أرشيف المقالات

درس وعظي: منافع الحج الدينية والدنيوية

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .
الحمد لله الذي جعل الحج من محاسن الدين والإسلام، والصلاة والسلام على خير رسول بعثه الله إلى جميع الأنام، وعلى آله وصحبه الذين جعلهم الله من السابقين إلى الخيرات، فحازوا خير الدنيا والآخرة في جميع الأوقات، ومن تبِعهم واقتفى سيرهم، وأحبَّهم وسار على نهجهم إلى يوم الدين؛ أما بعد:
فقد قال تعالى في محكم التنزيل:
{وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 27، 28].
 
ومعنى تلك المنافع في الآية الكريمة؛ أي: ليشهدوا منافع لهم من العمل الذي يُرضي الله، ومن التجارة، وذلك أن الله عمَّ لهم منافع جميع ما يشهد له الموسم، ويأتي له مكة أيام الموسم من منافع الدنيا والآخرة، ولم يخصِّص من ذلك شيئًا من منافعهم بخبر ولا عقل، فذلك على العموم في المنافع التي وُصِفت[1].
 
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:  «من حجَّ لله فلم يرفُثْ ولم يفسُقْ، رجع كيوم ولدته أمه»؛ (متفق عليه).
 
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:  « العمرة إلى العمرة كفَّارة لِما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاءٌ إلا الجنة »؛ (متفق عليه).
 
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: ((سُئِلَ النبي صلى الله عليه وسلم: أيُّ الأعمال أفضل؟ قال: «إيمان بالله ورسوله» ، قيل: ثم ماذا؟ قال: «جهادٌ في سبيل الله» ، قيل: ثم ماذا؟ قال: «حجٌّ مبرور»؛ (متفق عليه).
 
إن من يتأمل منافع الحج، وعظيم ما يترتب عليها من الأجر والجزاء الجميل، وما يحصل للمسلم من الزيادة في الإيمان ، وفي مقامات الإحسان، يجد في ذلك فوائدَ ومنافعَ جمَّة سطَّرها العلماء في مؤلفاتهم، ودوَّنها العارفون في ترحالهم وسفرهم[2]، ففي الحج تجتمع جميع أنواع العبادات، والطاعات الجليلة؛ كالصلاة، والزكاة، والطواف والسعي، وتقديم الهَدْيِ، وبذل المال، وكف الأذى وبذل النَّدى، والصبر على المكروهات، وكل ذلك من أسباب نَيلِ رضوان الله في الدنيا وبعد الممات.
 
وللحج فوائد اجتماعية، وتربوية، ودعوية، ودنيوية؛ فهو موسم ومؤتمر، وعبادة وسلوك، وتعاون وتكاتف، ومحبة وأُلفة، وهو الفريضة التي تلتقي فيها الدنيا والآخرة، كما تلتقي فيها ذكريات العقيدة البعيدة والقريبة، ونحن نُجمِل في هذا الدرس بعض تلك المنافع؛ ليكون ذلك دافعًا للمسلم في أداء تلك الفريضة العظيمة على الوجه الأكمل؛ ومن تلك المنافع:
أولًا: إن في الحج إظهارًا لأعظم شعائر الإسلام، من التذلل لله والتضرع؛ لأن الحاجَّ يترك أسبابَ التَّرَفِ والتزيُّن، ويلبس لباس الإحرام الذي يُعبِّر عن الفقر والعبودية الخالصة لله، والاستعداد إلى لقاء الله سبحانه، فهو ينقِّي القلب من داء العُجْبِ والكِبْرِ والاستعلاء، ويحملها على هضم النفس ، والتواضع للخَلْقِ.
 
ثانيًا: ومنها تأدية عبادة الشكر لله على نعمة الإسلام، ونعمة الهداية والمال والبُدن، وقد أمرَنا بالشكر له بعد أن منَّ الله علينا؛ فقال: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الحج: 36].
 
ثالثًا: من المنافع العظيمة الجلِيَّة الواضحة في الحج هو اجتماع المسلمين من أقطار الأرض، وفي مكان واحد، بلباس واحد، يتعرف بعضهم على بعض؛ فتذوب بينهم الفوارق الطبقية، وتغيب عن بالهم الأنساب العشائرية، والوظائف المهنية، فلا فرق عندها بين عربي وأعجمي، ولا بين فقير وغني، إلا بالتقوى والعلم والعمل الصالح، وهذا من أعظم ما يوحِّد المسلمين، ويؤلِّف بينهم، ويجعلهم أُمَّة قوية مهيبة في نظر الأعداء، ويشكل منهم وحدة متكاملة متناسقة، على أساس متين من التعاون والمحبة، والأُلفة والتراحم.
 
رابعًا: الحج المبرور التام يمحو عن صاحبه الذنوب والخطايا، ويعود بالمسلم من حَجِّه كيوم ولدته أمه، نقيًّا من الخطايا، سليمًا من الرزايا، معافًى من البلايا، صالحًا من الصلحاء، عالمًا من العلماء والأتقياء، يبدأ حياته، ويمارس أعماله فرِحًا بما آتاه الله من فضله، يتواصل مع الخَلْقِ بروح المؤمن المتفائل، يدعوهم إلى التمسك بتعاليم الإسلام، ويحثهم على المسارعة إلى التوبة قبل حلول الآجال، إن الحج مثل الدينامو الذي يشحن المسلم بشحنة قوية من الإيمان والتقوى، والخشية والرحمة، فيمد يده لينقذ الخَلْقَ مما هم فيه من معصية وظلمة.
 
خامسًا: الحج من أسباب سَعَةِ الرزق ، وبسط المعيشة، وزيادة المال، وراحة البال، وهدوء الحال والخاطر؛ فعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:  «تابِعُوا بين الحج والعمرة؛ فإنهما يَنْفِيان الفقرَ والذنوب، كما يَنْفِي الكِيرُ خَبَثَ الحديد والذهب والفضة، وليس للحج المبرور جزاءٌ إلا الجنة»؛ (رواه الترمذي والنسائي).
 
سادسًا: إن الحاجَّ في أدائه لمناسك الحج وشعائره في دورة عملية، وترجمة فعلية لمعاني الصبر والتحمُّل، والقيام بأمر الله، ومخالفة النفس وشهواتها ونزواتها، فهو في مدرسة أو دورة تدريبية على ما تعلمه من تعاليم الإسلام؛ لأن الإسلام يجمع بين القول والعمل، وبين النظرية والتطبيق، فمن أدى الحج كما يجب، ولم يرفث ولم يفسق، وصبر على التكاليف الشرعية، فقد فاز ونجح، وحاز قَصَبَ السَّبْقِ في الخير.
 
وفي الختام: حريٌّ بنا - أيها الإخوة الأحباب - أن نتدبَّرَ ونتأمل ما أنعَمَ الله علينا من النعم الجليلة، والعطايا الكريمة، والمنافع الكثيرة لهذه الأمة الإسلامية؛ حيث أنعم الله علينا بنعمة الحج والمناسك، وما شرع فيه من الأوامر التي بها حياة القلوب ، وسعادة النفوس، وصالح العمل، ووحدة الأمة وقوتها وتراحمها، فيدعونا ذلك إلى أن نشكره عليها، ونقوم بحق العبادة والطاعة لله.
 
اللهم أصلح لنا أحوالنا، ويسِّرْ أمورنا، واختم بالصالحات أعمالنا، ويسر لكل مسلم زيارة بيتك الحرام، يا كريم يا رحمن، والحمد لله رب العالمين، وصلى اللهم على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
 [1] ذكر ذلك الطبريُّ في تفسيره وابن عاشور رحمهما الله، وبَيَّنَا ما في الحج من منافع تحت قوله تعالى: ﴿ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ ﴾ [الحج: 28].
[2] راجع رحلة ابن القيم لزيارة بيت الله الحرام في كتابه العظيم: (زاد المعاد في هدي خير العباد)، وما حصل في تلك الرحلة من فوائد ومنافع، وخير عظيم، ولو قام أحد الباحثين بذكر ذلك في بحثٍ، لَكان فيه فائدة عظيمة.
______________________________________________
الكاتب: مرشد الحيالي

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢