شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [2]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، ورضي الله عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد: فلا زلنا نتدارس الباب الرابع عشر من أبواب الطهارة من جامع الإمام أبي عيسى الترمذي عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا، وعنون عليه فقال: باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به، ثم ساق الحديث في سنده من طريق شيخه هناد بن السري إلى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تستنجوا بالروث ولا بالعظم, فإنه زاد إخوانكم من الجن ). قال الإمام أبو عيسى : وفي الباب عن أبي هريرة وسلمان وجابر بن عبد الله وابن عمر رضي الله عنهم أجمعين.

تقدم معنا الكلام على ثلاثة مباحث من مباحث هذا الحديث:

أولها: في ترجمة رجال الإسناد.

وثانيها: في تخريج هذا الحديث, وقلت: إنه صحيح، فرواه من نفس هذا الطريق الإمام مسلم في صحيحه وابن خزيمة والبيهقي وهكذا أبو عوانة الإسفراييني عليهم جميعاً رحمة الله.

وروي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه من طرق أخرى وبروايات أخرى ثبت ذلك كما تقدم معنا في المسند وسنن أبي داود والنسائي والسنن الكبرى للبيهقي ، وسنن الإمام الدارقطني , والحديث رواه ابن أبي شيبة أيضاً في مصنفه، والإمام الطبراني في معجمه الأوسط بنحو الرواية المتقدمة.

ثم خرجت بعد ذلك الروايات التي أشار إليها الإمام الترمذي بقوله: وفي الباب عن أبي هريرة وسلمان وجابر وابن عمر رضي الله عنهم أجمعين.

والمبحث الرابع: في فقه الحديث وما يرفد إليه من أحكام، وقلت: من هذا الحديث أخبرنا أن الجن إخوان لنا، وأن طعامهم يختلف عن طعامنا، وهذه القضية لا بد إذاً من البحث عنها ضمن ثلاث مراحل:

المرحلة الأولى -كما قلت- في تعريف الجن ووجودهم.

والثانية: في تكليفهم وجزائهم.

والمرحلة الثالثة: في بيان أوجه الاختلاف بيننا وبينهم. وكنا نتدارس الأمر الأول من هذه الأمور الثلاثة ألا وهو في وجودهم وتعريفهم.

أصل خلق الإنسان والجن

تقدم معنا إخوتي الكرام أن الجن خلاف الإنس من المكلفين، من حيث وجود معنى الستر فيهم، فهم مستورون مخفيون عنا كما وضحت هذا بالشواهد اللغوية في ما مضى.

وقلت: إن الجن خلقوا من نار، كما أن بني آدم خلقوا من طين، أي: أصل نشأتهم، فأبو الجن إبليس خلق من مارج من نار، وأبو الإنس آدم على نبينا وعليه الصلاة والسلام خلق من طين، وتقدم معنا أن خلق الجن سبق خلق بني آدم، كما أشار إلى هذا ربنا جل وعلا في سورة الحجر: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ [الحجر:26] ، وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ [الحجر:27] .

وأشار ربنا إلى هذا القضية أيضاً في سورة الرحمن فقال: خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ [الرحمن:14] ، وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ [الرحمن:15] .

وآخر ما ذكرته الحديث الثابت في خلقة الإنس والجن والملائكة، وقلت: إنه في المسند، وصحيح مسلم ورواه الإمام البيهقي في الأسماء والصفات، وابن مندة وابن عساكر في تاريخه من رواية أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (خلقت الملائكة من نور، وخلق الجآن من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم) أي: مما ذكر في القرآن أنه خلق من طين.

وابن كثير عليه رحمة الله عند الآيتين المتقدمتين: آية الحجر, وآية الرحمن، قال: في هذا تنبيه على شرف بني آدم, وطيب عنصره, وطهارة أصله، فأصله أطهر وأفضل وأشرف من أصل الجآن, فهو مخلوق من طين، وطبيعة الطين الرزانة والهدوء، فتضع فيه الحبة يعطيك شجرة، والطين ينبت الحدائق والبساتين.

قياس إبليس وبيان فساده

طبيعة النار الشراسة والتفريق والحماقة، ولذلك ظهرت هذه الطبيعة في هذا المخلوق الخفيف إبليس عندما أمره الله مع الملائكة بأن يسجد لآدم، وظهر فيه طبعه الناري الغضبي: قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا [الإسراء:61] ، قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [ص:76].

وهذا الكلام الذي قاله الشيطان باطل مردود عليه، ويكفي في بطلانه أنه معارض به كلام ربه، وكل رأي يصادم نصاً، قال علماؤنا باتفاق: إنه قياس باطل فاسد باعتبار ما ينظر في مضمونه ولا يعول عليه؛ لأن العقل إذا خالف الشرع دل على فساد هذا العقل وانتكاسه، والله ضمن العصمة لشرعه, ولم يضمن العصمة لعقولنا.

وعليه: ينبغي أن ترد العقول إلى شرع النبي الرسول عليه صلوات الله وسلامه، ولا يجوز أن نرد الشرع إلى العقل، فإذا رددنا الشرع إلى العقل فهذه مضيعة، ثم إلى عقل من سترد الشرع، فالعقول بأسرها لابد أن ترد إلى هذا الشرع الثابت الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

ولذلك كان أئمتنا يقولون: أول من قاس إبليس, وما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس, وهذا منقول عن تابعيين مباركين، عن محمد بن سيرين وعن الحسن البصري في سنن الدارمي وفي كتاب جامع بيان العلم وفضله لـابن عبد البر عليهم جميعاً رحمة الله.

أي: أول من قاس قياساً فاسداً معكوساً منكوساً صادم به نصوص الشرع, وقدم العقل على الشرع هو إبليس.

وما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس، يعني: الشمس مضيئة فتعبد, والقمر كذلك يعبد, وكما يقول الآن الهندوس: هذه البقرة تقدم لنا الحليب فنعبدها، وما يشبه هذه المقاييس الفاسدة الباطلة.

لم لا تعبد رب هذه البقرة، وهي لا تقدم لك الحليب من ذاتها، ولا من طبيعتها، ولا من أصل تكوينها، وإنما هذا بتقدير العزيز العليم سبحانه وتعالى.

وهكذا بالنسبة للشمس وللقمر فإنهما لا يضيئان بأنفسهما, إنما بتقدير الله إيجاد النور فيهما.

وعليه: اعبد من خلق الشمس ومن خلق القمر، ومن خلق البقر, ومن خلق الشجر، وهذا كما قال الله عز وجل: وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [فصلت:37].

نعم إبليس أول من قال: قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [ص:76]، هذا هو القياس الفاسد، الذي يدل على حماقته وسفاهته وقلة عقله، وأئمتنا عندما ألفوا في كتب الحمقى والمغفلين، اعتبروا أحمق المخلوقات, وأول الحمقى على الإطلاق إبليس, كما فعل ذلك الإمام ابن الجوزي في كتابه الحمقى والمغفلين في صفحة أربع وعشرين وما بعدها، وفي صفحة واحدة وستين.

أول المخلوقات حماقة وأحمقها إبليس، عندما اعترض على الله, ومؤدى اعتراضه، كأنه يقول: يا من خلقتني أنا أعلم منك، ويا من علمتني أنا أحكم منك.

الله خلقك -سبحانه وتعالى- ومنحك العلم والحكمة وأنت مخلوق له، وأنت بلسانك تقول: رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [ص:79]. فتعترف بأنه ربك, وأنه خلقك, فالذي خلقك, وأعطاك الحكمة والعلم، هل رضي لنفسه بصفة الجهل سبحانه وتعالى؟!

فما حكمتك إلا جزء يسير من حكمته، وما حكمتك وحكمة المخلوقات وعلمك وعلم المخلوقات بجانب حكمة وعلم رب الأرض والسماوات إلا كما هو الحال بالنسبة للقطرة مع البحر.

جاء عصفور وأخذ قطرة من البحر, فماذا تؤثر على حجم البحر؟! وهكذا نحن لن نرد حكمتنا إلى حكمة ربنا سبحانه وتعالى.

ثم انظر إلى فساد عقله, وانطماس بصيرته، حيث طلب من ربه أن يؤخره إلى يوم يبعثون ليفسد ذريته: قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [ص:82] يا لعين! ماذا تستفيد؟

هو يريد أن يغيظ به رب العالمين، ولو اجتمع أهل السماوات والأرض على معصية الله لما تضرر سبحانه، فهو الغني سبحانه وتعالى، وإذا كانت المخلوقات على أتقى قلب رجل واحد ما زاد ذلك في ملك الله شيئاً، وإذا كانت على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك من ملك الله شيئاً، يعني: أنت ستغيض الله, إذا أضللت عباده؟! فأورد هذا مورد الإغاظة, كأنك قلت: سأنتقم منك بأن أحرف العباد عن طاعتك وشكرك, ولا تجد أكثرهم شاكرين.

حسناً: هل يتضرر بهذا رب العالمين؟ الجواب: لا، فهذه زيادة حماقة من إبليس اللعين.

والحماقة الثالثة أيضاً: أنه يعلم علم اليقين أنه لا يستطيع أن يضل إلا من خذله رب العالمين، ولعنه الحكم الحق سبحانه وتعالى، وأما من شاء الله هدايته وحفظه: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ [الحجر:42] . فانظر للحماقات.

وإذا لم يكن عون من الله للفتى فأول ما يقضي عليه اجتهاده

وهنا كذلك عقل، لكن عقل الرديء ليس بعقل الذكي، نعم عنده الذكاء, لكن ذكاءه كذكاء القرود، ولا خير في الذكاء إذا لم يصحبه ذكاء.

فلذلك يقول الكفار, وأولهم إمام الأشغال في هذا الزمن كلينتون وغيره، يقولون يوم القيامة عندما يلقون في النار: وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ [الملك:10].

فهؤلاء عندهم عقول؟ ووهبهم الله عقولاً أكثر من غيرهم، كما يقول بعض من لا يعي ما يقول, هنا عندهم عقول.

هم سيشهدون على أنفسهم يوم القيامة: وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ [الملك:10].

فإذا عرف أمور الدنيا هل معنى هذا أنه صار ذكياً؟ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ [الروم:6-7].

يقول الحسن البصري عليه رحمة الله: يضرب أحدهم الدينار بظفره فيعرف وزنه وقيمته، وتسأله عن أمور دينه فيقول: ها. وهذا هو حال هذا الخسيس الخبيث إبليس.

ولذلك أئمتنا يقولون في ترجمة كثير من المخذولين، كـالمعري وغيره: كان ذكياً ولم يك زكياً، والذكاء لا وزن له؛ لأنه يدعوه إلى الشيطنة والاحتيال والمكر والفساد.

كما هو الحال في العباد في هذه الأوقات، فعندهم ذكاء دنيوي، وعملوا أسلحة مدمرة فتاكة، كما يقال: تهلك الحرث والنسل, والأخضر واليابس، لكن كله في حال الفساد، فكيف يستنجي بعد ذلك وهو لا يدري؟! يصنع قنبلة ذرية ولا يعلم كيف يتطهر؟ وكيف يعبد الله؟! القنبلة الذرية ماذا ستنفعه في نهاية الأمر.

أنت وأنا وقنبلتك وأهل السموات والأرض كلهم سيلقون الله بعد أن يموتوا، فماذا تنفعك إذا لم تتق الله في حياتك التي هي سويعة؟ والتي ينبغي أن تجعلها مطية لك إلى طاعة الله عز وجل.

هذا القياس مع كونه فاسد الاعتبار وأيضاً باطل لو قلنا: غير مسلم، فلو ناقشناه على حسب عقولنا وعندنا عقول، فتعالوا نناقش هذه القضية.

لم جوهر النار خير من جوهر الطين؟ إن جوهر الطين خيرٌ من جوهر النار، فالطين -كما قلت- طبيعته الهدوء والرزانة والإصلاح، تضع فيه الحبة فيخرج لك شجرة فيها من كل زوج بهيج، وإذا أردت أن تعرف قدر الطين، فانظر إلى هذه الحياة, وما فيها من زروع وثمار وبساتين، هذا كله بواسطة الطين, يعني: الإنسان بإمكانه أن يعيش بلا نار، لكن ليس بإمكانه أن يعيش بلا طين, فكيف سينبت زرعه وثماره ورزقه وخيراته؟

فإذاً: قولك النار خير من الطين مع كونه قياساً فاسداً، فهو باطل من حيث الواقع, وأنت مخذول في الأمرين، اعترضت على ربك بأمر باطل، ليتك اعترضت بأمر يمكن أن يقال: له وجاهة, بل كان الأمر مردوداً.

الأمر الثالث: لو سلمنا جدلاً أن عنصر النار خير من عنصر الطين، هل يلزم أن كل مخلوق من عنصر النار أفضل من كل مخلوق من عنصر الطين؟ لا يلزم الأمر, كما قال القائل:

إذا افتخرت بآباء لهم شرف قلنا صدقت ولكن بئسما ولدوا

فهب أن عنصر النار خيرٌ من عنصر الطين، لكن أنت شيطان لعين رجيم تعترض على رب العالمين، وذاك عبد مسكين يتذلل إلى خالقه الكريم, فأي المخلوقين أشرف وأفضل؟ من يتصبر على الله, أو من يتذلل ويتواضع له.

لو سلمنا فلا يلزم من شرف الأصل شرف الفرع، كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ [المدثر:38].

وعليه فهذا الاعتراض الذي قاله إمام الفتاوى, وأول الحمقى إبليس الخبيث اعتراض مردود عليه من هذه الأمور.

وقد وضح شيخنا عليه رحمة الله هذه الأمور في كتاب أضواء البيان في إيضاح القرآن للقرآن، في الجزء الأول، صفحة خمس وثلاثين ومائة عند قول الله جل وعلا: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة:30]. إلى آخر الآيات التي بعدها في أوائل سورة البقرة، وفيها: أن الله أمره والملائكة بالسجود لآدم فامتنع إبليس من السجود، وعرض الشيخ الكريم عليه رحمة الله لهذا المذهب.

إن الاعتراض على ذي الجلال والإكرام أشنع بلية في الدنيا, ولذلك هذا المنظر إلى يوم الدين وهو إبليس طلب من الله وأعطاه الله ذلك ليزيده طغياناً وضلالاً وعذاباً، فهو أول الهلكى, وأول الموتى من الخليقة على الإطلاق، وإن كان حياً؛ لأنه لا قيمة للحياة إذا لم تنفعك، حياة لكن شؤم وضر وبلاء، أول النجسين إبليس اللعين.

وهذا ورد في الكتب السابقة كما نقل هذا الإمام ابن القيم في الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي, صفحة ثمان وخمسين: إن الله أوحى إلى كليمه موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام فقال: أول من مات إبليس, قال: كيف يا رب؟! وهو منظر إلى يوم الدين؟ قال: لأنه عصاني.

ولذلك يقول الله جل وعلا في كتابه: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا [الأنعام:122] .

حقيقةً: إن الكافر ميت والمؤمن حي، والكافر رديء العقل خبيث النفس, سيشهد على نفسه بذلك يوم القيامة كما تقدم معنا: وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ [الملك:10] ، وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [الأعراف:179] .

فأول الهلكى هذا العبد المخذول إبليس الذي خلق من مارج من نار.

إذاً: في خلق الله لأصلنا لأبينا آدم على نبينا وعليه الصلاة والسلام من طين، في هذا منة من الله علينا وتيسير لنا بهذه الطبيعة التي في هذا العنصر، طبيعة الهدوء، طبيعة الرزانة، طبيعة التأني, طبيعة السلم, طبيعة الإصلاح هذه كلها موجودة في الطين الذي خلق منه أبونا آدم على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه.

المقصود بأبي الجن

وإبليس الذي خلق من مارج من نار، كما وضحت ذلك آيات القرآن وأحاديث نبينا عليه الصلاة والسلام، هو أصل الجن أجمعين، فكل جني هو من نسله: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا [الكهف:50] .

قال الحسن البصري عليه وعلى أئمتنا: جميع الجن من ولد إبليس، كل من كان من هذه الفصيلة من العصاة الذين هم شياطين، أو من الهداة الذين هم جن, ولفظ الجن: هو ما يقابل الإنس من المكلفين، سواء كان مؤمناً أو كافراً، لكن إذا فسد يقال له: شيطان وعفريت ومارد, كما تقدم معنا على حسب خبثه ودرجات شره.

وأما أصل الجن فهو بما يقابل الإنس من المكلفين، فجميع الجن هم من ولد إبليس وهو أصلهم، كما أن جميع البشر والإنس من ولد آدم ، وهو أصلهم على نبينا وعليه الصلاة والسلام.

وهذا قرره أئمتنا قاطبة، ولا خلاف بين علماء الشريعة المطهرة فيه، وأشار إليه الإمام ابن تيمية في مجموع الفتاوى في الجزء الخامس عشر صفحة سبعين.

تقدم معنا إخوتي الكرام أن الجن خلاف الإنس من المكلفين، من حيث وجود معنى الستر فيهم، فهم مستورون مخفيون عنا كما وضحت هذا بالشواهد اللغوية في ما مضى.

وقلت: إن الجن خلقوا من نار، كما أن بني آدم خلقوا من طين، أي: أصل نشأتهم، فأبو الجن إبليس خلق من مارج من نار، وأبو الإنس آدم على نبينا وعليه الصلاة والسلام خلق من طين، وتقدم معنا أن خلق الجن سبق خلق بني آدم، كما أشار إلى هذا ربنا جل وعلا في سورة الحجر: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ [الحجر:26] ، وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ [الحجر:27] .

وأشار ربنا إلى هذا القضية أيضاً في سورة الرحمن فقال: خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ [الرحمن:14] ، وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ [الرحمن:15] .

وآخر ما ذكرته الحديث الثابت في خلقة الإنس والجن والملائكة، وقلت: إنه في المسند، وصحيح مسلم ورواه الإمام البيهقي في الأسماء والصفات، وابن مندة وابن عساكر في تاريخه من رواية أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (خلقت الملائكة من نور، وخلق الجآن من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم) أي: مما ذكر في القرآن أنه خلق من طين.

وابن كثير عليه رحمة الله عند الآيتين المتقدمتين: آية الحجر, وآية الرحمن، قال: في هذا تنبيه على شرف بني آدم, وطيب عنصره, وطهارة أصله، فأصله أطهر وأفضل وأشرف من أصل الجآن, فهو مخلوق من طين، وطبيعة الطين الرزانة والهدوء، فتضع فيه الحبة يعطيك شجرة، والطين ينبت الحدائق والبساتين.

طبيعة النار الشراسة والتفريق والحماقة، ولذلك ظهرت هذه الطبيعة في هذا المخلوق الخفيف إبليس عندما أمره الله مع الملائكة بأن يسجد لآدم، وظهر فيه طبعه الناري الغضبي: قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا [الإسراء:61] ، قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [ص:76].

وهذا الكلام الذي قاله الشيطان باطل مردود عليه، ويكفي في بطلانه أنه معارض به كلام ربه، وكل رأي يصادم نصاً، قال علماؤنا باتفاق: إنه قياس باطل فاسد باعتبار ما ينظر في مضمونه ولا يعول عليه؛ لأن العقل إذا خالف الشرع دل على فساد هذا العقل وانتكاسه، والله ضمن العصمة لشرعه, ولم يضمن العصمة لعقولنا.

وعليه: ينبغي أن ترد العقول إلى شرع النبي الرسول عليه صلوات الله وسلامه، ولا يجوز أن نرد الشرع إلى العقل، فإذا رددنا الشرع إلى العقل فهذه مضيعة، ثم إلى عقل من سترد الشرع، فالعقول بأسرها لابد أن ترد إلى هذا الشرع الثابت الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

ولذلك كان أئمتنا يقولون: أول من قاس إبليس, وما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس, وهذا منقول عن تابعيين مباركين، عن محمد بن سيرين وعن الحسن البصري في سنن الدارمي وفي كتاب جامع بيان العلم وفضله لـابن عبد البر عليهم جميعاً رحمة الله.

أي: أول من قاس قياساً فاسداً معكوساً منكوساً صادم به نصوص الشرع, وقدم العقل على الشرع هو إبليس.

وما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس، يعني: الشمس مضيئة فتعبد, والقمر كذلك يعبد, وكما يقول الآن الهندوس: هذه البقرة تقدم لنا الحليب فنعبدها، وما يشبه هذه المقاييس الفاسدة الباطلة.

لم لا تعبد رب هذه البقرة، وهي لا تقدم لك الحليب من ذاتها، ولا من طبيعتها، ولا من أصل تكوينها، وإنما هذا بتقدير العزيز العليم سبحانه وتعالى.

وهكذا بالنسبة للشمس وللقمر فإنهما لا يضيئان بأنفسهما, إنما بتقدير الله إيجاد النور فيهما.

وعليه: اعبد من خلق الشمس ومن خلق القمر، ومن خلق البقر, ومن خلق الشجر، وهذا كما قال الله عز وجل: وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [فصلت:37].

نعم إبليس أول من قال: قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [ص:76]، هذا هو القياس الفاسد، الذي يدل على حماقته وسفاهته وقلة عقله، وأئمتنا عندما ألفوا في كتب الحمقى والمغفلين، اعتبروا أحمق المخلوقات, وأول الحمقى على الإطلاق إبليس, كما فعل ذلك الإمام ابن الجوزي في كتابه الحمقى والمغفلين في صفحة أربع وعشرين وما بعدها، وفي صفحة واحدة وستين.

أول المخلوقات حماقة وأحمقها إبليس، عندما اعترض على الله, ومؤدى اعتراضه، كأنه يقول: يا من خلقتني أنا أعلم منك، ويا من علمتني أنا أحكم منك.

الله خلقك -سبحانه وتعالى- ومنحك العلم والحكمة وأنت مخلوق له، وأنت بلسانك تقول: رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [ص:79]. فتعترف بأنه ربك, وأنه خلقك, فالذي خلقك, وأعطاك الحكمة والعلم، هل رضي لنفسه بصفة الجهل سبحانه وتعالى؟!

فما حكمتك إلا جزء يسير من حكمته، وما حكمتك وحكمة المخلوقات وعلمك وعلم المخلوقات بجانب حكمة وعلم رب الأرض والسماوات إلا كما هو الحال بالنسبة للقطرة مع البحر.

جاء عصفور وأخذ قطرة من البحر, فماذا تؤثر على حجم البحر؟! وهكذا نحن لن نرد حكمتنا إلى حكمة ربنا سبحانه وتعالى.

ثم انظر إلى فساد عقله, وانطماس بصيرته، حيث طلب من ربه أن يؤخره إلى يوم يبعثون ليفسد ذريته: قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [ص:82] يا لعين! ماذا تستفيد؟

هو يريد أن يغيظ به رب العالمين، ولو اجتمع أهل السماوات والأرض على معصية الله لما تضرر سبحانه، فهو الغني سبحانه وتعالى، وإذا كانت المخلوقات على أتقى قلب رجل واحد ما زاد ذلك في ملك الله شيئاً، وإذا كانت على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك من ملك الله شيئاً، يعني: أنت ستغيض الله, إذا أضللت عباده؟! فأورد هذا مورد الإغاظة, كأنك قلت: سأنتقم منك بأن أحرف العباد عن طاعتك وشكرك, ولا تجد أكثرهم شاكرين.

حسناً: هل يتضرر بهذا رب العالمين؟ الجواب: لا، فهذه زيادة حماقة من إبليس اللعين.

والحماقة الثالثة أيضاً: أنه يعلم علم اليقين أنه لا يستطيع أن يضل إلا من خذله رب العالمين، ولعنه الحكم الحق سبحانه وتعالى، وأما من شاء الله هدايته وحفظه: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ [الحجر:42] . فانظر للحماقات.

وإذا لم يكن عون من الله للفتى فأول ما يقضي عليه اجتهاده

وهنا كذلك عقل، لكن عقل الرديء ليس بعقل الذكي، نعم عنده الذكاء, لكن ذكاءه كذكاء القرود، ولا خير في الذكاء إذا لم يصحبه ذكاء.

فلذلك يقول الكفار, وأولهم إمام الأشغال في هذا الزمن كلينتون وغيره، يقولون يوم القيامة عندما يلقون في النار: وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ [الملك:10].

فهؤلاء عندهم عقول؟ ووهبهم الله عقولاً أكثر من غيرهم، كما يقول بعض من لا يعي ما يقول, هنا عندهم عقول.

هم سيشهدون على أنفسهم يوم القيامة: وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ [الملك:10].

فإذا عرف أمور الدنيا هل معنى هذا أنه صار ذكياً؟ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ [الروم:6-7].

يقول الحسن البصري عليه رحمة الله: يضرب أحدهم الدينار بظفره فيعرف وزنه وقيمته، وتسأله عن أمور دينه فيقول: ها. وهذا هو حال هذا الخسيس الخبيث إبليس.

ولذلك أئمتنا يقولون في ترجمة كثير من المخذولين، كـالمعري وغيره: كان ذكياً ولم يك زكياً، والذكاء لا وزن له؛ لأنه يدعوه إلى الشيطنة والاحتيال والمكر والفساد.

كما هو الحال في العباد في هذه الأوقات، فعندهم ذكاء دنيوي، وعملوا أسلحة مدمرة فتاكة، كما يقال: تهلك الحرث والنسل, والأخضر واليابس، لكن كله في حال الفساد، فكيف يستنجي بعد ذلك وهو لا يدري؟! يصنع قنبلة ذرية ولا يعلم كيف يتطهر؟ وكيف يعبد الله؟! القنبلة الذرية ماذا ستنفعه في نهاية الأمر.

أنت وأنا وقنبلتك وأهل السموات والأرض كلهم سيلقون الله بعد أن يموتوا، فماذا تنفعك إذا لم تتق الله في حياتك التي هي سويعة؟ والتي ينبغي أن تجعلها مطية لك إلى طاعة الله عز وجل.

هذا القياس مع كونه فاسد الاعتبار وأيضاً باطل لو قلنا: غير مسلم، فلو ناقشناه على حسب عقولنا وعندنا عقول، فتعالوا نناقش هذه القضية.

لم جوهر النار خير من جوهر الطين؟ إن جوهر الطين خيرٌ من جوهر النار، فالطين -كما قلت- طبيعته الهدوء والرزانة والإصلاح، تضع فيه الحبة فيخرج لك شجرة فيها من كل زوج بهيج، وإذا أردت أن تعرف قدر الطين، فانظر إلى هذه الحياة, وما فيها من زروع وثمار وبساتين، هذا كله بواسطة الطين, يعني: الإنسان بإمكانه أن يعيش بلا نار، لكن ليس بإمكانه أن يعيش بلا طين, فكيف سينبت زرعه وثماره ورزقه وخيراته؟

فإذاً: قولك النار خير من الطين مع كونه قياساً فاسداً، فهو باطل من حيث الواقع, وأنت مخذول في الأمرين، اعترضت على ربك بأمر باطل، ليتك اعترضت بأمر يمكن أن يقال: له وجاهة, بل كان الأمر مردوداً.

الأمر الثالث: لو سلمنا جدلاً أن عنصر النار خير من عنصر الطين، هل يلزم أن كل مخلوق من عنصر النار أفضل من كل مخلوق من عنصر الطين؟ لا يلزم الأمر, كما قال القائل:

إذا افتخرت بآباء لهم شرف قلنا صدقت ولكن بئسما ولدوا

فهب أن عنصر النار خيرٌ من عنصر الطين، لكن أنت شيطان لعين رجيم تعترض على رب العالمين، وذاك عبد مسكين يتذلل إلى خالقه الكريم, فأي المخلوقين أشرف وأفضل؟ من يتصبر على الله, أو من يتذلل ويتواضع له.

لو سلمنا فلا يلزم من شرف الأصل شرف الفرع، كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ [المدثر:38].

وعليه فهذا الاعتراض الذي قاله إمام الفتاوى, وأول الحمقى إبليس الخبيث اعتراض مردود عليه من هذه الأمور.

وقد وضح شيخنا عليه رحمة الله هذه الأمور في كتاب أضواء البيان في إيضاح القرآن للقرآن، في الجزء الأول، صفحة خمس وثلاثين ومائة عند قول الله جل وعلا: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة:30]. إلى آخر الآيات التي بعدها في أوائل سورة البقرة، وفيها: أن الله أمره والملائكة بالسجود لآدم فامتنع إبليس من السجود، وعرض الشيخ الكريم عليه رحمة الله لهذا المذهب.

إن الاعتراض على ذي الجلال والإكرام أشنع بلية في الدنيا, ولذلك هذا المنظر إلى يوم الدين وهو إبليس طلب من الله وأعطاه الله ذلك ليزيده طغياناً وضلالاً وعذاباً، فهو أول الهلكى, وأول الموتى من الخليقة على الإطلاق، وإن كان حياً؛ لأنه لا قيمة للحياة إذا لم تنفعك، حياة لكن شؤم وضر وبلاء، أول النجسين إبليس اللعين.

وهذا ورد في الكتب السابقة كما نقل هذا الإمام ابن القيم في الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي, صفحة ثمان وخمسين: إن الله أوحى إلى كليمه موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام فقال: أول من مات إبليس, قال: كيف يا رب؟! وهو منظر إلى يوم الدين؟ قال: لأنه عصاني.

ولذلك يقول الله جل وعلا في كتابه: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا [الأنعام:122] .

حقيقةً: إن الكافر ميت والمؤمن حي، والكافر رديء العقل خبيث النفس, سيشهد على نفسه بذلك يوم القيامة كما تقدم معنا: وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ [الملك:10] ، وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [الأعراف:179] .

فأول الهلكى هذا العبد المخذول إبليس الذي خلق من مارج من نار.

إذاً: في خلق الله لأصلنا لأبينا آدم على نبينا وعليه الصلاة والسلام من طين، في هذا منة من الله علينا وتيسير لنا بهذه الطبيعة التي في هذا العنصر، طبيعة الهدوء، طبيعة الرزانة، طبيعة التأني, طبيعة السلم, طبيعة الإصلاح هذه كلها موجودة في الطين الذي خلق منه أبونا آدم على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه.

وإبليس الذي خلق من مارج من نار، كما وضحت ذلك آيات القرآن وأحاديث نبينا عليه الصلاة والسلام، هو أصل الجن أجمعين، فكل جني هو من نسله: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا [الكهف:50] .

قال الحسن البصري عليه وعلى أئمتنا: جميع الجن من ولد إبليس، كل من كان من هذه الفصيلة من العصاة الذين هم شياطين، أو من الهداة الذين هم جن, ولفظ الجن: هو ما يقابل الإنس من المكلفين، سواء كان مؤمناً أو كافراً، لكن إذا فسد يقال له: شيطان وعفريت ومارد, كما تقدم معنا على حسب خبثه ودرجات شره.

وأما أصل الجن فهو بما يقابل الإنس من المكلفين، فجميع الجن هم من ولد إبليس وهو أصلهم، كما أن جميع البشر والإنس من ولد آدم ، وهو أصلهم على نبينا وعليه الصلاة والسلام.

وهذا قرره أئمتنا قاطبة، ولا خلاف بين علماء الشريعة المطهرة فيه، وأشار إليه الإمام ابن تيمية في مجموع الفتاوى في الجزء الخامس عشر صفحة سبعين.

منكرو وجود الجن

إن وجود الجن -كما تقدم- معنا ثابت في الكتاب والسنة، واتفق على ذلك سلف الأمة وأئمة الإسلام, فنصوص القرآن لا تحصى كثرة تتحدث عنهم، والأحاديث لا تحصى تتحدث عنهم، وعلى هذا سلف الأمة وأئمة الإسلام، أنهم مخلوقون موجودون، والإجماع على ذلك قطعي.

ولذلك سيأتينا حكم منكر ذلك، وقد قرر الإجماع على هذه المسألة الإمام ابن تيمية في مجموع الفتاوى، في الجزء الرابع والعشرين، صفحة ست وسبعين ومائتين.

وما أنكر وجود الجن إلا شرذمة قليلة يسيره من الفلاسفة وبعض الأطباء، وأما المسلمون فكما قلنا محل إجماع بينهم أن الجن موجودون, وسيأتينا أنهم مكلفون يثابون ويعاقبون، وما بيننا وبينهم من أمور الاختلاف، سيأتينا إيضاح هذا ضمن مراحل البحث إن شاء الله.

وقد أشار إلى هذا الإمام ابن حجر في الفتح، في الجزء السادس، صفحة ثلاث وأربعين وثلاثمائة، وهكذا الإمام العيني في عمدة القاري، في الجزء الخامس عشر، صفحة مائتين وثمانين ومائة، ونقلا عن إمام الحرمين أبي المعالي -عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا- قوله: كثير من الفلاسفة والزنادقة والقدرية أنكروا وجودهم رأساً.

ثم قال أبو المعالي إمام الحرمين: ولا يتعجب من إنكار غير المسلمين لهؤلاء من الفلاسفة من الزنادقة الذين ليس لهم ملة ينتمون إليها، ولا ينتمون إلى الملة الإسلامية، وإنما يتعجب ممن ينتسب إلى المسلمين وينكرهم، ويزيد إنكار وجودهم إلى بعض القدرية على هذا القول.

ثم قال: والعجب ممن ينكر وجودهم مع أن القرآن صرح بهم، والأحاديث متواترة في ذلك.

دلالة العقل على وجود الجن

ثم قال: وليس في قضية العقل ما يقدح في إثباتهم، ليس في قضية العقل عند العقل ما يقدح في الإثبات، العقل ليس عنده ما يدل على أن الجن لا وجود لهم.

ووجه ذلك كما قال أئمتنا: أن وجود الجن ممكن, فإذا كان وجودهم ممكناً وليس عند العقل دليل، لا على وجوب وجودهم ولا على نفيهم واستحالت وجودهم، هو ممكن لكن العقل الذي يستضيء بنور الوحي، عنده الممكن إذا ورد به السمع وجب تصديقه، ولو لم يرد سمعاً بوجودهم لما صح للعقل أن ينفي وجودهم إجماعاً، وأنا لا أتكلم إلا بشيء ثابت, إما أن هذا العقل يحيل وجودهم, أو يثبت وجودهم، أو يتوقف في وجودهم.

يقول: ممكن أن يوجد, وممكن أن لا يوجد، فالعقل ليس عنده ما يثبت, وليس عنده ما يحيل في الأصل. يقول: ممكن أن يوجد هناك مخلوقات اسمهم الجن, وممكن أن لا يوجدوا، لكن هذا الممكن الذي ليس عند العقل ما يوجب ثبوته ولا ما يوجب إنكاره إذا ورد به السمع، فالعقل الصريح يحترم نفسه ويصدق به؛ لأنه كما قلنا ليس عنده ما يثبت ولا ما ينفي، وورد به خبر الصادق الذي لا ينطق عن الهوى عليه صلوات الله وسلامه، فيجب عليه إذاً أن يصدق بوجودهم, وأن يؤمن بهم.

وهذه القضية في كل شيء من أمور الغيب كما قرر أئمتنا، فكل ممكن ورد به السمع وجب الإيمان به.

وعليه: فوجود الجن ممكن ورد به السمع، وعذاب القبر ممكن ونعيمه ورد به السمع فيجب أن نؤمن به، ووجود الميزان والحوض كل هذا من الممكنات وقد ورد بها السمع الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فوجب الإيمان بها.

وكما قلت هذه القضية مسكوت عنها عند العقل؛ لأنه لا يستطيع أن يثبتها ولا أن ينفيها، فليس عنده دليل على إثبات الميزان يوم القيامة، كما أنه ليس عند العقل دليل على النفي.

ولذا ورد الخبر الصادق بوجود الميزان: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا [الأنبياء:47] .

انظر إلى ذلك من الآيات والأحاديث، والعقل يقول آمنت إذ ليس عندي ما ينفي، ولا ما يثبت فأنا كنت متوقفاً، حتى ورد الخبر الصادق فآمنت.

وهنا وجود الجن ممكن، ممكن أن يوجد مخلوق اسمه الجن ويمكن ألا يوجد، فإذا أخبرك رب العالمين, وبلغك ذلك النبي الأمين عليه الصلاة والسلام أن الجن موجودون، ولهم صفات كذا وكذا فإذا كنت تحترم عقلك, فإنك تصدق وتقف عند حدك، وإذا أردت السفاهة فحالك كما قال الله: وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ [غافر:5].

هذا الكلام الذي قررته انظر لتقريره من كلام الإمام ابن حزم عليه رحمة الله في كتابه الفصل في الملل والأهواء والنحل، في الجزء الخامس، صفحة تسعين، يقول ابن حزم عليه رحمة الله: نحن لم نثبت بالحواس الجن، وما عندنا إدراك لهم بحواسنا، ولا علمنا وجوب كونهم -يعني: هل هذا ثابت عن طريق العقل أم يستحيل ليس عندنا عقل يوجب وجود الجن- ولا علمنا وجوب كونهم، ولا وجوب امتناع كونهم، ولم ندركهم بحواسنا، وليس عند العقل ما يحكم بوجودهم، كما أنه ليس عنده ما ينفي وجودهم، وأنهم يمتنعون لا يمكن أن يوجدوا، ليس عند العقل ذلك، والعقل لا يوجب وجودهم, ولا يحيل وجودهم.

حسناً: ماذا يقول ابن حزم ؟! يقول: ولا علمنا وجوب كونهم ولا وجوب امتناع كونهم في العالم بضرورة العقل, أي: عن طريق العقل لا نعلم لا وجوب وجودهم، ولا استحالة وجودهم، لكن علمنا -انتبه لضرورة العقل- إمكان كونهم.

العقل يقول: إن وجودهم ممكن؛ لأن الله على كل شيء قدير، ولو قلت لي: هل يوجد سمك يسبح في الماء؟ أقول: الله على كل شيء قدير، ولو قدر أنني ما رأيته، فما أنفيه.

وكذلك طائر يطير في الهواء, فإننا نقول: الله على كل شيء قدير، ولو قلت لي: هل يتصور وجود إنسان له جناحان؟ أقول: الله على كل شيء قدير، وكون العقل لا يوجب ذلك ولا يحيله فيبقى وجود ذلك ممكناً، وهذا ضمن دائرة القدرة، وإذا أراد الله هذا أوجده ولا يعجزه شيء.

ولذلك يقول ابن حزم : لا نعلم بالعقل ضرورة استحالتهم، ولا وجوب وجودهم، لكن نعلم إمكان وجودهم؛ لأن قدرة الله لا نهاية لها, وهو يخلق ما يشاء.

إذاً: نحن بعقولنا لا نعلم وجوب وجودهم، ولا نعلم استحالة وجودهم، وبعقولنا نعلم أن وجودهم ممكن، والممكن ما يتصور وجوده وعدمه، والمستحيل ما لا يتصور وجوده، والواجب ما لا يتصور عدمه.

فنحن لا نتصور وجوب وجودهم بعقولنا، ولا عقولنا تثبت استحالة وجودهم، إنما العقل البشري يقول: أنا أثبت أن إمكانهم ممكن لِمَ؟ لأن هذا ليس بمستحيل, والله على كل شيء قدير.

فإذا كان العقل يقرر إمكان وجودهم، وورد به السمع فإذا كنت عاقلاً فأنت تصدق، وإذا أردت أن تكابر, فهذا شأن السفهاء وليس شأن العقلاء.

المهم أن القضية كما قلت: عقلية، وليس عند العقل ما يثبت وجوب الوجود، ولا استحالة الوجود بالنسبة للجن، وعند العقل برهان قطعي على أن الجن يمكن وجودهم، كما يمكن عدمهم, ممكن أن يوجدوا؛ لأن الله على كل شيء قدير، فبوسع قدرة الله أن يوجد مخلوقاً يرانا ولا نراه: إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ [الأعراف:27] .

كما أنه في وسع قدرة الله أن يوجد مخلوقاً آخر وهو الملائكة، يقيد علينا أعمالنا ولا نراه، فالله على كل شيء قدير.

إذاً: العقل -كما قلنا- يثبت إمكان الوجود، ثم يتوقف فيقول: أنا لا أستطيع أن أقول: لهم وجود أو لا، إلا إذا جاءني خبر الصادق, نقول: أبشر فقد جاءك كلام الله وهدي رسول الله عليه الصلاة والسلام، للإخبار بوجودهم يقول العقل إذا كان الدليل صريحاً: آمنت وصدقت، وما ورد به السمع وجب الإيمان به.

إن وجود الجن -كما تقدم- معنا ثابت في الكتاب والسنة، واتفق على ذلك سلف الأمة وأئمة الإسلام, فنصوص القرآن لا تحصى كثرة تتحدث عنهم، والأحاديث لا تحصى تتحدث عنهم، وعلى هذا سلف الأمة وأئمة الإسلام، أنهم مخلوقون موجودون، والإجماع على ذلك قطعي.

ولذلك سيأتينا حكم منكر ذلك، وقد قرر الإجماع على هذه المسألة الإمام ابن تيمية في مجموع الفتاوى، في الجزء الرابع والعشرين، صفحة ست وسبعين ومائتين.

وما أنكر وجود الجن إلا شرذمة قليلة يسيره من الفلاسفة وبعض الأطباء، وأما المسلمون فكما قلنا محل إجماع بينهم أن الجن موجودون, وسيأتينا أنهم مكلفون يثابون ويعاقبون، وما بيننا وبينهم من أمور الاختلاف، سيأتينا إيضاح هذا ضمن مراحل البحث إن شاء الله.

وقد أشار إلى هذا الإمام ابن حجر في الفتح، في الجزء السادس، صفحة ثلاث وأربعين وثلاثمائة، وهكذا الإمام العيني في عمدة القاري، في الجزء الخامس عشر، صفحة مائتين وثمانين ومائة، ونقلا عن إمام الحرمين أبي المعالي -عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا- قوله: كثير من الفلاسفة والزنادقة والقدرية أنكروا وجودهم رأساً.

ثم قال أبو المعالي إمام الحرمين: ولا يتعجب من إنكار غير المسلمين لهؤلاء من الفلاسفة من الزنادقة الذين ليس لهم ملة ينتمون إليها، ولا ينتمون إلى الملة الإسلامية، وإنما يتعجب ممن ينتسب إلى المسلمين وينكرهم، ويزيد إنكار وجودهم إلى بعض القدرية على هذا القول.

ثم قال: والعجب ممن ينكر وجودهم مع أن القرآن صرح بهم، والأحاديث متواترة في ذلك.