فقه المواريث - الرد على الزوجين [2]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين.

سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

إخوتي الكرام! اختلاف المذاهب الأربعة في هذه المسألة الواضحة مبني على اختلاف الصحابة الكرام بناءً على الحجج المتقدمة، وهي كما تقدم معنا: هل يقيد الإطلاق في قول الله جل وعلا: وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ [الأحزاب:6]، والأحاديث التي نصت على أن من ترك مالاً فلورثته وأقاربه وأرحامه، هل تقيد بنصوص المواريث المحددة للورثة أنصباء مقدرة؟ أو يعمل بكليهما؟ بالمقيد ويقدم، فإذا بقي شيء لا نخرج عن الحكم المطلق كما تقدم معنا.

قلنا: النصوص التي حددت أنصباء مقدرة هذه نقدمها في العمل، فنجعل للبنت النصف وللزوجة الثمن وللجدة السدس، هذا هو المقدر، ولا ندخل أحداً معه، لكن إن بقي شيء نقول: لا نخرج عن إطلاق قول الله: وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ [الأحزاب:6]، فالتقديم اتفقنا عليه، لكن هل نقدمه ونقول: هذا التقييد قيد ذلك الإطلاق، فذاك الإطلاق لا يعمل به؟ أو نقدمه فإذا بقي شيء نعمل المطلق؟

فتقدم معنا أن أبا حنيفة والإمام أحمد أعملا النصوص كلها، قال: نعمل بالتقييد إذا اجتمع ذوو الأرحام والورثة حتى نعرف كيف نورثهم، لكن إذا بقي شيء نعمل بالإطلاق مع التقييد.

الإمام الشافعي ومالك كما تقدم معنا يقولون: هذه النصوص قيدت ذلك الإطلاق، إن بقي شيء يرد إلى بيت المال.

لم تردونه إلى بيت المال؟

قالوا: الغنم بالغرم، بيت المال هو الذي يتكفل بمصالح المسلمين، فمن عجز من المسلمين يأخذ ما يكفيه من بيت المال زواجاً وبناء بيت وقضاء حاجة وتحصيل مركب، هذا كله يؤمن له من بيت المال، وله حق في بيت المال أن يرعى، وإذا عجز وكبر يفرض له ما يكفيه دون أن يتعرض لسؤال قريب أو غريب، هذا بيت المال وضع للمصالح العامة، وهنا يوجد بنت لها النصف فقط كما فرض الله، والباقي كما أن بيت المال إن عجزت هذه البنت ولم يكن عندها شيء يفرض لها ما يكفيها، أيضاً الآن لا داعي أن نعطيها الباقي، بل نرده إلى بيت المال؛ لأنه مصلحة عامة يليه أمر المسلمين، كما أنهم ينتفعون به ينبغي أن ينتفع به إذا ما وجد لمالهم مستحق معين، وعليه نعمل كما قلت النصوص التي فرضت أنصباء محددة للورثة، ونقيد الإطلاق في قول الله: وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ [الأحزاب:6]، ( من ترك مالاً فلقراباته وأرحامه )، نقيد هذا بما تقدم، والزائد يرد إلى بيت المال.

فإمامان أعملا النصوص كلها، وإمامان قيدا الإطلاق بالتقييد الوارد في بعض النصوص، هذا العمل الذي فعله الأئمة الأربعة هو الذي فعله الصحابة فاستمع لأقوالهم.

ما نقل عن علي رضي الله عنه في القول بالرد

ذهب إلى القول بالرد جم غفير من الصحابة الطيبين وأئمة التابعين منهم وفي مقدمتهم أقضى هذه الأمة، وهو مدينة العلم سيدنا علي رضي الله عنه وأرضاه، وقد ثبت ذلك عنه من طرق متعددة متعاقبة.

ففي سنن سعيد بن منصور (1/60) والدارمي (2/361) ومصنف عبد الرزاق (10/286)، وهذه الصفحات لن أكررها في النقول الآتية إما أن تتقدم معك صفحة أو تتأخر صفحة هذا مكان الرد فيها، وفي السنن الكبرى للبيهقي (6/244): عن الشعبي قال: كان علي رضي الله عنه وأرضاه يرد على كل وارث الفضل -يعني: الزائد- بحسابه، أي بحساب ما ورث. ولفظ البيهقي : بحصة ما ورث، غير المرأة والزوج.

وتقدم معنا: أنه لم يكن أحد من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام يرد على الزوجة والمرأة.

وفي لفظ الدارمي : على كل ذي سهم إلا المرأة والزوج، يعني: كان علي يرد على كل ذي سهم إلا المرأة والزوج.

هذا من طريق الشعبي .

وثبت في سنن سعيد بن منصور ومصنف ابن أبي شيبة (11/275، 277): عن النخعي قال: كان علي رضي الله عنه يرد على جميع الورثة إلا الزوج والمرأة.

ونقل هذا ابن أبي شيبة أيضاً في مصنفه وعبد الرزاق في مصنفه عن منصور قال: بلغني عن علي رضي الله عنه أنه كان يرد على كل ذي سهم إلا الزوج والمرأة.

إذاً من طريق الشعبي والنخعي ومنصور ، وثبت هذا عن الإمام أبي جعفر الباقر محمد بن علي عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا في مصنف ابن أبي شيبة : أن علياً كان يرد على ذوي السهام من ذوي الأرحام. فخرج الزوجان، لأنه تقدم معنا أن الرد على أصحاب الفروض النسبية.

وثبت في سنن الدارمي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن قوماً اختصموا إلى علي في ولد المتلاعنين، ويكون ذلك عندما يقذف الزوج زوجته -نسأل الله العافية- بالزنا وتحصل الملاعنة بينهما فهما متلاعنان، وسمي هذا لأن كل واحد يحلف أربعة أيمان بالله أنه صادق في ما قال وأن صاحبه كاذب فيما قال، وأن عليه لعنة الله جل وعلا إن كان كاذباً فيما يقول، فمتلاعنان.

يقول عن ابن عباس : أن قوماً اختصموا إلى علي رضي الله عنهم أجمعين في ولد المتلاعنين، فجاء عصبة أبيه يطلبون ميراثه، عصبة الأب وهم لو قدرنا الإخوة الذين هم أعمام لهذا الولد، أو قدرت أبناء لهذا الأب يصبحون إخوة لأب لذاك؛ لأنه ليس له عصبة من جهة أمه.

فإذاً: جاء عصبة الأب يطلبون الميراث، فقال علي رضي الله عنه وأرضاه: إن أباه قد كان تبرأ منه، فليس لكم من ميراثه شيء، فقضى بميراثه لأمه، وجعلها عصبة له.

وتقدم معنا: ( المرأة تحوز ثلاثة مواريث: عتيقها ولقيطها وولدها الذي لاعنت عليه )، وقلت: إن الحديث صحيح كما تقدم معنا من كلام نبينا على نبينا وعلى صحبه صلوات الله وسلامه.

قلت: وفي ذلك دلالة على الرد في السنة، وهنا دفع علي رضي الله عنه المال كله لأمه وجعلها عصبة له مع أنها لا تستحق إلا الثلث، والباقي ينبغي أن يرد إلى بيت المال على حسب قول الشافعية والمالكية في الأصل، وإن قلت: صار الاتفاق على الرد بعد ذلك.

ما نقل عن ابن مسعود رضي الله عنه في الرد

إذاً: هذه نقول عن سيدنا علي رضي الله عنه وأرضاه، وثبت هذا أيضاً عن عبد الله بن مسعود .

وفقه السادة الحنفية نهايته دائماً إلى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، وتقدم معنا قضاؤه في المرأة المفوضة التي مات زوجها ولم يفرض لها ولم يدخل بها؛ قضى عبد الله بن مسعود وأخذ به الحنفية، والقضاء ثابت عن خير البرية عليه الصلاة والسلام، لكن فقههم ينتهي إلى عبد الله بن مسعود ، فهل هو أيضاً من أصحاب الرأي؟ لأن أصحاب الكوفة هم أصحاب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، علقمة ، الأسود ، بعد ذلك التلاميذ: النخعي والشعبي ، وينتهي الأمر إلى أبي حنيفة رحمة الله ورضوانه عليهم أجمعين.

إذاً: ثبت القضاء بذلك عن عبد الله بن مسعود في سنن سعيد بن منصور في المكان المتقدم، والسنن الكبرى للبيهقي وسنن الدارمي ، لكن التفصيل الذي قال به ما أخذ به أحد من المذاهب الأربعة لوجود ما يعارضه من مذاهب الصحابة ومن القواعد العامة في الرد، فاستمعوا لتفصيله رضي الله عنه وأرضاه.

عن الشعبي قال: كان ابن مسعود رضي الله عنه يرد على كل وارث الفضل بحساب ما ورث، غير أنه لم يكن يرد على بنت ابن مع ابنة الصلب، ولا على أخت لأب مع أخت لأب وأم -وهي الشقيقة- ولا على جدة -لا يرد عليها مطلقاً- إذا وجد أحد القرابات أصحاب الفروض، إلا أن لا يكون وارث غيرها، ولا على إخوة لأم مع أم شيئاً، ولا على الزوج ولا على المرأة.

إخوتي الكرام! انتبهوا لقضاء عبد الله بن مسعود في هذه المسائل الأربع: بنت وبنت ابن، على قضاء المذاهب الأربعة وقضاء سيدنا علي وجمهور الصحابة: البنت لها النصف، بنت الابن السدس تكملة الثلثين، المسألة من ستة، للبنت ثلاثة ولبنت الابن واحد، مجموع السهام: أربعة، قلنا: الرد ضد العول، ستة تلغيها وتجعلها أربعة.

على قضاء عبد الله بن مسعود : المسألة من ستة، بنت الابن لها واحد، والبنت لها الباقي فرضاً ورداً؛ لأنه كان لا يرد على بنت ابن مع البنت، يقول: البنت أولى بالرد لأنها أقرب.

وهكذا لا يرد على أخت لأب مع أخت شقيقة، نفس المسألة، الأخت الشقيقة لها النصف والأخت لأب لها السدس فقط، والباقي يرد على الشقيقة وحدها.

ولا يرد على الجدة مطلقاً، فلو مات وترك جدة وبنتاً، فالجدة لها السدس والباقي للبنت.

فكان لا يرد على الجدة إذا كان معها وارث غيرها، فإذا لم يكن إلا هي يعطيها المال فرضاً ورداً، وسيأتينا إذا كان معها الإخوة لأم تفصيل هذا ممن بعده هل يرد على الجدة معها أو لا وهل نجعل الجدة كمنزلة الأم؟ هذا يأتينا عما قريب إن شاء الله.

والإخوة لأم -هذا الرابع- لا يرد عليهم مع الأم؛ لأنهم ورثوا بسببها، فإذا وجد إخوة لأم وأم، الإخوة لأم لهم الثلث والأم لها الثلثان فرضاً ورداً. وقلت: هذا القضاء انفرد به رضي الله عنه وأرضاه.

وثبت في سنن سعيد بن منصور ومصنف عبد الرزاق ومصنف ابن أبي شيبة عن أبي إسحاق الشيباني قال: قيل للشعبي : إن أبا عبيدة -وهو ولد سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنهم أجمعين- قضى في رجل ترك ابنته أو أخته فأعطاها المال كله، فقال الشعبي : قد كان من هو خير من أبي عبيدة -وهو عبد الله بن مسعود والده- يفعل ذلك، كان ابن مسعود يفعله.

يعني: القول بالرد هو قول عبد الله بن مسعود ، نعم له التفصيل السابق الذي خالف به من قال بالرد من الصحابة، وأما الزوج والزوجة فقلنا محل اتفاق.

وثبت هذا النقل عن عبد الله بن مسعود من طريق الإمام النخعي في سنن سعيد بن منصور ومصنف ابن أبي شيبة ، قال النخعي : كان عبد الله لا يرد على ستة: بنت ابن مع البنت، أخت لأب مع أخت شقيقة، الجدة إذا كان معها وارث غيرها، الإخوة لأم مع الأم، والزوج والزوجة.

فقلت -القائل هو النخعي -لـعلقمة : نرد على الإخوة لأم مع الجدة؟

يعني ابن مسعود يقول: لا نرد على الإخوة لأم مع الأم، والأصل ألا يرد على الجدة إذا وجد وارث، وإخوة لأم لا يرد عليهم إذا وجدت أم، فهل نرد على الإخوة لأم مع الجدة؟ أي ننزل الجدة منزلة الأم؟

فقال له علقمة : إن شئت.

يعني قضاء ابن مسعود في هذه المسألة غير واضح، يقول: لا نرد على الإخوة لأم مع الأم، ولا نرد على الجدة إذا وجد وارث غيرها، طيب ماذا نفعل الآن؟ قال: إن شئت، فعليه قضاء عبد الله بن مسعود أو علقمة فيما فهمه من قضاء عبد الله بن مسعود في هذه المسألة مع قضاء جمهور الصحابة واحد، أخ لأم، وجدة، الأخ لأم له السدس، والجدة لها السدس، المسألة من ستة لكل واحد واحد، على القول بالرد عليهم جميعاً المسألة من اثنين لكل واحد نصف المال؛ لأنه هنا إن أردت أن لا ترد على الإخوة لأم بناءً على أن الجدة تنزل منزلة الأم فهي ستأخذ خمسة من ستة وهو يبقى على السدس، وإن أردت أن لا ترد على الجدة لوجود وارث معها ستعطي الجدة السدس والخمسة للأخ لأم، فصارت مشكلة، فـالنخعي رضي الله عنه وأرضاه عندما ينقل عن ابن مسعود أنه لا يرد على ستة منهم هؤلاء الأربعة استشكل الإخوة لأم مع الجدة.

حقيقة الجدة أعلى من الأم، فالإخوة لأم ما أدلوا بالجدة، وعليه الرد عليهم جميعاً معتبر، فقال: إن شئت رد على الجميع. لا إله إلا الله! اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

وفي سنن الدارمي عن النخعي أيضاً عن عبد الله أنه قال في ابنة وابنة ابن، البنت لها نصف وبنت الابن السدس، وما بقي فرد على البنت.

وفي سنن سعيد بن منصور عن النخعي قال: قال عبد الله -يعني ابن مسعود رضي الله عنهم أجمعين- : الأم عصبة من لا عصبة له، والأخت عصبة من لا عصبة له.

والمراد من التعصيب هنا أن تأخذ ما يأخذه العصبة، وتقدم معنا العصبة عند الانفراد يأخذ كل المال، وعليه لو مات وترك أماً فلها المال كله، ولو ترك أختاً فلها المال كله، ولو ترك جدة فلها المال كله على حسب قضاء عبد الله بن مسعود كما تقدم معنا، وهذا قضى به علي رضي الله عنه وأرضاه.

إذاً: هذان الصحابيان قالا بالرد.

قبل أن ننتقل للصحابي الثالث وثبت هذا القضاء عن عبد الله بن مسعود من طريق تلميذه علقمة رضي الله عنهم أجمعين كما في سنن سعيد بن منصور والدارمي ومصنف ابن أبي شيبة ، قال علقمة : ورث ابن مسعود الإخوة من الأم الثلث، وورث بقية المال للأم، وقال: الأم عصبة من لا عصبة له، لكنه لا يفعل هذا في أم وبنت!

أم وبنت، الأم هناك سيعطيها السدس والبنت النصف ثم ترد على الجميع، بمقدار سهامهما؛ لأن البنت تدلي بنفسها، وهكذا الأم، بخلاف الإخوة لأم، فقرابتهم متأخرة بما أنهم بسبب الأم لا يرد عليهم مع الأم، بل يعطيهم فرضهم وانتهى الأمر.

يعني لو مات وترك أماً وأخاً لأم، فالأخ لأم له السدس والباقي للأم عند عبد الله بن مسعود ، وهذا لم يعمل به أحد من المذاهب الأربعة.

أريد فقط أن أقرر قوله، فهو يقول بالرد وعنده تفصيل بعد ذلك خالف به جمهور الصحابة، وتركه الحنفية لوجود ما يعارضه من أقوال الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، وهذا محض اجتهاد منه رضي الله عنه وأرضاه. اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

وهذا القضاء أيضاً نقله إبراهيم النخعي عن مسروق عن عبد الله بن مسعود كما في مصنف ابن أبي شيبة ، وعليه هو من طريق الشعبي والنخعي ومسروق وعلقمة ، كما تقدم معنا في النصوص أن عبد الله بن مسعود يقول بالرد؛ لكن عنده تفصيل لا يرد على ستة أصناف، صنفان متفق عليهما من الصحابة، وأربعة أصناف هذا اجتهاد من عبد الله بن مسعود في مبحث الرد.

ما نقل عن ابني عباس وعمر من القول بالرد

الصحابي الثالث والرابع: ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم أجمعين، قالا بالرد، ثبت ذلك في سنن الدارمي (2/364) قد تتقدم صفحة وتتأخر صفحة لا يضر ذلك.

من طريق نافع عن ابن عمر رضي الله عنهم أجمعين قال: إذا تلاعنا -يعني: الزوجين- فرق بينهما، ولم يجتمعا، ودعي الولد لأمه فيقال له: ابن فلانة، وهي عصبته يرثها وترثه، ومن دعاه لزنية جلد.

والآن يقضي في ولد المتلاعنين، لكن محل الشاهد فيه أن الأم عصبة يرثها وترثه، فإذاً يرد على الأم لأنها أم، وهي أم ولو لم يكن تلاعن.. المقصود أنها أم على جميع الأحوال، فالأم لها فرض مقدر هنا يقول: تأخذ إذا لم يكن له عصبة ولم يكن له عصبة الآن من النسب قطعاً وجزماً؛ لأن العصبة تكون من جهة الذكورة ولا تكون العصبة من جهة الأنوثة إلا في المعتقة، وهنا لم يكن له عصبة، نقول: أمه عصبته، فإن ترك إخوة لأم ورثوا منه مع أمه، لكن هذه الأم هي التي ستأخذ الباقي فرضاً ورداً.

وأما إذا ترك ابناً، فأمه الآن صار لها فرضها السدس والباقي لأولاده.

وهكذا ثبت كما قلت عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما بنحو ما تقدم.

من قال بالرد من التابعين

وهذا القول قال به من التابعين الإمام الشعبي كما في سنن الدارمي (2/361) قال الشعبي في رجل مات وترك ابنته لا يعلم له وارث غيرها، قال: لها المال كله فرضاً ورداً.

وقال بهذا سفيان الثوري وعبد الله بن عبيد بن عمير كما في سنن الدارمي ، قال عبد الله بن عبيد بن عمير : ( كتبت إلى أخ لي من بني زريق أسأله: لمن قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن الملاعنة؟ فكتب إلي: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى به لأمه، هي بمنزلة أمه وأبيه ). قال سفيان كما في هذا الأثر: المال كله للأم هي بمنزلة أبيه وأمه.

وهذا القضاء ثابت عن الحسن البصري أيضاً في سنن الدارمي ، قال الحسن : ترثه أمه، يعني: ابن الملاعنة.

وثابت عن مكحول وعن عطاء في سنن الدارمي ، الآن صار هؤلاء عشرة من السلف: أربعة من الصحابة وستة من التابعين رضي الله عنهم أجمعين يقولون بالرد، وهذا الذي أخذ به الإمام أحمد وقبله أبو حنيفة عليهم جميعاً رحمة الله ورضوانه.

ذهب إلى القول بالرد جم غفير من الصحابة الطيبين وأئمة التابعين منهم وفي مقدمتهم أقضى هذه الأمة، وهو مدينة العلم سيدنا علي رضي الله عنه وأرضاه، وقد ثبت ذلك عنه من طرق متعددة متعاقبة.

ففي سنن سعيد بن منصور (1/60) والدارمي (2/361) ومصنف عبد الرزاق (10/286)، وهذه الصفحات لن أكررها في النقول الآتية إما أن تتقدم معك صفحة أو تتأخر صفحة هذا مكان الرد فيها، وفي السنن الكبرى للبيهقي (6/244): عن الشعبي قال: كان علي رضي الله عنه وأرضاه يرد على كل وارث الفضل -يعني: الزائد- بحسابه، أي بحساب ما ورث. ولفظ البيهقي : بحصة ما ورث، غير المرأة والزوج.

وتقدم معنا: أنه لم يكن أحد من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام يرد على الزوجة والمرأة.

وفي لفظ الدارمي : على كل ذي سهم إلا المرأة والزوج، يعني: كان علي يرد على كل ذي سهم إلا المرأة والزوج.

هذا من طريق الشعبي .

وثبت في سنن سعيد بن منصور ومصنف ابن أبي شيبة (11/275، 277): عن النخعي قال: كان علي رضي الله عنه يرد على جميع الورثة إلا الزوج والمرأة.

ونقل هذا ابن أبي شيبة أيضاً في مصنفه وعبد الرزاق في مصنفه عن منصور قال: بلغني عن علي رضي الله عنه أنه كان يرد على كل ذي سهم إلا الزوج والمرأة.

إذاً من طريق الشعبي والنخعي ومنصور ، وثبت هذا عن الإمام أبي جعفر الباقر محمد بن علي عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا في مصنف ابن أبي شيبة : أن علياً كان يرد على ذوي السهام من ذوي الأرحام. فخرج الزوجان، لأنه تقدم معنا أن الرد على أصحاب الفروض النسبية.

وثبت في سنن الدارمي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن قوماً اختصموا إلى علي في ولد المتلاعنين، ويكون ذلك عندما يقذف الزوج زوجته -نسأل الله العافية- بالزنا وتحصل الملاعنة بينهما فهما متلاعنان، وسمي هذا لأن كل واحد يحلف أربعة أيمان بالله أنه صادق في ما قال وأن صاحبه كاذب فيما قال، وأن عليه لعنة الله جل وعلا إن كان كاذباً فيما يقول، فمتلاعنان.

يقول عن ابن عباس : أن قوماً اختصموا إلى علي رضي الله عنهم أجمعين في ولد المتلاعنين، فجاء عصبة أبيه يطلبون ميراثه، عصبة الأب وهم لو قدرنا الإخوة الذين هم أعمام لهذا الولد، أو قدرت أبناء لهذا الأب يصبحون إخوة لأب لذاك؛ لأنه ليس له عصبة من جهة أمه.

فإذاً: جاء عصبة الأب يطلبون الميراث، فقال علي رضي الله عنه وأرضاه: إن أباه قد كان تبرأ منه، فليس لكم من ميراثه شيء، فقضى بميراثه لأمه، وجعلها عصبة له.

وتقدم معنا: ( المرأة تحوز ثلاثة مواريث: عتيقها ولقيطها وولدها الذي لاعنت عليه )، وقلت: إن الحديث صحيح كما تقدم معنا من كلام نبينا على نبينا وعلى صحبه صلوات الله وسلامه.

قلت: وفي ذلك دلالة على الرد في السنة، وهنا دفع علي رضي الله عنه المال كله لأمه وجعلها عصبة له مع أنها لا تستحق إلا الثلث، والباقي ينبغي أن يرد إلى بيت المال على حسب قول الشافعية والمالكية في الأصل، وإن قلت: صار الاتفاق على الرد بعد ذلك.

إذاً: هذه نقول عن سيدنا علي رضي الله عنه وأرضاه، وثبت هذا أيضاً عن عبد الله بن مسعود .

وفقه السادة الحنفية نهايته دائماً إلى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، وتقدم معنا قضاؤه في المرأة المفوضة التي مات زوجها ولم يفرض لها ولم يدخل بها؛ قضى عبد الله بن مسعود وأخذ به الحنفية، والقضاء ثابت عن خير البرية عليه الصلاة والسلام، لكن فقههم ينتهي إلى عبد الله بن مسعود ، فهل هو أيضاً من أصحاب الرأي؟ لأن أصحاب الكوفة هم أصحاب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، علقمة ، الأسود ، بعد ذلك التلاميذ: النخعي والشعبي ، وينتهي الأمر إلى أبي حنيفة رحمة الله ورضوانه عليهم أجمعين.

إذاً: ثبت القضاء بذلك عن عبد الله بن مسعود في سنن سعيد بن منصور في المكان المتقدم، والسنن الكبرى للبيهقي وسنن الدارمي ، لكن التفصيل الذي قال به ما أخذ به أحد من المذاهب الأربعة لوجود ما يعارضه من مذاهب الصحابة ومن القواعد العامة في الرد، فاستمعوا لتفصيله رضي الله عنه وأرضاه.

عن الشعبي قال: كان ابن مسعود رضي الله عنه يرد على كل وارث الفضل بحساب ما ورث، غير أنه لم يكن يرد على بنت ابن مع ابنة الصلب، ولا على أخت لأب مع أخت لأب وأم -وهي الشقيقة- ولا على جدة -لا يرد عليها مطلقاً- إذا وجد أحد القرابات أصحاب الفروض، إلا أن لا يكون وارث غيرها، ولا على إخوة لأم مع أم شيئاً، ولا على الزوج ولا على المرأة.

إخوتي الكرام! انتبهوا لقضاء عبد الله بن مسعود في هذه المسائل الأربع: بنت وبنت ابن، على قضاء المذاهب الأربعة وقضاء سيدنا علي وجمهور الصحابة: البنت لها النصف، بنت الابن السدس تكملة الثلثين، المسألة من ستة، للبنت ثلاثة ولبنت الابن واحد، مجموع السهام: أربعة، قلنا: الرد ضد العول، ستة تلغيها وتجعلها أربعة.

على قضاء عبد الله بن مسعود : المسألة من ستة، بنت الابن لها واحد، والبنت لها الباقي فرضاً ورداً؛ لأنه كان لا يرد على بنت ابن مع البنت، يقول: البنت أولى بالرد لأنها أقرب.

وهكذا لا يرد على أخت لأب مع أخت شقيقة، نفس المسألة، الأخت الشقيقة لها النصف والأخت لأب لها السدس فقط، والباقي يرد على الشقيقة وحدها.

ولا يرد على الجدة مطلقاً، فلو مات وترك جدة وبنتاً، فالجدة لها السدس والباقي للبنت.

فكان لا يرد على الجدة إذا كان معها وارث غيرها، فإذا لم يكن إلا هي يعطيها المال فرضاً ورداً، وسيأتينا إذا كان معها الإخوة لأم تفصيل هذا ممن بعده هل يرد على الجدة معها أو لا وهل نجعل الجدة كمنزلة الأم؟ هذا يأتينا عما قريب إن شاء الله.

والإخوة لأم -هذا الرابع- لا يرد عليهم مع الأم؛ لأنهم ورثوا بسببها، فإذا وجد إخوة لأم وأم، الإخوة لأم لهم الثلث والأم لها الثلثان فرضاً ورداً. وقلت: هذا القضاء انفرد به رضي الله عنه وأرضاه.

وثبت في سنن سعيد بن منصور ومصنف عبد الرزاق ومصنف ابن أبي شيبة عن أبي إسحاق الشيباني قال: قيل للشعبي : إن أبا عبيدة -وهو ولد سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنهم أجمعين- قضى في رجل ترك ابنته أو أخته فأعطاها المال كله، فقال الشعبي : قد كان من هو خير من أبي عبيدة -وهو عبد الله بن مسعود والده- يفعل ذلك، كان ابن مسعود يفعله.

يعني: القول بالرد هو قول عبد الله بن مسعود ، نعم له التفصيل السابق الذي خالف به من قال بالرد من الصحابة، وأما الزوج والزوجة فقلنا محل اتفاق.

وثبت هذا النقل عن عبد الله بن مسعود من طريق الإمام النخعي في سنن سعيد بن منصور ومصنف ابن أبي شيبة ، قال النخعي : كان عبد الله لا يرد على ستة: بنت ابن مع البنت، أخت لأب مع أخت شقيقة، الجدة إذا كان معها وارث غيرها، الإخوة لأم مع الأم، والزوج والزوجة.

فقلت -القائل هو النخعي -لـعلقمة : نرد على الإخوة لأم مع الجدة؟

يعني ابن مسعود يقول: لا نرد على الإخوة لأم مع الأم، والأصل ألا يرد على الجدة إذا وجد وارث، وإخوة لأم لا يرد عليهم إذا وجدت أم، فهل نرد على الإخوة لأم مع الجدة؟ أي ننزل الجدة منزلة الأم؟

فقال له علقمة : إن شئت.

يعني قضاء ابن مسعود في هذه المسألة غير واضح، يقول: لا نرد على الإخوة لأم مع الأم، ولا نرد على الجدة إذا وجد وارث غيرها، طيب ماذا نفعل الآن؟ قال: إن شئت، فعليه قضاء عبد الله بن مسعود أو علقمة فيما فهمه من قضاء عبد الله بن مسعود في هذه المسألة مع قضاء جمهور الصحابة واحد، أخ لأم، وجدة، الأخ لأم له السدس، والجدة لها السدس، المسألة من ستة لكل واحد واحد، على القول بالرد عليهم جميعاً المسألة من اثنين لكل واحد نصف المال؛ لأنه هنا إن أردت أن لا ترد على الإخوة لأم بناءً على أن الجدة تنزل منزلة الأم فهي ستأخذ خمسة من ستة وهو يبقى على السدس، وإن أردت أن لا ترد على الجدة لوجود وارث معها ستعطي الجدة السدس والخمسة للأخ لأم، فصارت مشكلة، فـالنخعي رضي الله عنه وأرضاه عندما ينقل عن ابن مسعود أنه لا يرد على ستة منهم هؤلاء الأربعة استشكل الإخوة لأم مع الجدة.

حقيقة الجدة أعلى من الأم، فالإخوة لأم ما أدلوا بالجدة، وعليه الرد عليهم جميعاً معتبر، فقال: إن شئت رد على الجميع. لا إله إلا الله! اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

وفي سنن الدارمي عن النخعي أيضاً عن عبد الله أنه قال في ابنة وابنة ابن، البنت لها نصف وبنت الابن السدس، وما بقي فرد على البنت.

وفي سنن سعيد بن منصور عن النخعي قال: قال عبد الله -يعني ابن مسعود رضي الله عنهم أجمعين- : الأم عصبة من لا عصبة له، والأخت عصبة من لا عصبة له.

والمراد من التعصيب هنا أن تأخذ ما يأخذه العصبة، وتقدم معنا العصبة عند الانفراد يأخذ كل المال، وعليه لو مات وترك أماً فلها المال كله، ولو ترك أختاً فلها المال كله، ولو ترك جدة فلها المال كله على حسب قضاء عبد الله بن مسعود كما تقدم معنا، وهذا قضى به علي رضي الله عنه وأرضاه.

إذاً: هذان الصحابيان قالا بالرد.

قبل أن ننتقل للصحابي الثالث وثبت هذا القضاء عن عبد الله بن مسعود من طريق تلميذه علقمة رضي الله عنهم أجمعين كما في سنن سعيد بن منصور والدارمي ومصنف ابن أبي شيبة ، قال علقمة : ورث ابن مسعود الإخوة من الأم الثلث، وورث بقية المال للأم، وقال: الأم عصبة من لا عصبة له، لكنه لا يفعل هذا في أم وبنت!

أم وبنت، الأم هناك سيعطيها السدس والبنت النصف ثم ترد على الجميع، بمقدار سهامهما؛ لأن البنت تدلي بنفسها، وهكذا الأم، بخلاف الإخوة لأم، فقرابتهم متأخرة بما أنهم بسبب الأم لا يرد عليهم مع الأم، بل يعطيهم فرضهم وانتهى الأمر.

يعني لو مات وترك أماً وأخاً لأم، فالأخ لأم له السدس والباقي للأم عند عبد الله بن مسعود ، وهذا لم يعمل به أحد من المذاهب الأربعة.

أريد فقط أن أقرر قوله، فهو يقول بالرد وعنده تفصيل بعد ذلك خالف به جمهور الصحابة، وتركه الحنفية لوجود ما يعارضه من أقوال الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، وهذا محض اجتهاد منه رضي الله عنه وأرضاه. اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

وهذا القضاء أيضاً نقله إبراهيم النخعي عن مسروق عن عبد الله بن مسعود كما في مصنف ابن أبي شيبة ، وعليه هو من طريق الشعبي والنخعي ومسروق وعلقمة ، كما تقدم معنا في النصوص أن عبد الله بن مسعود يقول بالرد؛ لكن عنده تفصيل لا يرد على ستة أصناف، صنفان متفق عليهما من الصحابة، وأربعة أصناف هذا اجتهاد من عبد الله بن مسعود في مبحث الرد.