أرشيف المقالات

من ديوان الإيمان .. التقوى

مدة قراءة المادة : 21 دقائق .
من ديوان الإيمان ..
التقوى
 
التَّقْوَى هي جماعُ الخير كلِّه، وهي وصيةُ الله للأوَّلين وللآخِرين، وهي أفضلُ لباسٍ للمؤمنين، وهي التي تَفْتَحُ مغاليقَ القَلْب، وتُنير الطريقَ، وتَهدِي الضالَّ، وتُرشِد الحيرانَ.
وهي كما قال الإمامُ عليٌّ - رضي الله عنه -: التقوى هي الخوفُ مِن الجليل، والعملُ بالتَّنزيل، والاستعدادُ ليومِ الرَّحيل، والبُعد عنِ القال والقِيل.
فمَن أحبَّ لله، وأبْغَض لله، وأعْطَى لله، ومنَع لله، كان تقيًّا، وإن ممَّا يُثمره الإيمانُ الصحيحُ في القلْب: التَّقوى، وهي نِعمةٌ تفوق كلَّ تقدير، تصبغ جميعَ أعمال الإنسان وسعيه بصِبغتها، وتُهيمِنُ على خواطرِه ونواياه، ولِمَ لا تكون كذلك وهي حقيقةٌ مِن أجلِّ الحقائقِ الربَّانية؟!
 
ونحبُّ أن نستقرئَ أقوالَ أعلام الأمَّة فيها، وملاحظتهم لها:
فالإمام القرطبيُّ - رحمه الله - يَروي أنَّها تَعني قِلَّة الكلام لُغة، وزاد: إنَّه الذي يتَّقي بصالِحِ عمله وخالِص دُعائِه عذابَ الله تعالى، مأخوذٌ مِن اتِّقاء المكروه بما تَجعله حاجزًا بينك وبينه، كما قال النابغة:
سَقَطَ النَّصِيفُ وَلَمْ تُرِدْ إِسْقَاطَهُ ♦♦♦ فَتَنَاوَلَتْهُ وَاتَّقَتْنَا بِاليَدِ
 
وقول آخر:
فَأَلْقَتْ قِنَاعًا دُونَهُ الشَّمْسُ وَاتَّقَتْ ♦♦♦ بِأَحْسَنِ مَوْصُولَيْنِ كَفٍّ وَمِعْصَمِ
 
ورُوِي عن أُبيِّ بن كعبٍ قولتُه لعُمرَ بن الخطَّاب حينما سألَه عن التَّقْوى: "أمَا سَلكتَ طريقًا ذا شوك؟ قال: بلى، قال: فما صَنعتَ؟ قال: شمَّرتُ واجتهدتُ، قال: فذلك التَّقوى".
 
ورُوي أنَّها جِماعُ الخير كلِّه، وهي وصيةُ الله للأوَّلين والآخِرين، وهي خيرُ ما يستفيده الإنسانُ، كما قال أبو الدَّرداءِ وقدْ قيل له: إنَّ أصحابَك يقولون الشِّعر وأنت ما حُفِظ عنك شيء، فقال:يُرِيدُ المَرْءُ أَنْ يُؤْتَى مُنَاهُ






وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ مَا أَرَادَا


يَقُولُ المَرْءُ فَائِدَتِي وَمَالِي
وَتَقْوَى اللَّهِ أَفْضَلُ مَا اسْتَفَادَا






 
والإمام رشيد رضا يقول في "المنار": "وكلمة (المتقين) مِن الاتقاء، والاسم: التقوى، وأصلُ المادَّة وقَى يقِي، والوقاية معروفةُ المعنى، وهو: البُعد أو التباعُد عن الضرِّ أو مدافعته، ولكن نجِد هذا الحرف مُستعمَلاً بالنسبة إلى الله تعالى كقوله: ﴿ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [البقرة: 197]، فمعنَى اتِّقاء الله تعالى، اتِّقاءُ عذابِه وعقابه، وإنَّما تُضاف التَّقْوَى إلى الله تعالى تعظيمًا لأمْر عذابِه وعِقابِه، وإلاّ فلا يُمكن لأحدٍ يتَّقي ذاتَ الله تعالى ولا تأثيرَ قدرتِه، ولا الخُضوع الفِطري لمشيئتِه.
 
ومُدافعةُ عذابِ الله تعالى تكونُ باجتنابِ ما نهَى، واتِّباع ما أمَر، وذلك يحصُلُ بالخوفِ مِن العذاب ومِن المعذِّب، فالخوفُ يكون ابتداءً مِن العذابِ وفي الحقيقة مِن مصدره، فالمتِّقي هو مَن يَحمِي نفسَه مِن العقابِ، ولا بدَّ أنْ يكونَ عنده نظرٌ ورُشدٌ يُعرَف بِهما أسبابُ العقابِ والآلام فيتَّقِيها".
 
ويُبدي المرحومُ سيِّد قطب ملاحظتَه على التقوى قائلاً في "الظلال":
"فالتَّقوى في القَلْب هي التي تُؤهِّله للانتفاعِ بهذا الكِتاب، هي التي تَفْتَح مغاليقَ القلب له، فيدخُل ويؤدِّي دَورَه هناك، هي التي تُهيِّئ لهذا القلبِ أن يلتقطَ وأن يتلقَّى وأن يَستجيب.
لا بدَّ لِمَن يُريد أن يجدَ الهُدى في القرآن أن يأتيَ إليه بقلبٍ يخشى ويتوقَّى، ويحذرَ أن يكونَ على ضلالة، أو تَستهويَه ضلالة، وعندئذٍ يَتفتَّحُ القرآنُ عن أسرارِه وأنوارِه، ويسكبها في هذا القلبِ الذي جاء متقيًا، خائفًا حسَّاسًا مهيَّأً للتلقِّي، ورَد أنَّ عمرَ بن الخطَّاب سألَ أُبيَّ بنَ كعبٍ عن التقوى، فقال له: أمَا سلكتَ طريقًا ذا شوك؟ قال: بلى: قال: فما صنعتَ؟ قال: شمرتُ واجتهدتُ، قال: فذلك التَّقْوى! فذلك التَّقْوى..
حساسيةٌ في الضمير، وشَفافيةٌ في الشُّعور، وخشيةٌ مستمرَّة، وحذَرٌ دائِم، وتوقٍّ دائِم لأشواكِ الطريق..
طريق الحياة، الذي تَتجاذَبه أشواكُ الرغائب والشهوات، وأشواكُ المطامِع والمطامِح، وأشواكُ المخاوف والهواجِس، وأشواقُ الرَّجاء الكاذِب فيمَن لا يَملِك إجابةَ رَجاء، والخوفُ الكاذِب ممَّن لا يملك نفعًا ولا ضرًّا، وعشرات غيرها مِن الأشواك".
 
وثَمَّةَ رِوايات وتعريفات قديمةٌ نذكُر منها ما رُوي عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه –وهو قوله: "التَّقْوى هي الخوفُ مِن الجليل، والعملُ بالتنزيل، والاستعدادُ ليومِ الرَّحيل، والبُعد عنِ القال والقِيل".
ورُوي عن طَلْقِ بن حبيب قوله: "التَّقوى هي: أنْ تَعملَ بما يُرضي الله، على نورٍ مِن الله، تَرْجو ثوابَ الله، وأنْ تبتعدَ عمَّا لا يُرضِي الله، على نورٍ مِن الله، تخاف عقابَ الله".
ممَّا سَبَق نستطيعُ أن نستشفَّ للتقوى معنًى جامعًا يخرج عن معناها اللُّغوي؛ إذ لا بدَّ لتحقيقِ الاتقاء مِن خوف وحَذَرٍ وخشية، ورجاءٍ وأمَل وإنابةٍ دائِمَة.
وقيام الخوفِ يَعتمد على عِلمٍ صحيحٍ، ومعرفةٍ صادقةٍ بالله تعالى، وهذا بَديهي ومَنطقي؛ إذ لا بدَّ مِن توقُّع ما يخيف، وربَّما تصوره حتى يحدُثَ الخوف، والمؤمِن الصادِق متوفِّر لديه ذلك العِلم، ومِثل هذه المعرِفة، فهو يعلم أنَّه سبحانه شديدُ العِقاب بعدَ علمه بأنَّه رحيم ذو رحمة واسعة، وأنَّ مغفرتَه ورحمتَه تسَعُ العالمين جميعًا:
 
﴿ غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ ﴾ [غافر: 3]، ﴿ نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ ﴾ [الحجر: 49 - 50].
ومِثل هذه الآياتِ التي تَبني تصوُّرَ المؤمن لعلاقتِه بربِّه، وأنَّها ليستْ تؤدِّي إلى أمْنِه عذابَ الله، وإنَّما هي رحمة ومغفرةٌ تَتسَاوى فيها رُؤية الرَّجاء بخوفِ العاقِبة ومَغبَّتها، وهما قُطبَا حرارةِ العبادةِ الصحيحة".
وأكْملُ الناسِ إيمانًا هُم أشدُّهم خشيةً وخوفًا مِن الله، وأتَّمهم له خشوعًا، وهذا رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((إنِّي أتْقاكُم لله وأشدُّكم له خشيةً))؛ وقد قال الله - تبارك وتعالى -:
﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾ [فاطر: 28].
 
ورسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - سيد العلماء يقول: ((لو تَعْلَمون ما أعلمُ، لضَحِكتُم قليلاً، ولبكيتُم كثيرًا، ولما تلذذتم بالنِّساءِ على الفُرش، ولخرجتُم إلى الصَّعُدات تَجأرونَ إلى الله تعالى)).
والخوفُ قد يكونُ مِن الله، وقد يكونُ مِن غيره، والأحقُّ بالخشية هو الله؛ لأنَّه هو المتفرِّد بكلِّ سلطان، بقدْرِ أمْرِه وفِعله، وغيرُه عاجِزٌ عن صُنع شيءٍ في ذلك الملكوت؛ ﴿ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 175].
فالخشيةُ واجبةٌ لله وحْده، وهي مِن كمالِ المعرفة والتنزيهِ والتوقِّي.
 
وخشية المؤمنين مِن ربِّهم دائمةٌ، قائمةٌ مع أنفاسِهم ومشاعرِهم وأحوالِ قلوبهم، وقد وصَفهم الله تعالى بقوله:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ ﴾ إلى قوله: ﴿ أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ ﴾ [المؤمنون: 57 - 61].
وقدْ رَوى الترمذيُّ عن عائشةَ - رضي الله عنها - قالت: قلت: يا رسولَ الله، قولُ الله: ﴿ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ ﴾ [المؤمنون: 60]، أهو الذي يَزني، ويَشرَب الخَمْرَ، ويسرِق؟ قال: ((لا يا ابنةَ الصِّدِّيق، ولكنَّه الرجلُ يصومُ ويُصلِّي ويتصدَّق، ويخاف ألاَّ يُقبل منه)).
قال الحسَن: عَمِلوا واللهِ بالطاعات، واجتهدوا فيها، وخافوا أن تردَّ عليهم، إنَّ المؤمنَ جمَع إحسانًا وخشيةً، والمنافِق جمَع إساءةً وأمنًا، وقال أبو سليمانَ الدَّارانيُّ: "ما فارَقَ الخوفُ قلبًا إلاَّ خرِب"، وقال إبراهيم بن سفيان: (إذا سكَن الخوفُ القلوبَ، أحْرَق مواضعَ الشُّبهات منها، وطرَد الدنيا عنها)، وقال ذو النون: الناسُ على الطريق ما لم يَزُلْ عنهم الخوف، فإنْ زال عنهم الخوف ضلوا الطريق، وهكذا لا ينفصل المؤمِنُ عنِ الخوف بحال؛ لأنَّه إن تَرَك الخوف أمِن، وإذا أمِن خَسِر، وهي عاقبةُ الغافلين، والمؤمِن لا يَغفُل حتى يؤوبَ ويرجِع، فلا يتحقَّق عنده دوامُ الغفلة، ولا يُصِرُّ على ذنب، صَغُر أو كبُر، وإنما هذه الأحيان القليلة التي تَسرِق وعيَه ويقظته، يَعمل جاهدًا على البعد عنها وعن شُغله فيها عن ربِّه الكريم - سبحانه وتعالى - وصَدَق الرسولُ الكريم - صلَّى الله عليه وسلَّم - في قوله: ((العبدُ المؤمِن بيْن مخافتين: بين أجلٍ قدْ مضَى لا يَدْري ما الله صانِع فيه، وبيْن أجلٍ قد بقِي لا يَدري ما الله قاضٍ فيه، فوالذي نفْسي بيدِه، ما بعدَ الموت مِن مُستعتَب، ولا بَعدَ الدنيا مِن دار إلا الجَنَّةُ أو النار))، فكيف ينفصِل المؤمن عن الخوفِ والخشية، وقد ثبَت عن أحد الخُلفاء الراشدين قوله: "واللهِ لو وضعت إحْدَى قدمي في الجَنَّة، والأخرى خارجَها، ما أمِنْتُ مكرَ الله - سبحانه وتعالى"؟!
 
بمِثْل هذه المشاعِر والأحاسيس نالَ المؤمنون ولايةَ الحقِّ - تبارك وتعالى - وهذه الخشيةُ المؤمنة، تَبْعَث صاحبَها على أن يُنيبَ إلى ربه دائمًا، بحيث لا يقرُّ ولا يَهدأ ولا يسكن إلا وهو في إنابة إلى ربِّه قيامًا وقعودًا وعلى جنبِه، طالبًا للتوبة مما قدَّم مِن آثام، راجيًا العفو والغفران، ضارعًا لاهجًا بذكْر الله واستغفاره.
فقدْ قال - تعالى -: ﴿ سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى ﴾ [الأعلى: 10]، وقال: ﴿ لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ﴾ [طه: 44]، وإذا تذكَّر أناب، قال: ﴿ وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ ﴾ [غافر: 13] وقال: ﴿ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ ﴾ [ق: 33].
وقال الإمامُ ابنُ تيميَّة: "وذلك لأنَّ الذي يَخشَى الله لا بدَّ أن يرجوه ويطمَعَ في رحمتِه، فيُنيب إليه ويحبه، ويحب عبادتَه وطاعتَه، فإنَّ ذلك هو الذي يُنجيه ممَّا يخشاه، ويحصل به ما يحبُّه.
 
والخشيةُ لا تكونُ ممَّن قطَع بأنَّه مُعذَّب، فإنَّ هذا القطع بالعذاب، يكون معه القُنوط واليأس والإبلاس، ليس هذه خشيةً وخوفًا، وإنما تكون الخشيةُ والخوف مع رجاءِ السلامة؛ ولهذا قال: ﴿ تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ ﴾ [الشورى: 22].
مُصاحِب الخشية لله يُنيب إلى الله، كما قال: ﴿ وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ ﴾ [ق: 31 - 34].
 
وهذا يكون مع تمامِ الخشيةِ والخوف، فأمَّا في مباديها فقدْ يحصُل للإنسان خوفٌ مِن العذاب والذنب يقتضيه، فيشتغل بطلبِ النجاة والسلامة، ويُعرِض عن طلبِ الجَنَّة والرحمة، وقد يَفعل الإنسانُ مع سيِّئاته حسناتٍ توازيها وتقابلها، فينجو بذلك مِن النار ولا يستحقُّ الجنة، بل يكون مِن أصحاب الأعراف، وإنْ كان مآلُهم الجَنَّة، فليسوا ممَّن أُزلفت لهم الجنَّة - أي: قُرِّبت لهم - إذ كانوا لم يأتوا بخشيةِ الله والإنابة إليه".
وحقيقة الرَّجاء انتظارُ رحمةِ الله وطلبُها والطمع فيها، مع تقديمِ النيَّة والعملِ والإخلاص، وإنَّ مِن دأب أهل العبوديَّة - مع ما يَعملونه مِن طاعات ومحاسن - أن يَرْجوا قَبولَ الله لها، وأن يَرجُوا جزاءَ الله عليها، ويَخافوا مع ذلك أن يَغضبَ الله عليهم فلا يَقبلها منهم.
 
ثم إنَّ العبدَ ضعيفٌ ما في ذلك شكٌّ، فإذا ضعُف وخارتْ عزيمتُه يومًا، فلا بدَّ أن يطلبَ رحمةَ الله الواسعة، ولا ييئس مِن رحمة الله؛ فإنَّ اليأسَ معصيةٌ أبلغُ من الذنب، وإنَّما عليه أن يحسنَ الظنَّ بالله، فقد تواترتْ مِنن الله - سبحانه وتعالى - بقَبول التائبين الراجين عَفوَه وغُفرانَه، ومردُّ ذلك أمرٌ يسير، هو أنَّ المذنب إذا ندِم وخشِي عاقبة الذنبِ واستحيا مِن الله، لجأَ إلى طلبِ الصَّفْح، ورجَا قَبول التوبة، ورجَا الرحمة مِن الرحمن الرحيم.
وقدْ جاء في قوله - تعالى -: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الزمر: 53] أنَّها أرْجَى آية في القُرآن، وقد قال النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لا يَموتنَّ أحدُكم إلاَّ وهو يُحسِنُ الظنَّ بالله تعالى))، وقال - صلَّى الله عليه وسلَّم - –: ((يقول اللهُ - عزَّ وجلَّ -: أنا عندَ ظنِّ عَبْدي بي))، وهكذا يجِب إحسانُ الظنِّ بالله سبحانه؛ لِما ورَد مِن فضله وسَعة رحمته وعفوه بالمؤمنين خاصَّةً، ولا شكَّ أنَّ كلَّ مؤمن صادقَ الإيمان نظيفَ التصوُّرِ يحسِن الظن بالله، فإنَّ أهلَ النار هم مَن أساؤوا الظنَّ بالله؛ ولذلك قيل لهم: ﴿ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [فصلت: 23].
 
فحُسن الظنِّ بالله سبحانه مُقدِّمة الرجاء، والرَّجاءُ خليقةُ المؤمن الحي، المتعلِّق بربِّه في كلِّ خواطره وأعماله: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ ﴾ [فاطر: 29]، فرجاءُ الثواب والفضْل والرحمة والغُفران، يُعطينا المبرِّرَ الواضحَ لحمية الإيمانِ في قلوبِ الصادقين مِن أهل القرون الثلاثة الأولى؛ فقدْ كانت كلُّ أعمالهم تنبُع عن أصلين، هما رجاءٌ وخوف، أو رَغبةٌ ورهبة، ﴿ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا ﴾ [الأنبياء: 90]، ﴿ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا ﴾ [السجدة: 16]، فهذان الأصلان بعثَا في النفوس الحياةَ، فشمَّرتْ عن سواعدِ الجدِّ والسعي؛ ابتغاءَ ثوابِ الله، وخوفَ حسابِه لها على إهمالها، وتقصيرها دون رِضاه.
 
في هذه المسيرة، نَجِد معنيين مِن معاني الإيمان، لا يَتركان المؤمنَ أبدًا في عملٍ مِن أعماله؛ أولهما الإخلاص، وثانيهما الإحسان.
أمَّا الإخلاص، فلأنَّه يتملَّكه الوَجَلُ، خوفَ ألاَّ يُقبل عمله، ويَحدوه الرَّجاءُ أن يَرضى الله عنه ويُثيبه عليه، فإخلاصُه يحتِّم أن يكونَ المقصودُ بأعماله وجهَ الله وحْدَه لا شريكَ له، وهذا هو مؤدَّى قوله - تعالى -: ﴿ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴾ [الكهف: 110].
وقول النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَن أحبَّ لله وأبغضَ لله، وأعْطَى لله ومنَع لله، فقدِ استكملَ الإيمان))، وقد وضَع الإسلامُ شرطًا لقَبولِ الأعمال والثوابِ عليها، أنَّ نيَّةَ العبد وقصدَه، عبادةٌ لله وحْده، وهذه النيَّةُ مستورةٌ لا يَطَّلِع عليها إلا اللهُ، وسَمَّى الإسلام مَن يقصد بعملِه وجهَ الله وحْدَه: مخلِصًا لله، والمخلِص هو غير المشرِك في أعماله الظاهِرة أو الباطِنة أحدًا مع الله، وقدْ رَوى البيهقيُّ عن ثوبانَ قولَ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((طُوبَى للمخلِصين))، بل إنَّ هذه الحساسيةَ في ضميرِ المخلِص، تجعله يدعو ربَّه مستعيذًا به من الشرِك ظاهرًا وباطنًا؛ ((اللهمَّ إنَّا نعوذ بك أن نُشرِكَ بك شيئًا نعلمه، ونَستغفِرك لِما لا نَعْلَمه)).
ذلك أنَّ هناك أشياءَ قد تُفسِد الإخلاص، ولا يُدري العبدُ أنَّها أفسدتْه وأبطلتْ أعماله، كالرِّياءِ الذي سمَّاه النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: الشِّرْك الخفي؛ فقدْ قال النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أخوفُ ما أخافُ عليكم الشِّرْكُ الأصغرُ))، فسُئل عنه، فقال: ((الرياء)).
 
فكأنَّ العبدَ إذا راعَى في عمله إعجابَ الناس ورِضاهم، فقدْ أشرَكَ في القصدِ؛ إذ الواجبُ ألاَّ يُريد بكلِّ أعماله سِوى الله - سبحانه وتعالى - وحْده؛ لأنَّه المعبودُ بحق، حتى إنَّ قومًا أخْلصوا نيَّاتِهم لله وقصدَهم، وحبسهم عن إتمام أعمالهم عذرُهم، كتَب الله لهم أجْرَ العاملين بإخلاصِهم وقصدهم، كما قال النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لقدْ تَركتُم بالمدنيةِ أقوامًا ما سِرتُم مسيرًا، ولا أنفقتُم مِن نفقةٍ، ولا قطعتُم واديًا إلاَّ وهُم معكم فيه))، قالوا: يا رسولَ الله، وكيف يكونون معنا وهم بالمدينة؟! قال: ((حَبَسَهم العُذرُ))، وفي حديثِ عائشةَ - رضي الله عنها - أنَّ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((ما مِن امرئٍ تكونُ له صلاةٌ بليل يَغلِبُه النومُ عليها، إلا كُتِب له أجْرُ صلاته، وكان نومُه عليه صدقةً))، والحديث الذي رَواه سهلُ بن حُنَيف أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((مَن سَألَ اللهَ الشهادةَ بصِدق، بلَّغَه الله منازلَ الشهداء وإنْ ماتَ على فِراشه))!
 
ومن نِيَّته التقوى، التي تَشتدُّ وتقوى، وتُثمر ثمارًا كثيرة، نجِد الثمرةَ المرجوَّةَ لكلِّ مخلص، ويَهفو إليها كلُّ موحِّد، ألاَ وهي ثمرة "الإحسان"؛ فإنَّها مقامُ المقرِّبين مِن الأنبياء والأولياء، فالشيءُ الحسَن لُغةً غيرُ القبيح، وأحسن المرءُ؛ أي: أصابَ وجهَ الجمال والكمال، والحُسْن في كلِّ شيء، أجْمَله وأفضله وأجودُه وأوْلاَه؛ ولذلك قال - تعالى -: ﴿ وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾[الزمر: 17 - 18].
 
والإحسان في كلِّ شيء، الإتيانُ به متقنًا جيدًا كاملاً.
وفي حديثِ جِبريل - عليه السلام - حين سألَ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن الإحسان، فقال: ((أنْ تَعبُد الله كأنَّك تراه، فإنْ لم تكُن تراه فإنَّه يراك))، فأما أنَّ الله يرَى الناس، فذلك أمرٌ لا تَخْلو عنه عقيدةُ مسلم، وهو يقرأ ويسمع قولَ الله - تبارك وتعالى -: ﴿ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [المجادلة: 7].
أمَّا المُحسِن، فإنَّه يستشعر هذه الرؤيةَ وهذه المعيةَ يقينًا، حتى إنَّه يراه ويَشهَده، فمِن ثَمَّ كانتْ أعمالُه متقنةً، كالأجيرِ الذي يعمل أمامَ عينِ سيِّده، بل وكاملة، فما أجملَ هذه العبادةَ التي بلغتْ أرقَى مراقِي الجمال والكمال! حتى تصعد إلى الله فيَرضى عنها قَبولاً، ويُثيبها ثوابًا جزيلاً.
 
وسوفَ نجِد في القرآن أنَّه يَجعل التقوى والإحسان قُرناءَ جميعًا؛ إذ يقول الحق - تبارك وتعالى -: ﴿ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾ [آل عمران: 172]، وقال - تعالى -: ﴿ لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [المائدة: 93].
 
ولسوف يَجزي اللهُ المحسنين جزاءَ إحسانهم وتقواهم وحُسن مُراقبتِهم لعينِ الله التي لا تَنام، وقد قال - تعالى -: ﴿ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [يونس: 26]، وقال - تعالى -: ﴿ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ﴾ [النساء: 128]، وقال - تعالى -: ﴿ وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ ﴾ [الشورى: 23].
 
ونَجِد في القرآنِ أنَّ صفةَ الإحسان مضافةٌ إلى الأنبياء جميعًا، في سورةِ الصافات، مما يدلُّ على أنَّها مرقاةُ النبوة واليقين، فنَجِد قوله على موقفِ كلِّ نبي كريم، وأن الله لا يُضيع أجرَ المحسنين؛ اللهمَّ اجعلنا ممَّن قلت فيهم: ﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلاَلٍ وَعُيُونٍ * وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾ [المرسلات: 41 - 44].
 
آمين، والحمد لله ربِّ العالَمين.

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢