كونوا عباد الله إخواناً


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمةً للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أما بعد: فإن الله تعالى قد أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق بين يدي الساعة ليبين للناس ما يرتضي منهم خالقهم سبحانه وتعالى، وليرشدهم إلى طريق الجنة، فكان مما جاء به الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ومما ابتدأ به دعوته وركز عليه في أمره كله تآخي المسلمين، وقد جعل ذلك نصب عينيه من بداية دعوته، فسعى لإزالة كل الفوارق بين المسلمين وإذابتها، وسعى لأن يكونوا على قلب رجل واحد، وأنزل الله إليه من الوحي ما يقتضي إزالة تلك الفوارق التي هي من أمر الجاهلية، وما يقتضي ذلك ترسيخ عرى هذه الأخوة وتقويتها، فإنه صلى الله عليه وسلم أول ما بدأ دعوته بمكة وجد الناس أهل جاهلية، ليس لهم انتماء ولا ولاء إلا على أساس القبيلة والعرق والنسب، ووجد الغريب ذليلاً أياً كان، ووجد الناس يقتتلون قتالاً شديداً يدوم ثلاثين سنةً وأربعين سنة لمجرد الانتصار لفرس سبقت في سباق، أو لأن ناقةً وطئت بيضة عمامة فكسرتها، ووجد الحروب تقوم على الثارات بين القبائل؛ فأزال الله به هذه الغمم كلها، فأصبح أهل الإيمان يتآخون بهذه الشهادة التي يشهدون بها، ويوالون ويعادون على أساس ذلك التآخي، فموالاتهم ومعاداتهم كلها نابعة من اعتقادهم؛ لذلك بدأ بأمرين عظيمين بينهما الله عز وجل في دعوات كل الرسل وهما قول الله تعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا [الشورى:13]، كلمتان وهما: أن تقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه.

أما الكلمة الأولى فتقتضي توحيد المنهج الذي ينطلقون منه، وأما الكلمة الثانية فتقتضي الاستمرار على هذا المنهج؛ لأن حصول الاختلاف يقتضي إزالة هذا المنهج بالكلية، وأن يزايله الناس ويفارقوه؛ فالفرقة تقتضي ضلالاً وخروجاً عن الطريق المستقيم، فما دام الناس يسيرون على الطريق المستقيم لن تختلف قلوبهم، ولن تتفرق أهواؤهم، وسيكونون يداً على من سواهم، كما حصل في صدر الإسلام، فقد كانت الكلمة الواحدة من كلام أهل الجاهلية يقولها الرجل المسلم المؤمن التقي، فتعد نبوةً ويعاتبه النبي صلى الله عليه وسلم عليها، فهذا أبو ذر الغفاري رضي الله عنه يخاطب أخاً له في الله من أهل الإسلام، فيقول له: ( لم فعلت يا ابن السوداء؟ فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعيرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية ).

فكل ما يؤدي إلى هذه الفرقة، أو يؤدي إلى الاختلاف قد حسم بهذا الإسلام وأزيل بالكلية، ثم بعد ذلك بنيت الأخوة الإيمانية العميقة التي أساسها تحقيق الألفة وإزالة الكلفة، والأخوة محصورة فيهما في تحقيق الألفة بين المسلمين، وفي إزالة الكلفة التي تقتضي أن يكون الإنسان صاحب تطفيف، أي: أن يكون مطففاً يريد أخذ حقوقه ولا يؤدي إلى الآخرين حقوقهم كاملة، وقد قال الله تعالى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [المطففين:1-6].

وقد قال مالك رحمه الله في الموطأ: يقال لكل شيء: وفاء وتطفيف، أي أن كل شيء يوجد فيه الوفاء ويوجد فيه التطفيف؛ ولذلك فإن عمر رضي الله عنه حين تأخر أحد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة فجاء والإمام يخطب قال له: ما هذا التأخر؟ قال: ما هو إلا أن كنت في عملي، فسمعت المؤذن فتوضأت وأتيت فقال: والوضوء أيضاً؟ قد طففت.

لذلك لا بد من العودة إلى هذا المنهج الصحيح، ولا بد من تحقيق هذه الأخوة بعد أن نرجع إلى المنهج الصحيح.

إن النبي صلى الله عليه وسلم خاطب المؤمنين بهذه الكلمات الخالدات؛ فقال: ( لا تحسسوا، ولا تجسسوا، ولا تباغضوا، ولا تناجشوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخواناً، المسلم أخو المسلم لا يحقره، ولا يخذله، ولا يكذبه، التقوى هاهنا، ويشير إلى صدره ثلاثاً، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه ).

إن هذا هو نظام المؤاخاة بين المسلمين، وهو الذي يقتضي أن يرعي بعضهم حقوق بعض، وأن يقوم بهذه الحقوق، وألا يزدريها، وألا يعتدي على شيء منها، فإن الله تعالى جعل الحد الفاصل في هذه الأخوة هو أركان الإسلام؛ فمن التزم أركان الإسلام كان أخاً لنا في الإسلام؛ يجب له ما لنا، وعليه ما علينا، قال الله تعالى: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ [التوبة:11]، (فإن تابوا) الخطاب هنا كان الحديث فيه عن المشركين، والتوبة من الشرك لا تكون إلا بالشهادتين: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وهذا الركن الأول من أركان الإسلام وقوله تعالى: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ [التوبة:11] هذا الركن الثاني من أركان الإسلام، وَآتَوْا الزَّكَاةَ [التوبة:11] هذا الركن الثالث من أركان الإسلام، فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ [التوبة:11]، فهذا الأساس هو الذي تنبني عليه الأخوة، ثم بعد ذلك لا تنقض إلا بالكفر؛ فلا ينقضها الظلم والبغي لقول الله تعالى: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ [الحجرات:9-10]، فجعل الباغي والمبغي عليه أخوين وجعلهما أيضاً أخوين للمسلمين، (فأصلحوا بين أخويكم).

كذلك فإن هذه الأخوة بعد بنائها تقتضي حقوقاً لا بد من الوفاء بها، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم بعضها في أحاديث كثيرة عنه، فبين أن من حقوق المسلم على أخيه: أن يرد عليه السلام، وأن يعوده إذا مرض، وأن يتبع جنازته إذا مات، وأن يشمته إذا عطس، وأن يجيب دعوته إذا دعاه، وبين كذلك صلى الله عليه وسلم عدداً من الحقوق الأخرى كحقوق الطريق؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم: ( إياكم والجلوس في الطرقات، فقالوا: يا رسول الله! ما لنا من مجالسنا بد نتحدث فيها فقال: فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه، قالوا: وما حق الطريق يا رسول الله؟ قال: غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر )، وبين كذلك حقاً عظيماً من حقوق هذه الأخوة وهو النصيحة الشاملة العامة عندما قال: ( الدين النصيحة، قلنا: لمن؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم ).

كف الأذى وعدم الإضرار بالمسلمين

وبين كذلك حقاً آخر من هذه الحقوق وهو كف الأذى، وألا تضر إخوانك المسلمين؛ فقال صلى الله عليه وسلم: ( المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه ).

وكذلك بين صلى الله عليه وسلم الخطر الداهم في حق انتهاك هذه الأخوة؛ ففي وصيته التي أخرجها البخاري في الصحيح قال: ( لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض )، وكذلك قال: ( سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر )، وقال: ( إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار )، وقال صلى الله عليه وسلم: ( إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر! فقد باء بها أحدهما )، وقال كذلك: ( تكفير المسلم كقتله )، وقال كذلك: ( من قال لأخيه: يا كافر! فإن كان كما قال وإلا حارت عليه )، وفي رواية: ( وإلا رجعت عليه ).

عدم الاعتداء على المسلمين باللسان

وحذر صلى الله عليه وسلم كذلك من الاعتداء على حقوق الأخوة مطلقاً حتى بالكلمة الواحدة، حتى بالكلمة أو بشطر الكلمة، كل ذلك بين النبي صلى الله عليه وسلم خطره الداهم، وأثره العميق الذي يبقى، ( فإن الرجل ليتكلم بالكلمة الواحدة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها سبعين خريفاً في قعر جهنم ).

عدم قطع الرحم وأذية الجار

وحذر كذلك صلى الله عليه وسلم من قطيعة الرحم، ومن أذى الجار، ومن أذى الضيف، وغير ذلك مما ينافي هذه الأخوة؛ فقال: ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره ).

وفي الحديث الآخر: ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره، من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت ).

كذلك قال: ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته ) أي: مدة ضيافته التي بينها النبي صلى الله عليه وسلم.

كذلك فإنه صلى الله عليه وسلم أكد هذه الأخوة بالمؤاخاة بين المهاجرين أنفسهم، وبين المهاجرين والأنصار، ففي مكة آخى بين المهاجرين، ثم لما أتى المدينة آخى بينهم وبين الأنصار، وكانت هذه الأخوة آكد الروابط في صدر الإسلام، فقد قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجَرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنْ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمْ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [الأنفال:72].

وقد كانوا يتوارثون بهذه الأخوة؛ فقد أخرج البخاري في الصحيح عن أم العلاء رضي الله عنها قالت: ( كان المهاجري يرث الأنصاري، والأنصاري يرث المهاجري بأخوة الإسلام، حتى نزل قول الله تعالى: وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفاً [الأحزاب:6]، قالت: فكانوا يوصون لهم ).

هذا المعروف الذي أذن الله فيه جسدوه في الوصية؛ ولذلك أوصى عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه بثلث ماله لبقية أهل بدر، أي: لمن لم يمت من أهل بدر، وأوصى عدد من رجال الأنصار كذلك لإخوانهم من فقراء المهاجرين.

إن هذه الأخوة هي التي اقتضت وحدة الكلمة، واقتضت أن يكونوا يداً واحدةً على من سواهم، واقتضت كذلك أن يصلوا خلف إمام واحد، وأن تجتمع قلوبهم، وأن يتغلبوا على أعدائهم، وألا يكيد بعضهم لبعض، وألا ينشغلوا في تتبع عورات المسلمين والبحث عن زلاتهم، فإن اشتغلت الأمة بذلك لا شك أن الهزائم ستتوالى عليها؛ ( فمن تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته فضحه ).

ولذلك أخرج مالك في الموطأ و أحمد في الزهد عن يحيى بن سعيد الأنصاري : أنه بلغه: أن عيسى ابن مريم قال: لا تكثروا الكلام في غير ذكر الله فتقسو قلوبكم، فإن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون، ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب، وانظروا في ذنوبكم كأنكم عبيد، وإنما الناس مبتلىً ومعافىً، فارحموا أهل البلاء، واحمدوا الله على العافية.

وقد أخرج مسلم بعض هذا الحديث في صحيحه من حديث ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال ابن القيم رحمه الله: هذا الحديث خرج من مشكاة النبوة، سواءً كان من كلام عيسى أو من كلام محمد صلى الله عليه وسلم، فهو حق، ومتضمنه صدق.

عدم الفرار يوم الزحف

كذلك فإن هذه الأخوة اقتضت كثيراً من الأحكام الشرعية التي بينها الله في كتابه؛ فمن كبريات الأحكام التي تقتضيها هذه الأخوة: ألا يفر المسلم عن أخيه المسلم في الزحف، فقد جعل الله الفرار من الزحف من الكبائر الموبقات، فقال تعالى: وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [الأنفال:16].

وعده النبي صلى الله عليه وسلم من الموبقات السبع، وهو محقق لحق من حقوق هذه الأخوة ألا يسلم المسلم أخاه المسلم للأعداء بوجه من الوجوه، وإذا استشعر المسلمون هذا أدركوا حقوق إخوانهم عليهم، فإن الحاصل اليوم للأمة الإسلامية من التقاطع والتدابر والتناحر هو الذي أدى إلى ألا يستشعر المسلمون آلام إخوانهم في مشارق الأرض ومغاربها، فهم يقطعون إرباً إرباً، ويذلون آناء الليل وآناء النهار، ومع ذلك لا يشعر أحد بمذلتهم، ولا يسعى لمواساتهم، بينما نجد أن هذا الدين يحض على تحقيق هذه النبوة وعدم الفرار من الزحف، وألا يخذل المسلم أخاه المسلم بوجه من الوجوه.

المراعاة للمسلم في غيبته

كذلك فإن من هذه الحقوق المبينة في الكتاب والسنة: أن يرعى المسلم أخاه بظهر الغيب، فإن الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه: أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ [الحجرات:12]، وهذا غاية في التنفير من أكل الغيبة والكلام في الناس، وأكل أعراضهم بغيبة منهم.

وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم خطر ذلك وضرره، وبين أن من الموبقات السبع: ( قذف المحصنات الغافلات المؤمنات )، وبين الله سبحانه وتعالى ما يترتب على ذلك أيضاً في كتابه من الوعيد الشديد، فقال: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمْ اللَّهُ دِينَهُمْ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ [النور:23-25].

وبين الله سبحانه وتعالى في كتابه قاعدةً عظيمةً تتعلق بهذا الباب وهي قوله: لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ * لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ [النور:12-13]، فلو سمع المسلم عن أخيه أي مطعن فإن القاعدة التي بينها الله في كتابه أن يقول: (هذا إفك عظيم)، وأن يظن المسلمون بأنفسهم خيراً، والمقصود بظنهم بأنفسهم خيراً؛ أي: أن يظنوا بإخوانهم المسلمين خيراً، وهذا الأسلوب غاية في حصول الانسجام والإخاء؛ فلم يقل: لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بإخوانهم خيراً؛ بل قال: ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً [النور:12]، فحق أخيك مثل حق نفسك؛ فلذلك لا بد من رعايته كما ترعى حقوقك الخاصة، وكما تنافح عنها وتدافع، لا بد من رعاية حقوق إخوانك المسلمين.

وبين كذلك حقاً آخر من هذه الحقوق وهو كف الأذى، وألا تضر إخوانك المسلمين؛ فقال صلى الله عليه وسلم: ( المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه ).

وكذلك بين صلى الله عليه وسلم الخطر الداهم في حق انتهاك هذه الأخوة؛ ففي وصيته التي أخرجها البخاري في الصحيح قال: ( لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض )، وكذلك قال: ( سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر )، وقال: ( إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار )، وقال صلى الله عليه وسلم: ( إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر! فقد باء بها أحدهما )، وقال كذلك: ( تكفير المسلم كقتله )، وقال كذلك: ( من قال لأخيه: يا كافر! فإن كان كما قال وإلا حارت عليه )، وفي رواية: ( وإلا رجعت عليه ).

وحذر صلى الله عليه وسلم كذلك من الاعتداء على حقوق الأخوة مطلقاً حتى بالكلمة الواحدة، حتى بالكلمة أو بشطر الكلمة، كل ذلك بين النبي صلى الله عليه وسلم خطره الداهم، وأثره العميق الذي يبقى، ( فإن الرجل ليتكلم بالكلمة الواحدة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها سبعين خريفاً في قعر جهنم ).

وحذر كذلك صلى الله عليه وسلم من قطيعة الرحم، ومن أذى الجار، ومن أذى الضيف، وغير ذلك مما ينافي هذه الأخوة؛ فقال: ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره ).

وفي الحديث الآخر: ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره، من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت ).

كذلك قال: ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته ) أي: مدة ضيافته التي بينها النبي صلى الله عليه وسلم.

كذلك فإنه صلى الله عليه وسلم أكد هذه الأخوة بالمؤاخاة بين المهاجرين أنفسهم، وبين المهاجرين والأنصار، ففي مكة آخى بين المهاجرين، ثم لما أتى المدينة آخى بينهم وبين الأنصار، وكانت هذه الأخوة آكد الروابط في صدر الإسلام، فقد قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجَرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنْ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمْ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [الأنفال:72].

وقد كانوا يتوارثون بهذه الأخوة؛ فقد أخرج البخاري في الصحيح عن أم العلاء رضي الله عنها قالت: ( كان المهاجري يرث الأنصاري، والأنصاري يرث المهاجري بأخوة الإسلام، حتى نزل قول الله تعالى: وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفاً [الأحزاب:6]، قالت: فكانوا يوصون لهم ).

هذا المعروف الذي أذن الله فيه جسدوه في الوصية؛ ولذلك أوصى عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه بثلث ماله لبقية أهل بدر، أي: لمن لم يمت من أهل بدر، وأوصى عدد من رجال الأنصار كذلك لإخوانهم من فقراء المهاجرين.

إن هذه الأخوة هي التي اقتضت وحدة الكلمة، واقتضت أن يكونوا يداً واحدةً على من سواهم، واقتضت كذلك أن يصلوا خلف إمام واحد، وأن تجتمع قلوبهم، وأن يتغلبوا على أعدائهم، وألا يكيد بعضهم لبعض، وألا ينشغلوا في تتبع عورات المسلمين والبحث عن زلاتهم، فإن اشتغلت الأمة بذلك لا شك أن الهزائم ستتوالى عليها؛ ( فمن تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته فضحه ).

ولذلك أخرج مالك في الموطأ و أحمد في الزهد عن يحيى بن سعيد الأنصاري : أنه بلغه: أن عيسى ابن مريم قال: لا تكثروا الكلام في غير ذكر الله فتقسو قلوبكم، فإن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون، ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب، وانظروا في ذنوبكم كأنكم عبيد، وإنما الناس مبتلىً ومعافىً، فارحموا أهل البلاء، واحمدوا الله على العافية.

وقد أخرج مسلم بعض هذا الحديث في صحيحه من حديث ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال ابن القيم رحمه الله: هذا الحديث خرج من مشكاة النبوة، سواءً كان من كلام عيسى أو من كلام محمد صلى الله عليه وسلم، فهو حق، ومتضمنه صدق.

كذلك فإن هذه الأخوة اقتضت كثيراً من الأحكام الشرعية التي بينها الله في كتابه؛ فمن كبريات الأحكام التي تقتضيها هذه الأخوة: ألا يفر المسلم عن أخيه المسلم في الزحف، فقد جعل الله الفرار من الزحف من الكبائر الموبقات، فقال تعالى: وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [الأنفال:16].

وعده النبي صلى الله عليه وسلم من الموبقات السبع، وهو محقق لحق من حقوق هذه الأخوة ألا يسلم المسلم أخاه المسلم للأعداء بوجه من الوجوه، وإذا استشعر المسلمون هذا أدركوا حقوق إخوانهم عليهم، فإن الحاصل اليوم للأمة الإسلامية من التقاطع والتدابر والتناحر هو الذي أدى إلى ألا يستشعر المسلمون آلام إخوانهم في مشارق الأرض ومغاربها، فهم يقطعون إرباً إرباً، ويذلون آناء الليل وآناء النهار، ومع ذلك لا يشعر أحد بمذلتهم، ولا يسعى لمواساتهم، بينما نجد أن هذا الدين يحض على تحقيق هذه النبوة وعدم الفرار من الزحف، وألا يخذل المسلم أخاه المسلم بوجه من الوجوه.


استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
خطورة المتاجرة بكلمة الحق 4830 استماع
بشائر النصر 4289 استماع
أسئلة عامة [2] 4132 استماع
المسؤولية في الإسلام 4060 استماع
كيف نستقبل رمضان [1] 4000 استماع
نواقض الإيمان [2] 3947 استماع
عداوة الشيطان 3934 استماع
اللغة العربية 3931 استماع
المسابقة إلى الخيرات 3907 استماع
القضاء في الإسلام 3897 استماع