هذا ما رأيت في رحلة الأحزان


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلاله، وكل ضلالة في النار.

معاشر الأحبة! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وحياكم الله وبياكم وسدد على طريق الحق خطاي وخطاكم، أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجمعني وإياكم في دار كرامته، وأن يحفظني وإياكم من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يجعلنا هداة مهتدين، لا ضالين ولا مضلين.

أحبتي! انتهى عام، ونحن على وشك أن نبدأ عاماً آخر، فما أسرع انقضاء الأيام والليالي، فالأيام والليالي تبليان كل جديد، وتقربان كل بعيد، وتأتيان بكل موعود ووعيد.

إن مرور الأيام وانقضاء الليالي له معنى واحد وهو: أني أنا وأنت نقترب من النهاية، ومعناه: أن الأجل يقترب والفرصة تقل يوماً بعد يوم، ولا معنى له غير هذا المعنى، فكل ليلة وكل يومٍ ينقضي هو من عمري ومن عمرك أنت، والآجال تنقص ولا تزيد، والأعمار تنقص يوماً بعد يوم لا تزيد، فأعمارنا في نقصان يوماً بعد يوم.

وعلى مدى عام إلى يومنا هذا حدثت أحداث، واستجدت أمور، وتغيرت أشياء لا يعلم بها إلا الحكيم الخبير الذي قال: يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ [النور:44].

إن محاسبة النفس في نهاية العام دليل على الجدية والهمة العالية، فالتاجر الناجح هو الذي يراجع الحسابات حيناً بعد حين؛ لذلك أمرنا الله بمراجعة الحسابات فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ [الحشر:18]، والكيّس هو الذي يحاسب نفسه كل يوم، فإن لم يكن ففي الأسبوع مرة، فإن لم يكن ففي الشهر مرة، فإن لم يكن ففي السنة مرة، فإن لم يكن ففي العمر مرة، فلابد أن نقف ونراجع حساباتنا، ولن أقف مع ما فعلتَ أنتَ أو فعلتِ أنتِ أو ماذا قدمنا أو أخرنا، فخلال العام الماضي حدثت أمور جسام، وآيات عظام يخوف الله بها عباده، ولعلي مع نهاية هذا العام أقف وقفات، مع ما حدث في هذا الكون الذي يدبره الواحد الأحد، والذي لا يتحرك متحرك في كونه إلا بعلمه، ولا يسكن ساكن في أرضه ولا في سمائه إلا بقدرته وأمره وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ * وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ * ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ * قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ * قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ * وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ * لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ [الأنعام:59-67].

لعل أعظم ما حدث في عامنا المنصرم هو ما حدث في شرق آسيا، تلك الآية العظيمة التي بلغ خبرها القاصي والداني، كيف لا وفي دقائق معدودة حدث ما حدث من الآيات العظام، لقد تغير مجرى هذا الكون رأساً على عقب، لقد تحركت الأرض، وماجت الجبال، وفاضت المياه والبحار والأنهار، واهتزت الأرض تحت أقدام البشر، فمات من مات، وهلك من هلك، وشرد من شرد، وأصيب من أصيب، وحدثت مصائب وآلام لا يعلم بها إلا الله، لقد حدثت في دقائق معدودة، ولكن للأسف الشديد فإن سكان الأرض لم يستفيدوا من تلك الآية، ولم ينزلوها في مكانها الصحيح، فالذي حدث أن وسائل الإعلام نقلت لنا الخبر وتكلمت عن أسباب الزلازل وأسباب الفيضانات، ونظروا إليها من المنظور العلمي، وما ذكروا أنها عقوبة من الله جزاء مخالفة أهل الأرض أوامر الله تبارك وتعالى، فالأمر أمره، والأرض أرضه، والسماء سماؤه، يفعل ما يشاء ولا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23].

لقد رأينا بأم أعيننا على شاشات التلفاز والقنوات تلك الأحداث التي جرت، لكن ليس الخبر كالمعاينة، فقد نقلت لنا وسائل الإعلام الخبر إلا أننا لا نستطيع أن نتصور ما حدث هناك حقيقة، فالذي حدث -والله الذي لا إله إلا هو- أمر يفوق تصور الإنسان، ولا يستطيع الإنسان بعقله المحدود أن يتصور ما حدث هناك، حتى حين ترى وتقف في تلك الأماكن فإن العقل يقف حيراناً، كيف حدث هذا؟! وكيف تم هذا في لحظات؟! وما هي تلك القوة التي أحدثت كل هذا الدمار في لحظات معدودة؟! إنها قوة الجبار الذي إذا أراد أمراً فإنما يقول له: كن فيكون.

وقد ذهبت إلى هناك وشاهدت بأم عيني ماذا حل من الدمار، ورأيت ومع إنني رأيت لكنني والله لا أستطيع أن أصور حقيقة الأمر، فالأمر أكبر مما أستطيع أن أستوعبه أنا أو تفهمه أنت، والأمر أعظم من أن نذكره في كلمات، والأيام القادمة وما يليها ستكشف لنا حقيقة الأمر الذي كان هناك، في كل يوم كنت أتنقل من منطقة إلى منطقة والسؤال الذي كان يدور في خاطري دائماً ماذا كان يصنع هؤلاء حتى حل عليهم هذا؟ هل هو زنا وشرب خمور؟ الأمر أعظم من هذا كله، والأيام القادمة ستكشف لنا الحقيقة.

ما الذي دفعني للذهاب؟ لقد شاهدت مثلكم ما بُثَّ على شاشات الفضائيات، ورأينا ما حل من الدمار، لكن حز في خاطري أنني رأيت الصليب يتجول هنا وهناك في بلاد المسلمين، حز في خاطري أني رأيت المعونات تقدم إلى المسلمين ممن يضعون الصليب على صدورهم وعلى ظهورهم! فقلت: أين نحن عن إخواننا هناك؟ وأين الهيئات والمنظمات الإسلامية؟

نعم لقد قدمت معونات وبلادنا أيضاً ممن قدم المعونات لكنها كلها ذهبت تحت إطار الأمم المتحدة التي يتزعمها الصليب، والذي قدم تلك المعونات هو الصليب للمسلمين هناك، فحز في خاطري أن أيام العيد قادمة وأنه ليس بين المسلمين من يواسيهم في مصابهم وفي آلامهم إلا أبناء الصليب، ورأيت من فتيات الصليب ومن شبابه متطوعين أتوا من كل مكان لكي يساعدوا في عمليات الإنقاذ والإعمار والتنظيف وإخراج الموتى، وما رأيت من العرب أحداً، ولا من المسلمين أحداً، ورأيت من شبابهم وكبار سنهم صغاراً وكباراً يتجولون بين الملاجئ والمستشفيات، وليس ذلك منهم حباً في الإسلام والمسلمين، والله! ما جاءوا لأنهم يحبوننا، لكنهم جاءوا حتى يبينوا للمنكوبين أن الصليب معهم، وأن الصليب يساعدهم في نكباتهم.

فقررت الذهاب قبيل بداية شهر ذي الحجة بأيام، قالوا لي: تأخر إلى ما بعد الحج، لكني أعرف أن الجرح إذا تطاول عليه الزمان يبرأ يوماً بعد يوم، والذي نراه اليوم ليس كالذي نراه غداً وبعد غد، اليوم سترى أشياء ثم هذه الأشياء ستندثر وتختفي، ولن ترى ما تراه في بداية الأمر وفي أول المصاب، ثم إني أردت أن أكون بين أولئك في أيام العيد لأنظر كيف سيقضون أيام العيد! فقررت السفر، فاخترت صحبة للذهاب معي، لكن صحبتي تخلت وتقاعست في آخر اللحظات، وعذرهم أن الظروف الأمنية لا تسمح، وأن الظروف الصحية لا تسمح، وأن الأوضاع هناك مضطربة ولا أحد يستطيع أن يذهب إلى هناك، فقلت: سبحان الله! كيف ذهب أبناء الصليب وما وضعوا هذه العراقيل وهذه العقبات، لماذا عندما نقدم دائماً نتأخر ونضع العراقيل ونضع العقبات ولا يضعونها هم؟! لذلك تقدموا هم وتأخرنا نحن، فقررت السفر ولو كنت بمفردي.

واستشرت أمي رحمها الله فقالت: ما دام الأمر طاعة، وفي مرضاة الله فصلِّ واستخر ثم توكل على الله، فكانت هذه الكلمات دافعاً لي على أن أعزم على الذهاب ولو كنت سأذهب بمفردي، فاتصلت على الإخوان في الكويت من جمعية إحياء التراث الكويتي، ولهم مكتب هناك، ثم مع بداية الأحداث فتحوا مكتباً آخر في المناطق المنكوبة فقالوا: سنستقبلك وسنرتب لك الأمور، وهذا شجعني على الذهاب حتى وإن كنت بمفردي.

فما الذي دفعني للذهاب؟

لقد دفعني إلى ذلك أولاً: أن الذي حدث هناك آية من آيات الله أردت أن تكون واعظاً لي أنا أولاً ثم واعظاً للذين سأنقل لهم الصورة، وأردت من ذهابي أيضاً أن أرى بأم عيني حقيقة ما حدث، فصحيح أننا سمعنا ونقل لنا من هنا ومن هناك لكن ليس الخبر كالمعاينة، وليس من رأى كمن سمع، فأعددت العدة للسفر، وأسميت الرحلة من أولها إلى آخرها برحلة الأحزان، فهذا ما رأيت في رحلة الأحزان، وكيف لا تكون رحلة أحزان وقد رأيت مصرع آلاف من البشر؟! كيف لا تكون رحلة أحزان وقد رأيت من أحوال المسلمين ما يدمي القلب، ويقض المضجع، ويدمع العين؟!

لقد رأيت أهوالاً عظاماً لعلي أستطيع أن أصورها لكم في هذه الساعة المحدودة وإلا فالأمر أعظم مما سأتكلم وأعظم مما سأقول.

انطلقت من هنا في يوم الخميس الثالث من ذي الحجة في الخامسة من مساء يوم الخميس عن طريق جسر الملك فهد ، من هنا بدأت أحزاني، والجسر فيه زحام شديد لا يعلمه إلا الله، فكنت أتلفّت يمنة فلا أرى إلا شباباً من شبابنا ومن أبنائنا والموسيقى في كل مكان، والضحكات من هنا وهناك، وهم طوابير، فوالله! لقد وقفنا في الطابور أكثر من ساعتين حتى استطعنا أن نصل إلى المكان الذي نختم جوازاتنا فيه، ونتجاوز النقطة إلى النقطة التي تليها على مدى تلك الساعات، ووالله! ما رأيت إلا أمماً من الشباب تجاوزت الآلاف، أين سيذهبون؟ وماذا يريدون من الذهاب إلى هناك؟ وهل الوقت أصلاً يسمح لمثل هذا اللهو؟ فأمتنا جراحاتها في كل مكان، فهل هذا وقت لهو وضحك وتوزيع ابتسامات، هل هذا وقت معاص ومنكرات، فما رئي صلاح الدين مبتسماً، وحين سئل قال: كيف أبتسم والأقصى بين أيدي الصليبيين؟ فكم للأقصى وهو يئن ويشتكي؟!

هاهو الأقصى يلوك جراحه

والمسلمون جموعهم آحاد

يا ويحنا ماذا أصاب شبابنا

أو ما لنا سعد ولا مقداد؟

تجاوزنا أول النقاط ووصلنا إلى مطار البحرين، وهناك اختلط الحابل بالنابل فلا تعرف الرجال من النساء، ولا تعرف هل هذا رجل أم امرأة! فتقدمت بجوازي وتذكرة سفري إلى تلك التي تعمل في خطوط طيران الخليج، وكانت تتبسم لمن قبلي كلهم، وهذه هي وظيفتهم التبسم في وجه العملاء، فلما رأتني استنكرت وعبس وجهها وتغير، وكنت أعرف أن الرحلة إلى اندونيسيا مليئة بالنساء والخادمات، فقلت لها: لي مطلب واحد وهو: أن أكون على النافذة، وأن أكون بجانب رجل، قالت: ليس عندي لك مكان إلا هذا، قلت: من حقي أن أطلب المكان الذي أريده فأنا راكب على هذه الطائرة، ومن واجبكم أن تقدموا الخدمات المسموحة والممكنة لي، قالت: ليس هناك إلا ما أعطيتك إياه، قلت: أكيد لا يوجد غير هذا المكان؟ قالت: لا يوجد غير هذا المكان، ثم أعطتني تذكرة سفري، وبطاقة صعود الطائرة، قلت لأصحابي الذين رافقوني إلى المطار: هل يعقل أني سأركب في طائرة لمدة تسع ساعات بجانب امرأة؟ فكيف لو نمت وسقطت عليها بجانبي، أو هي نامت وسقطت علي، لا والله! لا يعقل، فتكلمنا مع أحد مسئولي المطار الذين يتعاملون مع الركاب، فقال: هات التذكرة، ثم أعطاني المكان الذي أريد، فلماذا لم تقدم لي تلك المرأة هذه الخدمة؟

أصبح الإسلام متهماً في كل مكان، والمصيبة ليس منهم وإنما هي من أبناء جلدتنا، والمصيبة ليست خارجية بل المصيبة في فهم أبنائنا وبناتنا لهذا الدين.

فتجاوزنا هذه المرحلة ثم ركبت الطائرة فإذا بثلاثة من الشباب العرب في حالة سكر، جلسوا بجانبي، أنا على النافذة وهم في الثلاثة الكراسي الوسطى في الطائرة، ثم انتظرنا قبل الإقلاع نحو نصف ساعة، فبدءوا يطلقون السب والشتم واللعان، وبدءوا يستهزءون بالعرب والمسلمين، فسكت ثم تمادوا يسبون الإسلام، لقد بدأ أبناء الإسلام يتطاولون على الإسلام، ويقول أحد هؤلاء السكارى: يظنون أن الدين صلاة، ليس هذا هو الدين، -فيتناقش مع صاحبه وكأنه ينزل عليه الوحي في الطائرة، قالوا: يظنون أن الدين صلاة وإطلاق لحى، إن الدين طهارة القلب ليس صلاة ولا كثرة عبادة، وهنا لم أستطع السكوت أكثر مما سكت، فلقد تجاوزوا الحد، فقلت لهم: اسمعوا يا سكارى؟! أمركم على أنفسكم لكن لا تتجاوزوا في الكلام، فلقد ضايقتم ركاب الطائرة، فقال لي: يا أفغاني! يا كلب!!! اذهب وقاتل من أجل فلسطين يا جبان! قلت في نفسي والله! الأفغاني أفضل من وجهك ولكنهم سكارى، فعقولهم في وادٍ وهم في وادٍ آخر، وقد قال الله عن عباد الرحمن: وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا [الفرقان:63]، فهذا إن كان في كامل عقله وقواه فكيف بسكران مثل هذا؟ فقلت: لقد ضايقتم ركاب الطائرة، قال: ما أحد اشتكى إلا أنت، وهنا ثارت الطائرة كلها عليهم، وقامت لهم امرأة محجبة -لله درها- وأسمعتهم من غليظ الكلام، قالت: ألا تخشون الله في الأرض، أما تخافون من العقوبة بين السماء والأرض؟ أما تخشون وأنتم تسمعون عن العقوبات الإلهية في كل مكان، كيف تأتون الآن وتعصون الله؟ والله! لا أجالسكم في مكان واحد ثم انطلقت إلى الأمام، لقد تقاعس الرجال عن إنكار المنكر، فقامت المرأة وأنكرت عليهم، فتوعدوني وقالوا لي: الموعد في مطار أبو ظبي! وهنا تذكرت أحد أصحابي أحتاجه في مثل هذا الموقف، وأعرفه تمام المعرفة، وباستطاعته أن يمسك اثنين بقبضته، فتمنيته معي في ذلك الموقف لكن أراد الله أمراً آخر.

فلما وصلنا إلى مطار أبو ظبي بحثت عنهم فلم أجدهم، وفترة الانتظار في أبو ظبي تمتد إلى ثلاث ساعات، وما أدراك ما مطار أبو ظبي؟! فالمنكرات في كل مكان، فأين الفرار؟ فما وجدت مهرباً إلا إلى الله، فرأيت مصلى صغيراً فأويت إليه، فمكثت فيه لمدة ثلاث ساعات أقرأ القرآن، كما فر كثير من الصالحين إلى ذلك المكان، فلا مفر من الفتن إلا إلى الله تبارك وتعالى.

عندما حانت ساعة الرحيل انطلقت إلى البوابة التي ينادى عليها ففوجئت أن السكارى معي على نفس الطائرة، فقلت: لم أتخلص منكم هناك وستظلون معي تسع ساعات الآن؟! فركبوا معي وكانوا في الكراسي التي أمامي تماماً لكنهم لم يتكلموا بكلمة طوال الرحلة، ماذا كانوا يصنعون؟ إنهم كانوا يتبادلون كئوس الخمر لتسع ساعات حتى أهلكهم الخمر، فناموا باقي الرحلة، فأقلعنا في الساعة الثانية ليلاً، أي: أنه بعد ساعتين أو ثلاث سيكون وقت صلاة الفجر، وعلى متن الطائرة أكثر من ثلاثمائة راكب ما بين رجل وامرأة وأكثرهم نساء، فنظرت في واقع هؤلاء النساء: ما الذي دفعهن للسفر آلاف الأميال؟ لقد تركن بيوتهن وتركن أهليهن وتركن كل شيء بحثاً عن لقمة العيش، مع العلم أن اندونيسيا ليست بالبلد الفقير، فهي أكبر دولة مسلمة من حيث تعداد السكان، وتعدادها أكثر من مائتين وعشرين إلى مائتين وثلاثين مليوناً، وهي رابع أكبر دولة في العالم، فجزرها وأراضيها تمتد ما بين المحيط الأطلسي والمحيط الهندي، وحتى تقطع اندونيسيا من أولها إلى آخرها تحتاج أن تركب الطائرة لمدة خمس ساعات، إنها جزر مترامية الأطراف، غنية بالنفط والمعادن والمياه والزراعة والقوة البشرية وبكل شيء، والعجيب أن شعبها من أفقر شعوب العالم! سأذكر لك السبب حين نصل إلى تلك الديار.

فوفقني الله إلى رجل اندونيسي فيه من الخير الشيء الكثير، فبدأنا نتكلم أنا وإياه على مدى الرحلة عن أحوال المسلمين هنا وهناك، وأعجبني -رغم أنه لا يتكلم العربية بطلاقة- استشهاده بآيات القرآن، فقد كان يستشهد بآيات القرآن ويضعها في مكانها الصحيح، فحانت صلاة الفجر، فقلت له: نصلي ثم لابد -إبراءً للذمة- أن نخبر أهل الطائرة أنه قد حان وقت صلاة الفجر، فبدأ هو يطوف على من أمامنا وأنا أطوف على من خلفنا: أنه قد حانت صلاة الفجر، وركاب الطائرة تجاوزوا الثلاثمائة، فوالله! ما صلى إلا خمسة، سبحان الله! نحن بين السماء والأرض، وأنت بحاجة إلى أن تستشعر أنك في حاجة إلى الله في مثل هذا الظرف، وأسألكم بالله لو حدث خلل فني بسيط في الطائرة من الذي سيجيرنا من عذاب الله؟ ومن الذي سيدفع عنا عذابه؟ ومن الذي سندعوه في تلك اللحظات؟

ندعوه في البحر أن ينجي سفينتنا

لما وصلنا إلى الشاطئ عصيناه

ونركب الجو في أمن وفي دعةٍ

وما سقطنا لأن الحافظ الله

بعد تسع ساعات متواصلة من الطيران بين السماء والأرض وصلنا يوم الجمعة في وقت صلاة العصر، واستقبلني أحد الإخوان الأفاضل هناك مع ابن له في العشرين سنة، فأعجبني منظره ومنظر ذلك الابن الذي يجيد اللغة العربية على أحسن ما يكون، فانطلقت معهم وفي الطريق قلت لهم: نريد مسجداً لكي نصلي فيه فقد حان وقت صلاة العصر، وأريد أن أجمع الظهر والعصر، فقال لي: لا أدري أين سنجد مسجداً قريباً، فقلت: أليست هذه بلدة مسلمة؟ قال: بلى، ولكن ليس من السهل أن تجد مسجداً قريباً، فقلت: الحمد لله! في بلادنا أينما تلتفت تجد المآذن ولا تبعد المساجد عن بعضها بعض، ففي كل مائة متر أو أكثر هناك مسجد، وأما هناك ففي كل خمسة أو عشرة كيلو مترات تجد مسجداً، فبحثنا عن مسجد فما وجدنا، فقالوا: لن يكون هناك وقت للصلاة إلا في الفندق الذي سنسكن فيه، فاتجهنا إلى مصلى الفندق أول ما وصلنا، فصليت الظهر وصليت معهم العصر، ثم خرجت معهم للغداء، فكلما ألتفت يمنة ويسرة لا أرى إلا كاشفات عاريات، والله! لا أرى إلا مصائب في كل مكان.

إندونيسيا المسلمة لا تعرف من الإسلام إلا اسمه، إندونيسيا المسلمة لا تعرف من مظاهر الإسلام إلا الاسم فقط، والأعجب أن عطلتهم يوم السبت والأحد! قلت: ماذا تصنعون يوم الجمعة؟ قال: الناس في أعمالهم، قلت: وكيف يصلون الجمعة؟ قال: يصلي من يصلي ويبقى من يبقى، فقلت: ويوم السبت والأحد هل تذهبون إلى الكنائس؟ قال: لا، لكن هذه هي عطلة البلد الرسمية.

الله أكبر! بلد مسلم لكن الصليب فرض عليهم أن تكون عطلتهم مع أحفاد القردة وأبناء الصليب، ثم قلت: فوّت هذا الأمر، لكن نساؤكم في كل مكان محجبات بأضيق الثياب، فما رأيت محجبة تلبس وسيعاً إلا النساء الكبيرات، وأما فتياتهم فلا يعرفن إلا البنطال، والله! ما رأيت امرأة تغطي وجهها إلا امرأة واحدة من أهل هذه البلاد مع زوجها في زيارة إلى هناك، وأما بناتهم ونسائهم فما رأيت من تغطي وجهها أبداً، والغالب عليهن حجاب على الرأس، وبنطال ضيق يفصِّل الجسد أشد التفصيل.

وفي مطار من المطارات رأيت كاشفات عاريات، والتفت أهل المطار إلى امرأة محجبة حجبت رأسها ولكنها ضيقت ثيابها تضييقاً حتى جعلت كل من في المطار يلتف حولها، والله! لو كشفت شعرها ولبست ثوبها كان أحسن من أن تفعل ما فعلت، أما قال الله: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ [الأحزاب:59].

فتغدينا ثم رجعت إلى فندقي وبت تلك الليلة وأنا في أهبة الاستعداد وعلى أحر من الجمر إلى أن أذهب إلى الأماكن المنكوبة، فأنا ما جئت للمكوث في جاكرتا لرؤية المنكرات، ولقد رأيت في ليل جاكرتا عجباً! فقد أخذوني ليلاً نمشي من مكان إلى مكان فما رأيت إلا نساء على جوانب الطريق، قلت: ما هذا؟ قالوا: هذا ليل جاكرتا، نوادي ليلية وملاه ومراقص ودعارة في الشوارع وفي كل مكان، قلت: أليس هذا بلداً مسلماً؟! فنحن نستنكر رؤية من تكشف وجهها فكيف وأنت ترى نساء يعرضن أنفسهن على جوانب الطريق؟! قلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، متى سأسافر إلى هناك؟ فأنا أريد أن أفر من هذه المنطقة، قال لي: ليس هناك مجال إلا يوم الإثنين أو الثلاثاء، فعطلتنا يوم السبت والأحد، ويوم السبت والأحد ليس هناك مكاتب ولا مؤسسات طيران تعمل فلا بد من الانتظار حتى يوم الإثنين صباحاً لكي نرتب أمور السفر إلى إقليم آخر، ونحن الآن في جاكرتا، ونحتاج للوصول إلى جزيرة سومطرة التي فيها الإقليم المنكوب أكثر من ساعتين ونصف بالطائرة، ولأن الفترة فترة إغاثة وفترة نكبة فقد كانت الوفود تأتي من كل مكان من العالم، فالحجوزات ملأت الفنادق والمطارات والشقق، والحجوزات صعبة جداً.. قلنا: سننتظر، وسنرى ماذا نستطيع أن نفعل في يوم الإثنين.

واستغلالاً ليوم السبت جاءني في الساعة الواحدة صاحبي وقال: سآخذك إلى معهد أيتام فيه مدرسة لكفالة الأيتام وتربيتهم، وهي ابتدائية ومتوسطة وثانوية، ثم بعد أن يتخرجوا من الثانوية يدخلون في معهد لكفالة الدعاة لمدة سنتين ثم يتخرجون دعاة، يتقنون اللغة العربية ويتقنون بعض العلوم الشرعية ثم ينشرونهم في قراهم التي أخذوهم منها، وهناك في المعهد ارتاح قلبي، فعلى مدى ساعتين ونصف ونحن في طريقنا إلى هناك، وبسبب الزحام الشديد امتدت الرحلة إلى أربع ساعات، فطرقهم ضيقة، وزحامهم شديد، وفي طول الطريق لا ترى إلا معاقل للمنكرات، ماذا يحدث بك وأنت قد تعودت على عدم رؤية مثل هذه المناظر؟ إنه يضيق صدرك شيئاً فشيئاً.

ثم وصلت إلى ذلك المعهد فانشرح صدري وأنا أرى الصغار في حلقات القرآن، وأرى الكبار في المسجد يتعلمون ويعلمون، فاطمأن قلبي نوعاً ما، وعلمت أنه لازال هناك خير، صحيح أن الغالب شر لكن هناك خير وأهل الخير يعملون على قدر استطاعتهم وعلى قدر إمكاناتهم، وكل الجهود التي رأيناها هناك هي مقدمة لهم من خارج إندونيسيا، إما من هذه البلاد، أو من إحدى دول الخليج التي تساعدهم وتعاونهم على نشر الدعوة الصحيحة، والغالب على إندونيسيا التصوف إلا ما رحم الله، فهم لا يعرفون من الدين إلا التصوف، ويظنون أن هذا هو الدين، فوقفت حائراً متسائلاً أقول: يا ألله! كيف استطاع أهل المنهج الخاطئ أن ينتشروا في إندونيسيا كلها؟ وأين أهل المنهج الصحيح؟ وكيف استطاع أهل التصوف أن ينتشروا في هذه الجزر كلها ولم يستطع أهل المنهج الحق أن ينتشروا في كل مكان، ويصححوا المنهج؟ أما كان المنهج صحيحاً؟ بلى، كان المنهج صحيحاً ثم اجتهد هؤلاء حتى غيروا منهج أهل البلد وقلبوه رأساً على عقب!

فلما دخلت المعهد اطمأن قلبي، ثم رجعنا من المعهد في الثامنة ليلاً بعد أن سمعنا من قراءات الصغار وكلام الكبار، وشهدنا مواقف جميلة معهم، ووصلنا في العاشرة تقريباً فالطريق أيضاً مزدحم، وفي يوم الأحد لم يكن هناك إلا الانتظار حتى يأتي يوم الإثنين، فكنا نرتب فيه أمور السفر، قلت له: لا أريد أن أذهب إلى أي مكان سأخلو بنفسي في هذا اليوم استعدادً للسفر، وبعد صلاة الظهر من يوم الأحد خرجت أنا بنفسي أمشي على قدمي وأترقب، والجميع ينظر إلي وكأني شيء غريب عندهم: رجل صاحب لحية وثوب يمشي في تلك الطرقات، فالجميع ينظر إلي باستغراب، وبعضهم يشير إلى لحيتي، وبعضهم يأتيني ويقول لي: أنا مسلم، قلت: سأسأل المارة أين أقرب مسجد؟ لكنهم يظلون يفكرون: هاه هنا لا لا هناك، إلى أن وصلت إلى أقرب مسجد لكي أصلي فيه صلاة الظهر، فدخلت المسجد وقد أذن لصلاة الظهر، فوالله الذي لا إله إلا هو! مئات من البشر خارج المسجد، وما صلى معنا إلا صف واحد، فتعجبت كيف يسمعون النداء ولا يجيب منهم أحد، فعلمت أن المأساة أعظم مما تتصور، يسمعون المنادي ينادي: حي على الصلاة، حي على الفلاح، والله! ما يجيب منهم أحد، إنهم يصلون لكنهم لا يعترفون بصلاة الجماعة، حتى أني حين ناقشت أحدهم في وجوب صلاة الجماعة قال لي: أنت حنبلي؟ أنتم تجبرون الناس على الصلاة في المساجد، قلت: ما أقيمت المساجد إلا لصلاة الجماعة، ولا يتخلف عن صلاة الجماعة إلا ضعاف الإيمان.

وتجاوزت أحزاني في المسجد وخرجت أبحث عن مطعم قريب، ويوجد هناك مطاعم عربية كثيرة، فالسواح العرب كثير من كل مكان، لما منعنا من السفر إلى شرق آسيا حول شباب الضياع وجهتهم إلى إندونيسيا، فأصبحت إندونيسيا هي محطة الضياع للشباب العربي، وأصبحت هي مكان اللهو والخمر والزنا بالنسبة للسواح العرب والشباب المسلمين، فدخلت المطعم وهم يتكلمون العربية؛ لكثرة السواح الذين يأتونهم، ثم أكلت، ثم فوجئت بدخول خمسة من الشباب، والله! لولا أنهم يتكلمون العربية ما ظننت أنهم من أبناء المسلمين، إن أشكالهم ورءوسهم لا تدل على ذلك، لقد صبغوا رءوسهم هذا شعره أخضر، وهذا شعره أصفر، وهذا شعره أحمر، فقلت: يا ألله هكذا يصنعون إذا أتوا وابتعدوا عن أهليهم، فأردت أن أكلمهم، لكن بعد أن انتهيت بحثت عنهم فإذا هم دخلوا من الباب الأول وخرجوا من الباب الآخر، فتحملت أحزاني ورجعت إلى فندقي، وبت تلك الليلة على أحوال لا يعلمها إلا الله، فهذه مشاهد تجعل الإنسان يتفكر ويقول: هل حقيقة أني في أكبر بلد مسلم؟ وهل حقيقة أني بين شعب يؤمن أنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؟

إندونيسيا بلد رضخ تحت الاستعمار الهولندي عشرات السنين فغير فيه المستعمر كل شيء، حتى أيام العيد غيروها، وأنا أعرف أننا قد نختلف في عيد الفطر لاختلاف المطلع واختلاف الرؤيا، لكن لا نختلف في عيد الأضحى، والغريب أن العيد هنا كان يوم الخميس وكان العيد هناك يوم الجمعة! قلت: كيف هذا؟! قال: عيدنا مع الحكومة، وليس مع المسلمين، قلت: بالأمس الأربعاء وقف المسلمون في عرفة فاليوم هو يوم النحر وكان يوم الخميس، فإذا كان عيدكم يوم الجمعة فماذا نسمي يوم الخميس؟! يوم الأربعاء يوم عرفة ويوم الخميس يوم النحر، ويوم الجمعة يوم القر بمنى، فماذا تسمون هذه الأيام؟ هذه أيام لها مسميات، قال: عيدنا مع الحكومة، والله! ما خرجوا في الشوارع بالاحتفالات إلا يوم الجمعة، وباقي العالم الإسلامي في عالم آخر.

وجاء يوم الإثنين، فذهبت أنا ومن استقبلني إلى مكتب جمعية إحياء التراث، وبدأنا بترتيبات السفر، وكان معي مبلغ من المال جمعته من بعض الإخوة الأفاضل من هنا وهناك؛ لعلّي أقدم به بعض العون للمنكوبين وللمصابين، وأجبر بعض الخواطر، وإلا فالخواطر تحتاج إلى ملايين حتى تجبر، فقد خسروا بيوتهم وممتلكاتهم وكل شيء، وما خرجوا من الدمار إلا بثيابهم التي يلبسونها، فخسروا كل شيء ولم يبق لهم أمل إلا بالله ثم بإخوانهم المسلمين، فمعي مبلغ من المال صغير، ولما صرفناه أصبح كبيراً، فقلت: يا إخوان! كيف أحمل هذه المبالغ وفيها أصفار كثيرة لا تستطيع أن تعدها، لكثرة أصفارها، فالعملة الإندونيسية ما فيها خير، فأين ذهبت البركة في الأموال، والبركة في الأعمار، والبركة في الثروات؟! كلها ذهبت وانطمست بسبب الذنوب والمعاصي، ووالله الذي لا إله إلا هو! إندونيسيا ليست بالبلد الفقيرة، وقد أخبرني أهلها عن كثير من الثروات التي تحتويها بلادهم لكنهم يعيشون في فقر لا يعلمه إلا الله، فأكثر من (40%) من الشعب الإندونيسي يعيش بمعدل دولار واحد في اليوم، أسر كاملة تعيش بمعدل دولار واحد في اليوم، أي: ثلاثة ريالات فقط مصروف أسرة كاملة في اليوم الواحد، وعلى الرغم من تعداد أفرادها صغاراً وكباراً فأكثرهم والله لا يعرف إلا الفقر والعوز والحاجة، وبالرغم من فقرهم لكنهم استمرءوا المعاصي على فقرهم، فالفقير يجعله فقره يلجأ إلى الله، لكن فقرهم جعلهم يستمرئون المعاصي والفواحش والمنكرات، إنه بلد من أعظم البلدان، إذا قلت لك: 90% من شعب إندونيسيا يدخن فقد أخطأت، بل 90% ليس عنده ما يأكل وما يشرب، لكن عنده ما يشتري به الدخان، وعنده ما يشتري به وسائل اللهو ووسائل الضياع، فتحملت أحزاني وأنا أسمع الأخبار تأتي من هنا ومن هناك، وأنا أعد نفسي للذهاب إلى تلك الديار قال لي صاحبي: الوصول إلى هناك سيكون بصعوبة، الحجوزات ليست بسهولة، ولكني وجَدت لك حجزاً يوم الثلاثاء مساءً، ثم تسافر إلى بلدة تمكث فيها ليلة، ثم في الصباح الآخر تغادر إلى تلك الديار المنكوبة، واسم الإقليم المنكوب (أتشى)، والبلد المنكوب اسمه (بند أتشى)، وهي عاصمة ذلك الإقليم، قال لي: لن تجد طعاماً ولن تجد أدوية، فاستعد بطعامك وشرابك ودوائك قبل أن تذهب إلى هناك، فاستعدينا، وأرسل معي مرافقاً يتكلم العربية حتى يكون لي معيناً في رحلتي، فجزاهم الله خيراً، ووفروا لي كل أسباب الراحة، واشترينا طعاماً ودواء، واشترينا كل ما نحتاجه للسفر إلى هناك.

وفي يوم الثلاثاء مساءً انطلقنا إلى المطار وهناك زحام شديد بكل ما تعنيه الكلمة، وعندما ترى ذلك الاختلاط تسأل الله أن يحفظك من الفتن ما ظهر منها وما بطن، واستشعرت عظيم الرفقة في السفر حين يكون معك أخ يعينك على الطريق، فالطريق يحتاج إلى رفيق، والذئب يأكل من الغنم القاصية.

وصلنا إلى المطار، ولشدة الزحام ولكثرة الرحلات تأخرت رحلتنا، وبدلاً من أن تقلع الطائرة في الخامسة والنصف أقلعت في الثامنة والنصف، وصلنا إلى هناك بعد ساعتين ونصف إلى بلد يبعد عن البلد المنكوب بالسيارة ثنتي عشرة ساعة، وهذا ليس لأجل أن المسافة طويلة، لكن لأن الطرق ضيقة، وإلا فالمسافة ستمائة كيلو، لكن لضيق الطريق ولازدحامه الشديد تقطع المسافات في ساعات طوال، فلما وصلنا استقبلنا أحد الإخوان هناك، وبدأنا نبحث عن مكان نبيت فيه في تلك الديار، فالفنادق كلها مليئة ولا تجد فيها أي مكان، فتجولنا بين فندق وثان وثالث ورابع وخامس ثم وصلنا إلى مكان كان في الأصل مستشفى لكن لشدة الزحام حوّلوا غرف المستشفى إلى فندق حتى يستقبل هيئات الإغاثة وهيئات الإنقاذ، فبتنا عندهم تلك الليلة، ففوجئت أن الباب يطرق علينا طول الليل، فإذا بالداعرات والمومسات ينتشرن بين الفنادق كلها ويطرقن الأبواب على السواح، آذونا في ليلنا كله نسأل الله العفو والعافية، وأنا أردد في نفسي وأقول: هل أنا في بلد مسلم أم ماذا؟! أحقيقة أنا في بلد مسلم أم أين أنا؟

وفي الصباح الباكر صلينا الفجر ثم انطلقنا إلى المطار بعد أن بتنا في خطر عظيم لا يعلمه إلا الله، فوصلنا إلى تلك الديار في الثامنة صباحاً، فلما نزلنا استغربت من وجود صور بالآلاف على مقدمة المطار وعلى جدرانه وفي كل مكان، وهي صور لأطفال ولرجال ولنساء، قلت: ما هذا؟ قال: هؤلاء الذين فقدوا في هذا الدمار، فصورهم معلقة في كل مكان، فآباء يبحثون عن أبنائهم، وأبناء يبحثون عن أمهاتهم، فقد ضلوا فلا يعرف أين هذا وأين ذاك، فهناك إحصائية تذكر في جريدة في اليوم الذي وصلت فيه أن عدد الذين ماتوا أكثر من مائة وستين ألفاً على مدى ثمانية عشر يوماً، وأنا وصلت إلى تلك الديار بعد مرور ثمانية عشر يوماً من حدوث تلك الحادثة، فمات أكثر من مائة وستين ألفاً، وهناك أكثر من مليون مشرد لا ملجأ لهم ولا مأوى، وأكثر من خمسة عشر ألفاً مفقودون، لا يعرف هل هم تحت الركام أم في الملاجئ أم في المستشفيات؟

فانطلقنا فاستقبلني أفراد مكتب هيئة إحياء التراث الذين بعد أن حدث ما حدث هناك استأجروا لهم مكتباً هناك، وبدءوا بالعمل على إغاثة المنكوبين والمحتاجين، قال صاحبي: لا مجال للذهاب إلى المقر سنبدأ الجولة من الآن، والمطار يبعد عن عاصمتهم المنكوبة خمسة وعشرين كيلو، وبعد أن تجاوزنا المطار بخمسة كيلو مترات بدأت أرى آثار الدمار، وعلى بعد عشرين كيلو عن أمواج البحر ليس الدمار كبيراً، لكن كلما اقتربنا نرى العجب العجاب، وأنا أتلفت يمنة ويسرة والله ما أرى إلا دماراً فأقول: أمن المعقول أن الدمار بلغ إلى هنا؟! قال: سترى العجب العجاب، اصبر فقط. وقد قمت بتصوير المشاهد التي رأيت حتى لا يقال: إن الكلام الذي تقوله ليس حقيقة، فقد سجلت وصورت كل ما رأيته، وكتبت الرحلة من أولها إلى آخرها بكل أحزانها وبكل آلامها، وقد تخللتها ابتسامات لكن الأحزان والدموع أكبر مما تتصور، فسجلت هذا وسجلت ذاك، ثم صورت الأحداث كما رأيتها وسأحرص إن شاء الله على أن أخرج ما كتبت في كتيب صغير، وأخرج ما صورت في شريط فيديو؛ حتى يرى الناس حقيقة ما حدث هناك.

فاقتربنا من قرية تبعد عن شاطئ البحر ثمانية كيلو مترات قلت: سبحان الله! ما هذا؟! قال لي: سترى أعظم، قلت: أعظم من هذا؟ قال: والله! ما رأيت شيئاً إلى الآن لقد رأيت يا إخوان بيوتاً مدمرة، وأشجاراً تراكمت وتقطعت من أصولها، وسيارات تراكمت بعضها على بعض، وقد اختلط الحابل بالنابل، ورأيت سيارات مع الأشجار ومع أثاث البيوت ومع كل شيء، وتحتها جثث من البشر لا يعلم عددهم، إن التفت يمنة أرى عشرات الجثث قد مددت، وإن التفت يسرة أرى مثلها، حيثما التفت أرى آثار الموت، والروائح الكريهة تشم من كل مكان، قلت: يا ألله! ما الذي حدث؟ قالوا لي: الأمر أعظم، إلى الآن لم ترَ شيئاً، أنت الآن في منطقة تبعد عن شاطئ البحر بثمانية كيلو مترات، لقد حدث في هذه المنطقة أن المياه تدفقت الساعة السابعة والنصف أو الثامنة صباحاً والناس نيام أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ [الأعراف:97]، فاقتحمت عليهم المياه بيوتهم في الثامنة صباحاً وهم نيام، فلم يستطع أحد أن يخرج من مكانه، لقد كسرت المياه الأبواب، واقتحمت النوافذ، وبلغت المياه داخل البيوت إلى مترين وثلاثة أمتار، فغرق من غرق، ومن سلم من الغرق فقد كسرته تلك الأشجار، وتلك السيارات، وذلك الأثاث المدمر، لقد كسرت عظامهم، وكسرت جماجمهم، ثم تراكمت عليهم تلك الأشجار والسيارات والبيوت التي تهدمت، من أين أتت تلك السيارات؟ لقد أتت من شاطئ البحر! قذف البحر بكل ما كان على شاطئ البحر على بعد ثمانية أو عشرة كيلو مترات، قذفت تلك الأمواج مع قوتها وشدتها كل ما كان على شاطئ البحر على بعد ثمانية أو عشرة كيلو مترات.

ثم وقفت حائراً وأنا أرى منظراً عجيباً، قلت: ما هذا؟! قال: هذه سفينة! أنا لا أتكلم عن سفينة خشبية أو مركب صيد، أنا أتكلم عن ناقلة كبيرة طولها ستون متراً ووزنها خمسمائة وستون طناً، قلت: ما الذي أتى بها إلى هنا؟ قال: قذفتها الأمواج حتى أوصلتها إلى هنا! السفينة تحمل مولدات من الكهرباء كانت على شواطئ البحر فقذفتها الأمواج كالريشة، قلت: هل هذا معقول؟! قال: معقول والأمر أدهى وأعظم! وقد قال لي من عرف أني سأذهب إلى هناك وقد ذهب قبلي: قال: سترى قيامة مصغرة، أليس يوم القيامة تبدل الأرض غير الأرض؟ لقد انقلبت الأرض رأساً على عقب، فلاهي بالبيوت التي يعرفونها، ولا بالأشجار التي كانوا يرونها، ولا بالبحار التي كانت هادئة، لقد تغير كل شيء!

ووجدت أناساً عند بيوت محطمة فقلت لهم: ماذا تفعلون؟ قالوا: أهلنا في الداخل نريد إخراجهم، وقد مضى على موتهم أكثر من ثمانية عشر يوماً، إنهم يجتهدون ويأتون من أماكن بعيدة لاستخراج أقاربهم من بيوتهم المدمرة ، فوقفت مع أناس، قال أحدهم: هنا أخي وزوجته وأطفاله الأربعة، وكثير منهم يجتهدون في إخراج أهلهم حتى يدفنونهم فرادى، لكن حين يخرجونهم ويرون مقدار التشوه ومقدار العفن الذي أصابهم يوافقون على دفنهم في المقابر الجماعية على أطراف القرى، فيحفرون لهم حفراً كبيرة، ومعدل من يدفن فيها كل يوم أكثر من سبعمائة، كيف يدفنونهم؟ إنهم يحملونهم ثم ترمي الدركترات بعضهم على بعض، فلا يستطيع أحد أن يتولى دفنهم؛ لشدة العفن والتلف الذي أصيبت به تلك الجثث.

ووقفت مع أحدهم فقال: أنا عمدة هذه البلدة، كنت مستيقظاً قبيل أن يحدث ما حدث، يقول: فشعرت بهزات أرضية، وكان أجدادنا يقولون: إذا شعرتم بالزلزال وأنتم قريبون من البحر ففروا إلى الجبال، يقول: فخرجت أصيح في الشوارع وفي طرقات القرية: الهرب .. الهرب.. الهرب.. الهرب، ففر معي أكثر من ألفين، وآلاف قضوا نحبهم تحت الأمواج، وتحت الركام، فأنقذت أهلي وفررت ومعي ألفان ممن فروا معي.

فصعدنا على ظهر السفينة والتفت يمنة ويسرة فقلت: أحقيقة ما أشاهد؟ هل معقول أن هذا كله حدث؟ قال لي: أنت لا زلت إلى الآن بعيد عن مركز الحدث، إنك إلى الآن لم تر شيئاً! قلت: لا إله إلا الله! لم أر شيئاً؟! كل هذا الدمار وتقول لي: لم تر شيئاً؟! قال: إي نعم، إلى الآن لم ترَ شيئاً، فالأمر أعظم مما تتصور!

فانتهينا من جولتنا في هذه القرية بعد أن رأينا عشرات الجثث تنقل من هنا ومن هناك، ثم انطلقنا إلى مكان أقرب يقع على شاطئ البحر، ووقفت على شاطئ البحر فلم أرَ شيئاً يا إخوان! أرض استوت تماماً لا ترى فيها شيئاً، قَاعًا صَفْصَفًا * لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا [طه:106-107]، أين البيوت؟! لقد زالت عن بكرة أبيها، أين القرى؟! أين البشر؟! ذهبوا كلهم. هل تظن أن بيوتهم خشبية؟ لا والله! بل هي عمارات ومبان شاهقة من الحديد والإسمنت، وقد زالت عن بكرة أبيها، والله! لا ترى إلا قواعد البيوت على مد البصر! قلت: لا إله إلا الله! أي قوة لهذه الأمواج حتى اقتلعت هذه البيوت من أصلها واقتلعتها من مكانها؟! سبحان الله! حجار وطين وحديد وكل ما تستطيع أن تتصوره زال عن بكرة أبيه، أين ذهب؟ لقد ساقته الأمواج إلى القرى التي تبعد عشرات الكيلو مترات عن تلك القرى، ففي جانب البحر لا ترى إلا أرضاً قد غسلتها الأمواج تماماً.

ترى القواعد الأرضية، وبلاط البيوت في كل مكان قد تساقط، أما أثاثهم وسيارتهم وممتلكاتهم فاقتلعتها الأمواج عن بكرة أبيها، ورمت بها على بعد عشرات الأمتار والكيلو مترات إلى القرى التي تليها.

وقفت أمام البحر وقد كان هادئاً أهدأ ما يكون فقلت: هل يعقل أن الأمواج خرجت من هنا؟! قال لي: الأمر أعظم، سأريك أعظم مما رأيت!

فانطلقنا إلى مكان آخر على شاطئ البحر من جهة مقابلة، وحتى تدرك عظم الشواطئ التي أصيبت بالدمار فإن طولها أكثر من مائتين وخمسين كيلو، ودخلت المياه إلى اليابسة إلى بعد عشرة كيلو مترات، بطول الساحل مائتا وخمسون كيلو دخلت المياه إلى اليابسة إلى بعد عشرة كيلو مترات! فما هي القوة التي مع هذه الأمواج؟ إنك لا تستطيع أن تتصورها.

فذهبنا إلى قرية أخرى على شاطئ البحر فما رأيت إلا دماراً، وقفت في قرى تبعد عن شاطئ البحر بكيلو مترات فرأيت فيها من الدمار ما الله بها عليم، ثم أخذت أقترب شيئاً فشيئاً من شاطئ البحر، حتى وقفت على تلك الأمواج الزرقاء، فقلت والبحر في أهدأ حالاته: أيعقل أن تلك الأمواج خرجت من هنا؟ نعم لقد خرجت من هنا، لكن لماذا خرجت؟ وكيف خرجت؟

انتقلنا من ذلك الموقع إلى موقع آخر على شاطئ البحر، إن الشواطئ من أجمل ما ترى العين، وصاحب القلب الحي يقف هناك ويقول: ما أعظم الله! فإنه يرى جمال وبديع خلق الله تبارك وتعالى، وبدلاً من أن يذهب الناس إلى هناك للتفكر، ذهبوا لمحاربة الجبار بالمعاصي والمنكرات في أرضه وتحت سمائه.

فأخذوني إلى قرية أخرى، فوقفت على شاطئها فرأيت مثل الذي رأيت هناك، إلا أنه اختلف شيء واحد وهو أن الأرض قد استوت تماماً من أولها إلى آخرها، لقد زالت المباني التي من الحديد والإسمنت عن بكرة أبيها إلا بيتاً وجدته ملقاً على جانب القرية، قلت: هذا البيت قد نجا، قال: لا هذا ليس بالدور الأول هذا الدور الثاني للبيت الذي تدمر تماماً، هذا يبعد عن شاطئ البحر حوالي مائتين أو ثلاثمائة متر، سبحان الله! ومع قوة الأمواج وشدتها اقتلعت الدور الأول بكل ما فيه، ثم طفا الدور الثاني وقذفت به الأمواج بعيداً عن الدور الأول بحوالي ستين أو سبعين متراً! ما هي القوة التي مع هذه الأمواج حتى تحمل مثل هذا؟! حملت السفينة ووزنها خمسمائة وستون طناً وقذفت بها إلى مسافة ثمانية كيلو مترات، فكيف ستصنع بما كان على شاطئ البحر؟!

التفت إلى جهة أخرى فإذا ببنيان فيه مآذن وقبة بيضاء فقلت: ما هذا؟ قال: هذا مسجد القرية نجا من الدمار! قلت: لا إله إلا الله! فانطلقت إلى هناك، واقتربت من المسجد وفي قلبي رهبة، التفت يمنة ويسرة فلم أر شيئاً قائماً أبداً، فالبيوت التي لها قواعد حديدية وإسمنتية قد تدمرت، وبعضهم ممن رأى المسجد ورأى ما حوله قال: كانت البيوت خشبية فما قاومت الأمواج والتيارات، لا والله! بنيان المنازل كان أقوى من بنيان المسجد، والمسجد عمره عشرات السنين، وبعض المباني كانت حديثة، فهذا البيت الذي ذكرت لكم انتهى من بنيانه منذ ثلاثة أشهر فقط، وهو لا يزال في أقوى قوته، وفي أقوى قواعده، ومع هذا فقد زال تماماً، دخلت المسجد، فإذا به لم يصب إلا بضرر قليل، ويحتاج إلى ترميمات قليلة ليعود كما كان، هل تظن أنه المسجد الوحيد الذي هو بهذه الحال؟ لقد رأيت عشرات المساجد مثله!

ركبت سفينة في رحلة بحرية لمدة ست ساعات فرأينا قرى مدمرة عن بكرة أبيها لم ينجُ منها أحد، ورأيت المساجد في وسط تلك القرى، كل شيء تدمر إلا المساجد! سألت أكثر من نجا: كيف نجوتم؟ قالوا: لجأنا إلى المساجد، وهكذا فإن الناس في الشدة يلجئون إلى الله.

ماذا كان يحدث على تلك الشواطئ حتى حل بها ما حل؟ وقفت حائراً أتفكر، يا ألله! ما الذي حدث هنا؟ قرى أُبيدت عن بكرة أبيها فما رأيت مثل هذا إلا في كلام الرحمن فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا [النمل:52] وقوله: فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ [القصص:58]، فما الذي حدث حتى أغضبوا الجبار جل جلاله فغارت بحاره وأرضه وصنعت بالبشر ما صنعت؟! قلت لأحد الذين نجوا: ما الذي كان يحدث هناك؟ قال: كان يحدث على الشواطئ أمر يفوق الخيال، اختلط الحابل بالنابل، قلت: من السواح؟ قال: لا، بل من المسلمين أنفسهم، فقد أصبحوا يعاقرون الفاحشة على مرأىً ومسمع من كل منهم، فهذا يزني بتلك، وهذا يزني بتلك، والجميع ينظر بعضهم إلى بعض! ثم يأتي الكفار فيزنون ببنات المسلمين على الشواطئ والمسلمون يرون ذلك ولا يتحرك فيهم شيء! قلت لهذا: أين تسكن؟ قال: هذا بيتنا! فلم أر شيئاً، قلت له: من فقدت؟ قال: فقدت أمي وأبي، قلت: أين كنت في تلك الساعة؟ قال: كنت أتجول على المساجد أعلق فيها صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم وصفة وضوئه في تلك الساعة التي حل فيها الدمار، سبحان الله! وأنجينا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ [الأعراف:165]، قال: كنت أنكر عليهم ما كان يحدث هناك، وكنت أحذرهم أن العقوبة ستحل علينا، ولكن لقد أسمعت لو ناديت حياً.


استمع المزيد من الشيخ خالد الراشد - عنوان الحلقة اسٌتمع
انها النار 3543 استماع
بر الوالدين 3426 استماع
أحوال العابدات 3412 استماع
يأجوج ومأجوج 3349 استماع
البداية والنهاية 3336 استماع
وقت وأخ وخمر وأخت 3271 استماع
أسمع وأفتح قلبك - ذكرى لمن كان له قلب 3255 استماع
أين دارك غداً 3205 استماع
أين أنتن من هؤلاء؟ 3097 استماع
الصاخة 3058 استماع