الثلاثين حين أنجبت زوجتي أول أبنائي، ما زلت أذكر تلك الليلة، كنت سهران مع الأصحاب في إحدى الشاليهات، وكانت سهرة حمراء بمعنى الكلمة كما يقولون!

أذكر ليلتها أني أضحكتهم كثيراً، فقد كنت أمتلك موهبة عجيبة في التقليد، وبإمكاني تغيير نبرة صوتي حتى تصبح قريبة من الشخص الذي أسخر منه، فكنت أسخر من هذا وذاك، ولم يسلم أحد مني حتى أصحابي، وصار بعض أصحابي يتجنبني؛ كي يسلم من لساني وتعليقاتي اللاذعة، وفي تلك الليلة سخرت من رجل أعمى رأيته يتسول في السوق، والأدهى أني وضعت قدمي أمامه ليتعثر، فتعثر وانطلقت ضحكتي حتى دوت في السوق، وعدت إلى بيتي متأخراً, ووجدت زوجتي في انتظاري، وكانت في حالة يرثى لها، فقالت: أين كنت يا راشد ؟ قلت ساخراً: في المريخ، عند أصحابي بالطبع، فقالت والعبرة تخنقها: راشد إني مريضة جداً، والظاهر أن موعد ولادتي صار وشيكاً، وسقطت دمعة صامتة على جبينها، فأحسست أني أهملت زوجتي، وكان المفروض أن أهتم بها، وأقلل من سهراتي، خاصة أنها في شهرها التاسع.

ثم قاست زوجتي الآلام يوماً وليلة في المستشفى، حتى رأى طفلي النور، ولم أكن في المستشفى ساعتها، بل تركت رقم هاتف المنزل وخرجت، فاتصلوا بي حتى يعلموني بالخبر، ويزفوا لي نبأ قدوم سالم.

وحين وصلت المستشفى طلب مني أن أراجع الطبيبة، فقلت: أي طبيبة؟ المهم الآن أن أرى ابني سالماً ، فقالوا لي: لابد من مراجعة الطبيبة، وأجابتني موظفة الاستقبال بحزن، فصدمت حين عرفت أن ابني به تشوه شديد في عينيه، ومعاق في بصره، وتذكرت المتسول، فقلت: سبحان الله، كما تدين تدان، ولم تحزن زوجتي فقد كانت مؤمنة راضية بقضاء الله، وطالما نصحتني وطلبت مني أن أكف عن تقليد الآخرين!

كلا. هي لا تسميه تقليداً، بل غيبة، ومعها كل الحق، ولم أكن أهتم بـسالم كثيراً، واعتبرته غير موجود في المنزل، فحين يشتد بكاؤه أهرب إلى الصالة؛ لأنام فيها، ولكن زوجتي كانت تهتم به كثيراً وتحبه، أما أنا فإني لا أكرهه، لكني لم أستطع أن أحبه. وأقامت زوجتي احتفالاً حين خطى خطواته الأولى، وحين أكمل الثانية اكتشفنا أنه أعرج، وكلما زدت ابتعاداً عنه زادت زوجتي حباً وتعلقاً بـسالم ، حتى بعد أن أنجبت عمر وخالداً.

ومرت السنوات وكنت غافلاً لاهياً، غرتني الدنيا وما فيها، وكنت كاللعبة في يد رفقة السوء، مع أني كنت أظن أني من يلعب عليهم.

ولم تيئس زوجتي من إصلاحي، فقد كانت دائماً تدعو لي بالهداية، ولم تغضب من تصرفاتي الطائشة، أو إهمالي لـسالم ، واهتمامي بباقي إخوته، وكبر سالم ، ولم أمانع حين طلبت زوجتي تسجيله في أحد المدارس الخاصة بالمعاقين.

ولم أكن أحس بمرور السنوات، فأيامي سواء، ليل ونهار، عمل ونوم، طعام وسهر، حتى ذلك اليوم -وكان يوم جمعة- فاستيقظت الساعة الحادية عشرة ظهراً، وما يزال الوقت عندي مبكراً، فقلت: لا يهم، وأخذت دشاً سريعاً، ولبست وتعطرت وهممت بالخروج، واستوقفني منظر سالم فقد كان يبكي بحرقة، إنها المرة الأولى التي أرى فيها سالماً يبكي منذ كان طفلاً، فقلت لنفسي: أأخرج أم أرى ممَ يشكو سالم؟

ثم قلت: لا، كيف أتركه وهو في هذه الحالة، ولم أدر أهو الفضول أم الشفقة؟ لا يهم، سألته: لماذا تبكي يا سالم ؟! حين سمع صوتي توقف وبدأ يتحسس ما حوله، فقلت: ما به يا ترى؟! ثم اكتشفت أن ابني يهرب مني، وفي تلك اللحظة أحسست أين كنت منذ عشر سنوات، فتبعته وكان قد دخل غرفته ورفض أن يخبرني في البداية عن سبب بكائه، وتحت إصراري عرفت السبب: لقد تأخر عليه شقيقه عمر الذي اعتاد أن يوصله إلى المسجد في يوم الجمعة، وخاف سالم ألا يجد مكاناً في الصف الأول، فنادى والدته لكن لا مجيب، حينها رفعت يدي على فمه، كأني أطلب منه أن يكف عن حديثه، وأكملت حديثه قائلاً: حينها بكيت يا سالم! ولا أعلم ما الذي دفعني لأقول له: سالم ! لا تحزن، هل تعلم من سيرافقك اليوم إلى المسجد؟

فأجاب سالم: لا شك أنه عمر، ليتني أعلم إلى أين ذهب.

فقلت: لا يا سالم! أنا من سيرافقك إلى المسجد.

فاستغرب سالم ولم يصدق، وظن أني أسخر منه، وعاد إلى بكائه، فمسحت دموعه بيدي وأمسكت بيده وأردت أن أوصله بالسيارة، فرفض قائلاً: أبي! المسجد قريب وأريد أن أخطو إلى المسجد، فإني أحتسب كل خطوة أخطوها.

يقول: لا أذكر متى دخلت المسجد آخر مرة، ولا أذكر آخر مرة سجدت فيها لله، ولكنها المرة الأولى التي أشعر فيها بالخوف والندم على ما فرطت طوال السنوات الماضية.

يقول: ومع أن المسجد كان مليئاً بالمصلين، إلا أني وجدت لـسالم مكاناً في الصف الأول، استمعنا لخطبة الجمعة معاً، وصليت بجانبه، وبعد انتهاء الصلاة طلب مني سالم مصحفاً، فاستغربت كيف سيقرأ وهو أعمى، ولكن ذلك لم يتردد في نفسي، ولم أصرح به خوفاً من جرح مشاعره، وطلب مني أن أفتح له المصحف على سورة الكهف، فنفذت ما طلب، ووضع المصحف أمامه، وبدأ في قراءة السورة.

يا ألله! إنه يحفظ سورة الكهف كاملة، وعن ظهر قلب. خجلت من نفسي، فأمسكت مصحفاً آخر، وأحسست برعشة في أوصالي، فقرأت وقرأت ودعوت الله أن يغفر لي ويهديني.

وفي هذه المرة أنا الذي بكيت حزناً وندماً على ما فرطت، ولم أشعر إلا بيد حنونة تمسح عني دموعي، لقد كان سالم يمسح دموعي، ويهدئ من خاطري، وعدنا إلى المنزل، وكانت زوجتي قلقة كثيراً على سالم ، لكن قلقها تحول إلى دموع فرح حين علمت أني صليت الجمعة مع سالم.

ومنذ ذلك اليوم لم تفتني صلاة الجماعة في المسجد، وهجرت رفقاء السوء، وأصبحت إلى رفقة خيرة عرفتها في المسجد، وذقت طعم الإيمان، وعرفت منهم أشياء ألهتني عن الدنيا، ولم أفوت حلقة ذكر أو صلاة قيام، وختمت القرآن عدة مرات في شهر، وأنا نفس الشخص الذي هجره سنوات، وقصرت لساني على الذكر؛ لعل الله يغفر لي غيبتي وسخريتي من الناس، وأحسست أني أكثر قرباً من أسرتي، واختفت نظرات الخوف والشفقة التي كانت تطل من عيون زوجتي، والابتسامة ما عادت تفارق وجه ابني سالم ، ومن يراه يظنه ملك الدنيا وما فيها، وصليت كثيراً وحمدت الله كثيراً على نعمه.

وذات يوم قررت أنا وأصحابي أن نتجه إلى إحدى المناطق البعيدة في برامج دعوية مع مؤسسة خيرية، وترددت في الذهاب، واستخرت الله، واستشرت زوجتي، وتوقعت أن ترفض، لكنه حدث العكس، فقد فرحت كثيراً، بل شجعتني حين أخبرت سالماً بعزمي على الذهاب فأحاط جسمي بذراعيه الصغيرين فرحاً، ووالله لو كان طويل القامة مثلي لما توانى عن تقبيل رأسي.

بعدها توكلت على الله وقدمت طلب إجازة مفتوحة بدون مرتب، والحمد لله جاءت الموافقة بسرعة، وتغيبت عن البيت ثلاثة أشهر، وكنت خلال تلك الفترة أتصل كلما سنحت لي الفرصة بزوجتي، وأحدث أبنائي، وكنت قد اشتقت لهم كثيراً، ولكني اشتقت أكثر لـسالم ، وتمنيت سماع صوته، فهو الوحيد الذي لم يحدثني منذ سافرت؛ لأنه إما أن يكون في المدرسة أو المسجد ساعة اتصالي بهم، وكلما حدثت زوجتي أطلب منها أن تبلغه سلامي وتقبله، وكانت تضحك حين تسمعني أقول هذا الكلام، إلا آخر مرة هاتفتها فيها فلم أسمع ضحكتها المتوقعة، فقد تغير صوتها، وقالت لي: إن شاء الله.

وأخيراً عدت إلى المنزل وطرقت الباب، فتمنيت أن يفتح لي الباب سالم، ولكني فوجئت بابني خالد الذي لم يتجاوز الرابعة من عمره، فحملته بين ذراعي وهو يصيح: بابا بابا، وانقبض صدري حين دخلت البيت، واستعذت بالله من الشيطان الرجيم، فسعدت زوجتي بقدومي، ولكن هناك شيء قد تغير فيها، فتأملتها جيداً ورأيت نظرات الحزن التي ما كانت تفارقها، قد عادت مرة ثانية إلى عينيها، فسألتها: ما بك؟ قالت: لا شيء، وفجأة تذكرت من نسيته للحظات، وقلت لها: أين سالم ؟ فخفضت رأسها ولم تجب، ولم أسمع حينها سوى صوت ابني خالد الذي ما زال يرن في أذني حتى هذه اللحظة، قال: أبي! إن سالماً راح عند الله في الجنة، فلم تتمالك زوجتي الموقف، وأجهشت بالبكاء وخرجت من الغرفة، فعرفت بعدها أن سالماً أصابته حمى قبل موعد مجيئي بأسبوعين، فأخذته زوجتي إلى المستشفى، ولازمته يومين، وبعد ذلك فارقته الحمى حين فارقت روحه الجسد، فأحسست أن ما حدث ابتلاء واختبار من الله سبحانه وتعالى، أجل إنه اختبار وأي اختبار؟ وصبرت على مصابي، وحمدت الله الذي لا يحمد على مكروه سواه، وما زلت أحس بيده تمسح دموعي، وذراعه تحيط بي.

كم حزنت على سالم الأعمى الأعرج، الذي لم يكن أعمى، بل أنا من كنت أعمى حين انقدت وراء رفقة السوء، ولم يكن سالم أعرج؛ لأنه استطاع أن يسلك طريق الإيمان رغم كل شيء، ولا زلت أتذكر كلماته وهو يقول: إن الله ذو رحمة واسعة.

إن سالماً الذي امتنعت يوماً عن حبه اكتشفت أني أحبه أكثر من إخوانه، بكيت كثيراً وما زلت حزيناً، وكيف لا أحزن وقد كانت هدايتي على يديه؟

اللهم تقبل سالماً في رحمتك، اللهم إنا نسألك الثبات حتى الممات.

الخبر الأول: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ [يوسف:111].

عن أبي هشام الصوفي رحمه الله قال: أردت البصرة فجئت إلى سفينة أركبها وفيها رجل معه جارية، فقال لي الرجل: ليس ههنا موضع، فسألته الجارية أن يحملني ففعل، فلما سرنا دعا الرجل بالغداء فوضع، فقالت الجارية: ادع ذاك المسكين ليتغدى معنا، فجئت على أنني مسكين، فلما تغدينا قال: يا جارية! هاتي شرابك، فشرب وأمرها أن تسقيني، فقالت: يرحمك الله، إن للضيف حقاً، فتركني، فلما دب فيه الشراب قال: يا جارية! هاتي عودك وهاتي ما عندك، فأخذت العود وغنت، ثم التفت إلي فقال: أتحسن مثل هذا؟ فقلت: عندي ما هو أحسن منه وخير منه، فقال: قل؟ قلت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ * وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ * وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ * وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ * وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ [التكوير:1-9]، حتى انتهيت إلى قوله: وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ [التكوير:10] وجعل الرجل يبكي ثم قال: يا جارية! اذهبي فأنت حرة لوجه الله تعالى.

ثم ألقى ما معه من الشراب، وكسر العود، ثم دعاني فاعتنقني وجعل يبكي، ويقول: يا أخي! أترى الله يقبل توبتي؟ فقلت: نعم، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة:222]، وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئَاتِ [الشورى:25]، فتاب واستقام، وثبت على حاله، وصاحبته بعد ذلك أربعين سنة حتى مات، فرأيته في المنام فقلت له: إلام صرت؟ فقال: إلى الجنة، قلت: بماذا؟ قال: بقراءتك علي: وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ [التكوير:10].

فلا إله إلا الله كيف سيكون حالنا إِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ، وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ، وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ، وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَت، عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ، يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ.

فلا إله إلا الله إذا نطقت العينان وقالتا: أنا للحرام نظرت، ونطقت الأذنان وقالتا: أنا للأغاني والحرام استمعت، ولا إله إلا الله إذا نطقت اليدان وقالتا: أنا للربا والحرام أخذت، ونطقت الرجلان وقالتا: أنا للحرام مشيت: الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [يس:65] .. وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ * فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ [فصلت:22-24].

مثل لنفسك أيـها المـغرور

يوم القيامة والسماء تمور

قد كورت شمس النهار وأضعفت

حراً على رأس العباد تمور

وإذا الجبال تقلعت بـأصولـها

فرأيتها مثل السحاب تسير

وإذا النجوم تساقطت وتناثرت

وتبدلت بعد الضياء كدور

وإذا العشار تعطلت عـن أهلها

خلت الديار فما بها معمور

وإذا الوحوش لدى القيامة أحضرت

وتقول للأملاك أين نسير

فيقال سيروا تشهدون فضائحاً

وعجائباً قد أحضرت وأمور

وإذا الـجـنين بـأمه متعلق

خوف الحساب وقلبه مذعور

هذا بلا ذنب يخاف لـهولـه

كيف المقيم على الذنوب دهور

حتى ننجو ونفوز بذلك اليوم ونفرح لابد من الفرار إلى الله بالانضمام إلى قوافل العائدين، قال سبحانه: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31].

الخبر الثاني: سبحان مغير الأحوال.

قال الراوي: لقد تغير صاحبي، فضحكاته الوقورة تصافح أذني كنسمات الفجر الندية، وكانت من قبل ضحكات ماجنة مستهترة تصك الآذان وتؤذي المشاعر، ونظراته خجولة تنم عن طهر وصفاء، وكانت من قبل جريئة وقحة، وكلماته تخرج من فمه بحساب، وكان من قبل يبعثرها هنا وهناك، تصيب هذا وتجرح ذاك، لا يعبأ بذلك ولا يهتم، ووجهه هادئ القسمات تزينه لحية وقورة، وتحيط به هالة من نور، وكانت ملامحه من قبل تعبر عن الانطلاق وعدم المبالاة والاهتمام.

نظرت إليه وأطلت النظر في وجهه ففهم ما يدور في خاطري، فقال: لعلك تريد أن تسأل: ماذا غيرك؟

قلت: نعم، هو ذاك، فصورتك التي أذكرها منذ لقيتك آخر مرة قبل سنوات تختلف عن صورتك الآن!

فتنهد قائلاً: سبحان مغير الأحوال!

قلت: لابد أن وراء ذلك قصة؟

قال: نعم، وسأقصها عليك، ثم التفت إلي قائلاً: كنت في سيارتي على طريق ساحلي، وعند أحد الجسور الموصلة إلى أحد الأحياء فوجئت بصبي صغير أمامي يقطع الطريق، فارتبكت واختلت عجلة القيادة من يدي، ولم أشعر إلا وأنا في أعماق المياه، فرفعت رأسي إلى أعلى لأجد متنفساً، ولكن الماء بدأ يغمر السيارة من جميع النواحي، مددت يدي لأفتح الباب فلم ينفتح، فتأكدت حينها أني هالك لا محالة، وفي لحظات -لعلها ثوان- مرت أمام ذهني صور سريعة متلاحقة، هي صور حياتي الحافلة بكل أنواع العبث والمجون، وتمثل لي الماء شبحاً مخيفاً وأحاطت بي الظلمات الكثيفة، وأحسست بأني أهوي إلى أغوار سحيقة مظلمة، فانتابني فزع شديد، فصرخت في صوت مكتوم: يا رب أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ [النمل:62].

ودرت حول نفسي ماداً ذراعي أطلب النجاة، لا من الموت الذي أصبح محققاً، بل من خطاياي التي حاصرتني وضيقت علي الخناق، وأحسست بقلبي يخفق بشدة، فانتفضت وبدأت أزيح من حولي تلك الأشباح المخيفة، وأستغفر ربي قبل أن ألقاه، وأحسست أن كلما حولي يضغط علي، كأنما استحالت المياه إلى جدران من الحديد، فقلت: إنها النهاية لا محالة، فنطقت بالشهادتين، وبدأت أستعد للموت، وحركت يدي فإذا بها تنفذ في فراغ يمتد إلى خارج السيارة، وفي الحال تذكرت أن زجاج السيارة الأمامي مكسور، فقد شاء الله أن ينكسر في حادث منذ ثلاثة أيام، فقفزت دون تفكير، ودفعت بنفسي من خلال هذا الفراغ، وخرجت من أعماق الماء، فإذا الأضواء تغمرني، وإذا بي خارج السيارة.

ونظرت فإذا جمع من الناس يقفون على الشاطئ، وكانوا يتصايحون بأصوات لم أتبينها، ولما رأوني نزل اثنان منهم وأخرجاني من الماء، فوقفت على الشاطئ ذاهلاً عما حولي، غير مصدق أني نجوت من الموت، وأني الآن بين الأحياء، كنت أتخيل السيارة وهي غارقة في الماء فأتخيلها وهي تموت، وقد ماتت فعلاً، وهي الآن راقدة في نعشها أمامي.

لقد تخلصت منها وخرجت مولوداً جديداً لا يمت إلى الماضي بسبب من الأسباب، وأحسست برغبة في الركض بعيداً والهرب من هذا المكان الذي دفنت فيه الماضي الدنيء، ومضيت إلى البيت إنساناً آخر غير الذي خرج قبل ساعات، فدخلت البيت وكان أول ما وقع عليه بصري صور معلقة على الحائط لممثلات وراقصات ومغنيات، فاندفعت إلى الصور أمزقها، ثم ارتميت على سريري أبكي، ولأول مرة أبكي، وأحسست بالندم على ما فرطت في جنب الله، فأخذت الدموع تنساب في غزارة من عيني، وأخذ جسمي يهتز، وبينما أنا كذلك إذا بصوت لطالما سمعته وتجاهلته، إنه صوت الأذان يجلجل في الفضاء، وكأني أسمعه لأول مرة، فلعلكم تقرءون كلماتي هذه وأنا تحت التراب، قد فارقت الروح الجسد، وصعدت إلى باريها، فاسألوا الله لي الرحمة.

اللهم يا من وسعت رحمته كل شيء! ارحم عبدك الضعيف المسكين.

يا رب إن عظمت ذنوبي كثرة

فلقد علمت بأن عفوك أعظم

إن كان لا يرجوك إلا محسن

فبمن يلوذ ويستجير المجرم

مالي إليك وسيلة إلا الرجا

وجميل عفوك ثم إني مسلم

لو رأيت تائباً لرأيت جسماً مطروحاً تراه في الأسحار على باب الاعتذار مطروحاً، سمع قول الإله يوحي فيما يُوحَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً [التحريم:8].

التائب مطعمه يسير، وحزنه كثير، ومزعجه مثير، وكأنه أسير، قد رمي مجروحاً، ولسان حاله يردد: توبوا إلى الله توبة نصوحاً، التائب أنحل بدنه الصيام، وأتعب قدمه القيام، وحلف بالعزم على هجر المنام، فبدل بدناً وروحاً وهو يردد: تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا [التحريم:8] .

الذل قد علاه، والحزن قد وهاه، يذم نفسه على هواه، وبهذا صار ممدوحاً، يردد ويعيد: تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا [التحريم:8].

التائب يبكي جنايات الشباب التي بها قد اسود الكتاب، فإن من يأتي إلى الباب يجد الباب مفتوحاً، يردد ويقول قول الله: تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا [التحريم:8].

اللهم إننا نسألك التوبة ودوامها، ونعوذ بك من المعصية وأسبابها.

الخبر الثالث: هدايتي على يديه.

يقول الشاب: لم أكن قد بلغت الثلاثين حين أنجبت زوجتي أول أبنائي، ما زلت أذكر تلك الليلة، كنت سهران مع الأصحاب في إحدى الشاليهات، وكانت سهرة حمراء بمعنى الكلمة كما يقولون!

أذكر ليلتها أني أضحكتهم كثيراً، فقد كنت أمتلك موهبة عجيبة في التقليد، وبإمكاني تغيير نبرة صوتي حتى تصبح قريبة من الشخص الذي أسخر منه، فكنت أسخر من هذا وذاك، ولم يسلم أحد مني حتى أصحابي، وصار بعض أصحابي يتجنبني؛ كي يسلم من لساني وتعليقاتي اللاذعة، وفي تلك الليلة سخرت من رجل أعمى رأيته يتسول في السوق، والأدهى أني وضعت قدمي أمامه ليتعثر، فتعثر وانطلقت ضحكتي حتى دوت في السوق، وعدت إلى بيتي متأخراً, ووجدت زوجتي في انتظاري، وكانت في حالة يرثى لها، فقالت: أين كنت يا راشد ؟ قلت ساخراً: في المريخ، عند أصحابي بالطبع، فقالت والعبرة تخنقها: راشد إني مريضة جداً، والظاهر أن موعد ولادتي صار وشيكاً، وسقطت دمعة صامتة على جبينها، فأحسست أني أهملت زوجتي، وكان المفروض أن أهتم بها، وأقلل من سهراتي، خاصة أنها في شهرها التاسع.

ثم قاست زوجتي الآلام يوماً وليلة في المستشفى، حتى رأى طفلي النور، ولم أكن في المستشفى ساعتها، بل تركت رقم هاتف المنزل وخرجت، فاتصلوا بي حتى يعلموني بالخبر، ويزفوا لي نبأ قدوم سالم.

وحين وصلت المستشفى طلب مني أن أراجع الطبيبة، فقلت: أي طبيبة؟ المهم الآن أن أرى ابني سالماً ، فقالوا لي: لابد من مراجعة الطبيبة، وأجابتني موظفة الاستقبال بحزن، فصدمت حين عرفت أن ابني به تشوه شديد في عينيه، ومعاق في بصره، وتذكرت المتسول، فقلت: سبحان الله، كما تدين تدان، ولم تحزن زوجتي فقد كانت مؤمنة راضية بقضاء الله، وطالما نصحتني وطلبت مني أن أكف عن تقليد الآخرين!

كلا. هي لا تسميه تقليداً، بل غيبة، ومعها كل الحق، ولم أكن أهتم بـسالم كثيراً، واعتبرته غير موجود في المنزل، فحين يشتد بكاؤه أهرب إلى الصالة؛ لأنام فيها، ولكن زوجتي كانت تهتم به كثيراً وتحبه، أما أنا فإني لا أكرهه، لكني لم أستطع أن أحبه. وأقامت زوجتي احتفالاً حين خطى خطواته الأولى، وحين أكمل الثانية اكتشفنا أنه أعرج، وكلما زدت ابتعاداً عنه زادت زوجتي حباً وتعلقاً بـسالم ، حتى بعد أن أنجبت عمر وخالداً.

ومرت السنوات وكنت غافلاً لاهياً، غرتني الدنيا وما فيها، وكنت كاللعبة في يد رفقة السوء، مع أني كنت أظن أني من يلعب عليهم.

ولم تيئس زوجتي من إصلاحي، فقد كانت دائماً تدعو لي بالهداية، ولم تغضب من تصرفاتي الطائشة، أو إهمالي لـسالم ، واهتمامي بباقي إخوته، وكبر سالم ، ولم أمانع حين طلبت زوجتي تسجيله في أحد المدارس الخاصة بالمعاقين.

ولم أكن أحس بمرور السنوات، فأيامي سواء، ليل ونهار، عمل ونوم، طعام وسهر، حتى ذلك اليوم -وكان يوم جمعة- فاستيقظت الساعة الحادية عشرة ظهراً، وما يزال الوقت عندي مبكراً، فقلت: لا يهم، وأخذت دشاً سريعاً، ولبست وتعطرت وهممت بالخروج، واستوقفني منظر سالم فقد كان يبكي بحرقة، إنها المرة الأولى التي أرى فيها سالماً يبكي منذ كان طفلاً، فقلت لنفسي: أأخرج أم أرى ممَ يشكو سالم؟

ثم قلت: لا، كيف أتركه وهو في هذه الحالة، ولم أدر أهو الفضول أم الشفقة؟ لا يهم، سألته: لماذا تبكي يا سالم ؟! حين سمع صوتي توقف وبدأ يتحسس ما حوله، فقلت: ما به يا ترى؟! ثم اكتشفت أن ابني يهرب مني، وفي تلك اللحظة أحسست أين كنت منذ عشر سنوات، فتبعته وكان قد دخل غرفته ورفض أن يخبرني في البداية عن سبب بكائه، وتحت إصراري عرفت السبب: لقد تأخر عليه شقيقه عمر الذي اعتاد أن يوصله إلى المسجد في يوم الجمعة، وخاف سالم ألا يجد مكاناً في الصف الأول، فنادى والدته لكن لا مجيب، حينها رفعت يدي على فمه، كأني أطلب منه أن يكف عن حديثه، وأكملت حديثه قائلاً: حينها بكيت يا سالم! ولا أعلم ما الذي دفعني لأقول له: سالم ! لا تحزن، هل تعلم من سيرافقك اليوم إلى المسجد؟

فأجاب سالم: لا شك أنه عمر، ليتني أعلم إلى أين ذهب.

فقلت: لا يا سالم! أنا من سيرافقك إلى المسجد.

فاستغرب سالم ولم يصدق، وظن أني أسخر منه، وعاد إلى بكائه، فمسحت دموعه بيدي وأمسكت بيده وأردت أن أوصله بالسيارة، فرفض قائلاً: أبي! المسجد قريب وأريد أن أخطو إلى المسجد، فإني أحتسب كل خطوة أخطوها.

يقول: لا أذكر متى دخلت المسجد آخر مرة، ولا أذكر آخر مرة سجدت فيها لله، ولكنها المرة الأولى التي أشعر فيها بالخوف والندم على ما فرطت طوال السنوات الماضية.

يقول: ومع أن المسجد كان مليئاً بالمصلين، إلا أني وجدت لـسالم مكاناً في الصف الأول، استمعنا لخطبة الجمعة معاً، وصليت بجانبه، وبعد انتهاء الصلاة طلب مني سالم مصحفاً، فاستغربت كيف سيقرأ وهو أعمى، ولكن ذلك لم يتردد في نفسي، ولم أصرح به خوفاً من جرح مشاعره، وطلب مني أن أفتح له المصحف على سورة الكهف، فنفذت ما طلب، ووضع المصحف أمامه، وبدأ في قراءة السورة.

يا ألله! إنه يحفظ سورة الكهف كاملة، وعن ظهر قلب. خجلت من نفسي، فأمسكت مصحفاً آخر، وأحسست برعشة في أوصالي، فقرأت وقرأت ودعوت الله أن يغفر لي ويهديني.

وفي هذه المرة أنا الذي بكيت حزناً وندماً على ما فرطت، ولم أشعر إلا بيد حنونة تمسح عني دموعي، لقد كان سالم يمسح دموعي، ويهدئ من خاطري، وعدنا إلى المنزل، وكانت زوجتي قلقة كثيراً على سالم ، لكن قلقها تحول إلى دموع فرح حين علمت أني صليت الجمعة مع سالم.

ومنذ ذلك اليوم لم تفتني صلاة الجماعة في المسجد، وهجرت رفقاء السوء، وأصبحت إلى رفقة خيرة عرفتها في المسجد، وذقت طعم الإيمان، وعرفت منهم أشياء ألهتني عن الدنيا، ولم أفوت حلقة ذكر أو صلاة قيام، وختمت القرآن عدة مرات في شهر، وأنا نفس الشخص الذي هجره سنوات، وقصرت لساني على الذكر؛ لعل الله يغفر لي غيبتي وسخريتي من الناس، وأحسست أني أكثر قرباً من أسرتي، واختفت نظرات الخوف والشفقة التي كانت تطل من عيون زوجتي، والابتسامة ما عادت تفارق وجه ابني سالم ، ومن يراه يظنه ملك الدنيا وما فيها، وصليت كثيراً وحمدت الله كثيراً على نعمه.

وذات يوم قررت أنا وأصحابي أن نتجه إلى إحدى المناطق البعيدة في برامج دعوية مع مؤسسة خيرية، وترددت في الذهاب، واستخرت الله، واستشرت زوجتي، وتوقعت أن ترفض، لكنه حدث العكس، فقد فرحت كثيراً، بل شجعتني حين أخبرت سالماً بعزمي على الذهاب فأحاط جسمي بذراعيه الصغيرين فرحاً، ووالله لو كان طويل القامة مثلي لما توانى عن تقبيل رأسي.

بعدها توكلت على الله وقدمت طلب إجازة مفتوحة بدون مرتب، والحمد لله جاءت الموافقة بسرعة، وتغيبت عن البيت ثلاثة أشهر، وكنت خلال تلك الفترة أتصل كلما سنحت لي الفرصة بزوجتي، وأحدث أبنائي، وكنت قد اشتقت لهم كثيراً، ولكني اشتقت أكثر لـسالم ، وتمنيت سماع صوته، فهو الوحيد الذي لم يحدثني منذ سافرت؛ لأنه إما أن يكون في المدرسة أو المسجد ساعة اتصالي بهم، وكلما حدثت زوجتي أطلب منها أن تبلغه سلامي وتقبله، وكانت تضحك حين تسمعني أقول هذا الكلام، إلا آخر مرة هاتفتها فيها فلم أسمع ضحكتها المتوقعة، فقد تغير صوتها، وقالت لي: إن شاء الله.

وأخيراً عدت إلى المنزل وطرقت الباب، فتمنيت أن يفتح لي الباب سالم، ولكني فوجئت بابني خالد الذي لم يتجاوز الرابعة من عمره، فحملته بين ذراعي وهو يصيح: بابا بابا، وانقبض صدري حين دخلت البيت، واستعذت بالله من الشيطان الرجيم، فسعدت زوجتي بقدومي، ولكن هناك شيء قد تغير فيها، فتأملتها جيداً ورأيت نظرات الحزن التي ما كانت تفارقها، قد عادت مرة ثانية إلى عينيها، فسألتها: ما بك؟ قالت: لا شيء، وفجأة تذكرت من نسيته للحظات، وقلت لها: أين سالم ؟ فخفضت رأسها ولم تجب، ولم أسمع حينها سوى صوت ابني خالد الذي ما زال يرن في أذني حتى هذه اللحظة، قال: أبي! إن سالماً راح عند الله في الجنة، فلم تتمالك زوجتي الموقف، وأجهشت بالبكاء وخرجت من الغرفة، فعرفت بعدها أن سالماً أصابته حمى قبل موعد مجيئي بأسبوعين، فأخذته زوجتي إلى المستشفى، ولازمته يومين، وبعد ذلك فارقته الحمى حين فارقت روحه الجسد، فأحسست أن ما حدث ابتلاء واختبار من الله سبحانه وتعالى، أجل إنه اختبار وأي اختبار؟ وصبرت على مصابي، وحمدت الله الذي لا يحمد على مكروه سواه، وما زلت أحس بيده تمسح دموعي، وذراعه تحيط بي.

كم حزنت على سالم الأعمى الأعرج، الذي لم يكن أعمى، بل أنا من كنت أعمى حين انقدت وراء رفقة السوء، ولم يكن سالم أعرج؛ لأنه استطاع أن يسلك طريق الإيمان رغم كل شيء، ولا زلت أتذكر كلماته وهو يقول: إن الله ذو رحمة واسعة.

إن سالماً الذي امتنعت يوماً عن حبه اكتشفت أني أحبه أكثر من إخوانه، بكيت كثيراً وما زلت حزيناً، وكيف لا أحزن وقد كانت هدايتي على يديه؟

اللهم تقبل سالماً في رحمتك، اللهم إنا نسألك الثبات حتى الممات.


استمع المزيد من الشيخ خالد الراشد - عنوان الحلقة اسٌتمع
انها النار 3542 استماع
بر الوالدين 3421 استماع
أحوال العابدات 3410 استماع
يأجوج ومأجوج 3348 استماع
البداية والنهاية 3335 استماع
وقت وأخ وخمر وأخت 3269 استماع
أسمع وأفتح قلبك - ذكرى لمن كان له قلب 3254 استماع
أين دارك غداً 3204 استماع
أين أنتن من هؤلاء؟ 3096 استماع
هذا ما رأيت في رحلة الأحزان 3096 استماع