شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [22]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:

فعندي أمران أحب أن أنبه عليهما:

الأمر الأول: أرسل إليَّ بعض الإخوة الكرام قريباً، كتاباً ألفه بعض المشايخ من بلاد باكستان وهو: كشف النقاب عما يقول فيه الترمذي : وفي الباب. وقد خرج منه خمسة مجلدات, وفي توقعي أنه لم ينقص عن سلفنا مجلداً وهذا مبني على حسب الكيفية التي ينقل فيها. هذا في توقعي, والعلم عند الله جل وعلا.

والكتاب فرحت به غاية الفرح، فيعلم الله أنه عندما وصلني شكرت لمن أرسله ولمن أحضره ودعوت له، وبحثت فيه عن الحديثين اللذين تقدم الكلام عليهما ولم أجد تخريجاً لهما وهما: حديث أبي أمامة ، وحديث عبد الله بن عمر .

فبحثت عن الحديث الأول فقال: لم أقف عليه، فقلت: هذه الفرحة قرنت بغصة، لكن مع أنه لم يسرني أن يقول: لم أقف عليه، إلا أني قلت: الحمد لله أنني بذلت ما بوسعي.

وليتنا وقفنا على كتاب الحافظ ابن حجر اللباب في بيان قول الترمذي : وفي الباب، هذا لو وقفنا عليه لوجدنا تخريجاً كافياً لهذين الحديثين من كلام حذام المحدثين وأمير المؤمنين الحافظ ابن حجر عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا، ومع ذلك فالأخ الكريم هنا يقول في مقدمته: إنه بحث عنه في مكاتب العالم كلها فلم يعثر عليه لا مخطوطاً ولا مطبوعاً.

والحديث الثاني: وهو حديث عبد الله بن عمر في الباب الذي نتدارسه رضي الله عنهم أجمعين في كراهية ما يستنجى به: (لا تستنجوا بالروث ولا بالعظم فإنه زاد إخوانكم من الجن).

قال صاحب الكتاب: أيضاً لم أقف عليه. فقلت: سبحانك ربي ما فزت ولا بواحدة، وهذه عبارته في المسانيد في الجزء الأول، صفحة اثنتين وأربعين ومائتين.

والحديث الأول تقدم معنا في باب النهي عن استقبال القبلة بغائط أو بول.

قال الترمذي : وفي الباب عن عبد الله بن الحارث ، ومعقل بن أبي الهيثم ، ويقال: معقل بن أبي معقل ، وأبي أمامة ، وأبي هريرة ، وسهل بن حنيف ، الأحاديث كلها تقدم تخريجها.

قلت: قوله: حديث أبي أمامة لم أقف عليه، وهو يقول هنا: ثابت, وما زاد على هذا ولا كلمة، فهذا الحديث الأول.

وأما الحديث الثاني: فكذلك في الجزء الأول، صفحة أربع وتسعين ومائتين، وهو في هذا الباب: في كراهية ما يستنجى به في الباب الذي نتدارسه. قال: وفي الباب عن أبي هريرة وسلمان وجابر وابن عمر رضي الله عنهم أجمعين، رواية الثلاثة تقدم معنا تخريجها, وبيان حالها. وقال: الرواية الرابعة: حديث ابن عمر رضي الله عنهما قلت: لم أجده في هذا الباب، نعم فيه حديث عن عبد الله بن عمر سنذكره كما سيأتي.

وكنت قد ذكرت لكم حديثاً بمعجم الطبراني الكبير, وهو في المجمع في الجزء الأول، صفحة مائتين وواحدة ومائتين وإحدى عشرة, أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (إذا استجمر أحدكم فليستجمر ثلاثاً)، هذا عن ابن عمر .

قلت: يمكن أن يكون هو على بُعد، لكن هذا الذي وقفت عليه من رواية لـابن عمر في هذا الباب.

أما قوله: يأتي معنا حديث لـعبد الله بن عمر هذا ليس لنا علاقة به، إنما هنا يقول: قلت: لم أجده في هذا الباب، هذان حديثان -كما قلت- مرا معنا ولم أجد لهما تخريجاً.

وهذا الأخ اسمه محمد حبيب الله المختار وهو رئيس مجلس الدعوة والتحقيق الإسلامي في كراتشي، ونائب رئيس جامعة العلوم الإسلامية في كراتشي.. في باكستان، نسأل الله أن يحفظها وسائر بلاد الإسلام.

والرجل له جهد يشكر عليه، وأنا أقول هذا -يعلم الله- لا تعريضاً به ولا تنقيصاً لقدره، فالكتاب فيه خير وجهد أسأل الله أن يتقبل منه.

لكن أقول: هذا ضعف همم وعلم وقصور المعاصرين في هذه الأيام، ولذلك حال الحفاظ هذا مضى مع الأمة التي لها ما كسبت ولنا ما كسبنا.

الآن يطلق على الإنسان أنه حافظ ولو قلنا: اقرأ لنا عشرة أحاديث فقط بمتونها وأسانيدها فإنه لا يعرف، ولو قرأ متناً من كتاب للحن فيه كما هو حالنا، ولا أبرئ نفسي، ثم بعد ذلك يقال له: حافظ.

الحافظ عندما يجلس في مجلس الإملاء يملي من صدره، وهذا ما كان أئمتنا يفعلونه، فـالحاكم كما يقولون: إن سبب وقوع التساهل في مستدركه أنه أملاهم إياه من صدره على طلابه ثم ما أمكنه أن يعيد النظر فيه، والإنسان عندما يتحدث يهم وهذه طبيعة البشر، فانظر لحالهم وحالنا، يملي من صدره بالأسانيد ويقع له زلات.

ونحن نأتي نتحقق من الكتب ثم يلتبس علينا الأمر فنقول: أحياناً سرق نظري من الصفحة الثانية, وظننت أن هذا الإسناد لهذا الحديث، مع أننا نقرأ هذا من كتاب.

إذاً هذا الكتاب صدر منه خمسة مجلدات، ولعله سيصل إلى ثلاثين أو إلى أربعين، هذا الأمر الأول.

الأمر الثاني: كما يقال: والشيء بالشيء يذكر، وهو يرتبط بهذا وحوله شيء من التعليقات.

في المجلة التي تسمى بمجلة المسلمين، وحالها كحال خضراء الدمن، في عدد الأسبوع الماضي عرضها علي بعض الإخوة وفيها موضوع بعنوان: فقه الفقه، بقلم بعض الدكاترة.

لا أعلم لماذا هذا التناقض؟ ولماذا هذه العبارات؟ نحن الآن ليس عندنا إلا خلاصة الفقه! وأنا أقول: لو كتب بدل هذا العنوان: الجهل بالفقه لكانت الحقيقة أنصف وأتقن لها، ولنتأمل حال سلفنا وحالنا ونقارن بينهما.

يقول صاحب المقال: سبق في المباحث السابقة من هذه الزاوية أن بينا بعض الضوابط العامة للحكم على الرجال في كل زمان، وفي هذا المبحث أكمل هذا الموضوع بإيراد بعض الشواهد والنماذج من مواقف العلماء في الاعتدال عند الحكم على الرجال.

أولاً: إسماعيل بن إبراهيم ابن علية ، توفي سنة ثلاث وتسعين ومائة للهجرة، -وتقدمت معنا ترجمته- قلت: هو شيخ الإسلام وعالم حافظ، وحديثه في الكتب الستة، ومحتج به في دواوين الإسلام، يقول: لقب بريحانة الفقهاء وسيد المحدثين، وروى له الأئمة في كتبهم. قال فيه الشافعي : إنه ضال، جلس بباب الضوال يضل الناس.

وباب الضوال سيأتينا تعريفه: وهو مكان في مصر, يقول عنه الحافظ ابن حجر : ولعله والعلم عند الله سمي بذلك لوضع الأشياء الضائعة الضالة فيه، فسمي باب الضوال، وليس من الضلال بمعنى خلاف الهدى والرشد.

وقال فيه أحمد : ضال مضل ما زال يبغض أهل الحديث، هو شيخ المحدثين يا عبد الله! هو شيخ المحدثين فاستمع، وسئل عنه أحمد مرة فقال: إسماعيل بن علية ثبت، فقد يقول قائل: انظر للخلط، إن الإمام أحمد لا يعي ما يقول، فمرة يقول: ضال مضل، ومرة يقول: ثبت!

ونحن نقول: إن هذا يقال فينا نحن لأننا ما عندنا في الأصل -كما يقال- قواعد ثابتة ننطلق منها، بل على حسب هوانا، فإن أحببنا إنساناً قلنا: كأن الأرض انشقت في هذه الأيام وأخرجت لنا صحابياً، وإذا أبغضناه قلنا: إنه شيطان مريد؛ لأن هذا الإنسان الذي كنت تحبه ثم أبغضته، أحببته لهواك وأبغضته لهواك، فجئت بعد ذلك تتلاعب.

ويقول أيضاً: وقال فيه يحيى بن معين : كان ثقةً مأموناً صدوقاً مسلماً ورعاً تقياً. فأنت ترى -أخي القارئ- العلماء مختلفين فيه بين معدل وجارح، فما المخرج؟ اقرأ وتأمل كلام الذهبي في ابن علية . قال: إمامة إسماعيل وثيقة لا نزاع فيها، وقد بدت منه هفوة وتاب.

حقيقة ما نسب إلى إسماعيل بن علية من القول بخلق القرآن

فـإسماعيل بن علية عليه رحمة الله نقل عنه في أول الأمر أنه كان يقول: إن القرآن مخلوق فقط، وليس عنده غير هذا على الإطلاق، ثم رجع وتاب, وقال: أنا ما قصدت موافقة المعتزلة بهذه العبارة التي جرت عن زلل، ثم بعد ذلك رجع عنهما.

يقول فيه الحافظ ابن حجر : ثقة حافظ، فهل يا ترى هذان الإمامان لا يعلمان أقوال الآخرين فيه؟ بلى، إنهما ليعلمان جداً، فقد أوردا في ترجمته جميع أقوال من وثقه ومن جرحه، ثم خلصا إلى تعديله، فلا يجوز أن يأتي طويلب علم -وأنا وأنت منهم- في عصرنا ويأخذ بقول ويترك آخر، وهو لا يعرف أن يجمع بين الأقوال فضلاً عن أن يختار منها، والنصيحة أن يلتزم أقوال سلفنا المحققين.

وأقول: هذا الكلام الذي حشره في ترجمة إسماعيل بن علية كله مكذوب لا حقيقة له، فأئمتنا ما قالوا كلمةً من ذلك في إسماعيل بن علية ، إنما قالوه في ولده الشيطان: إبراهيم بن إسماعيل بن علية ، فجاء هذا المسكين وأخذ الكلام الذي قيل في الجهمي الضال الذي لم يخرج له في الكتب الستة لضلاله, وزيغه, وابتداعه, وحمل والده هذا الكلام.

فكل ما قيل في هذا الولد الجهمي الشيطان من الكلام جعله في الوالد، نعوذ بالله من هذا، وهذا حالنا في هذه الأيام، ونسأل الله أن يحسن لنا الختام.

إنَّ إسماعيل بن علية من أئمة الهدى، وولده شيطان مريد، وسبحان من يخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي.

وأنا أقول لهذا الكاتب: ارجع إلى ترجمة إسماعيل بن علية وأنت تقول: ينبغي أن نرجع للذهبي ، ولـابن حجر المنصفين في ترجمته فهذا موجود في ترجمته فارجع إلى سير أعلام النبلاء في الجزء التاسع، صفحة سبع ومائة في ترجمة إسماعيل بن علية ، حيث قال الذهبي عنه: الإمام العلامة الحافظ الثبت أبو بشر الأسدي إلى آخر كلامه ثم نقل التأويل الذي قلت لكم إنه رجع وذلك في حديث: ( البقرة وآل عمران تأتيان كأنهما غمامتان أو غيايتان تحاجان عن صاحبهما )، فقيل لـابن علية : أليس لهما لسان؟ قال: نعم، فقيل: إنه يقول: القرآن مخلوق، وإنما غلط فظنوا أن قوله: إن للبقرة وآل عمران لما تأتيان يوم القيامة تحاجان عن صاحبهما، أن لهما لساناً، يعني: أنه يقول بأن القرآن مخلوق.

وفهموا منه هذا وحملوه هذا، فقال لهم: إني لم أقصد هذا، وليس هو من دخل في هذا التأويل، فهذا غيب.

والحديث في المسند، وصحيح مسلم وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (اقرءوا الزهراوين: البقرة وآل عمران فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان -أي: فرقان من طير صواف- تحاجان عن صاحبهما).

وهذا من الكلام في المغيبات الذي يكون فيه السكوت من ذهب، فلما قيل له: لهما لسان أو لا؟ قال: نعم. فقالوا: إذاً هو يقول: القرآن مخلوق.

وكأنه أراد أن يقول فيما يبدو لي والعلم عند ربي: إن البقرة وآل عمران تتكلمان كما يتكلم اللسان، كما تحدث الأرض أخبارها يوم القيامة فهل معنى هذا أن لها لساناً؟ إنها تتكلم بكيفية يعلمها الله ولا نعلمها، وكما تنطق الجوارح وكذلك أراد أن يقول: البقرة وآل عمران تتكلمان كما يتكلم اللسان.

فقالوا: إذا كان لهما لسان كما تقول, إذاً: فهذا كلام الله مخلوق.

هذه الهفوة التي صدرت منه لهذا التأويل رجع عنها وتراجع، وقال: أنا لا أقصد هذا قفوا عند حدكم، قال الحافظ الذهبي : وحديثه في كتب الإسلام كلها، وله أولاد مشهورون، منهم ومنهم ومنهم، وعدد أولاده.

حال إبراهيم بن إسماعيل بن علية

يقول: وله أولاد مشهورون، ولـابن علية ابن آخر، بعد أن ذكر أن له منهم قاض في دمشق وهو صالح، وكذا شيخ للنسائي . قال: ولـابن علية ابن آخر جهمي شيطان, اسمه إبراهيم بن إسماعيل، كان يقول بخلق القرآن ويناظر.

وقال عنه في صفحة خمس عشرة ومائة من نفس الجزء: ابنه إبراهيم أحد كبار الجهمية، وممن ناظر الشافعي ، وله تصانيف، ولم يخرج له أحد من أصحاب الكتب الستة لضلاله وزيغه.

و الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد في ترجمة إبراهيم بن إسماعيل المظلمة في الجزء السادس، في صفحة إحدى وعشرين نقل كلام أحمد فيه: أنه ضال مضل.

ثم نقل قصةً طريفةً في مناظرة الشافعي له، ولا تخلو هذه القصة من فائدة عند ذكر هذا البلاء الذي نعيش فيه؛ ولذلك تعمدت أن أذكر هذا الخبر حتى نناقش ونرد على الزائغين في هذه الأيام في موضوع الاحتجاج بخبر الواحد.

هذا الضال إبراهيم بن إسماعيل بن علية يقول: إن خبر الواحد لا يحتج به، ولا يحتج إلا بالمتواتر، فاجتمع معه الشافعي ، وعنده الإمام أحمد وجماعة من أهل الحديث فأقبل الشافعي على إبراهيم بن إسماعيل وبدأ يكلمه، فقيل له: أبا عبد الله تعرض عن هؤلاء وتكلم هذا؟

فقال: كلامي معه بحضوركم خير من كلامي إليكم، يعني: بأنه يكلمه الآن ليقيم عليه الحجة, ويريد أن يبطل باطله، قالوا: صدقت، وتبسم الشافعي عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا.

ثم قال الشافعي لـإبراهيم بن إسماعيل: ما الحجة عندك؟ بأي شيء تثبت؟ قال: بالإجماع، قال: أأنت متيقن من ذلك؟ قال: نعم، قال: أخبرني بأي شيء رددت خبر الآحاد بإجماع أو برأيك؟ فدهش وما استطاع أن يتكلم، يعني أنت تقول: لا تثبت الحجج إلا بالإجماع, وأنت ترد خبر الآحاد, هل حكى أحد الإجماع على رده؟ ومن الذي قال برده إلا أنتم يا حثالة معشر المعتزلة الذين وجدتم في هذه الأمة؟

مثل هذه المناظرة يحتاجها طالب العلم في مثل هذه الأيام عندما نبتلى بالزائغين الذين سيعرضون حديث النبي الأمين عليه الصلاة والسلام على عقولهم.

اليوم كنا نذكر زائغاً من الزائغين ذكر في خطبة الجمعة حديثاً مروياً عن ثلاثة من الصحابة، وبعض الروايات في صحيح البخاري ، وهو يقول: أنا متوقف فيه.

الأصل أن نعرض عقولنا، وأهواءنا، وحبنا، وبغضنا على شرع ربنا، فما أقره الشرع فهو حق, وما أنكره فهو المردود، لكننا عكسنا الأمر، فبدلاً من أن نعرض العقل على نصوص الشرع لتقره أو لترده أخذنا نعرض النصوص على العقل، وليس بعد هذا الضلال ضلال.

لذلك فالفارق بين المهتدين والضالين أمر واحد وهو المعقول والمنقول، فأهل الهدى أسسوا دينهم على المنقول, وجعلوا المعقول تبعاً؛ لأن الله ضمن العصمة لوحيه, ولم يضمن العصمة لعقولهم.

وأهل الردى أسسوا دينهم على المعقول, وجعلوا المنقول تبعاً، فيحاكمون أقوال النبي عليه الصلاة والسلام إلى أقوالهم وإلى عقولهم.

وقلت لكم: إذا أردنا أن نعيد المسألة إلى العقول سيختلف الحكم باختلاف عدد أصحاب العقول، فكل واحد يقول: أنا لي رأي وعندي حكم، حتى اللواط الذي هو فاحشة ولم يفعله أحد قبل قوم لوط يوجد في هذا الوقت من يستحسنه, ويقول: لا حرج فيه، فأي عقل سنحتكم إليه؟

إذا قالوا: العقل هو الحكم قلنا: عقل من؟ نحن لا نحتكم إلا إلى شرع الله جل وعلا: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65] .

إذاً الكلام الذي أورده تحت عنوان: فقه الفقه، لو سمي: الجهل بالفقه لكان أولى؛ لأن هذا منقول عن أئمتنا وجهلناه، وما يوجد كتاب من الكتب إلا فرق بين ترجمة إسماعيل وولده، ولعرف القارئ أن الأقوال التي في الذم في الولد لا في الوالد، والأقوال التي في المدح والثناء ثابتة من أئمة أهل السنة في الوالد، وليست في الولد.

هذا عند أئمتنا قاطبةً رحمة الله ورضوانه عليهم أجمعين، وانظروا اللسان، فليس للابن ترجمة في الكتب الستة؛ لأنه ليس من الرواة فيها، ولذلك ترجمه الحافظ في اللسان، وهو كما تقدم معنا زاد التراجم على الميزان، وكل من له ترجمة في الكتب الستة أسقطه؛ لأنه ترجمه في التقريب وفي التهذيب، ولذلك كل من كان في اللسان فليس له رواية في الكتب الستة.

يقول الذهبي في الميزان وسيعلق عليه الحافظ في ترجمة هذا العبد المخذول إبراهيم بن إسماعيل بن علية روى عن أبيه، جهمي هالك، كان يناظر ويقول بخلق القرآن، مات سنة ثمان عشرة ومائتين، وأما الأب فمات سنة ثلاث وتسعين ومائة. انتهى كلام الميزان.

ويضيف الحافظ فيقول في ترجمته كلاماً كثيراً كله يشبه ما تقدم معنا: قال الشافعي : هو ضال، جلس بباب السوال -وهذا خطأ وتصحيف صوابه: باب الضوال- يضل الناس.

وهو موضع كان لجامع مصر، ثم ذكر كلاماً كثيراً في ترجمته, من ذلك ما رواه البيهقي في تراجم الشافعي أنه قال: أنا أخالف ابن علية أي: الولد إبراهيم الضال، أنا أخالف ابن علية في كل شيء حتى في قول: لا إله إلا الله؛ فإني أقول: لا إله إلا الله الذي كلم موسى، وهو يقول: لا إله إلا الله الذي خلق كلاماً سمعه موسى، حتى في هذه الكلمة أنا أخالفه لضلاله، نسأل الله أن يكفينا شره، وأورد كما قلت: أخباراً كثيرة في ترجمته في لسان الميزان للحافظ ابن حجر .

شذوذ ابن علية الابن في مسألة وقوع طلاق الحائض والجواب عنه

وأئمتنا تعرضوا له عند حديث الحائض، وطلاق الحائض، وبينوا أنه قد خالف ما هو مجمع عليه وما هو متفق عليه، فقال بعدم وقوع طلاق الحائض.

يقول ابن قدامة في المغني في الجزء الثامن، صفحة سبع وثلاثين ومائتين: فصل: فإن طلق لبدعة وهو أن يطلقها حائضاً، أو في طهر أصابها فيه أثم, ووقع طلاقه في قول عامة أهل العلم. قال ابن المنذر ، وابن عبد البر : لم يخالف في ذلك إلا أهل البدع والضلال.

وقد بوب البخاري على الحديث الذي سيأتينا في طلاق ابن عمر لزوجه وهي حائض رضي الله عن الصحابة أجمعين, بوب البخاري عليه باباً في كتاب الطلاق فقال: باب إذا طلقت الحائض تعتد بذلك الطلاق. يعني: تحسبه طلقة فقط.

وحكى أبو النضر ، عن ابن علية إبراهيم بن إسماعيل ، وهشام بن الحكم والشيعة قالوا: لا يقع طلاقه؛ لأن الله أمر به في العدة، فإذا طلق في غيره لم يقع, كالوكيل إذا أوقعه في زمن أمره موكله بإيقاعه في غيره.

قال الحافظ ابن حجر في الفتح في الجزء التاسع، صفحة ثلاث وخمسين وثلاثمائة في الباب المشار إليه: إذا طلقت الحائض تعتد، وعلق على هذا الكلام: أن إبراهيم بن علية خالف، وهو الذي قال فيه الشافعي : إنه ضال جلس بباب الضوال يضل الناس، فكان بمصر وله مسائل ينفرد بها، وهو من فقهاء المعتزلة، وقد غلط من ظن أن المنقول عن النسائي : أنه شاذ بأنه كان يقصد أباه، فإن أباه من كبار أهل السنة، ومن الجهابذة.

قال ابن قدامة في المغني: هذه المسألة تقع في هذه الأيام، وكثير من الناس يتبنون القول بأن الطلاق لا يقع, وعلى زعمهم يقولون: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد).

أي: يا أعمى القلب هل هذه عبادة حتى لا تقبل؟

انتبه للتعليل قال ابن قدامة : ولنا حديث ابن عمر : (أنه طلق امرأته وهي حائض)، والحديث في الكتب الستة، وموطأ مالك ، وغير ذلك، (فأمره النبي عليه الصلاة والسلام أن يراجعها)، وفي رواية الدارقطني : (قال: فقلت: يا رسول الله! أفرأيت لو أني طلقتها ثلاثاً أكان يحل لي أن أراجعها؟ قال: لا، كانت تبين منك، وتكون معصية)، وهذا حكم ثانٍ، وفيه رد على الذين يقولون: طلاق الثلاث تقع واحدة، وهو خلاف ما عليه المذاهب الأربعة، كما أنه خلاف ما عليه المذاهب الأربعة في وقوع طلاق الحائض.

قال نافع : (وكان عبد الله طلقها تطليقةً فحسبت من طلاقه وراجعها كما أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وفي رواية يونس -وهذه الرواية ثابتة في سنن ابن ماجه- عن ابن عمر قال: (قلت: -يعني: يونس بن جبير - لـابن عمر : أفتعتد عليه أو تحتسب عليك؟ قال: نعم، أرأيت إن عجز واستحمق)، وكلها أحاديث صحاح -أي: في وقوع طلاق الحائض- ولأنه طلاق من مكلف في محل الطلاق فيقع كطلاق الحامل, وهو ليس بقربة، فلا يقال: يعتبر لوقوعه موافقة السنة، يعني: ليس هذا طاعة حتى نقول: لم توافق السنة فهي مردودة، بل هو إزالة عصمة وقطع ملك، فإيقاعه في زمن البدعة أولى تغليظاً عليه وعقوبةً له، أما غير الزوج فلا يملك الطلاق والزوج يملكه بملكه محله.

إذاً مقصود ابن قدامة كما أن طلاق الحامل يقع فطلاق الحائض كذلك.

وأيضاً طلاق الحائض ليس بقربة؛ لأنه لو كان قربة وطاعة لقلنا: لا بد أن يكون مشروعاً، فلا يجوز أن تتعبد الله ببدعة، وهذا ليس بقربة حتى نعتبر لوقوعه موافقة السنة، بل هو إزالة عصمة، وهذا كما لو أن الإنسان فعل معصية ما فإنه يترتب عليه حكمها كشرب الخمر فإنا نجلده، ولا نقول: هذا أحدث بدعةً فأسقطوا عنه العقوبة؛ لأنه بدعة مردودة عليه.

فهذا عندما عمل بدعةً فهو لا يتعبد الله بها وليس قربة، ولا طاعة، ولا يشترط أن يكون موافقاً للسنة، فإن طلقها على حسب السنة لم يعص الله، وإلا عصى ووقع الطلاق كما قال أئمتنا.

والشاهد أن إبراهيم بن علية قال: لا يقع طلاق الحائض، وما خالف في ذلك إلا أمثاله من أهل الضلال من معتزلة وشيعة، وهو كلام باطل.

وهذا فيما يتعلق بالترجمة الأولى.

إيراد صاحب بحث فقه الفقه لترجمة بشر المريسي والرد عليه

وأما الترجمة الثانية: فقد أورد أربع تراجم، ولا أعلم ماذا يقصد بها، يقول: بشر بن غياث المريسي توفي سنة ثمان عشرة ومائتين، تفقه على يد أبي يوسف ، كان جهمياً يقول بخلق القرآن، ودعا إلى ذلك حتى صار رأس الجهمية في عصره، ورد عليه عثمان بن سعيد الدارمي في كتاب مستقل، قال فيه الحافظ ابن حجر : مبتدع ضال، ولا ينبغي أن يروى عنه ولا كرامة، إلى أن أورد كلام الأئمة فيه.

أقول: أورد ترجمة المريسي تحت عنوان منهج الاعتدال في الحكم على الرجال، وهو ضال مضل، وما أعلم أحداً وثقه، نعم موضوع الكفر والتخليد عليه شيء آخر وهو كما قلنا: كل من كفر ببدعة وإن زلة لا نحكم بخلوده, ونفوض أمره إلى ربنا.

ثم نقل كلام الذهبي وختم به ترجمته، يقول: ومن كفر ببدعة وإن زلة ليس مثل الكافر الأصلي إلى آخره.

فصاحب المقال يقول: إن هذا لهو الفقه، إذا كانت الطاعات تتفاوت، فإن الكفر والمعصية تختلف درجاتها.

وهذا لا خلاف فيه لكن لا يوجد توثيق له على الإطلاق، والمريسي ضال مضل، ولا يجوز أن تحشره مع إسماعيل بن علية ثم تقول: ذاك قيل فيه: ضال مضل فأئمتنا قبلوا روايته، وهذا ما قبل روايته أحد، مع أن ذاك ما أحد طعن فيه, كما تقدم معنا, بل الطعن في الولد الجهمي الشيطان فجاء صاحب المقال فحمل هذا الطعن على الوالد, وهو كلام باطل.

فـإسماعيل بن علية عليه رحمة الله نقل عنه في أول الأمر أنه كان يقول: إن القرآن مخلوق فقط، وليس عنده غير هذا على الإطلاق، ثم رجع وتاب, وقال: أنا ما قصدت موافقة المعتزلة بهذه العبارة التي جرت عن زلل، ثم بعد ذلك رجع عنهما.

يقول فيه الحافظ ابن حجر : ثقة حافظ، فهل يا ترى هذان الإمامان لا يعلمان أقوال الآخرين فيه؟ بلى، إنهما ليعلمان جداً، فقد أوردا في ترجمته جميع أقوال من وثقه ومن جرحه، ثم خلصا إلى تعديله، فلا يجوز أن يأتي طويلب علم -وأنا وأنت منهم- في عصرنا ويأخذ بقول ويترك آخر، وهو لا يعرف أن يجمع بين الأقوال فضلاً عن أن يختار منها، والنصيحة أن يلتزم أقوال سلفنا المحققين.

وأقول: هذا الكلام الذي حشره في ترجمة إسماعيل بن علية كله مكذوب لا حقيقة له، فأئمتنا ما قالوا كلمةً من ذلك في إسماعيل بن علية ، إنما قالوه في ولده الشيطان: إبراهيم بن إسماعيل بن علية ، فجاء هذا المسكين وأخذ الكلام الذي قيل في الجهمي الضال الذي لم يخرج له في الكتب الستة لضلاله, وزيغه, وابتداعه, وحمل والده هذا الكلام.

فكل ما قيل في هذا الولد الجهمي الشيطان من الكلام جعله في الوالد، نعوذ بالله من هذا، وهذا حالنا في هذه الأيام، ونسأل الله أن يحسن لنا الختام.

إنَّ إسماعيل بن علية من أئمة الهدى، وولده شيطان مريد، وسبحان من يخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي.

وأنا أقول لهذا الكاتب: ارجع إلى ترجمة إسماعيل بن علية وأنت تقول: ينبغي أن نرجع للذهبي ، ولـابن حجر المنصفين في ترجمته فهذا موجود في ترجمته فارجع إلى سير أعلام النبلاء في الجزء التاسع، صفحة سبع ومائة في ترجمة إسماعيل بن علية ، حيث قال الذهبي عنه: الإمام العلامة الحافظ الثبت أبو بشر الأسدي إلى آخر كلامه ثم نقل التأويل الذي قلت لكم إنه رجع وذلك في حديث: ( البقرة وآل عمران تأتيان كأنهما غمامتان أو غيايتان تحاجان عن صاحبهما )، فقيل لـابن علية : أليس لهما لسان؟ قال: نعم، فقيل: إنه يقول: القرآن مخلوق، وإنما غلط فظنوا أن قوله: إن للبقرة وآل عمران لما تأتيان يوم القيامة تحاجان عن صاحبهما، أن لهما لساناً، يعني: أنه يقول بأن القرآن مخلوق.

وفهموا منه هذا وحملوه هذا، فقال لهم: إني لم أقصد هذا، وليس هو من دخل في هذا التأويل، فهذا غيب.

والحديث في المسند، وصحيح مسلم وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (اقرءوا الزهراوين: البقرة وآل عمران فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان -أي: فرقان من طير صواف- تحاجان عن صاحبهما).

وهذا من الكلام في المغيبات الذي يكون فيه السكوت من ذهب، فلما قيل له: لهما لسان أو لا؟ قال: نعم. فقالوا: إذاً هو يقول: القرآن مخلوق.

وكأنه أراد أن يقول فيما يبدو لي والعلم عند ربي: إن البقرة وآل عمران تتكلمان كما يتكلم اللسان، كما تحدث الأرض أخبارها يوم القيامة فهل معنى هذا أن لها لساناً؟ إنها تتكلم بكيفية يعلمها الله ولا نعلمها، وكما تنطق الجوارح وكذلك أراد أن يقول: البقرة وآل عمران تتكلمان كما يتكلم اللسان.

فقالوا: إذا كان لهما لسان كما تقول, إذاً: فهذا كلام الله مخلوق.

هذه الهفوة التي صدرت منه لهذا التأويل رجع عنها وتراجع، وقال: أنا لا أقصد هذا قفوا عند حدكم، قال الحافظ الذهبي : وحديثه في كتب الإسلام كلها، وله أولاد مشهورون، منهم ومنهم ومنهم، وعدد أولاده.

يقول: وله أولاد مشهورون، ولـابن علية ابن آخر، بعد أن ذكر أن له منهم قاض في دمشق وهو صالح، وكذا شيخ للنسائي . قال: ولـابن علية ابن آخر جهمي شيطان, اسمه إبراهيم بن إسماعيل، كان يقول بخلق القرآن ويناظر.

وقال عنه في صفحة خمس عشرة ومائة من نفس الجزء: ابنه إبراهيم أحد كبار الجهمية، وممن ناظر الشافعي ، وله تصانيف، ولم يخرج له أحد من أصحاب الكتب الستة لضلاله وزيغه.

و الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد في ترجمة إبراهيم بن إسماعيل المظلمة في الجزء السادس، في صفحة إحدى وعشرين نقل كلام أحمد فيه: أنه ضال مضل.

ثم نقل قصةً طريفةً في مناظرة الشافعي له، ولا تخلو هذه القصة من فائدة عند ذكر هذا البلاء الذي نعيش فيه؛ ولذلك تعمدت أن أذكر هذا الخبر حتى نناقش ونرد على الزائغين في هذه الأيام في موضوع الاحتجاج بخبر الواحد.

هذا الضال إبراهيم بن إسماعيل بن علية يقول: إن خبر الواحد لا يحتج به، ولا يحتج إلا بالمتواتر، فاجتمع معه الشافعي ، وعنده الإمام أحمد وجماعة من أهل الحديث فأقبل الشافعي على إبراهيم بن إسماعيل وبدأ يكلمه، فقيل له: أبا عبد الله تعرض عن هؤلاء وتكلم هذا؟

فقال: كلامي معه بحضوركم خير من كلامي إليكم، يعني: بأنه يكلمه الآن ليقيم عليه الحجة, ويريد أن يبطل باطله، قالوا: صدقت، وتبسم الشافعي عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا.

ثم قال الشافعي لـإبراهيم بن إسماعيل: ما الحجة عندك؟ بأي شيء تثبت؟ قال: بالإجماع، قال: أأنت متيقن من ذلك؟ قال: نعم، قال: أخبرني بأي شيء رددت خبر الآحاد بإجماع أو برأيك؟ فدهش وما استطاع أن يتكلم، يعني أنت تقول: لا تثبت الحجج إلا بالإجماع, وأنت ترد خبر الآحاد, هل حكى أحد الإجماع على رده؟ ومن الذي قال برده إلا أنتم يا حثالة معشر المعتزلة الذين وجدتم في هذه الأمة؟

مثل هذه المناظرة يحتاجها طالب العلم في مثل هذه الأيام عندما نبتلى بالزائغين الذين سيعرضون حديث النبي الأمين عليه الصلاة والسلام على عقولهم.

اليوم كنا نذكر زائغاً من الزائغين ذكر في خطبة الجمعة حديثاً مروياً عن ثلاثة من الصحابة، وبعض الروايات في صحيح البخاري ، وهو يقول: أنا متوقف فيه.

الأصل أن نعرض عقولنا، وأهواءنا، وحبنا، وبغضنا على شرع ربنا، فما أقره الشرع فهو حق, وما أنكره فهو المردود، لكننا عكسنا الأمر، فبدلاً من أن نعرض العقل على نصوص الشرع لتقره أو لترده أخذنا نعرض النصوص على العقل، وليس بعد هذا الضلال ضلال.

لذلك فالفارق بين المهتدين والضالين أمر واحد وهو المعقول والمنقول، فأهل الهدى أسسوا دينهم على المنقول, وجعلوا المعقول تبعاً؛ لأن الله ضمن العصمة لوحيه, ولم يضمن العصمة لعقولهم.

وأهل الردى أسسوا دينهم على المعقول, وجعلوا المنقول تبعاً، فيحاكمون أقوال النبي عليه الصلاة والسلام إلى أقوالهم وإلى عقولهم.

وقلت لكم: إذا أردنا أن نعيد المسألة إلى العقول سيختلف الحكم باختلاف عدد أصحاب العقول، فكل واحد يقول: أنا لي رأي وعندي حكم، حتى اللواط الذي هو فاحشة ولم يفعله أحد قبل قوم لوط يوجد في هذا الوقت من يستحسنه, ويقول: لا حرج فيه، فأي عقل سنحتكم إليه؟

إذا قالوا: العقل هو الحكم قلنا: عقل من؟ نحن لا نحتكم إلا إلى شرع الله جل وعلا: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65] .

إذاً الكلام الذي أورده تحت عنوان: فقه الفقه، لو سمي: الجهل بالفقه لكان أولى؛ لأن هذا منقول عن أئمتنا وجهلناه، وما يوجد كتاب من الكتب إلا فرق بين ترجمة إسماعيل وولده، ولعرف القارئ أن الأقوال التي في الذم في الولد لا في الوالد، والأقوال التي في المدح والثناء ثابتة من أئمة أهل السنة في الوالد، وليست في الولد.

هذا عند أئمتنا قاطبةً رحمة الله ورضوانه عليهم أجمعين، وانظروا اللسان، فليس للابن ترجمة في الكتب الستة؛ لأنه ليس من الرواة فيها، ولذلك ترجمه الحافظ في اللسان، وهو كما تقدم معنا زاد التراجم على الميزان، وكل من له ترجمة في الكتب الستة أسقطه؛ لأنه ترجمه في التقريب وفي التهذيب، ولذلك كل من كان في اللسان فليس له رواية في الكتب الستة.

يقول الذهبي في الميزان وسيعلق عليه الحافظ في ترجمة هذا العبد المخذول إبراهيم بن إسماعيل بن علية روى عن أبيه، جهمي هالك، كان يناظر ويقول بخلق القرآن، مات سنة ثمان عشرة ومائتين، وأما الأب فمات سنة ثلاث وتسعين ومائة. انتهى كلام الميزان.

ويضيف الحافظ فيقول في ترجمته كلاماً كثيراً كله يشبه ما تقدم معنا: قال الشافعي : هو ضال، جلس بباب السوال -وهذا خطأ وتصحيف صوابه: باب الضوال- يضل الناس.

وهو موضع كان لجامع مصر، ثم ذكر كلاماً كثيراً في ترجمته, من ذلك ما رواه البيهقي في تراجم الشافعي أنه قال: أنا أخالف ابن علية أي: الولد إبراهيم الضال، أنا أخالف ابن علية في كل شيء حتى في قول: لا إله إلا الله؛ فإني أقول: لا إله إلا الله الذي كلم موسى، وهو يقول: لا إله إلا الله الذي خلق كلاماً سمعه موسى، حتى في هذه الكلمة أنا أخالفه لضلاله، نسأل الله أن يكفينا شره، وأورد كما قلت: أخباراً كثيرة في ترجمته في لسان الميزان للحافظ ابن حجر .