خطب ومحاضرات
دعوة للمصارحة
الحلقة مفرغة
جهاد الطلب فرض كفائي إذا قام به البعض سقط عن الآخرين، وهو أنواع منها: جهاد الكفار والمحاربين، وجهاد النفس والشيطان، وجهاد الفساق، والحكمة من الجهاد أن يعبد الله وحده لا شريك له، ودفع العدوان والشر عن المسلمين، وحفظ الأموال والأنفس، ورعاية الأنفس، وصيانة العدل، وتعميم الخير، ونشر الفضيلة.
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله.
أما بعد:
فهي فرصة طيبة أن نلتقي بالإخوة الكرام في هذا البلد الحرام الذي جعله الله عز وجل مثابة للناس وأمناً، والذي جعل الله سبحانه وتعالى الناس يؤمونه ويقصدونه ويسعون إليه من كل فج عميق.
موضوعنا أيها الإخوة الكرام لهذه الليلة بعنوان: دعوة للمصارحة، ولعلنا نقف قليلاً حول المعنى اللغوي لهذه الكلمة قبل أن نبدأ في الموضوع:
يقول الأزهري : صرح الشيء وصرحه وأصرحه إذا بينه وأظهره، ويقال: صرح فلان ما في نفسه تصريحاً إذا أبداه، والتصريح: خلاف التعريض، ومن أمثال العرب: صرحت بجدان وجلدان إذا أبدى أقصى ما يريده.
وفي اللسان: انصرح الحق أي: بان، وكذب صرحان أي: خالص، ولقيته مصارحةً ومقارحةً وصراحاً وكفاحاً بمعنىً واحد إذا لقيته مواجهةً، وصرح فلان بما في نفسه، وصارح: أبداه وأظهره.
أي أن هذا المعنى الذي نستعمله معنىً صحيح لغة، وذلك أن بعض الكلمات قد تستعمل في غير موضعها، فمن ثم كان لا بد من تحقيق مثل هذا المعنى وصحة استعماله لغةً.
معشر الإخوة الكرام! الصدق: خلق محمود، ومطلوب شرعاً، يقول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119] ويعد الله سبحانه وتعالى الصدق ضمن صفات عباد الله عز وجل الصالحين: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ [الأحزاب:35] إلى آخر الآية وفيها قول الله عز وجل: وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ [الأحزاب:35] ويقول صلى الله عليه وسلم في الحديث المشهور: (إن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار) وفي الحديث الآخر: (الصدق مع البر وهما في الجنة، والكذب مع الفجور وهما في النار) .
وفي المقابل: فالكذب خصلة شنيعة، وصفة مرذولة يحق على صاحبها لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، ألا لعنة الله على الكاذبين، وهو سلم وطريق للفجور الذي يؤدي هو الآخر إلى النار: (وإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار) وفي الحديث الآخر: (الكذب مع الفجور وهما في النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً).
وحين يكون المؤمن جباناً أو بخيلاً فإنه لا يمكن أن يكون كذاباً أبداً، وكما أن الصدق صفة مطلوبة شرعاً، وصفة يستحق صاحبها الثناء، وكما أن الكذب مذموم بالشرع مغموص صاحبه بصفة من صفات المنافقين حتى يدعها؛ فهما كذلك في الخلق المستقيم والفطرة السليمة، فما زال الناس برهم وفاجرهم يدركون أن هناك تناسباً بين الكذب وبين السب والانتقاص؛ لذا لا يطيق أحدهم أن يوصف بأنه كذاب.
إن غاية السب والشتم لأي امرئ من الناس كائناً من كان أن تتهمه بأنه كذاب، وحتى أكذب الناس الذي يتخذ الكذب حرفة ويأخذ على ذلك أجراً ويجعله صنعته، هو الآخر لا يرضى أن يوصف بالكذب؛ لأن الكذب صفة مرذولة.. مذمومة في فطر الناس السوية قبل أن تأتي الأديان باستحسان رفضها وتركها ودعوة الناس إلى الصدق، فما بالكم حين يكون الصدق بعد ذلك بنص الشرع طريقاً إلى البر والبر طريقاً إلى الجنة، وحين يكون الصدق قريناً للبر وهما في الجنة، وحين يكون الصدق صفةً يوصف بها المسلمون والمسلمات وتكون سلماً ووسيلة لأن يعدهم الله عز وجل بعد ذلك بالأجر العظيم.
لئن كانت هذه شناعة الكذب على الناس وممارسته على الناس لئن كان بهذا القدر من الشناعة والرفض، فما بالكم بمن يمارس الكذب على نفسه، إن القضية أكبر شناعة وأكبر خطأً واستخفافاً بالنفس أن يمارس المرء الكذب على نفسه.
نعم معشر الإخوة الكرام! إننا أحياناً نمارس الكذب على أنفسنا.. أحياناً أفراداً.. وأحياناً جماعات.. وبصورة تفرض سحباً من الأوهام المفتعلة وتضع سياجاً يحول دون الرؤية الصادقة الواضحة، فكم نفتعل العمش والعشى بل والعمى والتعامي نفتعل ذلك ونحن نستطيع أن نبصر الحقيقة بأم أعيننا!
ومن حقنا أن نتساءل: من المستفيد والخاسر من حجب الحقائق وافتعال الضبابية حول الواقع؟
لئن كان الكذب على الناس مرفوضاً. بالفطرة السليمة والشرع القويم، وكان من خلق الرجل الجاد فضلاً عن الرجل الملتزم بالشرع أن يكون صادقاً.. أن يكون صريحاً.. أن يكون واضحاً في حديثه مع الناس فأحرى به أن يكون صادقاً وواضحاً وصريحاً مع نفسه!
إن مرحلة العواطف والحماسة مرحلة يجب أن نتجاوزها، ومرحلة ستر العيوب وإخفاء الأخطاء سلوك يجب أن نتخلى عنه، ومن ثم كان لا بد من دعوة للمصارحة، فهي دعوة للمصارحة على المستوى الفردي وعلى المستوى الجماعي:
أما على المستوى الفردي: فمن سجية النفس وطبيعتها التي فطرها الله عز وجل عليها أنها ترهب الخطأ وتهاب الانحراف وترفض تأنيب الضمير واللوم الداخلي، وتلك صفة يكفي في استحقاقها كون المرء إنساناً، فالناس كل الناس مؤمنهم وكافرهم.. برهم وفاجرهم.. أياً كانوا تلومهم أنفسهم حين يقعون في الخطأ، ويواجهون سياطاً من اللوم والعتاب من تلقاء أنفسهم حين يرون أنهم وقعوا في الخطأ أياً كان هذا الخطأ ومهما كان مصدره.. ومهما كانت مقاييسه وموازينه.
وقد يكون الخطأ عند زيد من الناس هو الصواب بعينه عند عمرو، وقد يكون الحق عن طائفة هو الباطل عند طائفة، لكن الناس يشتركون في أنهم يرفضون الخطأ ويهابونه وتلومهم أنفسهم لوماً عنيفاً عندما يقعون في الخطأ، فهم يشتركون في هذا الأصل وإن اختلفوا في مقياس الخطأ والصواب، وهذا أمر لا يعنينا، إنما الذي يعنينا هو أن تأنيب النفس ولومها أمر مشترك عند الناس جميعاً.
أما المسلم الذي يدرك قيمة الحياة وغايتها ويعلم أن الدنيا دار ممر، وأن الدنيا وسيلة للدار الآخرة فهو أشد لوماً لنفسه وأشد عتاباً ومحاسبة لنفسه، ومن ثم فإنه تواجهه نفسه بسياط مؤلمة من اللوم والتأنيب والمحاسبة على الخطأ الذي يقع فيه، وحين تثقل على النفس تبعة الخطأ وتنوء بحمل نتائج التقصير فإن الإنسان حينئذ يمارس حيلاً لا شعورية مع نفسه لينفي عنها الخطأ أو يهون من حدوده، أو يخفف تبعاته، كل ذلك يعمله مع نفسه حتى يسلم من اللوم والعتاب الداخلي، وتارةً يحاسب نفسه ويراجعها؛ لكن هذه الحيل تساهم في إخفاء الحقيقة وفي تكوين ركام من الأوهام تحجب عنه الرؤية الصادقة.. تحجب عنه الحقيقة.. فحينئذ يخادع نفسه ويكذب على نفسه ومن ثم كان لا بد له من دعوة للمصارحة.. حتى يكون صريحاً مع نفسه.
تحميل الآخرين مسئولية الخطأ
معشر الإخوة الكرام! إننا نمارس الكذب كثيراً على أنفسنا.. نمارس الكذب أفراداً، ونمارس الكذب جماعات، أما على المستوى الفردي فإن المرء حين يقع في الخطأ -كما قلنا- تلومه نفسه، وتؤنبه، فهو يحاول أن يتخلص من هذا اللوم، ويحاول أن يتخلص من هذا التأنيب فيفتعل حيلاً نفسية لا شعورية يحاول أن يدفع بها عن نفسه تبعة الخطأ ومرارة تحمل المسئولية، فيمارس الكذب على نفسه، ويحق على هذا السلوك كل شناعة تحق على الكذب.
فلئن كان الكذب فجوراً وشناعةً حين يمارسه المرء على الآخرين، فهو كذلك حين يمارسه على نفسه، بل هو يزيد على ذلك استغفالاً لنفسه وسلوك مسلك النعامة التي تخفي رأسها وتظن أن العدو لا يراها كما يقال في المثل.
إن الفرد يمارس أحياناً أسلوب الإسقاط وتحميل المسئولية على الآخرين، فالطالب الذي يفشل في الامتحان مثلاً لم يكن ذنبه أنه كان مهملاً، بل هو كان جاداً وقد بذل كل الجهد لكن الأستاذ كان فاشلاً، فالأستاذ كان لا يجيد شرح المادة، أو أن أعمال السنة كانت هي السبب ولو كانت نسبتها ضئيلة؟ نعم هي السبب في رسوبه.
وربما لم يكن هذا وذاك ولكن أسئلة الامتحان كان مفاجئة وكانت غامضة، أو كان التصحيح غير دقيق، أو كانت نفسيته يوم الامتحان غير مستقرة فلم يوفق للإجابة، وهكذا يفتعل هذا الطالب ألواناً من الحجج والمعاذير ليقنع نفسه ويخدع نفسه أنه لا يتحمل المسئولية.
أما لو كان جاداً.. وبعبارة أخرى: لو كان صادقاً مع نفسه لاعترف بأنه يتحمل المسئولية أياً كان، فالطالب مثلاً يعرف أستاذه طوال العام، فلئن كان الأستاذ جدلاً لا يجيد شرح المادة فكان بإمكان الطالب أن يعطي هذه المادة جهداً مضاعفاً حتى يعوض القصور الذي يأتي من أستاذه.
والطالب ليست هذه أول مرة يدخل فيها قاعة الامتحان فهو يتوقع أن تأتيه الأسئلة على أي صورة وعلى أي احتمال، المهم: أنه لو كان جاداً وصادقاً وصريحاً مع نفسه لاعترف أنه سبب الفشل.. ولاعترف أنه يتحمل المسئولية.
فهكذا يحمل الآخرين المسئولية، وهذا الكلام يقوله لنفسه ولا يقوله للآخرين.
وهكذا نجد الحجة أيضاً نفسها تتبدى عندما يسلك الشاب سلوكاً غير مستقيم، فيواجه بالمناصحة فيحتج بأن والده لم يحسن تربيته أو أنه نشأ في بيت غير محافظ، بل حين ترى أنت مثلاً شاباً مستقيماً صالحاً خيراً وترى فيه عيباً فتناقشه فيه، كأن يكون هذا الشاب ليس جاداً.. ليس حريصاً على طلب العلم الشرعي.. فيه جانب من جوانب القصور أياً كان هذا الجانب، فتناقشه وتصارحه فماذا سيقول لك؟
سيقول لك: إني تربيت مع مجموعة غير جادة.. إني كنت مع رفقة كانوا غير حريصين على العلم حتى مضى زهرة عمري وريعان شبابي ولم أستفد، والسبب هو فلان فهو الذي يتحمل المسئولية.. السبب هو أستاذي..
إنه يجيد أن يحمل المسئولية لأي شخص كان ولو لم يكن له علاقة بالأمر من قريب أو بعيد، أما أن يكون شجاعاً صادقاً فيحمل نفسه المسئولية فيقول: أنا وإن تربيت في بيت يعج بالفساد والفتنة فإني مكلف شرعاً أن أسمع كلام الله عز وجل وأحضر إلى صلاة الجمعة مع الناس فأسمع ما يقوله خطيب الجمعة.. أدرس في المدرسة وأقرأ وأسمع من الأستاذ وأسمع من هنا وهناك؛ فقد كان هذا كله جديراً بأن يوقظني إن كان في قلبي حياة.. لكنه لا يملك الشجاعة التي تؤهله أن يقول هذا الكلام.
الاعتذار بسوء التربية والوسط الذي يعيش فيه
والآخر الذي يحتج مثلاً بالتربية والوسط الذي عاشه.. يحتج بهذه التربية على كونه عاش هزيلاً.. على كونه عاش مفرطاً في جانب العلم أو الدعوة، هو الآخر غير جاد مع نفسه، وإلا فهو يسمع كما يسمع الآخرون ويقرأ كما يقرأ الآخرون.
معشر الإخوة الكرام! في غزوة بني قريظة حين حكم فيهم النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ رضي الله عنه فحكم فيهم: بأن تقتل مقاتلتهم وأن تسبى ذراريهم.. كان كل من بلغ الحلم قتل، ومع ذلك كان هذا الشاب صغير السن ربما يبلغ الرابعة عشرة أو الثالثة عشرة أو أكثر أو دون ذلك، وقد عاش في بيت يهودي، فأبوه يهودي وأمه يهودية، وعاش في وسط أحياء اليهود، وهو من الصغر يرضع الحقد على هذا الدين.. ويسمع من والده ومن عمه ومن أقاربه ومن أمه.. ومن الوسط الذي هو فيه؛ يسمع ذم هذا الرجل وأنه كذاب غير صادق، ومع ذلك قتل، فهل قتل ظلماً؟
الجواب: لم يقتل ظلماً فهذا حكم الله من فوق سبع سماوات وسيلقى الله عز وجل ويحاسبه.
فلئن كان أحد -معشر الإخوة الكرام- يعذر بسوء التربية فهؤلاء أولى بالعذر من غيرهم ممن عاش في بيئة مسلمة يسمع الكلمة صباح مساء، فلماذا نتهرب من المسئولية ونحملها الآخرين، ونسقط تبعاتنا على غيرنا، تارة على الأب.. تارة على الأستاذ.. تارة على فلان أو فلان من الناس.. تارة على الوسط الذي نعيش فيه، ونتفنن في ارتفاع الرقم الذي يصل إليه الذين يتحملون المسئولية وننسى أشخاصنا وننسى أنفسنا؟
أسلوب التبرير
وهناك أسلوب ثالث: أسلوب التبرير، أن نلتمس الأعذار فنرى أنه ليس هناك شخص بعينه يمكن أن نحمله المسئولية لكن ثمة أعذار كانت هي السبب وراء وقوعنا في ذلك، ففلان الذي وقع في المعصية والانحراف! يرى أنه مسئول عن نفسه، ويرى أن والده أو قريبه أو مربيه لا يتحمل المسئولية، ولكن من جهة أخرى: يرى أنه عاش في عصر بدت أمامه الفتن لا يستطيع دفعها.. يرى أنه عاش في مرحلة أو فترة لم يستطع فيها أن ينتصر على تلك الفتن التي واجهته فهو معذور!
أو فلان الذي لا يستيقظ للصلاة مثلاً: يرى أنه ثقيل النوم.. يرى أن هناك سبباً من الأسباب يمنعه من الاستيقاظ للصلاة!
والآخر الذي يمتنع عن مجال من مجالات الدعوة هو الآخر يفترض ويفتعل أمامه مفاتن يخشى أن تترتب على عمله، ويرى أنه لا ينبغي أن ينزل إلى الواقع.. لا ينبغي أن ينزل إلى الميدان وهكذا يفتعل أعذاراً وأوهاماً يرى أنها عذراً له عن قعوده وتخليه، والعذر الأول والأخير لو كان صريحاً وصادقاً مع نفسه هو الكسل، وليس غير الكسل.
وحين يفشل الفرد في الإسقاط فلا يجد من يحمله المسئولية ويفشل في التبرير لعمله يسلك أسلوباً ثالثاً: أن يتهرب من التفكير في المشكلة أصلاً:
فهو حين يبدأ جلسة صريحة يحاسب فيها نفسه، فحينئذ يكتشف أنه يتحمل المسئولية بنسبة (100%) كما يقال، ولم يجد من يحمله المسئولية، ولم يجد عذراً لنفسه.. يكتشف بعد فترة أنه صار يفكر في موضوع آخر وانساق به التفكير إلى موضوع آخر ونسي القضية الأساس، فما السبب؟
هو دون شعور يتهرب من التفكير في مشكلته.. وإذا أردت أن تتأكد .. فأمسك بأي إنسان تراه في الشارع من الناس المعرضين، بل دون ذلك.. أمسك بإنسان من الصالحين الأخيار الذي تراهم يقعون في أي خطأ من الأخطاء وقل له: أسألك بالله أن تجلس نصف ساعة فتفكر في نفسك، تجده لا يطيق ذلك.. فلا يطيق أن يفكر في نفسه، بل يتهرب من التفكير.
وحتى حين يجلس عازماً على التفكير في نفسه يتهرب فتصده نفسه، لأنه لو فكر في نفسه تفكيراً صادقاً صريحاً لتوصل إلى نتيجة لا مجال للمجادلة فيها أنه هو يتحمل المسئولية فحينئذ تؤنبه نفسه، ويلومه ضميره، وهو لا يستطيع أن يتحمل هذا التأنيب وهذا اللوم، فيختصر الطريق من أوله وينصرف عن التفكير في نفسه وفي مشكلاتها أصلاً.
عقدة البحث عن الحل والعلاج
رابعاً: حين يفشل في ذلك كله تبدو له عقدة البحث عن الحل والعلاج:
فحين يفشل المرء في الحيل السابقة ويتكرر إخفاقه مع نفسه يعمد إلى أسلوب يتصور من خلاله أنه يبحث عن الحل، بل إنه يمارس العلاج وهو يزيد الأمر تعقيداً، فهناك من يقصر في طاعة من الطاعات أو يقع في معصية من المعاصي ويفشل في مجاهدة نفسه واستنقاذها، فيعمد بعد ذلك للبحث عن العلاج، والعبارة: أنا شاب أشكو من كذا وكذا فما الحل؟ هذه العبارة كثيراً ما نراها ضمن أسئلة المحاضرات أو نقرؤها في زاوية الفتاوى والمشكلات التي تعرض في الصحف، أو نقرؤها في رسالة يحملها البريد.
إن هذا لا يعني الاعتراض على السؤال أو طرح المشكلات؛ لكن الواقع أوسع من ذلك، إنك ترى هذا الشاب يطرح السؤال في كل مناسبة ويلقيه في أكثر من لقاء، ويبقى مع ذلك في تطلع إلى الحل.. يبقى يثير السؤال نفسه ويطرحه؛ ولهذا ترى السؤال الذي يطرح في هذا اللقاء هو السؤال الذي يطرح في لقاء الغد وربما من الشخص نفسه وبنفس اللغة: أنا شاب أشكو من هذه المشكلة فما الحل وما العلاج وما الوسيلة؟!
ومكمن الداء هنا: انصراف الشاب عن الحل الحقيقي والعمل على البحث عما وراء ذلك، فالمعصية طريقها واضح لا خفاء فيه، وما نهى الله عز وجل الإنسان إلا عما يطيق، والطاعة طريقها أبلج لا يختلف إلا على من اعوج عن الطريق، فلا يزيغ عن طريق الله عز وجل إلا هالك: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286] .. لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا [الطلاق:7] .
ومع تكرار السؤال والإلحاح فيه دون جدوى يغيب عن بال الشاب أن الحل بيده وأن العلاج ببساطة هو أن يترك ما كان يفعل أو يفعل ما كان يترك.. وأن يجاهد نفسه على ذلك، وحين يفشل في هذا فلا يعني أن هناك عشرين خطوة نسي هو الخطوة العشرين وهي العقدة وهي السبب في عدم الوصول إلى الحل، إن مكمن الداء وأساس المشكلة هو ضعف الإيمان وضعف العزيمة والإرادة.
نماذج من المشكلات المتكررة مع وضوح العلاج
ولنعرض أيها الإخوة نماذج من الأسئلة التي كثيراً ما تصلنا حتى لا نحلق في الخيال.. سؤال وصلني في أحد الدروس: شاب يقول: إنني أعق والدي فما الحل؟
أجيبوني بالله عليكم كيف تجدون الحل لمثل هذه السؤال؟! إني لا أجد أن أقول لهذا الشاب إلا ما قلته له: الحل أن لا تعق والديك، فهل هناك حل آخر غير هذا الحل؟!
سؤال آخر يتكرر أيضاً: إنني أسمع الغناء وأريد أن أتخلص من الغناء فما الحل؟
إنني شاب لي صحبة فاسدة وأريد أن أتخلى عنهم، فكيف أتخلى عنهم؟
الحل: أن تترك سماع الغناء.. الحل: أن تترك الصحبة الفاسدة.. فالحل في يدك، حين تفشل فالمشكلة ليست في أن هناك عشرين خطوة أو ثلاثين خطوة لم نذكرها لك، أو أننا ذكرنا لك هذه الخطوات كلها ونسيت أنت الخطوة الأخيرة وصارت هي العقدة في الحل.
لا أستيقظ لصلاة الفجر فما الوسيلة لذلك؟
مشكلتي أنني أقع في العادة السرية وأجاهد نفسي لكني لا أستطيع، فما الحل؟
وهي قائمة طويلة معشر الإخوة الكرام من الأسئلة تتكرر كثيراً، فيجاب عن السؤال ثم ترى السائل نفسه يعرض السؤال مرة أخرى وبنفس اللغة وعلى الشخص نفسه مرة أخرى، وهكذا يبقى في حلقة مفرغة.
معشر الشباب! إننا لا نرفض أبداً أن يطرح الشاب مشكلاته.. لا نرفض أن يسأل.. أن يبحث عن الحل، وأيضاً لا نعترض على المتحدث حين يجيب وحين يذكر خطوات للحل، لكننا نخشى أن تتحول القضية إلى عقدة يتصور الشاب بعد ذلك أنه معذور؛ لأنه لم يصل إلى الحل.
شاب اتصل علي بالهاتف فجلس معي قرابة الساعة يشكو مشكلته وأعرض له الحل، ثم قال: إني ذهبت إلى فلان من طلبة العلم سبع مرات، وفلان كذا وكذا مرة، وفلان، قلت له: هل أنت مقتنع بعد ذلك مما عرضت لك أنه هو الحل؟ قال: لا، قلت: أتريد حلاً لم تأت به الشريعة الإسلامية، لست أدري؟!
المشكلة هي منك أنت وحدك.. المشكلة أنك إنسان ضعيف الشخصية.. ضعيف الإيمان.. ضعيف العزيمة والإرادة، فلا داعي أن تضيع أوقات الناس وتشغل الناس بهذا السؤال: هذه مشكلتي!
إذا لم تستطع فكن صريحاً واقعياً مع نفسك وقل: إنني ضعيف! وجاهد نفسك ولا داعي لإضاعة الوقت؛ لأنك حين تبحث عن الحلول فإن هذا يهون عليك بشاعة الخطأ الذي وقعت فيه ويخفف عليك من لوم النفس وتأنيبها؛ لأنك تتصور أن هناك حلاً لا يملكه إلا رجل رأيته في المنام ولما تراه إلى الآن في اليقظة، فأنت تسأل بكل مناسبة وكل لقاء علك أن تجد من رأيته في المنام، ولعلك ترى ملك الموت قبل أن ترى هذا الذي رأيته في المنام والذي يملك الحل السحري الذي تتوهمه أنت.
معشر الإخوة الكرام! إنها مخادعة وحيلة نفسية نتخلص بها من عيوبنا، وخير لنا أن نكون صرحاء مع أنفسنا.. أن نكون واضحين فنحدد أسباب المشكلة ونعرف أن مكمن الداء هو تقصيرنا.. هو ضعف إيماننا.. هو ضعف همتنا، وحينئذ نستطيع أن نحل المشكلة أو على الأقل أن نعترف بالمشكلة، وأن نعترف بمسئوليتنا خير لنا من المخادعة والمراوغة.
شاب أرسل لي رسالة يشتكي فيها مشكلته، ويذكر لي أنه أرسل إلى عدد ممن لم يتجاوبوا معه، فأرسلت له رسالة مطولة من ثلاث صفحات وتفاعلت مع مشكلته، وظننت أن هذه الرسالة ستكون الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، فرد علي بالشكر والترحيب بالاهتمام برسالته وأخبرني أنه استفاد مما أعطيته، ثم بعد ثلاثة أشهر أتسلم رسالةً وأقرأ الرسالة فأرى أن الخط ليس غريباً علي، والقلم ليس غريباً علي، وإذا بالاسم نفسه لكن العنوان يختلف، ثم أنظر إلى ظرف الرسالة فأرى أنها أرسلت من مكتب البريد الذي أرسلت منه الرسالة السابقة، فأعود إلى المنزل وأقارنها بالرسالة السابقة وإذا هي هي، فإذا هو الشاب نفسه يرسل لي الرسالة بنفس اللغة وبنفس المشكلة: أنني شاب أشتكي من هذه المشكلة .. ثم حكى لي قصته، فما الحل؟
فرددت عليه قلت له: الآن اقتنعت أن الحل السابق هو ما قلت لك.. إنك باختصار ضعيف الإرادة.. ضعيف العزيمة.. فأرجو أن لا تشغل نفسك بالبحث عن الحل أو البحث عن تلك الخطوات السحرية التي تنتظرها من فلان وفلان، الحل تملكه أنت وحدك، وخير لك أن تكون صريحاً مع نفسك من أن تشغلها بالبحث عن حل ليس هو الحل الناجح والنافع.
مرة أخرى معشر الإخوة الكرام! لسنا نعترض على السؤال وعلى طرح المشكلات وعلى الحديث عنها؛ لكن حين نطرحها يجب أن نطرحها باقتصاد، ويجب أيضاً أن نتصور مكمن الداء وأساس المشكلة، وحين نجيب أيضاً عن السؤال وعن المشكلة فيجب أن نوقف السائل على أن الحل بيده.
وأن الحل ليس هذه الخطوات المرقمة التي أعطيناها إياه.
الورع البارد
وخطوة وأسلوب خامس: هو أسلوب الورع البارد..
في مقابل تلك الحجج السابقة هناك من يدرك تبعات العمل الجاد وتكاليفه على النفس، فلا يطيق الصبر ولا يستطيع المداومة فيصعب عليه أن يصارح نفسه بالكتم ويفاتحها بالخمول، فيتعلل حينئذ بأنه يتورع عن تحمل المسئولية ويخاف من الأمانة.
وكم نرى نماذج ممن يملك القدرة والعلم والوقت فيضيع عمره سدى وأوقاته هدراً، وحين يدعى إلى العمل والمشاركة يعتذر بأنه ليس أهلاً، وأن الأمانة أكبر والمسئولية أشق مع أنه يعلم أن الكثير ممن هم في الميدان دونه بمراحل، ولولا ثقتنا بحسن نوايا هؤلاء وطيب قلوبهم وصدق إيمانهم لقسنا حالهم بحال من قال: ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي [التوبة:49].
التهرب من المسئولية بنقد الآخرين
وأحياناً يسلك صاحبنا مسلكاً آخر: فينتقد العاملين ويتحدث عن زلاتهم وأخطائهم ويرى أن هذا الميدان من العمل فيه من الأخطاء هذا الخطأ والثاني والثالث والرابع.. والميدان الآخر: فيه من الخطأ كذا وكذا، ومن يحاضرون يخطئون في كذا وكذا، ومن يتصدرون لحلق القرآن يخطئون في كذا وكذا، ومن يربون الشباب يخطئون في كذا وكذا .. فيعطيك قائمة من الأخطاء للناس جميعاً، هذه الأخطاء والزلات لم تصدر فعلاً عن قناعة تامة، إنما صدرت من حيلة نفسية.. من رجل كسول لا يستطيع العلم ولا يطيق الصبر على تحمل لأواء الطريق ومشقته، فحينئذ لا مناص له من خيارين لا ثالث لهما:
الخيار الأول: أن يقول: إن أولئك عاملون جادون ناصحون صادقون وأنا رجل كسول.. فاشل.. لا أستطيع العمل، وهذا خيار صعب على النفس أن تقوله، فحينئذ يلجأ إلى الخيار الثاني:
إنه لا يطيق أن يتحمل.. لا يطيق أن يضحي.. لا يطيق أن يهدر تلك الأوقات التي يقضيها مع أقرانه في انبساطة وأحاديث جانبية ويسافر هنا وهناك حيثما أراد .. فحينئذ يعمد إلى حيلة نفسية فينتقد العاملين ويتحدث عن أخطائهم، وقد يتحدث عن أخطاء واقعة فعلاً لكنه هو لا يعمل مثقال ذرة مما يعمله أولئك، والباعث إلى الحديث عن هذه الأخطاء كلها هو أوهام يفترضها أمام نفسه حتى لا يرى أنه مقصر ومهمل ويصارح نفسه بالحقيقة المرة.
معشر الإخوة الكرام! إننا نمارس الكذب كثيراً على أنفسنا.. نمارس الكذب أفراداً، ونمارس الكذب جماعات، أما على المستوى الفردي فإن المرء حين يقع في الخطأ -كما قلنا- تلومه نفسه، وتؤنبه، فهو يحاول أن يتخلص من هذا اللوم، ويحاول أن يتخلص من هذا التأنيب فيفتعل حيلاً نفسية لا شعورية يحاول أن يدفع بها عن نفسه تبعة الخطأ ومرارة تحمل المسئولية، فيمارس الكذب على نفسه، ويحق على هذا السلوك كل شناعة تحق على الكذب.
فلئن كان الكذب فجوراً وشناعةً حين يمارسه المرء على الآخرين، فهو كذلك حين يمارسه على نفسه، بل هو يزيد على ذلك استغفالاً لنفسه وسلوك مسلك النعامة التي تخفي رأسها وتظن أن العدو لا يراها كما يقال في المثل.
إن الفرد يمارس أحياناً أسلوب الإسقاط وتحميل المسئولية على الآخرين، فالطالب الذي يفشل في الامتحان مثلاً لم يكن ذنبه أنه كان مهملاً، بل هو كان جاداً وقد بذل كل الجهد لكن الأستاذ كان فاشلاً، فالأستاذ كان لا يجيد شرح المادة، أو أن أعمال السنة كانت هي السبب ولو كانت نسبتها ضئيلة؟ نعم هي السبب في رسوبه.
وربما لم يكن هذا وذاك ولكن أسئلة الامتحان كان مفاجئة وكانت غامضة، أو كان التصحيح غير دقيق، أو كانت نفسيته يوم الامتحان غير مستقرة فلم يوفق للإجابة، وهكذا يفتعل هذا الطالب ألواناً من الحجج والمعاذير ليقنع نفسه ويخدع نفسه أنه لا يتحمل المسئولية.
أما لو كان جاداً.. وبعبارة أخرى: لو كان صادقاً مع نفسه لاعترف بأنه يتحمل المسئولية أياً كان، فالطالب مثلاً يعرف أستاذه طوال العام، فلئن كان الأستاذ جدلاً لا يجيد شرح المادة فكان بإمكان الطالب أن يعطي هذه المادة جهداً مضاعفاً حتى يعوض القصور الذي يأتي من أستاذه.
والطالب ليست هذه أول مرة يدخل فيها قاعة الامتحان فهو يتوقع أن تأتيه الأسئلة على أي صورة وعلى أي احتمال، المهم: أنه لو كان جاداً وصادقاً وصريحاً مع نفسه لاعترف أنه سبب الفشل.. ولاعترف أنه يتحمل المسئولية.
فهكذا يحمل الآخرين المسئولية، وهذا الكلام يقوله لنفسه ولا يقوله للآخرين.
وهكذا نجد الحجة أيضاً نفسها تتبدى عندما يسلك الشاب سلوكاً غير مستقيم، فيواجه بالمناصحة فيحتج بأن والده لم يحسن تربيته أو أنه نشأ في بيت غير محافظ، بل حين ترى أنت مثلاً شاباً مستقيماً صالحاً خيراً وترى فيه عيباً فتناقشه فيه، كأن يكون هذا الشاب ليس جاداً.. ليس حريصاً على طلب العلم الشرعي.. فيه جانب من جوانب القصور أياً كان هذا الجانب، فتناقشه وتصارحه فماذا سيقول لك؟
سيقول لك: إني تربيت مع مجموعة غير جادة.. إني كنت مع رفقة كانوا غير حريصين على العلم حتى مضى زهرة عمري وريعان شبابي ولم أستفد، والسبب هو فلان فهو الذي يتحمل المسئولية.. السبب هو أستاذي..
إنه يجيد أن يحمل المسئولية لأي شخص كان ولو لم يكن له علاقة بالأمر من قريب أو بعيد، أما أن يكون شجاعاً صادقاً فيحمل نفسه المسئولية فيقول: أنا وإن تربيت في بيت يعج بالفساد والفتنة فإني مكلف شرعاً أن أسمع كلام الله عز وجل وأحضر إلى صلاة الجمعة مع الناس فأسمع ما يقوله خطيب الجمعة.. أدرس في المدرسة وأقرأ وأسمع من الأستاذ وأسمع من هنا وهناك؛ فقد كان هذا كله جديراً بأن يوقظني إن كان في قلبي حياة.. لكنه لا يملك الشجاعة التي تؤهله أن يقول هذا الكلام.
والآخر الذي يحتج مثلاً بالتربية والوسط الذي عاشه.. يحتج بهذه التربية على كونه عاش هزيلاً.. على كونه عاش مفرطاً في جانب العلم أو الدعوة، هو الآخر غير جاد مع نفسه، وإلا فهو يسمع كما يسمع الآخرون ويقرأ كما يقرأ الآخرون.
معشر الإخوة الكرام! في غزوة بني قريظة حين حكم فيهم النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ رضي الله عنه فحكم فيهم: بأن تقتل مقاتلتهم وأن تسبى ذراريهم.. كان كل من بلغ الحلم قتل، ومع ذلك كان هذا الشاب صغير السن ربما يبلغ الرابعة عشرة أو الثالثة عشرة أو أكثر أو دون ذلك، وقد عاش في بيت يهودي، فأبوه يهودي وأمه يهودية، وعاش في وسط أحياء اليهود، وهو من الصغر يرضع الحقد على هذا الدين.. ويسمع من والده ومن عمه ومن أقاربه ومن أمه.. ومن الوسط الذي هو فيه؛ يسمع ذم هذا الرجل وأنه كذاب غير صادق، ومع ذلك قتل، فهل قتل ظلماً؟
الجواب: لم يقتل ظلماً فهذا حكم الله من فوق سبع سماوات وسيلقى الله عز وجل ويحاسبه.
فلئن كان أحد -معشر الإخوة الكرام- يعذر بسوء التربية فهؤلاء أولى بالعذر من غيرهم ممن عاش في بيئة مسلمة يسمع الكلمة صباح مساء، فلماذا نتهرب من المسئولية ونحملها الآخرين، ونسقط تبعاتنا على غيرنا، تارة على الأب.. تارة على الأستاذ.. تارة على فلان أو فلان من الناس.. تارة على الوسط الذي نعيش فيه، ونتفنن في ارتفاع الرقم الذي يصل إليه الذين يتحملون المسئولية وننسى أشخاصنا وننسى أنفسنا؟
وهناك أسلوب ثالث: أسلوب التبرير، أن نلتمس الأعذار فنرى أنه ليس هناك شخص بعينه يمكن أن نحمله المسئولية لكن ثمة أعذار كانت هي السبب وراء وقوعنا في ذلك، ففلان الذي وقع في المعصية والانحراف! يرى أنه مسئول عن نفسه، ويرى أن والده أو قريبه أو مربيه لا يتحمل المسئولية، ولكن من جهة أخرى: يرى أنه عاش في عصر بدت أمامه الفتن لا يستطيع دفعها.. يرى أنه عاش في مرحلة أو فترة لم يستطع فيها أن ينتصر على تلك الفتن التي واجهته فهو معذور!
أو فلان الذي لا يستيقظ للصلاة مثلاً: يرى أنه ثقيل النوم.. يرى أن هناك سبباً من الأسباب يمنعه من الاستيقاظ للصلاة!
والآخر الذي يمتنع عن مجال من مجالات الدعوة هو الآخر يفترض ويفتعل أمامه مفاتن يخشى أن تترتب على عمله، ويرى أنه لا ينبغي أن ينزل إلى الواقع.. لا ينبغي أن ينزل إلى الميدان وهكذا يفتعل أعذاراً وأوهاماً يرى أنها عذراً له عن قعوده وتخليه، والعذر الأول والأخير لو كان صريحاً وصادقاً مع نفسه هو الكسل، وليس غير الكسل.
وحين يفشل الفرد في الإسقاط فلا يجد من يحمله المسئولية ويفشل في التبرير لعمله يسلك أسلوباً ثالثاً: أن يتهرب من التفكير في المشكلة أصلاً:
فهو حين يبدأ جلسة صريحة يحاسب فيها نفسه، فحينئذ يكتشف أنه يتحمل المسئولية بنسبة (100%) كما يقال، ولم يجد من يحمله المسئولية، ولم يجد عذراً لنفسه.. يكتشف بعد فترة أنه صار يفكر في موضوع آخر وانساق به التفكير إلى موضوع آخر ونسي القضية الأساس، فما السبب؟
هو دون شعور يتهرب من التفكير في مشكلته.. وإذا أردت أن تتأكد .. فأمسك بأي إنسان تراه في الشارع من الناس المعرضين، بل دون ذلك.. أمسك بإنسان من الصالحين الأخيار الذي تراهم يقعون في أي خطأ من الأخطاء وقل له: أسألك بالله أن تجلس نصف ساعة فتفكر في نفسك، تجده لا يطيق ذلك.. فلا يطيق أن يفكر في نفسه، بل يتهرب من التفكير.
وحتى حين يجلس عازماً على التفكير في نفسه يتهرب فتصده نفسه، لأنه لو فكر في نفسه تفكيراً صادقاً صريحاً لتوصل إلى نتيجة لا مجال للمجادلة فيها أنه هو يتحمل المسئولية فحينئذ تؤنبه نفسه، ويلومه ضميره، وهو لا يستطيع أن يتحمل هذا التأنيب وهذا اللوم، فيختصر الطريق من أوله وينصرف عن التفكير في نفسه وفي مشكلاتها أصلاً.
رابعاً: حين يفشل في ذلك كله تبدو له عقدة البحث عن الحل والعلاج:
فحين يفشل المرء في الحيل السابقة ويتكرر إخفاقه مع نفسه يعمد إلى أسلوب يتصور من خلاله أنه يبحث عن الحل، بل إنه يمارس العلاج وهو يزيد الأمر تعقيداً، فهناك من يقصر في طاعة من الطاعات أو يقع في معصية من المعاصي ويفشل في مجاهدة نفسه واستنقاذها، فيعمد بعد ذلك للبحث عن العلاج، والعبارة: أنا شاب أشكو من كذا وكذا فما الحل؟ هذه العبارة كثيراً ما نراها ضمن أسئلة المحاضرات أو نقرؤها في زاوية الفتاوى والمشكلات التي تعرض في الصحف، أو نقرؤها في رسالة يحملها البريد.
إن هذا لا يعني الاعتراض على السؤال أو طرح المشكلات؛ لكن الواقع أوسع من ذلك، إنك ترى هذا الشاب يطرح السؤال في كل مناسبة ويلقيه في أكثر من لقاء، ويبقى مع ذلك في تطلع إلى الحل.. يبقى يثير السؤال نفسه ويطرحه؛ ولهذا ترى السؤال الذي يطرح في هذا اللقاء هو السؤال الذي يطرح في لقاء الغد وربما من الشخص نفسه وبنفس اللغة: أنا شاب أشكو من هذه المشكلة فما الحل وما العلاج وما الوسيلة؟!
ومكمن الداء هنا: انصراف الشاب عن الحل الحقيقي والعمل على البحث عما وراء ذلك، فالمعصية طريقها واضح لا خفاء فيه، وما نهى الله عز وجل الإنسان إلا عما يطيق، والطاعة طريقها أبلج لا يختلف إلا على من اعوج عن الطريق، فلا يزيغ عن طريق الله عز وجل إلا هالك: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286] .. لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا [الطلاق:7] .
ومع تكرار السؤال والإلحاح فيه دون جدوى يغيب عن بال الشاب أن الحل بيده وأن العلاج ببساطة هو أن يترك ما كان يفعل أو يفعل ما كان يترك.. وأن يجاهد نفسه على ذلك، وحين يفشل في هذا فلا يعني أن هناك عشرين خطوة نسي هو الخطوة العشرين وهي العقدة وهي السبب في عدم الوصول إلى الحل، إن مكمن الداء وأساس المشكلة هو ضعف الإيمان وضعف العزيمة والإرادة.
ولنعرض أيها الإخوة نماذج من الأسئلة التي كثيراً ما تصلنا حتى لا نحلق في الخيال.. سؤال وصلني في أحد الدروس: شاب يقول: إنني أعق والدي فما الحل؟
أجيبوني بالله عليكم كيف تجدون الحل لمثل هذه السؤال؟! إني لا أجد أن أقول لهذا الشاب إلا ما قلته له: الحل أن لا تعق والديك، فهل هناك حل آخر غير هذا الحل؟!
سؤال آخر يتكرر أيضاً: إنني أسمع الغناء وأريد أن أتخلص من الغناء فما الحل؟
إنني شاب لي صحبة فاسدة وأريد أن أتخلى عنهم، فكيف أتخلى عنهم؟
الحل: أن تترك سماع الغناء.. الحل: أن تترك الصحبة الفاسدة.. فالحل في يدك، حين تفشل فالمشكلة ليست في أن هناك عشرين خطوة أو ثلاثين خطوة لم نذكرها لك، أو أننا ذكرنا لك هذه الخطوات كلها ونسيت أنت الخطوة الأخيرة وصارت هي العقدة في الحل.
لا أستيقظ لصلاة الفجر فما الوسيلة لذلك؟
مشكلتي أنني أقع في العادة السرية وأجاهد نفسي لكني لا أستطيع، فما الحل؟
وهي قائمة طويلة معشر الإخوة الكرام من الأسئلة تتكرر كثيراً، فيجاب عن السؤال ثم ترى السائل نفسه يعرض السؤال مرة أخرى وبنفس اللغة وعلى الشخص نفسه مرة أخرى، وهكذا يبقى في حلقة مفرغة.
معشر الشباب! إننا لا نرفض أبداً أن يطرح الشاب مشكلاته.. لا نرفض أن يسأل.. أن يبحث عن الحل، وأيضاً لا نعترض على المتحدث حين يجيب وحين يذكر خطوات للحل، لكننا نخشى أن تتحول القضية إلى عقدة يتصور الشاب بعد ذلك أنه معذور؛ لأنه لم يصل إلى الحل.
شاب اتصل علي بالهاتف فجلس معي قرابة الساعة يشكو مشكلته وأعرض له الحل، ثم قال: إني ذهبت إلى فلان من طلبة العلم سبع مرات، وفلان كذا وكذا مرة، وفلان، قلت له: هل أنت مقتنع بعد ذلك مما عرضت لك أنه هو الحل؟ قال: لا، قلت: أتريد حلاً لم تأت به الشريعة الإسلامية، لست أدري؟!
المشكلة هي منك أنت وحدك.. المشكلة أنك إنسان ضعيف الشخصية.. ضعيف الإيمان.. ضعيف العزيمة والإرادة، فلا داعي أن تضيع أوقات الناس وتشغل الناس بهذا السؤال: هذه مشكلتي!
إذا لم تستطع فكن صريحاً واقعياً مع نفسك وقل: إنني ضعيف! وجاهد نفسك ولا داعي لإضاعة الوقت؛ لأنك حين تبحث عن الحلول فإن هذا يهون عليك بشاعة الخطأ الذي وقعت فيه ويخفف عليك من لوم النفس وتأنيبها؛ لأنك تتصور أن هناك حلاً لا يملكه إلا رجل رأيته في المنام ولما تراه إلى الآن في اليقظة، فأنت تسأل بكل مناسبة وكل لقاء علك أن تجد من رأيته في المنام، ولعلك ترى ملك الموت قبل أن ترى هذا الذي رأيته في المنام والذي يملك الحل السحري الذي تتوهمه أنت.
معشر الإخوة الكرام! إنها مخادعة وحيلة نفسية نتخلص بها من عيوبنا، وخير لنا أن نكون صرحاء مع أنفسنا.. أن نكون واضحين فنحدد أسباب المشكلة ونعرف أن مكمن الداء هو تقصيرنا.. هو ضعف إيماننا.. هو ضعف همتنا، وحينئذ نستطيع أن نحل المشكلة أو على الأقل أن نعترف بالمشكلة، وأن نعترف بمسئوليتنا خير لنا من المخادعة والمراوغة.
شاب أرسل لي رسالة يشتكي فيها مشكلته، ويذكر لي أنه أرسل إلى عدد ممن لم يتجاوبوا معه، فأرسلت له رسالة مطولة من ثلاث صفحات وتفاعلت مع مشكلته، وظننت أن هذه الرسالة ستكون الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، فرد علي بالشكر والترحيب بالاهتمام برسالته وأخبرني أنه استفاد مما أعطيته، ثم بعد ثلاثة أشهر أتسلم رسالةً وأقرأ الرسالة فأرى أن الخط ليس غريباً علي، والقلم ليس غريباً علي، وإذا بالاسم نفسه لكن العنوان يختلف، ثم أنظر إلى ظرف الرسالة فأرى أنها أرسلت من مكتب البريد الذي أرسلت منه الرسالة السابقة، فأعود إلى المنزل وأقارنها بالرسالة السابقة وإذا هي هي، فإذا هو الشاب نفسه يرسل لي الرسالة بنفس اللغة وبنفس المشكلة: أنني شاب أشتكي من هذه المشكلة .. ثم حكى لي قصته، فما الحل؟
فرددت عليه قلت له: الآن اقتنعت أن الحل السابق هو ما قلت لك.. إنك باختصار ضعيف الإرادة.. ضعيف العزيمة.. فأرجو أن لا تشغل نفسك بالبحث عن الحل أو البحث عن تلك الخطوات السحرية التي تنتظرها من فلان وفلان، الحل تملكه أنت وحدك، وخير لك أن تكون صريحاً مع نفسك من أن تشغلها بالبحث عن حل ليس هو الحل الناجح والنافع.
مرة أخرى معشر الإخوة الكرام! لسنا نعترض على السؤال وعلى طرح المشكلات وعلى الحديث عنها؛ لكن حين نطرحها يجب أن نطرحها باقتصاد، ويجب أيضاً أن نتصور مكمن الداء وأساس المشكلة، وحين نجيب أيضاً عن السؤال وعن المشكلة فيجب أن نوقف السائل على أن الحل بيده.
وأن الحل ليس هذه الخطوات المرقمة التي أعطيناها إياه.
استمع المزيد من الشيخ الدكتور محمد بن عبد الله الدويش - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
الباحثات عن السراب | 2589 استماع |
الشباب والاهتمامات | 2464 استماع |
وقف لله | 2325 استماع |
رمضان التجارة الرابحة | 2257 استماع |
يا أهل القرآن | 2190 استماع |
كلانا على الخير | 2189 استماع |
يا فتاة | 2183 استماع |
الطاقة المعطلة | 2120 استماع |
علم لا ينفع | 2087 استماع |
المراهقون .. الوجه الآخر | 2084 استماع |