الروض المربع - كتاب الطهارة [28]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل.

قال المؤلف رحمه الله: [وفروضه أي: فروض التيمم مسح وجهه، سوى ما تحت شعره ولو خفيفا وداخل فم وأنف فيكره].

مسح الوجه

المؤلف حينما ذكر المسائل التي يجوز فيها التيمم، وذكر أيضاً الواجب في التيمم، وذكر أنه لا بد أن يكون بتراب، وأن يكون طهوراً، وأن يكون مباحاً يعني: غير مغصوب، ثم شرع المؤلف بعد ذلك بصفة التيمم، وفروضه، فقال: (وفروضه أي: فروض التيمم مسح وجهه)، فأما مسح الوجه في التيمم فهو فرض حكاه إجماعاً غير واحد من أهل العلم، كـابن قدامة وغيره؛ لقوله تعالى: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ [المائدة:6]، ولما في الصحيحين من حديث عمار بن ياسرأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما يكفيك أن تقول بيديك هكذا، ثم ضرب بيده الأرض ضربة واحدة، ثم مسح الشمال على اليمين وظاهر كفيه ووجهه)، وكذلك في حديث البخاري و مسلم الذي رواه معلقاً من حديث أبي الجهيم بن الحارث بن الصمة : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أقبل من نحو بئر جمل فسلم عليه رجل، فلم يرد عليه السلام، حتى أقبل على الجدار، فمسح بوجهه ويديه، ثم رد السلام ).

ولكن المؤلف أراد أن يبين لك أن مسح الوجه لا يكون مسحه مثل غسله بالماء؛ بل قال: مسح الوجه، ويدخل فيه ظاهر اللحية التي يواجه بها الرائي، ومسح شعر الوجه إنما يكتفى فيه بمسح ظاهر الشعر سواء كان الشعر خفيفاً أم كثيفاً بخلاف طهارة الماء، فإنه إذا كان الشعر خفيفاً فلا بد فيه من إيصال الماء إلى البشرة، وإن كان كثيفاً فيكفي فيه غسل الظاهر، هذا في الحدث الأصغر، أما في الحدث الأكبر، فيجب فيه غسل الظاهر والباطن، كما في حديث: ( حتى تبلغ به أصول شعرها ).

والقاعدة في هذا: أن الواجب في صفة التيمم تعميم المسح لا تعميم التراب؛ لقوله تعالى: فَامْسَحُوا [المائدة:6]، فما يفعله بعض الناس في التيمم حينما يمرر أصابعه على بعض خديه ليس بصحيح؛ بل لا بد فيه من التعميم، فيمسح الوجه كله؛ لأن الواجب في التيمم تعميم المسح لا تعميم التراب، فليس المراد أن يدخل التراب؛ ولهذا قال المؤلف: (ولو خفيفاً) يعني: امسح ولا يلزم أن تعمم التراب، ولو كان الشعر خفيفاً بحيث ترى البشرة، ليس العبرة بالتغطية، ولهذا قال: (ولو خفيفاً) ..

يقول: (وداخل فم، وأنف، فيكره) يعني: أن تدخل التراب إلى الفم، أو تدخله إلى الأنف هذا يكره؛ لأنه ليس بمقصود، ولمخالفته لسنة محمد صلى الله عليه وسلم في حديث عمار ، ولأن في ذلك ضرراً، ولأن المقصود في التيمم هو تعميم المسح، لا تعميم التراب.

مسح اليدين إلى الكوعين

قال المؤلف رحمه الله: [ ومسح يديه إلى كوعيه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لـعمار : ( إنما كان يكفيك أن تقول بيديك هكذا ثم ضرب بيديه على الأرض ضربة واحدة، ثم مسح الشمال على اليمين وظاهر كفيه ووجهه ) متفق عليه ].

هذا الفرض الثاني: مسح اليدين إلى الكوعين، أما مسح اليدين فهذا أيضاً إجماع؛ لقوله تعالى: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ [المائدة:6]؛ ولحديث عمار بن ياسر ، و أبي الجهيم الذي مر معنا، والمؤلف قال: (إلى كوعيه)، ومن المعلوم أنه لم يرد نصٌ إلا في حديث عمار ، حينما قال: ( وظاهر كفيه ووجهه )، ومن المعلوم أن الكف دليل إلى الكوع، والقاعدة إذا علق حكم بمطلق اليدين لم يدخل فيه الذراع إلا بنص؛ لقوله تعالى: فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [المائدة:38]، ومن المعلوم أن قطع السارق إلى الكوع.

وهل التيمم بضربة أم بضربتين؟ بعض العلماء يرى أن التيمم ضربتان، كما هو رواية عند الحنابلة، واستدلوا بحديث ابن عمر روي مرفوعاً وموقوفاً، والصواب وقفه على ابن عمر : ( التيمم ضربتان ) واستدلوا بأول مشروعية التيمم، كما روى البيهقي قال: ( فجعل بعضنا يمسح يديه إلى المرفقين )، وهذه الرواية تكلم فيها، وهي لو صحت، فليست دليلاً على مشروعية مسح اليدين إلى المرفقين في التيمم لوجهين:

الوجه الأول: أن الصحابة فعلوا ذلك باجتهاد من عندهم في أول مشروعية التيمم؛ ولهذا الراوي حكى فعل الصحابة حال أول مشروعية التيمم، ولم يبين أنه من الرسول صلى الله عليه وسلم.

الوجه الثاني: على فرض أن ذلك من إخبار النبي صلى الله عليه وسلم لهم، فقد جاء ما يدل على نسخ ذلك في حديث عمار بن ياسر ؛ ولهذا قال الإمام أحمد رحمه الله: من قال: إن التيمم إلى المرفقين، فإنما هو شيء من عنده، وعلى هذا فالراجح أن التيمم ضربة واحدة يمسح به وجهه وكفيه.

الترتيب والموالاة

قال المؤلف رحمه الله: [وكذا الترتيب بين مسح الوجه واليدين، والموالاة بينهما بألا يؤخر مسح اليدين بحيث يجف الوجه لو كان مغسولاً، فهما فرضان في التيمم عن حدث أصغر، لا عن حدث أكبر أو نجاسة ببدن؛ لأن التيمم مبني على طهارة الماء].

المؤلف أراد أن يبين أيضاً الفرض الثالث والرابع في التيمم، فقال: (وكذا الترتيب)، ذهب الحنابلة في المشهور من المذهب إلى أن الترتيب في التيمم فرض، وكذا الموالاة، والرواية الأخرى اختارها الخرقي و المجد أبو البركات ، وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمهم الله جميعاً وهي أن الترتيب في التيمم سنة، ولعل هذا القول أظهر؛ لأمور:

أولاً: لأن الشارع ذكر الترتيب في الوضوء، ولم يذكره في التيمم، فدل ذلك على عدم وجوبه، ولا يجوز تأخير البيان على وقت الحاجة.

الثاني: كما أشار أبو البركات المجد قال: لأن بطون الأصابع لا يجب مسحها بعد الوجه في التيمم، بالضربة الواحدة، بل يعتد بمسحها معه، الآن إذا ضرب الإنسان بيديه الأرض ضربة واحدة يمسح وجهه، ثم ظاهر كفيه، يقول المجد أبو البركات : لأن بطون الأصابع لا يعيد مسحها بعد الضربة يمسح بها الوجه، المفترض بعد الوجه يمسح باطن الكف الأيمن بباطن الكف الأيسر حتى يمسح الباطن، لكن اكتفي بمسح الوجه وظاهر الكفين، فدل ذلك على أن الترتيب لا يجب؛ لأن بطون الأصابع لا يعاد مسحها بعد الضربة الأولى بعد الوجه.

ونقول أيضاً: إن ظاهر حديث عمار ليس فيه الترتيب؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( إنما يكفيك أن تقول بيديك هكذا، ثم ضرب بيديه الأرض ضربة واحدة، ثم مسح الشمال على اليمين، وظاهر كفيه ووجهه )، فبدأ بمسح اليدين قبل الوجه، وهذا يدل على عدم الوجوب، والله تبارك وتعالى أعلم.

وهل الموالاة كذلك؟ نقول: بعض العلماء من الحنابلة يرون أنها سنة، والأقرب أن نقول في الموالاة مثلما قلنا في الوضوء؛ أنها واجبة تسقط مع العذر، والعذر عام كالجهل والنسيان، ونحو ذلك؛ لفعل ابن عمر في الوضوء؛ ولأن المتعمد إذا أبعد بين صفتي التيمم فكأنه لم يتيمم، والله أعلم.

المؤلف قال: (بألا يؤخر مسح اليدين بحيث يجف الوجه لو كان مغسولاً) هذا تعريفه وكيفية الموالاة، لكن المؤلف قال: (فهما فرضان) يعني: الترتيب والموالاة في الحدث الأصغر لا الحدث الأكبر، كما مر معك في الترتيب والموالاة في الوضوء دون الحدث الأكبر.

يقول المؤلف: (أو نجاسة بدن؛ لأن التيمم مبني على طهارة الماء)، فكما أننا نقول: إن الترتيب في الحدث الأصغر والموالاة واجبان، فكذلك نقول: إن الترتيب والموالاة في التيمم واجبان؛ لأن البدل يأخذ حكم المبدل، ولأن التيمم أقيم مقام الماء، فيأخذ أحكامه، والغريب أنهم أخذوا ببعض أحكام الماء في التيمم دون بعض، وكان الأولى أن يأخذوه كله، أو يتركوه كله، كما هو معلوم؛ لكن هم يأخذون بعض الأحكام فيقولون عن التيمم: إنه كالماء في وجوب الترتيب والموالاة، ولا يقولون: إن التيمم رافع للحدث كالماء؛ ولهذا حينما أشار إلى أن التيمم يأخذ حكم الماء في مثل هذه المسائل شرع فيه ما يخالف بقوله: وتشترط النية كما سوف يأتي بعد ذلك.

وأما قوله: (أو نجاسة بدن) فهذا مبني على الخلاف وهو أن التيمم يصح في نجاسة بدن يشق غسلها. وقلنا: إن الراجح أنه لا يصح التيمم إلا لطهارة عن حدث.

والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.