قمم ورجال


الحلقة مفرغة

الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه؛ نحمده سبحانه وتعالى هو أهل الحمد والثناء، سبحانه لا نحصي ثناء عليه هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد في الأولى والآخرة.

ونصلي ونسلم على خير خلق الله، وخاتم رسل الله، نبينا محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وعلى من اتبع سنته واقتفى أثره وسار على هداه، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين والدعاة.

أما بعد:

فنسأل الله جل وعلا أن يكتب لنا ولكم الأجر والثواب، وأن يوفقنا للحق والصواب، وأن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأن يملأ قلوبنا بحبه وحب نبيه، وحب كل من يقربنا إلى حبه، وأن يلهمنا طاعته، وأن يقينا ويسلمنا من معاصيه، إنه ولي ذلك والقادر عليه، ونحمد الله جل وعلا على تجدد هذا اللقاء، وموعدنا فيه مع الدرس الخامس والثلاثين بعد المائة الأولى، وعنوان هذا الدرس: قمم ورجال.

ونحن في هذه الأعصر قد ضعف في الغالب إيماننا، ووهت في الأكثر عزائمنا، وتخلخلت عند الكثيرين العزائم، وصار الناس -إلا من رحم الله- يرضون بالأقل الأدنى، ويتركون الأكثر الأعلى؛ لأنهم إما قد شغلوا بسفاسف الأمور وتوافهها، وإما أنهم لم يجدوا على الطريق قدوات تشعل في قلوبهم الحماسة، وتذكي في نفوسهم الغيرة للمبادرة إلى ميادين الخير والسباق إلى قمم العلاء والرفعة، وذرى المجد والعز التي تسنمها أسلافنا رحمة الله عليهم أجمعين.

وفي هذا المقام نطوف في صفحات التاريخ، وفي تراجم الرجال لنقف على بعض سير القوم الذين بلغوا الذرى في معالي الأمور ومهماتها، ونالوا قصب السبق في ميادين الخير وطرقاتها .. من أولئك الأسلاف الذين سجل التاريخ وقائع حياتهم وكلماتهم بمداد من ذهب على صفحات من نور، ذلك أنهم أثمر إيمانهم، وأزهر إسلامهم، وجاءت في سيرتهم تلك المعاني العظيمة والمواقف الكريمة التي ارتقوا بها قمماً كثيرةً في الإيمان والإخلاص والصبر والجهاد والإنفاق وحفظ الأوقات والثبات، ونحو ذلك من من الأمور الكثيرة.

فلعلنا أن نعرج على بعض هذه القمم، ونقف مع بعض رجالها؛ لننظر في هذه القيم والسير ما لعله يحيي قلوبنا، ويهيج إلى مثل هذه المعالي نفوسنا، ولعلها أيضاً قصص وسير تحسن في نفوسنا، وتبقى وتخلد في عقولنا، فنثيرها في مجالسنا، ونذكرها لأحبابنا، ونعلمها ونلقنها لأبنائنا بدلاً من أن تكون القمم اليوم هي القمم التافهة الدنية الرخيصة، والتي نستمع ونقرأ في أحايين كثيرة عنها، فإذا بقمة للفن، وقمة لكذا، وقمة لكذا، وتنصرف الأذهان إلى من شغل هذه القمة، ومن الذي سيخلف صاحب هذه القمة في قمته، وكلها ليس لها من القمم أصل ولا وصل ولا سبب ولا نسب، وإنما هي الموازين التي انعكست، والقيم التي ارتكست، والأهواء التي استحكمت في الناس وشاعت في مجتمعات كثير من المسلمين، نسأل الله عز وجل السلامة منها.

وكنت تصفحت كثيراً في كتب مختلفة من كتب التراجم، بعضها عام وبعضها خاص في مواضيع بعينيها، وكلما قرأت وجدت أن البحر ممتد، وأن الأمواج المتلاطمة كثيرة، وأن مثل هذه السير كبحر لا ساحل له ولا قعر، وأن من أراد أن يعيش في سير السابقين لينظر إلى تراثهم وأمجادهم فإنه ينقضي عمره دون أن يحيط بشيء يسير مما سطروه وخلدوه من المآثر العظيمة؛ ولذا سنمضي مع هذه السير والقمم والرجال على غير نسق ولا نوع من الضبط أو التركيز فيها، وإنما نمضي مع بعض قمم وبعض رجالاتها، ثم نخلص إلى غيرها؛ حتى ننتفع، وليس فيما سأذكره مجال كبير للتعليق، فإن مثل هذه القصص فيها من العظة والعبرة ما يغني عن كثرة التعليق عليها.

أول قمة نشرف عليها: قمة الإخلاص والتجرد لله سبحانه وتعالى؛ التي هي من أزكى ثمار الإيمان، ومن أدل دلائل صدق التوحيد لله سبحانه وتعالى، ومن أرجى أعمال العباد في الدنيا وفي الآخرة عند الله سبحانه تعالى؛ فكم كان أولئك القوم يسرون بأعمالهم، ويتجردون فيها لوجه الله الكريم، ولا يسمحون أن تخالط نفوسهم شيء من العزمات أو الهمم أو المقاصد التي تصرفهم عن وجه الله عز وجل، ولا يدعون إلى العجب بأعمالهم إلى نفوسهم طريقاً، وكما قلت: يضيق المقام عن ذكر مآثر أولئك القوم.

قمم أخلصت لله العبادة

فهذا جعفر بن البرقان يقول: بلغني عن يونس بن عبيد فضل وصلاح، وتقوى وورع، فكتبت إليه قائلاً: يا أخي! بلغني عنك فضل وصلاح، فأحببت أن أكتب إليك، فاكتب إلي بما أنت عليه. يعني: اكتب لي عن حالك وأعمالك حتى أنتفع بها.

فكتب له يونس : أتاني كتابك تسألني أن أكتب إليك بما أنا عليه، وأخبرك أني عرضت على نفسي أن تحب للناس ما تحب لها، وتكره لهم ما تكره لها فإذا هي من ذلك بعيد. ثم عرضت عليها مرةً أخرى ترك ذكرهم إلا من خير، فوجدت أن الصوم في اليوم الشديد الحر بالهواجر أيسر عليها من ترك ذكرهم. فهذا أمري يا أخي، والسلام.

فهو يبين له أنه ما زال في مجاهدة نفسه في ترك الأمور التي يخرج بها عن طاعة الله سبحانه وتعالى.

وهذا علي بن الحسين كان يتخفى في ظلمات الليالي، ويخرج حاملاً على ظهره بعض الأقوات والأرزاق، فيتفقد بها فقراء المدينة؛ فيطرق عليهم أبوابهم بالليل، فيضع عندهم ما يتيسر من صدقته ، ثم يختفي لئلا يعلم بشأنه أحد، فلما مات وانقطع هذا العمل الذي كان يتحدث الناس به عرفوا أنه من صنيعه رحمه الله ورضي الله عنه، وهكذا كانوا يفعلون الأعمال الصالحة التي لا يقدر عليها إلا النادر من الناس، ثم هم مع ذلك يتخفون بها، ويسدونها.

وهذا ابن المبارك إمام عظيم من أئمة التابعين، كان يحج عاماً ويغزو عاماً، وينفق على طلبة العلم الأموال الطائلة.

قال محمد بن المثنى : حدثنا عبد الله سنان ، قال: كنت مع ابن المبارك ومعتمر بن سليمان بطرطوس، فصاح الناس: النفير! أي جاء وقت الجهاد، فخرج ابن المبارك والناس، فلما اصطف الجمعان خرج رومي فطلب البراز، فخرج إليه رجل من المؤمنين فقتله، ثم طلب البراز، فخرج إليه ثان ثم ثالث حتى قتل ستةً من المسلمين، فالتفت إلي ابن المبارك فقال: يا فلان! إن قتلت، فافعل كذا وكذا -أي: أنه يوصيه- ثم حرك دابته بعد أن تخفى وبرز للعلج فقاتله ساعةً ثم قتله، ثم طلب المبارزة، فخرج له علج آخر من الروم فقتله حتى قتل ستةً منهم، ثم طلب البراز فخافوا منه، فضرب دابته وغاب بين الصفين، ثم غاب فلم نشعر بشيء، ثم إذا به يقول لي -في الذي كان-: يا عبد الله! لئن حدثت بهذا أحد وأنا حي، فذكر كلمةً - أي: من الوعيد الشديد- لأنه كان قد اضطر أن يشير إليه إشارةً إن قتلت فافعل كذا وكذا.

وهذا محمد بن كعب القرظي يروي لنا رواية عجيبةً فريدة عن رجل أغفل التاريخ ذكر اسمه؛ لأنه كان من الأتقياء الأخفياء، قال: أصاب الناس في المدينة قحط، فخرجوا يستسقون فلم يسقوا، قال: فكنت متوسداً -متكئاً- على ساريتي في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء رجل من الناس متزراً بإزار وعلى كتفه آخر، فطرح رداءه، ثم جعل يدعو فاستمعت إليه، فقال: يا رب! إن أهل مسجد نبيك صلى الله عليه وسلم استسقوك فلم تسقهم، فأقسمت عليك يا رب إلا سقيتهم، فقال- أي: محمد بن كعب - : مجنون هذا الذي يقسم على الله عز وجل، قال: فما لبثت أن سمعت صوت الرعد، ثم غشي الناس المطر، ثم إذا بالرجل يحمد الله عز وجل، ويقول: من أنا حتى تجب دعوتي، قال: ثم انتصب إلى ساريته، فقام يصلي، فلما خشي الصبح ركع وأوتر، ثم دخل في غمار الناس فصلى الصبح، فخرجت وراءه، فإذا به يرفع ثوبه -من كثرة الماء في الطرقات من المطر الذي أكرم الله عز وجل به العباد- فرفعت ثوبي وتبعته، ثم خفي عليَّ فلم أعرف موضعه.

قال: فلما كانت الليلة الثانية كنت متوسداً ساريتي في المسجد، فجاء الرجل فعرفته، فقام فصلى، فبقي حتى إذا خشي الصبح ركع وأوتر، ثم دخل في غمار الناس فصلى الصبح فتبعته حتى دخل داراً من دور المدينة فعرفتها وعلمتها، ثم جئت في صباح اليوم فإذا بالرجل إسكافي-يصنع الأحذية ويصلحها- فجئت فسلمت عليه فعرفني، فقال: هل لك من نعل فأصلحها، فنظرت إليه، فقلت: ألست صاحبي البارحة والتي قبلها، فغضب علي، وقال: إليك عني، ثم مضى ودخل داره، فذهبت عنه، فانتظرته الثالثة- أي: الليلة الثالثة- فلم يحضر، فذهبت إليه في اليوم الرابع، فما وجدت له أثراً في بيته، فقال لي بعض من حوله: ما صنعت بالرجل؟ قلت: أي شيء كان منه؟ قال: ما لبث بعد أن كلمته حتى دخل فجعل ما عنده من جلد ومتاع، فخرج فلم نعلم به، ولم نر له أثراً.

فكذلك كان أولئك القوم في شدة إخلاصهم لله سبحانه وتعالى وتوقيهم وطلبهم لأن يكون عملهم لوجه الله جل وعلا؛ ولذلك كانت لهم في هذا سير عجيبة عظيمة.

ومن ذلك: أن مسلمة بن عبد الملك جاء وسأل عن حسن أهل البصرة- الحسن البصري - خالد بن صفوان ، فقال له خالد في وصف الحسن : أصلحك الله، أخبرك عنه بعلم، أنا جاره إلى جنبه، وجليسه في مجلسه، وأعلم من قبلي به، يعني: أنا أعرف الناس به، فأي شيء وصف به خالد الحسن رحمه الله؟

قال: أشبه الناس سريرة بعلانية، وأشبههم قولاً بفعل، إن قعد على أمر قام به، وإن قام على أمر قعد عليه، وإن أمر بأمر كان أعمل الناس به، وإن نهى عن شيء كان أترك الناس له، رأيته مستغنياً عن الناس، ورأيت الناس محتاجين إليه.

فقال له مسلمة : حسبك، كيف يضل قوم هذا فيهم؟

ومن عبر هذه المقالة: أن مما أصابنا قلة القدوات الذين يتأسى بهم الناس، ويكونون في القوم كالقلوب النابضة الحية تبث الحياة في الناس، وتعيد إليهم ما سلف من قوة إيمانهم، وصدق يقينهم، وثبات أقدامهم، ولجوئهم إلى ربهم، وافتقارهم إلى بارئهم سبحانه وتعالى.

قمم أخلصت لله طلب العلم

ذكر بعض أهل العلم: أن هشاماً الدستوائي -وهو من العلماء- قال: والله ما أستطيع أن أقول: إني ذهبت يوماً قط لأطلب الحديث أريد به وجه الله عز وجل.

من شدة إخلاصهم كانوا ينكرون على أنفسهم، فعلق الذهبي على هذا تعليقاً ذكر فيه كثيراً من أصناف الناس الذين يخوضون ميدان العلم وليس لهم في الإخلاص حظ ولا نصيب، فقال الذهبي : والله ولا أنا، أي: ولا أنا أستطيع أن أقول: إني أخلص لله عز وجل في هذا.

وقد كانوا مخلصين، لكنهم من شدة إخلاصهم لم يكونوا يجزمون بإخلاصهم، فقد كان السلف يطلبون العلم لله فنبلوا، وصاروا أئمة يقتدى بهم، وطلبه قوم منهم أولاً لا لله، وحصلوه ثم استفاقوا وحاسبوا أنفسهم، فجرهم العلم إلى الإخلاص في أثناء الطريق، وكما قال مجاهد وغيره: طلبنا هذا العلم وما لنا فيه كبير نية، ثم رزق الله النية بعد، وبعضهم يقول: طلبنا هذا العلم لغير الله فأبى أن يكون إلا لله، وهذا أيضاً حسن.

ثم نشروا العلم بنية صالحة، ثم قال الذهبي في أصناف من خلفهم ومن جاء بعدهم ممن لم يطلب العلم لله: ونرى هذا الضرب لم يستضيئوا بنور العلم، ولا لهم وقع في النفوس، ولا لعلمهم كبير نتيجة من العمل، وإنما العالم من يخشى الله، وقوم نالوا العلم وولوا به المناصب، فظلموا وتركوا التقيد بالعلم، وركبوا الكبائر والفواحش؛ فتباً لهم فما هؤلاء بعلماء، وبعضهم لم يتق الله بعلمه، بل ركب الحيل، وأفتى بالرخص، وروى الشاذ من الأخبار، وبعضهم اجترأ فوضع الأحاديث، فهتكه الله، وذهب علمه وصار زاده إلى النار، وهؤلاء الأقسام كلهم رووا من العلم شيئاً كبيراً، وتضلعوا منه في الجملة، فخلف من بعدهم خلف بان نقصهم في العلم والعمل، وتلاهم قوم انتموا إلى العلم في الظاهر ولم يتقنوا منه سوى نزر يسير أوهموا به أنهم علماء فضلاء، ولم يدر في أذهانهم أنهم يتقربون به إلى الله؛ لأنهم ما رأوا شيخاً يقتدى به في العلم، فصاروا همجاً رعاعاً؛ غاية المدرس منهم أن يحصل كتباً مثمنةً يخزنها وينظر فيها يوماً ما، فيصحف ما يريده ولا يقرره، فنسأل الله النجاة والعفو.

كما قال بعضهم: ما أنا بعالم ولا رأيت عالماً، وكان الذهبي يقول هذا وهو في منتصف القرن الثامن الهجري تقريباً، فكيف بمن جاء بعده في أعصرنا هذه؟! نسأل الله عز وجل السلامة.

وكما قلت فإن الأبواب كثيرة في مثل هذا الباب، ومما يؤيد هذا مقالات الأئمة، كما قال بعض السلف لما سئل: ما بال كلام السلف أنفع من كلامنا؟ قال: لأنهم تكلموا لعز الإسلام، ونجاة النفوس، ورضا الرحمن، ونحن كلامنا لعز النفوس، وطلب الدنيا، ورضا الخلق. وهكذا تجد أن الإنسان يتأمل في سير أولئك فيرى مثل هذه المواقف العظيمة الجليلة التي تدل على مثل هذا الباب العظيم من أبواب الخير.

فهذا جعفر بن البرقان يقول: بلغني عن يونس بن عبيد فضل وصلاح، وتقوى وورع، فكتبت إليه قائلاً: يا أخي! بلغني عنك فضل وصلاح، فأحببت أن أكتب إليك، فاكتب إلي بما أنت عليه. يعني: اكتب لي عن حالك وأعمالك حتى أنتفع بها.

فكتب له يونس : أتاني كتابك تسألني أن أكتب إليك بما أنا عليه، وأخبرك أني عرضت على نفسي أن تحب للناس ما تحب لها، وتكره لهم ما تكره لها فإذا هي من ذلك بعيد. ثم عرضت عليها مرةً أخرى ترك ذكرهم إلا من خير، فوجدت أن الصوم في اليوم الشديد الحر بالهواجر أيسر عليها من ترك ذكرهم. فهذا أمري يا أخي، والسلام.

فهو يبين له أنه ما زال في مجاهدة نفسه في ترك الأمور التي يخرج بها عن طاعة الله سبحانه وتعالى.

وهذا علي بن الحسين كان يتخفى في ظلمات الليالي، ويخرج حاملاً على ظهره بعض الأقوات والأرزاق، فيتفقد بها فقراء المدينة؛ فيطرق عليهم أبوابهم بالليل، فيضع عندهم ما يتيسر من صدقته ، ثم يختفي لئلا يعلم بشأنه أحد، فلما مات وانقطع هذا العمل الذي كان يتحدث الناس به عرفوا أنه من صنيعه رحمه الله ورضي الله عنه، وهكذا كانوا يفعلون الأعمال الصالحة التي لا يقدر عليها إلا النادر من الناس، ثم هم مع ذلك يتخفون بها، ويسدونها.

وهذا ابن المبارك إمام عظيم من أئمة التابعين، كان يحج عاماً ويغزو عاماً، وينفق على طلبة العلم الأموال الطائلة.

قال محمد بن المثنى : حدثنا عبد الله سنان ، قال: كنت مع ابن المبارك ومعتمر بن سليمان بطرطوس، فصاح الناس: النفير! أي جاء وقت الجهاد، فخرج ابن المبارك والناس، فلما اصطف الجمعان خرج رومي فطلب البراز، فخرج إليه رجل من المؤمنين فقتله، ثم طلب البراز، فخرج إليه ثان ثم ثالث حتى قتل ستةً من المسلمين، فالتفت إلي ابن المبارك فقال: يا فلان! إن قتلت، فافعل كذا وكذا -أي: أنه يوصيه- ثم حرك دابته بعد أن تخفى وبرز للعلج فقاتله ساعةً ثم قتله، ثم طلب المبارزة، فخرج له علج آخر من الروم فقتله حتى قتل ستةً منهم، ثم طلب البراز فخافوا منه، فضرب دابته وغاب بين الصفين، ثم غاب فلم نشعر بشيء، ثم إذا به يقول لي -في الذي كان-: يا عبد الله! لئن حدثت بهذا أحد وأنا حي، فذكر كلمةً - أي: من الوعيد الشديد- لأنه كان قد اضطر أن يشير إليه إشارةً إن قتلت فافعل كذا وكذا.

وهذا محمد بن كعب القرظي يروي لنا رواية عجيبةً فريدة عن رجل أغفل التاريخ ذكر اسمه؛ لأنه كان من الأتقياء الأخفياء، قال: أصاب الناس في المدينة قحط، فخرجوا يستسقون فلم يسقوا، قال: فكنت متوسداً -متكئاً- على ساريتي في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء رجل من الناس متزراً بإزار وعلى كتفه آخر، فطرح رداءه، ثم جعل يدعو فاستمعت إليه، فقال: يا رب! إن أهل مسجد نبيك صلى الله عليه وسلم استسقوك فلم تسقهم، فأقسمت عليك يا رب إلا سقيتهم، فقال- أي: محمد بن كعب - : مجنون هذا الذي يقسم على الله عز وجل، قال: فما لبثت أن سمعت صوت الرعد، ثم غشي الناس المطر، ثم إذا بالرجل يحمد الله عز وجل، ويقول: من أنا حتى تجب دعوتي، قال: ثم انتصب إلى ساريته، فقام يصلي، فلما خشي الصبح ركع وأوتر، ثم دخل في غمار الناس فصلى الصبح، فخرجت وراءه، فإذا به يرفع ثوبه -من كثرة الماء في الطرقات من المطر الذي أكرم الله عز وجل به العباد- فرفعت ثوبي وتبعته، ثم خفي عليَّ فلم أعرف موضعه.

قال: فلما كانت الليلة الثانية كنت متوسداً ساريتي في المسجد، فجاء الرجل فعرفته، فقام فصلى، فبقي حتى إذا خشي الصبح ركع وأوتر، ثم دخل في غمار الناس فصلى الصبح فتبعته حتى دخل داراً من دور المدينة فعرفتها وعلمتها، ثم جئت في صباح اليوم فإذا بالرجل إسكافي-يصنع الأحذية ويصلحها- فجئت فسلمت عليه فعرفني، فقال: هل لك من نعل فأصلحها، فنظرت إليه، فقلت: ألست صاحبي البارحة والتي قبلها، فغضب علي، وقال: إليك عني، ثم مضى ودخل داره، فذهبت عنه، فانتظرته الثالثة- أي: الليلة الثالثة- فلم يحضر، فذهبت إليه في اليوم الرابع، فما وجدت له أثراً في بيته، فقال لي بعض من حوله: ما صنعت بالرجل؟ قلت: أي شيء كان منه؟ قال: ما لبث بعد أن كلمته حتى دخل فجعل ما عنده من جلد ومتاع، فخرج فلم نعلم به، ولم نر له أثراً.

فكذلك كان أولئك القوم في شدة إخلاصهم لله سبحانه وتعالى وتوقيهم وطلبهم لأن يكون عملهم لوجه الله جل وعلا؛ ولذلك كانت لهم في هذا سير عجيبة عظيمة.

ومن ذلك: أن مسلمة بن عبد الملك جاء وسأل عن حسن أهل البصرة- الحسن البصري - خالد بن صفوان ، فقال له خالد في وصف الحسن : أصلحك الله، أخبرك عنه بعلم، أنا جاره إلى جنبه، وجليسه في مجلسه، وأعلم من قبلي به، يعني: أنا أعرف الناس به، فأي شيء وصف به خالد الحسن رحمه الله؟

قال: أشبه الناس سريرة بعلانية، وأشبههم قولاً بفعل، إن قعد على أمر قام به، وإن قام على أمر قعد عليه، وإن أمر بأمر كان أعمل الناس به، وإن نهى عن شيء كان أترك الناس له، رأيته مستغنياً عن الناس، ورأيت الناس محتاجين إليه.

فقال له مسلمة : حسبك، كيف يضل قوم هذا فيهم؟

ومن عبر هذه المقالة: أن مما أصابنا قلة القدوات الذين يتأسى بهم الناس، ويكونون في القوم كالقلوب النابضة الحية تبث الحياة في الناس، وتعيد إليهم ما سلف من قوة إيمانهم، وصدق يقينهم، وثبات أقدامهم، ولجوئهم إلى ربهم، وافتقارهم إلى بارئهم سبحانه وتعالى.

ذكر بعض أهل العلم: أن هشاماً الدستوائي -وهو من العلماء- قال: والله ما أستطيع أن أقول: إني ذهبت يوماً قط لأطلب الحديث أريد به وجه الله عز وجل.

من شدة إخلاصهم كانوا ينكرون على أنفسهم، فعلق الذهبي على هذا تعليقاً ذكر فيه كثيراً من أصناف الناس الذين يخوضون ميدان العلم وليس لهم في الإخلاص حظ ولا نصيب، فقال الذهبي : والله ولا أنا، أي: ولا أنا أستطيع أن أقول: إني أخلص لله عز وجل في هذا.

وقد كانوا مخلصين، لكنهم من شدة إخلاصهم لم يكونوا يجزمون بإخلاصهم، فقد كان السلف يطلبون العلم لله فنبلوا، وصاروا أئمة يقتدى بهم، وطلبه قوم منهم أولاً لا لله، وحصلوه ثم استفاقوا وحاسبوا أنفسهم، فجرهم العلم إلى الإخلاص في أثناء الطريق، وكما قال مجاهد وغيره: طلبنا هذا العلم وما لنا فيه كبير نية، ثم رزق الله النية بعد، وبعضهم يقول: طلبنا هذا العلم لغير الله فأبى أن يكون إلا لله، وهذا أيضاً حسن.

ثم نشروا العلم بنية صالحة، ثم قال الذهبي في أصناف من خلفهم ومن جاء بعدهم ممن لم يطلب العلم لله: ونرى هذا الضرب لم يستضيئوا بنور العلم، ولا لهم وقع في النفوس، ولا لعلمهم كبير نتيجة من العمل، وإنما العالم من يخشى الله، وقوم نالوا العلم وولوا به المناصب، فظلموا وتركوا التقيد بالعلم، وركبوا الكبائر والفواحش؛ فتباً لهم فما هؤلاء بعلماء، وبعضهم لم يتق الله بعلمه، بل ركب الحيل، وأفتى بالرخص، وروى الشاذ من الأخبار، وبعضهم اجترأ فوضع الأحاديث، فهتكه الله، وذهب علمه وصار زاده إلى النار، وهؤلاء الأقسام كلهم رووا من العلم شيئاً كبيراً، وتضلعوا منه في الجملة، فخلف من بعدهم خلف بان نقصهم في العلم والعمل، وتلاهم قوم انتموا إلى العلم في الظاهر ولم يتقنوا منه سوى نزر يسير أوهموا به أنهم علماء فضلاء، ولم يدر في أذهانهم أنهم يتقربون به إلى الله؛ لأنهم ما رأوا شيخاً يقتدى به في العلم، فصاروا همجاً رعاعاً؛ غاية المدرس منهم أن يحصل كتباً مثمنةً يخزنها وينظر فيها يوماً ما، فيصحف ما يريده ولا يقرره، فنسأل الله النجاة والعفو.

كما قال بعضهم: ما أنا بعالم ولا رأيت عالماً، وكان الذهبي يقول هذا وهو في منتصف القرن الثامن الهجري تقريباً، فكيف بمن جاء بعده في أعصرنا هذه؟! نسأل الله عز وجل السلامة.

وكما قلت فإن الأبواب كثيرة في مثل هذا الباب، ومما يؤيد هذا مقالات الأئمة، كما قال بعض السلف لما سئل: ما بال كلام السلف أنفع من كلامنا؟ قال: لأنهم تكلموا لعز الإسلام، ونجاة النفوس، ورضا الرحمن، ونحن كلامنا لعز النفوس، وطلب الدنيا، ورضا الخلق. وهكذا تجد أن الإنسان يتأمل في سير أولئك فيرى مثل هذه المواقف العظيمة الجليلة التي تدل على مثل هذا الباب العظيم من أبواب الخير.

إذا تأملت قمة أخرى وباباً آخر من الأبواب العظيمة التي افتقدناها وغابت عن حياتنا -إلا من رحم الله- وهي أمر الخشية لله عز وجل، والخوف منه سبحانه وتعالى الذي أقض مضاجع أسلافنا، وأجرى مدامعهم، حتى خدت على وجوههم أخاديد، واسودت منها وجوههم، وكانوا على خوف دائم، وتذكر مستمر لله عز وجل وللآخرة، حتى إن المرء ليعجب مما كانوا عليه من الخوف والخشية رغم ما كانوا عليه من العلم والإيمان، وهكذا لا يزيد الإيمان المرء إلا خشيةً لله عز وجل، ولا تزيده الغفلة إلا بعداً عن الخشية وركوناً إلى قسوة القلب، عياذاً بالله عز وجل.

هذا أبو هريرة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وراوية أحاديثه الشهير؛ لما حضرته الوفاة بكى، فقيل له: ما يبكيك يا أبا هريرة ؟ قال: بعد المفازة، وقلة الزاد، وعقبة كئود، المهبط منها إلى الجنة أو النار.

وهذا الإمام أحمد ، قيل له: كيف أصبحت؟ قال: كيف أصبح من ربه يطالبه بأداء الفرائض، ونبيه يطالبه بأداء السنة، والملكان يطالبانه بتصحيح العمل، ونفسه تطالبه بهواها، وإبليس يطالبه بالفحشاء، وملك الموت يراقب قبض روحه، وعياله يطالبونه بالنفقة؟

فحينئذ لابد أن ينزعج القلب، وأن يكون أقرب إلى الخوف والخشية من الله عز وجل إذا استحضر ذلك وتأمله، وكان ذاكراً له متأملاً فيه.

وهذه قصة فيها نموذج وقمة من قمم الخشية والبكاء من خشية الله عز وجل، وفيها بيان التأثير الذي يكون لأولئك الذين ملئت قلوبهم خوفاً وخشيةً، وذرفت عيونهم دمعاً ثخيناً من خشية الله عز وجل:

هذا مخول يقول: جاءني بهيم العجلي يوماً فقال لي: أتعلم لي رجلاً من جيرانك أو إخوانك يريد الحج ترضاه يرافقني- يريد مرافقاً له ليكون معه في رحلة الحج، وقد كان السفر في تلك الأيام طويلاً-؟ قال: نعم، فذهبت إلى رجل من الحي له صلاح ودين فجمعت بينهما، واتفقا على المرافقة، ثم إنه رجع وقال: كيف لي أن أرافق هذا؟ قلت: وما له؟ قال: حدثت أنه طويل البكاء لا يكاد يفتر، فهذا ينغص علينا سفرنا كله، قال: قلت: ويحك! إنما يكون البكاء أحياناً عند التذكر؛ يرق قلب الرجل فيبكي، أو ما تبكي أنت أحياناً؟ قال: بلى، ولكنه قد بلغني عنه أمر عظيم جداً من كثرة بكائه، قال: قلت: اصحبه فلعلك أن تنتفع به، قلت: أستخير الله، فلما كان اليوم الذي أرادا أن يخرجا فيه وتهيئا، جلس بهيم في ظل حائط، فوضع يده تحت لحيته وجعلت دموعه تسيل على خديه، ثم على لحيته، ثم على صدره، حتى والله رأيت دموعه على الأرض، قال: فقال لي صاحبي: يا مخول قد ابتدأ صاحبك، ليس هذا لي برفيق، قال: قلت: ارفق لعله تذكر عياله ومفارقته إياهم، ولما سمعه قال: والله ما هو بذاك، وما هو إلا أني ذكرت بها الرحلة إلى الآخرة، وعلا صوته بالنحيب، قال: يقول صاحبي: يا أخي! والله ما هي بأول عداوتك لي وبغضك إياي، ما لي ولهذا إنما كان ينبغي أن ترافق بينه وبين داود الطائي وسلام أبي الأحوص حتى يبكي بعضهم إلى بعض حتى يشتفوا أو يموتوا جميعاً، قال: فلم أزل أرفق به، وأقول: ويحك! لعلها خير سفرة تسافرها، قال: وكان كثير الحج، رجلاً صالحاً إلا أنه كان رجلاً تاجراً.. إلى آخره.

فلما رجعا من الحج جئت أسلم على جاري الذي رافق العجلي، فقال: جزاك الله يا أخي عني خير الجزاء، ما ظننت أن في هذا الخلق مثل أبي بكر العجلي، كان والله يتفضل عليَّ في النفقة وهو معدم وأنا موسر، ويتفضل علي في الخدمة وأنا شاب قوي وهو شيخ ضعيف، ويطبخ لي وأنا مفطر وهو صائم، قال: فقلت: فكيف كان أمرك معه في الذين كنت تكره من طويل بكائه؟

قال: ألفت والله ذلك البكاء، وسر قلبي حتى كنت أساعده عليه، حتى تأذى بنا أهل الرفقة- الذين كانوا معهم في القافلة- قال: ثم والله ألفوا ذلك فجعلوا إذا سمعونا نبكي بكوا، وجعل بعضهم يقول لبعض: ما الذي جعلهم أولى بالبكاء منا والمصير واحد؟

قال: فجعلوا والله يبكون ونبكي.

فكان هذا من آثار أولئك القوم، وما كانوا عليه في مثل هذه السير العظيمة الجليلة التي كانوا فيها، والأمر في هذا كما أسلفنا يطول، وقد كان أسلافنا من الأئمة والعلماء والعباد والزهاد عندهم من الأمر ما يضيق ذكره في مثل هذه العجالة.

ثم نطوف أيضاً بباب آخر من الأبواب الجليلة في حياة أسلافنا، وفي القمم التي ارتقوا عليها، ومن هذا: الحفاظ على الوقت:

والوقت أشرف ما عنيت بحفظه وأراه أسهل ما عليك يضيع

عندما ننظر إلى سير أسلافنا رحمهم الله نجد أن الأمر في هذا عجيب غاية العجب، ونرى في سيرهم ما لعل بعض الناس ينكره ويعده من المستحيل، أو من الغرائب التي لا تصدق، أو مما يذكر على سبيل المبالغة، ولم يكن من ذلك شيء، ولكن القوم كانوا أهل جد وعمل، كما كانوا أهل إخلاص وورع وخشية، ومن ثم كانوا يشمرون عن ساعد الجد في حفظ الوقت، وطلب العلم، والأخذ بأسباب العبادة والطاعة لله عز وجل، حتى جعلوا أوقاتهم كلها مشغولةً بالخير والطاعة، ويجد المرء في ذلك عجباً في سير أولئك القوم.

من ذلك: ما روي عن بقية بن مخلد القرطبي صاحب المسند الشهير، وكان من أصحاب الإمام أحمد وأخذ عنه الحديث، يقول عنه حفيده في ترتيب يومه وعمله وعبادته واستثمار وقته: كان جدي قد قسم أيامه على أعمال البر، وكان إذا صلى الصبح قرأ حزبه من القرآن في المصحف سدس القرآن، وكان يختم القرآن في الصلاة في كل يوم وليلة، ويخرج كل ليلة في الثلث الأخير إلى مسجده فيختم قرب انصداع الفجر، وكان يصلي بعد حزبه من المصحف صلاةً طويلةً جداً، ثم ينقلب إلى داره -أي: بعد ورد الصباح الطويل- وقد اجتمع في مسجده الطلبة، فيجدد الوضوء ويخرج إليهم -ليعلمهم ويحدثهم- فإذا انقضت الدروس صار إلى صومعة المسجد فيصلي إلى الظهر، ثم يكون هو المبتدئ بالأذان، ثم يهبط، ثم يسمع إلى العصر -يعني: يحدث الطلبة إلى العصر- ويصلي ويسمع إلى ما بعد صلاة العصر، وربما خرج في بقية النهار فيقعد بين القبور يبكي ويعتبر، فإذا غربت الشمس أتى مسجده ثم يصلي ويرجع إلى بيته فيفطر، وكان يسرد الصوم إلا يوم الجمعة، ويخرج إلى المسجد فيخرج إليه جيرانه فيتكلمون معه في دينهم ودنياهم، ثم يصلي العشاء ويدخل بيته فيحدث أهله، ثم ينام نومةً قد أخذتها نفسه، ثم يقوم.

هذا دأبه إلى أن توفي، وكان جلداً قوياً على المشي، قد مشى مع ضعيف في مظلمة إلى إشبيلية، ومشى مع آخر إلى إلبيريا، ومشى مع امرأة ضعيفة إلى جيان، وهو من أهالي قرطبة. فهذا يوم عملي من أيام أسلافنا رحمة الله عليهم.

وهذا مثل آخر للإمام عبد الغني المقدسي في شأن أوقاته، قال الذهبي في ترجمته: كان لا يضيع شيئاً من زمانه بلا فائدة، فإنه كان يصلي الفجر ويلقن القرآن، وربما أقرأ شيئاً من الحديث تلقيناً، ثم يقوم ويتوضأ ويصلي ثلاثمائة ركعة بالفاتحة والمعوذتين إلى قبل الظهر، وينام نومةً ثم يصلي الظهر، ويشتغل إما بالتسميع أو النسخ -أي: كتابة العلم- إلى المغرب، فإن كان صائماً أفطر، وإلا صلى من المغرب إلى العشاء، ويصلي العشاء وينام إلى نصف الليل أو بعده، ثم قام كأن إنساناً يوقظه، ثم يتوضأ ويصلي إلى قرب الفجر، وربما توضأ سبع مرات أو ثمانية في الليل، وكان يقول: ما تطيب لي الصلاة إلا ما دامت أعضائي رطبةً، ثم ينام نومةً يسيرة إلى الفجر، وهذا دأبه.

وقال عنه ابن أخته: كان الحافظ جامعاً للعلم والعمل، وكان رفيقي في الصبا وطلب العلم، وما كنا نستبق إلى خير إلا سبقني إليه إلا القليل، وكمل الله فضيلته بابتلائه بأذى أهل البدعة وعداوتهم، ورزق العلم وتحصيل الكتب الكثيرة، إلا أنه لم يعمر.

وهذا ابن عساكر أحد كبار أئمة المسلمين في التصنيف، وقد صنف من الكتب ما يعجز كثير منا عن أن يقرأها في حياته كلها، فله تاريخ دمشق الذي تم طبعه بالطباعة الحديثة التي معنا، فإنه يبلغ نحواً من ستين مجلداً أو أكثر، وقد صنف من الكتب العظيمة الكبيرة ما الله سبحانه وتعالى به عليم، وهذا الحافظ الجليل يدلنا عمله على ما كان عنده من اغتنام للأوقات، وما كان له من استثمار لها.

ومثله أيضاً ابن عقيل الحنبلي الشهير صاحب كتاب الفنون الذي يعد من أكبر كتب أهل الإسلام، كان يقول عن نفسه: إني لا يحل لي أن أضيع ساعةً من عمري، حتى إذا تعطل لساني عن مذاكرة ومناظرة، وبصري عن مطالعة، أعملت فكري في حال راحتي وأنا منطرح، فلا أنهض إلا وقد خطر لي ما أسطره، وإني لأجد من حرصي على العلم وأنا في عقد الثمانين -يعني: بعد الثمانين- أشد مما كنت أجده وأنا ابن عشرين سنة، وأنا أقصر بغاية جهدي أوقات أكلي حتى أختار سف الكعك -الكعك يجعله دقيقاً- وتحسيه بالماء على الخبز لأجل ما بينهما من تفاوت المضغ توفراً على المطالعة، أو تسطير فائدة لم أدركها فيه، وإن أجل تحصيل عند العقلاء بإجماع العلماء هو الوقت، فهو غنيمة تنتهز فيها الفرص، فالتكاليف كثيرة والأوقات خاطفة.

وابن الجوزي رحمه الله أيضاً هو من كبار المصنفين في تاريخ الإسلام، كان يروي عن ابن عقيل أنه كان دائم الاشتغال بالعلم، وكان له الخاطر العاطر، والبحث عن الغوامض والدقائق، وهكذا نجد أن الباب في هذا يتسع، والمقام فيه يطول، والأخبار فيه كثيرة جداً.

ننتقل إلى باب آخر من الأبواب الجليلة العظيمة التي تتصل بالإنفاق في أبواب الخير المختلفة التي كان أسلافنا رحمهم الله تعالى يحرصون عليها ويرون أنها من الأمور المهمة التي يحتاجون إلى تذكرها، والتواصي والعمل بها.

فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه الصحابي الجليل الشهير يختبر بعض أصحابه يقول مالك الدار مولى عمر : أمرني عمر وأعطاني أربعمائة دينار، وقال: اذهب بها إلى أبي عبيدة ، ثم امكث ساعةً في البيت حتى تنظر ما يصنع بها، فذهب بها الغلام، فقال: يقول لك أمير المؤمنين خذ هذه، فقال أبو عبيدة : وصله الله ورحمه، ثم قال: تعالي يا جارية، اذهبي بهذه السبعة إلى فلان، وبهذه الخمسة إلى فلان. حتى أنفذها -أي: حتى فنيت كلها- فرجع الغلام إلى عمر وأخبره، فوجده قد أعد مثلها -أربعمائة أخرى- لـمعاذ بن جبل فأرسله بها إليه، فقال معاذ : وصله الله، يا جارية! اذهبي إلى بيت فلان بكذا وإلى بيت فلان بكذا، فاطلعت امرأة معاذ ، فقالت: ونحن والله مساكين فأعطنا، ولم يبق في الخرقة إلا ديناران فدحا بها إليها، ورجع الغلام فأخبر عمر فسر بذلك، وقال: إنهم إخوة بعضهم من بعض.

وهكذا نجد أن السيرة تتوالى في هذا، وتكثر وتعظم عند الصحابة ومن جاء بعدهم، ومثل ذلك ما ورد في سيرة طلحة عندما جاءه مال من حضرموت فجعل يقسمه، وجاءه مال آخر في آخر وقت النهار، فجعل يريد أن ينام حتى يصبح، فقال لزوجته: أي شيء يصنع إنسان معه مثل هذا المال؟ فقالت له: إذا أصبحت فاقسمه، فقال: إنك خيرة بنت خير، أو إنك فاضلة بنت فاضل، وكانت زوجته أم كلثوم بنت أبي بكر ، فلما أصبح قسم حتى نسي نفسه وأهله.

ومن ذلك أيضاً ما كان يصنعه السلف في الإنفاق على طلب العلم، فإنهم لم يكونوا يدخرون المال للأثاث والرياش، ولا للطعام والشراب وإنما كانوا ينفقونه في سبيل الله ولطلب العلم وتحصيله، كما في سيرة عبد الرحمن بن أبي ربيعة الذي نعلم من سيرته أنه كان إماماً من أئمة أهل العلم بالمدينة، وكان شيخاً للإمام مالك ، فقد خرج أبوه إلى الغزو والجهاد وخلف عند أمه ثلاثين ألفاً وقال لها: أنفقي بها على نفسك وعلى ولدك، ثم لما رجع من الغزو والجهاد بعد فترة من الزمن سألها عن المال، فقالت: يكون خيراً إن شاء الله، امض إلى الصلاة ثم عد، فلما ذهب إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد حلقة من حلق العلم وفيها رجل يحدث والناس حوله يأخذون عنه ويتلقون منه، فسر بهذا المنظر وأعجب بهذا العالم، ثم مضى إلى زوجه ويسأل مرةً أخرى عن المال؟ فقالت له: ماذا رأيت في المسجد؟ قال: رأيت كذا وكذا، قالت: أيسرك أن يكون عندك ثلاثون ألفاً أو يكون لك ابن مثل هذا؟ قال: بل مثله عندي أعظم من أمثالها، فقالت: فإني أنفقتها كلها في تعليم ابنك، فهذا هو ابنك عبد الرحمن بن أبي ربيعة!

وهكذا كانوا ينفقون في هذا الباب؛ حتى إن جل ما كان عندهم من تحصيل الأموال لا يؤخرونه إذا كان في سبيل تحصيل العلم وطلبه، فهذا علي بن عاصم كما في ترجمته في تذكرة الحفاظ للذهبي ، وهو علي بن عاصم الواسطي مسند العراق الإمام الحافظ الكبير كان يقول: دفع إليّ أبي مائة ألف درهم، وقال: اذهب فلا أرى وجهك إلا بمائة ألف حديث.

وهذا لا شك أنه من أعظم الأبواب المهمة التي تميز بها أسلافنا عما هو في واقعنا.

وهذه أيضاً سيرة أخرى للإمام هشام بن عبيد الله الرازي كما ذكر الذهبي في تذكرة الحفاظ، قال موسى بن نصر : سمعته يقول: لقيت ألفاً وسبعمائة شيخ، خرج مني في طلب العلم سبعمائة ألف درهم، أي: في تحصيل العلم وطلبه.

فتجد أن هذه الثروات الطائلة كانوا ينفقونها في طلب العلم؛ لما له من عظيم الأثر وعظيم الاهتمام والعناية عندهم، وربما تجد الناس اليوم ينفقون على أمور من الكماليات والتوافه التي ينبغي أن يترفعوا عنها ما هو أضعاف أضعاف مثل هذا، فإذا جاء الأمر للإنفاق في سبيل الله أو تحصيل العلم أو شراء الكتب أو نحو ذلك استعظموا هذا الذي ينفقونه.

وقد كان من عجائب السلف أنهم ربما أرملوا وبلغوا الشدة العظيمة من الحاجة والفاقة، ولم يكونوا يفرطون في شيء من العلم إلا في أشد الظروف وأحلكها.

هذا موقف فيه عظة وعبرة يبين لنا عظمة ما كانوا يحرصون عليه من العلم، وينفقون فيه من المال .. موقف من سيرة أبي الحسن الفالي المحدث الأديب الشاعر الذي كانت وفاته سنة ثمان وأربعين وأربعمائة للهجرة، تقول الرواية عنه: كانت عنده نسخة من كتاب الجمهرة لـابن دريد في غاية الجودة، فدعته الحاجة إلى بيعها، فاشتراها الشريف المرتضى أبو القاسم بستين ديناراً، وتصفحها فوجد بها أبياتاً بخط بائعها أبي الحسن الفالي المذكور، وهذه الأبيات تقول:

أنست بها: يعني بهذا الكتاب.

أنست بها عشرين حولاً وبعتها فيا طول وجدي بعدها وحنيني

وما كان ظني أنني سأبيعها ولو خلدتني في السجون ديوني

ولكن لضعف وافتقار وصبية صغار عليهم تستهل شئوني

فقلت ولم أملك سوابق عبرتي مقالة مكوي الفؤاد حزين

وقد تخرج الحاجات يا أم مالك كرائم من رب بهن ضنين

كأنما يكون فقد أحد أبنائه، فلما رأى الشريف هذه الأبيات مكتوبةً عليها رد عليه نسخته وترك له دنانيره.

وهكذا نجد هذا الباب من الأبواب في الإنفاق في طلب العلم قمة من القمم التي رقى إليها كثير من الرجال من أسلافنا رحمة الله عليهم.

هذه قمة أخرى تتعلق بالعلم وطلبه، والتعلق به، والتفرغ له، وإنفاق الأوقات في تحصيله حتى بلغوا العجب العجاب في مثل هذه الميادين، وحتى حفظ العلماء منهم ليس العشرات ولا المئات ولا الآلاف، بل مئات الآلاف من الأحاديث والروايات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحتى بلغوا الغاية في دقة الحفظ وتجويده، والتفرغ للعلم والتعلق به، ولسنا بصدد ذكر ما يتعلق بالحفظ والعلوم وإن كان هذا باباً واسعاً، حتى إن الإمام أحمد رحمه الله سئل عن الحافظ هل يسمى حافظاً إذا حفظ مائة ألف؟ قال: لا، قالوا: مائتي ألف؟ قال: لا، حتى بلغوا أربعمائة ألف؟ قال، لا، قالوا: خمسمائة ألف؟ قال: لعله. أي: لعله أن يكون حافظاً أو يسمى حافظاً.

وكان عند الإمام أحمد مائتا جراب كلها فيها نسخ من الأحاديث عن سفيان بن عيينة وليس فيها رواية، فكانوا يخرجونها له، فكان يعرف كل حديث منها، ويقول: هذا حدثني به فلان عن سفيان ، وكلها عن سفيان ، لكنه يحفظ إسناده لها عن سفيان ويميز بينها مع كثرتها، وكانوا يحفظون من العلوم والأحاديث واللغة - كما قلنا- ما لا تبلغه عقولنا تصوراً؛ لقلة هممنا وضعف عزائمنا في مثل هذه الأبواب، ولكني أذكر شيئاً مما يتعلق بتعلقهم بالعلم، وعظيم ارتباطهم به في صور وأحوال شتى، فهذا أبو علي الفارسي الحسن بن أحمد الفسوي الذي كانت وفاته سنة سبع وسبعين وثلاثمائة للهجرة: وقع حريق ببغداد، فذهب به جميع علم البصريين، واحترقت كثير من كتبهم، قال هذا: وكنت كتبت ذلك كله بخطي، وقرأته على أصحابنا، فلم أجد من الصندوق الذي احترق شيئاً البتة، إلا نصف كتاب الطلاق عن محمد بن الحسن ، قال: سألته عن سلوته وعزائه. يعني: ما الذي حصل له عندما احترقت كتبه؟ واليوم ربما نجد بعض الطلاب بعد الاختبارات يمزقون الكتب بأنفسهم، أو يرمونها في الطرقات، وكأنها لا قيمة لها عندهم، بل هي في الحقيقة لا قيمة لها عندهم، قال: سألته عن سلوته وعزائه في هذا، فنظر إلي عجباً، فقال: بقيت شهرين لا أكلم أحداً حزناً وهماً، وانحدرت إلى البصرة لغلبة الفكر علي، وأقمت فيها مدةً ذاهلاً متحيراً. من شدة حزنه كأنما فقد ابناً من أبنائه، وكما قال القائل:

وفقد الكتاب كفقد الصواب فيا هول من قد أضاع الكتب

وهذا لعل فيه تذكرة لطلبة العلم أن يحافظوا على كتبهم.

وهذا ابن جرير إمام من أئمة العلماء المشهورين، وصاحب التفسير والتاريخ، وصاحب الكتب العظيمة كتهذيب الآثار وغيره؛ الذي نعلم من علمه أنه قال: تنهضون لكتابة التاريخ؟ قالوا: كم يكون؟ قال: يكون ثلاثين ألف صفحة، قالوا: إن ذلك أمر تفنى فيه الأعمار، وتعجز عن مناظرته الأبصار، فلما رأى ضعف همتهم، اختصره في ثلاثة آلاف، وهذه الثلاثة آلاف هي تاريخ الطبري الذي بين أيدينا مطبوعة في نحو ستة أو سبعة مجلدات، هذا المختصر الذي اختصره لهم؛ لأنهم كانت همتهم ضعيفة في زمنه، هذا ابن جرير يروي عن نفسه ما قلت.

سنذكر بعض ما يتعلق بطلب العلم من القصص، وتعلقهم به، يقول ابن جرير : مضيت يوماً إلى النخاسين الذين يبيعون الإماء والرقيق في طريقي، ورأيت جارية تعرض للبيع، حسنة الصورة كاملة الوصف، قال: فوقعت في قلبي، ثم مضيت إلى دار أمير المؤمنين الراضي بالله ، فقال لي: أين كنت الساعة؟ فعرفته- بالخبر- فأمر بعض أسبابه-أي: غلمانه- فمضى فاشتراها وحملها إلى منزلي، فجئت فوجدتها، فعلمت الأمر كيف جرى، فقلت لها: كوني فوق- حتى يتبين براءة رحمها من الحمل -قال: وكنت أطلب مسألةً من العلم، فإذا بها قد اختلت علي- تشوش فكره- فاشتغل قلبي عن علمي، فقلت للخادم: خذها وامض بها إلى النخاسين، فليس قدرها أن تشغل قلبي عن علمي، فأخذها فقالت له: دعني أكلمه بحرفين، فقالت: أنت رجل لك محل وعقل، وإذا أخرجتني ولم تبين ذنبي لم آمن أن يظن الناس بي ظناً قبيحاً، فعرفني ذنبي قبل أن تخرجني، فقال لها: ما لك عندي عيب غير أنك شغلتيني عن علمي، فقالت: هذا أسهل عندي. بالنسبة لها هذا أمر سهل؛ لأنها ليست تعرف مثل هذه الأمور ولا مثل هذه المسائل.

ومن لطيف ما يذكر من تعلقهم بالعلم وحرصهم عليه: أن أبا عبيد القاسم بن سلام الإمام الشهير كان يفكر في مسألة؛ فأقضت مضجعه طوال ليله فلم ينم، فكلما اضطجع قام، حتى إذا فتح له فيها قام يقفز ويصيح فرحاً بها، وما زال كذلك حتى أصبح. من شدة فرحهم بمسألة من مسائل العلم تفتح عليهم، أو أمر يتصل بهم في مثل هذا، وكانوا يعرفون للعلم قدره ومنزلته، وأنا كما ذكرت سأشير إلى ما يتعلق بالعلم من جوانب ليست هي من صلب العلم؛ لأن صلب العلم لو تحدثنا عنه لكان الأمر يطول بنا وهو أمر قد سلمنا فيه بعجزنا، ولكن أذكر بعض الملح التي تبين ما هو أعظم من مجرد الحفظ والعلم، وشدة تعلقهم به وكونه هو مدار حياتهم.

فهذا الحافظ ابن عساكر يروي هذه الرواية يقول: سمعت ابن الأكفاني يحكي عن بعض مشايخه أن أبا الحسن بن داود كان إمام داريا- منطقة قريبة من دمشق- فمات إمام جامع دمشق، فخرج أهل البلد إلى داريا ليأتوا به- أي ليكون إماماً بعد الإمام الذي مات، فماذا صنع أهل داريا؟- قال: فلبس أهل داريا السلاح، وقالوا: لا نمكنكم من أخذ إمامنا، فقال أبو محمد عبد الرحمن بن نصر وكان رجلاً حكيماً: يا أهل داريا، ألا ترضون أن يسمع في البلاد أن أهل دمشق احتاجوا إلى إمامكم، هذا فخر عظيم أن أهل دمشق جاءوا يطلبون إمامكم، وافتقروا إليه، فقالوا: قد رضينا، وهذه صورة من صور المجتمع الذي كان يعيش فيه أولئك القوم في سير وأماكن وتواريخ مختلفة.

ومن ذلك أيضاً: الضنك والعناء الذي لقيه بعضهم في تحصيل العلم، وهذا باب واسع عظيم قد أفرده بعض المعاصرين بالتصنيف، فأفرد فيه كتاباً هو من نفائس الكتب المعاصرة التي ينبغي لطالب العلم أن يقرأ فيها، وأن يحرص على اقتنائها، وهو صفحات من صبر العلماء على تحصيل العلم وشدائده للشيخ عبد الفتاح أبو غدة حفظه الله، من ذلك قصة المحمدين الثلاثة، وقد أوردها الذهبي في السير، وهم:

محمد بن جرير الطبري ، ومحمد بن إسحاق بن خزيمة ، ومحمد بن نصر المروزي ، وهؤلاء كل واحد منهم إمام كبير من أعظم وأشهر الأئمة والعلماء، هؤلاء الثلاثة توافقوا في طلب العلم، حتى أرملوا وافتقروا، ولم يبق عندهم ما يقوتهم، وأضر بهم الجوع حتى كادوا أن يهلكوا، فماذا صنعوا؟

اجتمعوا ليلةً في المنزل الذي كانوا يأوون إليه، فاتفق رأيهم أن يستهموا ويضربوا القرعة، فمن خرجت عليه القرعة سأل الناس لأصحابه الطعام، فخرجت القرعة على محمد بن إسحاق بن خزيمة ، فقال لأصحابه: أمهلوني حتى أتوضأ وأصلي صلاة الاستخارة، وبينما هو في أثناء الصلاة إذا بالشموع ورجل من قبل والي مصر أحمد بن طولون يدق عليهم الباب، ففتحوا، فنزل عن دابته، فقال: أيكم محمد بن نصر ؟ فقالوا: هو ذا. وأشاروا إليه، فأخرج صرةً فيها خمسون ديناراً فدفعها إليه، ثم قال: أيكم محمد بن جرير ؟ قالوا: هذا. فأخرج صرةً فيها خمسون دينار وأعطاها إياه، ثم قال: أيكم محمد بن إسحاق ؟ قال: هو ذا يصلي، فلما فرغ من صلاته دفع إليه صرةً فيها خمسون دينار، ثم قال: أيكم محمد بن هارون ؟ وكان رابعاً لهم أيضاً، فقيل: هو ذا، فدفع إليه مثلها، ثم قال: إن الأمير كان قائلاً بالأمس -نائم في وقت الظهر- فرأى في المنام قائلاً يقول: إن المحامد -أي المحمدين هؤلاء- طووا كشحاً جياعاً فأنفذ إليهم هذه الصرر، وهو يقسم عليكم إذا نفذت أن تبعثوا إليه ليزيدكم، فهذا أيضاً مشهد أو صورة من هذه الصور الكثيرة.

ننتقل إلى باب آخر من الأبواب؛ وفي كل باب من هذه الأبواب قصص كثيرة، ولعلنا نقف عند باب من الأبواب العظيمة المهمة، وهو: باب الثبات والصبر عند الفتن والشدائد، ورب رجل صبر في الضراء، ولكنه عند السراء صار عكس ذلك، ورب رجل كانت له مواقف في الثبات عند الشدائد، ولكنه عند الإغواء والإغراء لا يثبت، ولكنا نقف هذه الوقفات لنرى بعض الصور التي في سير أولئك القوم مما يدلنا على أنهم بلغوا فيها الذروة والغاية في الثبات.

ومن أول ما نبدأ به: قصة عبد الله بن حذافة السهمي رحمه الله ورضي الله عنه، وهو الصحابي الجليل المشهور الذي نعلم من قصته ما كان من أسره، ثم إن ملك النصارى عرض عليه أن يتنصر وأن يعطيه نصف ملكه، فقال: لو كان ملكك ومثله معه وملك العرب ما رجعت عن ديني، فقال: اقتلوه، ثم أمرهم أن يصلبوه ثم يضربوا عن يمينه وشماله، فما تحرك عن موقفه وهو يعرض عليه، ثم أتى بأسيرين من أسارى المسلمين فغمسهما في قدر فيها زيت يغلي فيدخلان لحماً ويخرجان عظماً، فبكى رضي الله عنه ودمعت عينه، فقال: إلي به- لعله أن يكون قد رجع عن موقفه- فقال: كلا، وإنما هي نفس واحدة تلقى الساعة فتذهب، فكنت أشتهي أن يكون بعدد شعر رأسي أنفس تلقى كلها في سبيل الله عز وجل، فلما عجز عنه الطاغية قال له: هل لك أن تقبل رأسي وأخلي عنك، قال له عبد الله : وعن جميع أسارى المسلمين؟ قال: نعم، فقبل رأسه وقدم بالأسارى على عمر فأخبره خبرهم، فقال عمر : حق على كل مسلم أن يقبل رأس عبد الله بن حذافة وأنا أبدأ، فقبل رأسه، رضي الله عنهم أجمعين، فثبت في مثل هذه المحنة العصيبة الشديدة.

وكذلك كان ثباتهم في مثل هذه المواقف العظيمة واضحاً وجلياً كما في قولة أخرى يذكرها لنا شريح القاضي الذي كان من أئمة التابعين ومن المشاهير المعروفين من السلف الصالح رضوان الله عليهم، ونجد أيضاً قصصاً كثيرة في هذا، ومن ذلك الثبات عند فتنة الإغراء، وخاصةً فتنة الإغراء بالمال.

هذه الرواية يرويها عبد الرزاق ، عن النعمان بن زبير الصنعاني : أن محمد بن يوسف بن يحيى بعث إلى طاوس بسبعمائة دينار أو خمسمائة دينار، وقيل للرسول: إن أخذها الشيخ منك فإن الأمير سيحسن إليك ويكسوك، يعني أن يقبل هدية الأمير، فقدم بها على طاوس، فأراده على أخذه فأبى، فغافله ثم رمى بها في كوة البيت؛ لأن الرسول يريد أن يقول: قد أخذها منه حتى ينال مكافئة الأمير، فرجع وقال لهم: قد أخذها، ثم بلغهم عن طاوس شيء يكرهونه من مخالفة أو قول، فقال: ابعثوا إليه فليبعث إلينا بمالنا، فجاءه الرسول، فقال: أين المال الذي بعث به الأمير إليك؟ قال: ما قبضت منه شيئاً، فرجع الرسول، وعرفوا أنه صادق، فبعثوا إلى الرجل الأول وبعثوه إلى طاوس ، قال: أين المال الذي جئتك به؟ قال: هل قبضت منك شيئاً؟ قال: لا، فنظر حيث وضعه فوجده، فإذا بالصرة قد بنى العنكبوت عليها، فذهب بها إليه، أي: ما نظر إليها ولا التفت، ولا رأى منها شيئاً.

وهكذا نجد أيضاً في هذا الباب قصصاً كثيرة لكثير من أعلام السلف رضوان الله عليهم.

ومن صور الثبات أيضاً عند مثل هذه الفتن: أن سليمان بن عبد الملك قدم المدينة إبان ولاية عمر بن عبد العزيز عليها، فصلى سليمان بالناس الظهر، ثم فتح باب المقصورة واستند إلى المحراب واستقبل الناس بوجهه، فنظر إلى صفوان بن سليم ، فقال لـعمر : من هذا، ما رأيت أحسن سمتاً منه؟ فقال له عمر : هذا صفوان ، قال سليمان : يا غلام كيس فيه خمسمائة دينار، فأتاه به، فقال لخادمه: اذهب به إلى ذلك القائم، يعني: عند المسجد أمامه، فأتى حتى جلس إلى صفوان وهو يصلي، ثم سلم فأقبل عليه، فقال: ما حاجتك؟ قال: يقول أمير المؤمنين: استعن بهذه على زمانك وعيالك، قال صفوان : لست الذي أرسلت إليه، فقال له: ألست صفوان بن سليم ؟ قال: بلى، قال: فإليك أرسلت، قال: اذهب فاستثبت، فولى الغلام، وأخذ صفوان نعليه وخرج، فلم ير بها حتى خرج سليمان من المدينة؛ حتى لا يتعرض لمثل هذا الموقف.

كما أن هناك جوانب أخرى من الثبات عند فتنة النساء على وجه الخصوص، فإن هذه فتن عظيمة كان فيها لأسلافنا من العباد وأهل الصلاح مواقف.

قال محمد بن إسحاق: نزل السري بن دينار في درب بمصر، وكانت فيه امرأة جميلة فتنت الناس بجمالها، فعلمت به المرأة، فقالت: لأفتننه، فلما دخلت من باب الدار تكشفت وأظهرت نفسها، فقال: ما لك؟ فقالت: هل لك في فراش وطي، وعيش رخي، فأقبل عليها وهو يقول:

وكم ذي معاص نال منهن لذة ومات فخلاها وذاق الدواهيا

تصرم لذات المعاصي وتنقضي وتبقى تباعات المعاصي كما هيا

فيا سوأتا والله راء وسامع لعبد بعين الله يغشى المعاصيا

وأعجب من هذا قصة يذكرها أبو الفرج : أن امرأةً جميلة كانت بمكة، وكان لها زوج، فقالت: هل يرى أحد وجهي وجمالي ولا يفتن بي، كانت تفرح بذلك، فقال لها: نعم. عبيد بن عمير ، فقالت: أتأذن لي في فتنته، فأذن لها، فأتت لـعبيد بن عمير كالمستفتية في ناحية من المسجد الحرام، فكشفت عن وجهها، فقال: استتري، فقالت: إني قد فتنت بك، فقال لها: إني سائلك عن شيء، فإن أنت صدقتني نظرت في أمرك، قالت: لا تسألني عن شيء إلا صدقتك، فقال: أخبريني: لو أن ملك الموت أتاك ليقبض روحك، أكان يسرك أن أقضي لك هذه الحاجة؟ قالت: اللهم لا، قال: صدقت، قال: فلو دخلت القبر وأجلست للمسائلة أكان يسرك أني قضيت لك هذه الحاجة؟ قالت: اللهم لا، قال: صدقت، قال: فلو أن الناس أعطوا كتبهم ولا تدرين تأخذين كتابك بيمينك أم بشمالك، أكان يسرك أن أقضي لك هذه الحاجة؟ قالت: لا، قال: صدقت، قال: فلو أردت المرور على الصراط ولا تدرين هل تنجين أو لا تنجين، أكان يسرك أني قضيتها لك؟ قالت: لا، قال: صدقت، قال: فلو جيء بالميزان وجيء بك فلا تدرين أيخف ميزانك أم يثقل، أكان يسرك أني قضيتها لك؟ قالت: اللهم لا، قال: صدقت، قال: فلو وقفت بين يدي الله للمسائلة، أكان يسرك أني قضيتها لك؟ قالت: اللهم لا، قال: صدقت، قال: اتقي الله فقد أنعم الله عليك وأحسن إليك، قال: فرجعت إلى زوجها، فقال: ما صنعت؟ قالت: أنت بطال ونحن بطالون -البطال: الذي ليس عنده عمل- فأقبلت على الصلاة والصوم والعبادة، وكان زوجها يقول: ما لي ولـعبيد بن عمير أفسد علي امرأتي، كانت في كل ليلة عروساً، فصيرها راهبة.