فقه المواريث - متى يسقط الجدات ومن يحجبهن


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

اللهم! لا سهل إلا ما جعلته سهلاً وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا وعلمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين.

اللهم! زدنا علماً نافعاً وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين.

سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم! صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

كنا في آخر الفروض المقدرة ألا وهو: فرض السدس وقلت: إن الورثة الذين يأخذون هذا الفرض سبعة أصناف: الأم، والجدة، والأب، والجد، وبنت الابن، والأخت لأب، والأخت أو الأخ لأم، وانتهينا من مدارسة ستة أصناف، وشرعنا في مدارسة الصنف السابع ووصلنا فيه إلى آخر ما يتعلق به ألا وهو الجدة.

وتقدم معنا أن الجدة إما أن تكون وارثة وإما أن تكون فاسدة ليست وارثة، وقلت باختصار: كل من أدلت بوارث فهي وارثة، وعليه من أدلت بمحض الإناث أو بمحض الذكور أو أدلت بإناث إلى ذكور فهي وارثة، فإن أدلت بذكور إلى إناث ففي هذه الحالة لا ترث وهي الجدة الفاسدة.

ودليل توريثها تقدم معنا أمران:

السنة الصحيحة الصريحة في ذلك.

والإجماع القطعي على أن الجدة أو الجدات يأخذن سدس كل المال.

ثم بينت كم يرث من الجدات إذا اجتمعن فاتفقوا على توريث جدتين: جدة من قبل الأب، وجدة من قبل الأم: أم الأم وأم الأب، واختلفوا في الزائد: فالحنابلة زادوا جدة ثالثة وهي أم الجد، والحنفية والشافعية جعلوا الأمر مطلقاً وكلما علوت درجة زادت جدة، وقلت: هذا -فيما يظهر- أقوى الأقوال، والعلم عند لله جل وعلا.

وآخر ما تكلمنا عليه اشتراكهن في الميراث في السدس وحجب بعضهن لبعض، فقسمتهن على أربعة أحوال:

الحالة الأولى: إذا كن في درجة واحدة وهن من جهة واحدة في درجة واحدة فيشتركن بالتساوي بالاتفاق.

الحالة الثانية: من جهة واحدة لكنهن متفاوتات في الدرجة فالقربى تسقط البعدى بلا خلاف أيضاً في ذلك.

الحالة الثالثة: يكن في درجة واحدة لكن من جهات مختلفات فيشتركن أيضاً بالاتفاق.

الحالة الرابعة: هن متفاوتات في الدرجة ومختلفات في الجهة، فإذا كانت القريبة من جهة الأم فإنها تسقط البعيدة من جهة الأب بالاتفاق أيضاً.

وإذا كان العكس وهي: أن القريبة من جهة الأب والبعيدة من جهة الأم فللعلماء في ذلك قولان:

القول الأول: وهو قول الحنفية والحنابلة وقول للشافعي أن البعدى من جهة الأم تسقط بالقربى من جهة الأب.

والقول الثاني: وهو قولٌ الإمام مالك وهو المعتمد عند الشافعية أن البعدى من جهة الأم لا تسقط بالقربى من جهة الأب، ومر معنا تعليل هذه الأقوال.

وصلنا إلى مسألة: متى تسقط الجدات ومن يحجبهن.

أولاً: الجدات من جميع الجهات يسقطن بالأم بالاتفاق، فإذا وجدت الأم فلا ترث جدة من الجدات، فالأم تسقط الجدات من جميع الجهات سواءٌ كن من جهة الأب أو من جهة الأم.

الحالة الثانية: يسقطن ببعضهن كما في التفصيل المتقدم، فالقريبة تسقط البعيدة إذا كانت الجدات من جهة واحدة، وهذا محل اتفاق.

وإذا كان الجدات من جهتين فالقريبة من جهة الأم أيضاً تسقط البعيدة من جهة الأب بالاتفاق.

وإن كان الأمر بعكس ذلك فيسقطن ببعضهن بالتفصيل المتقدم، والذي خالف المالكية والشافعية في المعتمد أن البعيدة من جهة الأم لا تسقط بالقريبة من جهة الأب.

الحالة الثالثة: الجدة التي أدلت بأبٍ من جهة الأب أو من جهة الجد أبي الأب، هل تسقط بوجود من أدلت به؟ يعني: الأب موجود وأمه موجودة، والجد موجود وأمه موجودة، فهل هذا الأب والجد الذي هو سبب في إرث تلك الجدة يحجب الجدة وتمنع عن السدس بوجوده أم لا؟ لعلمائنا في ذلك قولان معتبران:

الذي ذهب إليه الجمهور أبي حنيفة ، ومالك ، والإمام الشافعي وهو رواية عن الإمام أحمد لكن المذهب عندهم على خلاف ذلك: أن الجدة التي تدلي بأبٍ أو بجد تحجب عند وجود ابنها؛ لأن من أدلى بوارث يحجب عند وجوده، وتقدم معنا في الأحوال الخمسة لإخوة الأم أن قلنا: يرثون مع من أدلوا به، وهذا كما قلت: خلاف قاعدة: من أدلى بوارث حجب به، وهنا كذلك الجمهور الحنفية والشافعية والمالكية ورواية للإمام أحمد قالوا: الجدة التي من قبل الأب تحجب بالأب عند وجوده، وعليه لو مات ميت وترك جدة من قبل أمه: أم أم، وجدة من قبل أبيه: أم أب، وترك أباه، فالأب عصبة وليس له فرض لعدم وجود فرع وارث، والسدس تأخذه الجدة التي من قبل الأم، وهذه حجبت فلا تأخذ شيئاً على الإطلاق، فالجمهور يرون أن الجدة التي من قبل الأب أو الجد لا ترث مع وجود ابنها.

وعند الحنابلة وهذا هو القول الثاني في المسألة كما في المغني في الجزء السابع صفحة تسعٍ وخمسين، وهذا هو الذي رجحه الإمام ابن تيمية في مجموع الفتاوى في المجلد الحادي والثلاثين صفحة أربعٍ وخمسين وثلاثمائة أن الجدة لا تحجب بوجود ابنها إذا كانت من جهة الأب أو الجد بل لها الميراث ترث بوجوده، فلو مات إنسان وترك أباً وأم أبيه أي: جدة، فالجدة لها السدس والأب له الباقي.

ودليل هذا المذهب: ما ثبت في سنن الترمذي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه قال في الجدة مع ابنها -من قبل الأب أو من قبل الجد- : إنها أول جدة أطعمت رسول الله صلى الله عليه وسلم سدساً مع ابنها وابنها حي، قال الإمام الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه مرفوعاً إلا من هذا الوجه.

وغرائب الترمذي ضعيفة لا تسلم من مقال، لكن الإمام الترمذي حكى هذا القول أيضاً عن بعض أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام.

قال: هذا حديث غريب لا نعرفه مرفوعاً إلا من هذا الوجه، وقد ورث بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الجدة مع ابنها ولم يورثها بعضهم.

وكما قلت بأن الإمام ابن قدامة في المغني في صفحة تسع وخمسين قال: هذا هو ظاهر مذهب الحنابلة واستدل بهذا الأثر، ورجح هذا القول أيضاً على ما عداه. قال في متن مختصر الخرقي : والجدة ترث وابنها حيٌ وجملته: أن الجدة من قبل الأب إذا كان ابنها حياً وارثاً يعني: ورث، فإن عمر ، وابن مسعود ، وأبا موسى الأشعري ، وعمران بن الحصين ، وأبا الطفيل رضي الله عنهم أجمعين ورثوها مع ابنها وبه قال شريح ، والحسن ، وابن سيرين ، وجابر بن زيد ، والعنبري ، وإسحاق ، وابن المنذر وهو ظاهر مذهب أحمد بن حنبل رضي الله عنهم أجمعين.

وقال زيد بن ثابت : لا ترث، وروي ذلك عن عثمان ، وعلي رضي الله عنهم أجمعين، وبه قال مالك ، والثوري ، والأوزاعي ، وسعيد بن عبد العزيز ، والشافعي -وهو الإمام الثاني- وابن جابر ، وأبو ثور ، وأصحاب الرأي وهم الحنفية، وهو رواية عن أحمد رواها عنه جماعة من أصحابه، ولا خلاف في توريثها مع ابنها إذا كان عماً أو عم أب لأنها لا تبني به، فلا خلاف في توريثها من ابنها الذي مات إذا كان الموجود بدل الأب عم؛ لأنها لا تدلي به، أو عم لأب فهذا موضوع آخر.

واحتج من أسقطها بابنها أنها تدلي به فلا ترث معه كالجد مع الأب وأم الأم مع الأم إلى آخر قوله.

يقول: ولنا ما روى ابن مسعود رضي الله عنه قال: أول جدة أطعمها رسول الله صلى الله عليه وسلم السدس أم أبٍ مع ابنها وابنها حي. أخرجه الترمذي ورواه سعيد بن منصور إلا أن لفظه: أول جدة أطمعت السدس أم أبٍ مع ابنها.

قال ابن سيرين : هي أول جدة أطعمها رسول الله صلى الله عليه وسلم السدس أم أبٍ مع ابنها.

يقول: ولأن الجدات أمهات يرثن ميراث الأم لا ميراث الأب، فما يحجبن به كأمهات الأم، كما أن أم الأم لا تسقط بالأب، فأم الأب لا تسقط بالأب، وأم الجد لا تسقط بالجد، فهذه لها حكم خاص.

هذا هو قول الحنابلة، وهذا القول رجحه الإمام ابن تيمية وأطال في ترجيحه، وقال: القاعدة التي يتداولها الفرضيون ليست مسلمة، وهي: أن من أدلى بوارث يحجب عند وجوده قال: هذا غير مسلمٍ لا فرضاً ولا إرثاً، القاعدة: ينبغي أن يزاد إليها فيقال: من أدلى بوارث وورث فرضه يحجب عند وجوده، أما إذا كنت لا ترث فرضاً وتدلي به لا تحجب به يعني: بنت الابن ترث فرضاً في البنت، فإن وجدت البنت حجبتها، ابن الابن يرث ما يرثه الابن، فإذا وجد الابن حجبه، أما أن الأخ لأم لا يرث فرض الأم كما مر معنا، فلا يحجب بها، فهذا خاص به.

يقول: والصحيح أنها لا تسقط بابنها أي: الأب كما هو أظهر الروايتين عن أحمد لحديث ابن مسعود ، ولأنها ولو أدلت به فهي لا ترث من ميراثهم، بل هي معه كولد الأم مع الأم لم يسقطوا بها.

هذا الذي قرره الإمام ابن تيمية -كما قلت- في مجموع الفتاوى في صفحة أربعٍ وخمسين وثلاثمائة.

وهناك قول ثالث: أن قول: من أدلى بشخص سقط به باطل وأن ينبغي أن يضاف إليه: من أدلى بشخص سقط به إذا أخذ نصيبه، فالعم حجب بابن الابن رغم أن العمل لم يدل به ولا بالأخ مع عمه وأمثال ذلك مما فيه سقوط شخص بمن لم يدلِ به، وإنما العلة أن يرث ميراثه، فكل من يرث ميراث شخص سقط به إذا كان أقرب منه، والجدات يقمن مقام الأم فيسقطن بها وإن لم يدلين بها، فالأم تحجبهن، وأما الأب فلا يحجب أمه وهي جدة الابن الميت، وهكذا الجد لا يحجب أمه التي هي جدة للميت.

إذاً: الحنفية والشافعية والمالكية ورواية عن أحمد : أن الجدة المدلية بوارث ذكر من أبٍ أو جد تحجب عند وجوده.

أما المالكية الجدة التي أدلت بالجد استراحوا منها فهي عندهم ليست وارثة.

وأما الحنابلة هي وارثة والمعتمد عندهم أنها لا تحجب.

بقي معنا قول الحنفية والشافعية عندهم الجدات وارثات مهما كثرن، سواءٌ أدلين بأبٍ أو بجد أو بأب جد أو بجد جد، لكن قيدوا هذا الإرث بهذا الشرط: إذا لم يكن من أدلت به الجدة حياً، فإذا كان على قيد الحياة لا ترث مع وجوده والعلم عند الله جل وعلا.

الجدة التي هي ذات قرابتين فهي جدة من قبل الأب وجدة من قبل الأم، إذا اجتمعت مع جدة لها قرابة واحدة، فهل ترث ذات القرابتين ثلثي السدس، ونعطي الجدة التي ترث بقرابة واحدة ثلث السدس الباقي؟ لعلمائنا في ذلك تفصيل أيضاً:

فالمعتمد عند الجمهور أيضاً وهذا قول الحنفية ذهب إليه أبو حنيفة وصاحبه أبو يوسف وهو المرجح في المذهب، وهو قول المالكية وهو المعتمد عند الشافعية أن الجدة التي تدلي بقرابتين كالجدة التي تدلي بقرابة واحدة، وعليه إذا وجدت مع جدة تدلي بقرابة وهذه تدلي بقرابتين فيقتسمان السدس بالتساوي دون نظر إلى قرابة أو قرابتين.

وحجتهم في ذلك: أمران معتبران:

الأمر الأول: قالوا: ليس لوارثٍ فرضين، يعني: يأخذ الإنسان فرضاً محدداً، أما أن يأخذ فرضين فلا يوجد، فلا تعطيها من جهة الأم ثلث السدس، وثلث السدس الآخر من جهة الأب كأنك ستورثها فرضين.

الأمر الثاني عندهم: قالوا: توريث الجدات بمعنىً واحد: ألا وهو جهة الأمومة فلا يتعدد السبب بتعدد الجهة كالأخت الشقيقة تماماً، فالأخت الشقيقة تدلي بأبٍ وأم، فهل نورثها لأنها تدلي بأم من ميراث الأخت لأم؟ لا ثم لا.

فإذاً هي ترث هنا الجدات لجهة الأمومة، فإذا تعددت جهة الإرث لا ترث إلا ميراثاً واحداً، كما أن الأخت الشقيقة تدلي بأم وتدلي بأب فلا ترث ميراث شقيقة وميراث أخت لأم.

فإذاً: لا ترث ولا تجمع بين فرضيها، وهكذا الجدات لا يجمعن بين نصيبين وميراثين وفرضين، هذا هو قول الحنفية والشافعية والمالكية، انظروه في رد المحتار على الدر المختار في الجزء السادس صفحة ثلاث وثمانين وسبعمائة.

وذهب الإمام أحمد وهو قولٌ في مذهب الحنفية للإمام محمد بن الحسن أحد صاحبي الإمام أبي حنيفة رحمهم الله جميعاً: أن الجدة التي تدلي بجهتين ترث ميراثين: فترث ثلث السدس لكل جهة، وعليه لو وجدت مع جدة تدلي بجهة واحدة تأخذ هذه ثلثي السدس وتلك تأخذ ثلث السدس الآخر.

وعند هؤلاء اختلاف جهة القرابة كاختلاف الأشخاص، قالوا: وحال الجدات في ذلك كحال ابني العم إذا كان أحدهما أخٌ لأم، فيرث ميراثين يعني: لو مات عن ابني عم، ولو قدر أن واحداً منهما أخٌ لأم، فهذا يرث بجهة الإخوة لأم فله السدس، ويأتي مع هذا يشترك معه في التعصيب، فهو شارك في التعصيب وأخذ فرضه، والمسألة تكون من ستة: واحد وهذان لهما خمسة، ثم بعد ذلك نصحح المسألة اثني عشر: اثنان، خمسة خمسة، ويكون مجموع سهام ابن العم الذي هو أخٌ لأم ثلاثة سهام، لأنه يرث بجهتين: فهو ابن عم، وأخٌ لأم.

وابن العم يكون أخاً لأم لو قدر أن أمك بعد موت أبيك تزوجت عمك، فولدت له ولداً، وهذا العم أيضاً عمك له ولد من زوجة أخرى، الآن كلاهما ابن عم لك لكن هذا ابن عم وأخٌ لأم وذاك ابن عم فقط، فلو قدر أنك مت وليس لك وارث إلا هذان الولدان، أبناء عم لكن أحدهما أخٌ لأم فيرث بجهة ثانية، يرث على أنه أخٌ لأم، ويرث على أنه ابن عم، والجدة إذا أدلت أيضاً بجهتين ترث بجهتين، فعندهم إذاً هنا اختلاف جهة القرابة كاختلاف الأشخاص، فنزلوا اختلاف الجهة كأنه شخص مستقل يعني: كأنه جدة مستقلة كما هو الحال في ابن العم إذا كان أخاً لأم فتجعله كأنه شخصان، أخٌ لأم فيرث، وابن عم سيرث، وهنا كذلك يقول الإمام أحمد والإمام محمد كما قلت عليهم جميعاً رحمة الله، وأظنه الإمام أحمد ومحمد بن الحسن يقولان: إن كانت القرابة متصلة ولا يمكن تفريقها فلا يتعدد إرثها، وأما إذا كانت القرابة متعددة منفردة عن الأخرى فيورث القريب الذي أدلى بهذه القرابات المتعددة المختلفة بكل جهة منها، فالجدة التي أدلت بجهة الأب وبجهة الأم لو كان عندها جدة أخرى مكانها كانت سترث، أما الأخت الشقيقة فلا يمكن فصلها، وكذلك الأخت لأم، يعني إذا كانت شقيقة أدلت لأبوين وإذا كانت لأم أدلت بأم، فهناك من القرابة متصلة لا تفصل فلا يورثها إلا من جهة واحدة هذا محل اتفاق، لكن هنا عندنا قرابة منفصلة صار حالها كحال ابن العم الذي هو أخٌ لأم، نحن اتفقنا على أننا نورثه من جهتين، والجدة أدلت بجهتين ويمكن أن يكون بدل الجدة جدتان، فبما أن الجهة منفصلة وتعددت فهي تدلى بكل جهة، وأما الأخت الشقيقة فلا يمكن أن يفصل القرابة عن بعض؛ لأنك متى ما فصلتها لم تكن شقيقة، ولذلك لا ترث إلا بجهة واحدة، ولذا إذا اختلفت جهة القرابة فهنا يمكن أن تورثها بهذه الجهات المختلفة المتعددة فتورث الجدة من جهة الأب والجدة من جهة الأب والجدة من جهة الأم.

الصورة هذه متى تكون؟ قال علماؤنا الكرام: تكون لو تزوج ابن ابن امرأة بنت بنتها وجاءهما ولد، فسيكون الولد للجدة الحية ابن ابن ابن، وسيكون لها ابن بنت بنت، فهو واحد لكن فيه هذان الوصفان: هو ابن ابن ابنها وهو ابن بنت بنتها، وهي ستكون: أم أم أمه، وهي أم أبي أبيه.

إذاً: هنا أم أم أم، أم أب أب، وهي واحدة، هب لو أن معنا جدة أخرى: أم أم أب هذه، فلو مات الولد وترك جدتين: الجدة الأولى: التي هي أم أب أب، أم أم أم، والجدة الثانية: أم أم أب، قل: نفرض الآن تركه مع هؤلاء ابنه، هذا الابن عاصب، والجدات الثلاث لهن السدس، فعند الحنفية والمالكية والشافعية بالتساوي، المسألة من ستة السدس واحد وهنا خمسة، والرؤوس هنا اثنان واحد واحد، نصحح المسألة: اثني عشر، الجدة التي هي أم أب أب، وأم أم أم لها نصف السدس، واحد وهذه لها واحد، والابن له عشرة.

وعلى مذهب الحنابلة: يقسم السدس أثلاثاً، فستجعله من ثلاثة، ثلاثة في ستة: ثمانية عشر، هذه تعطيها الآن اثنان، وهذه تعطيها واحداً، وهذا يبقى له خمسة عشر، فالثلاثة تعطي ثلثيها للجدة التي هي أم أم أم، وأم أب أب، وتعطي الجدة الثانية التي هي أم أم أب ثلث السدس الباقي.

هذا فيما يتعلق بمبحث الجدات من أوله لآخره، فنقرأ أبيات الإمام الرحبي عليه رحمة الله، ثم بعد ذلك نتساءل فيما مضى، وأما مبحث التعصيب لن ندخل فيه في هذه المحاضرة إن شاء الله إنما أول المحاضرة الآتية نبدأ في التعصيب بإذن الله.

باب السدس:

والسدس فرض سبعة من العدد أبٌ وأمٌ ثم بنت ابن وجد

أبٌ يصح بالرفع وبالجر كلاهما أمره يسير، وهذا كما يقول: (بني الإسلام على خمسٍ: شهادةٌ أو شهادةٍ) فإما هي شهادةٌ على أنها خبر لمبتدأ محذوف، وإما أن تجعلها بدل بعض من كل مما تقدم ذكره، ضبطها هنا في الكتاب أبٍ بالكسر، وكما قلت لكم في شرح الرحبية الذي كنا نتدارسه في الثانوية الشرعية ضبطها بالرفع.

وهذا البيت لا إشكال فيه.

والأخت بنت الأب ثم الجدة وولد الأم تمام العدة

(والأخت بنت الابن) خطأ في الطباعة.

والأخت بنت الأب ثم الجدة وولد الأم تمام العدة

هؤلاء سبعة أصناف، سنذكر شروط إرث كل صنف، فالأب يستحق معه الولد، تقدم معنا مطلقاً من ذكرٍ أو أنثى، لكن الفرع الوارث إذا كان أنثى فللأب معه التعصيب، وإن كان ذكراً فله السدس فقط لا تعصيب له معه.

وهكذا الأم بتنزيل الصمد.

وهي تستحق كما تقدم معنا الثلث، السدس بثلاثة شروط وأحوال، أو بواحدٍ منها كما تقدم معنا في إحدى الحالات:

الأول: أن يكون فرعٌ وارث.

والثاني: جمعٌ للإخوة.

والشرط الثاني الحالة الثانية:

وهكذا مع ولد الابن

لا زال في الشق الأول، يعني: الأم وهكذا الأب له السدس مع الولد، ومع ولد الابن.

ما زل يقفو إثره ويحتذي

يسير على منواله وله حكمه.

وهو لها أيضاً مع الاثنين من إخوة الميت فقس هذين

تقدم معنا الإخوة مطلقاً من أشقاء أو لأب أو لأم، ذكوراً أو إناثاً، أو مختلطين.

الصنف الثالث:

والجد مثل الأب عند فقده في حوز ما يصيبه ومده

(في حوز ما يصيبه) معروف ما يأخذه، (ومده): يعني: من يحجبه الأب يحجبه الجد إلا الاستثناء سيذكره عما قريب، فالجد ننزله منزلة الأب فيما يأخذه وفيما يفعله مع الورثة، فالأب مثلاً يحجب الإخوة لأم فالجد يحجبهم، الأب يحجب الإخوة الأشقاء أو لأب الأصل لم يحجبهم لكن جرى تفصيل سنشير إليه ونوضح الأمر، فالأب إذا وجد في المسألتين العمريتين الأم تأخذ ثلث الباقي إلا إذا كان جد بدل الأب فلا تأخذ ثلث الباقي، بل لها ثلث كل المال.

في حوز ما يصيبه ومده:

يعني: من يحجب الأب؟ يحجبه الجد تماماً حجب حرمان أو حجب نقصان.

إلا إذا كانا هناك إخوة لكونهم في القرب وهو أسوة

أي: أن الجد لا يحجب الإخوة ويقصد بالإخوة الأشقاء أو لأب، أما الإخوة لأم فيسقطون بالجد إجماعاً كالأب، فهو يقصد هنا الإخوة من الأب أو الأشقاء الذين يدلون بأب، لذلك قال: لكونهم أي: لكون الإخوة الأشقاء لأب في القرب وهو أسوة، والأسوة تأتي بمعنى: القدوة وبمعنى: المثل، والمراد هنا: المثل، أي: أن الجد والإخوة الأشقاء أو لأب كلهم أدلوا بالأب، الأخ الشقيق أدلى بالأب، والأخ لأب أدلى بالأب، والجد بالأب، فإذاً كلهم أسوة أي: كلهم مثل بعضهم، وهذا قول الجمهور، وأبو حنيفة يخالف، فينزل الجد منزلة الأب ويحجب الإخوة من أولهم لآخرهم بالجد كما يفعل مع الأب تماماً، إنما هذه تمشي على مذهب الإمام زيد كما قال هو في أولها: على مذهب الإمام زيد الفرضي، وهو الذي أخذ به الإمام الشافعي ، وهذا يجعل الإخوة لا يحجبون بالجد في مذهب زيد فهنا على حسب هذا المذهب يقول:

أما إذا كان هناك إخوة لكونهم في القرب وهو أسوة

وإلا أيضاً:

أو أبوان معهما زوج ورث فالأم للثلث مع الجد ترث

وهكذا ليس شبيهاً بالأب في زوجة الميت وأم وأب

وهاتان العمريتان، وتقدم الكلام عليهما فيما لو كان مع أحد الزوجين أبوان: أب وأم، فجعل الآن بدل الأب جد فانظر كيف ستصبح المسألة: جد ،أم، زوج، الجد ليس له فرض؛ لأنه لا يرث السدس إلا إذا وجد فرعٌ وارث فهو أولى العصبة، كما لو كان هناك أب عصبة، لكن سيتغير صاحب هذه فقط، مع الأب ستأخذ ثلث الباقي ومع الجد ثلث كل المال، والزوج النصف، المسألة من ستة ثلثها اثنان، نصفها ثلاثة، بقي واحد للجد؛ لأن قرابته ليست كقرابة الأم، ابتعد عنها بينما لو كان بدله الأب قلنا: كيف سيأخذ نصف الأم وهو يدلي بنفس قرابتها وكلٌ منهما له حقيقة الولادة على المولود؟

الصورة الثانية: جد وأم وزوجة، وهذا كما قلنا بالإجماع فلا خلاف فيه، إذا وجد الجد فهو عصبة، والأم لها ثلث كل المال، والزوجة لها الربع هنا، المسألة من اثني عشر ربعها ثلاثة، ثلثها أربعة، بقي للجد خمسة.

إذاً: في مسألة العمريتين أو الغراوين تأخذ الأم ثلث كل المال، ولا تأخذ ثلث الباقي، ولذلك يقول:

أو أبوان معهم زوج ورث فالأم للثلث مع الجد ترث

وهكذا ليس شبيهاً بالأبِ في زوجة الميت وأم وأبي

وهما العمريتان، يعني: لا يشبه الجد الأب في هاتين المسألتين كما لا يشبهه في موضوع الجد والإخوة الأشقاء أو لأب.

وحكمه وحكمهم سيأتي مكمل البيان في الحالات

يعني: حكم الجد وحكم الإخوة الأشقاء أو لأب سيأتينا ضمن مبحث خاص: الجد والإخوة.

الآن صار معنا الأب والأم والجد.

الصنف الرابع:

وبنت الابن تأخذ السدس إذا كانت مع البنت مثالاً يحتذى

قلنا: أن تكون هناك بنت وارثة أو فرع وارث أعلى منها يستحق النصف، وألا يكون معها.

معصب، وسواءٌ كانت واحدة أو أكثر يشتركن في السدس.

وهكذا: هذا الصنف الخامس الآن:

وهكذا الأخت مع الأخت التي بالأبوين يا أخي أدلت

أي: هناك أختٌ شقيقة وهنا أخت لأب.

وولد الأم ينال السدسا والشرط في إفراده لا ينسى

ينبغي أن يكون فرداً، وقلنا: ألا يكون هناك أصل وارث من الذكور ولا فرعٌ وارث؛ لأن هذا معروف فلا يرث الأخ لأم إلا إذا كان كلالة كما تقدم معنا، لا أصل من الذكور ولا فرع وارث، ينبغي أن يكون فرضاً ليأخذ السدس، فإذا تعدد أخذ الثلث كما تقدم معنا.

عاد للجدات، ولذلك قلت لكم في الروضة البهية لشيخي عليه رحمة الله قدم ميراث ولد الأم على ميراث الجدات، ثم ذكر إرث الجدات لآخر الأبيات من مبحث السدس كله متعلق بالجدات.

وإن تساوي نسب الجدات وكن كلهن وارثات

فالسدس بينهن بالسوية في القسمة العادلة الشرعية

هذا لا خلاف فيه سواءٌ تقدم معنا من جهة أو من جهتين، ما دام درجة واحدة.

وإن تكن قربى لأم حجبت أم أب بعدى وسدسا سلبت

هذا أيضاً بالاتفاق القريبة من جهة الأم، والبعيدة من جهة الأب فتحجب البعيدة وتأخذ السدس القريبة.

وإن تكن بالعكس: القريبة من جهة الأب، والبعيدة من جهة الأم.

وإن تكن بالعكس فالقولان في كتب أهل العلم منصوصان

لا تسقط البعدى على الصحيح

الصحيح: أي من القولين؛ لأن مذهب الشافعي ليس له علاقة هنا؛ لأن المعتمد عند الشافعية هذا ولهم قول كالجمهور؛ لأن البعيدة من جهة الأم تسقط بالقريبة من جهة الأب، لكن المصحح عندهم هذا، ولذلك قلنا: هو قول أبي حنيفة والإمام أحمد ، وقول للشافعي ، وأما الثاني فهو قول للمالكية وهو المعتمد عند الشافعي ، ولذلك يقول:

واتفق الجل: أي جل الشافعية.

وكل من أدلت بغير وارث فما لها حظ من الموارث

هذا باختصار تعريف الجدة الفاسدة، وعليه: أم أب الأم جدة فاسدة.

وتسقط البعدى بذات القرب في المذهب الأولى فقل لي حسبي

وتسقط البعدى بذات القرب: هذا إذا كانت الجهة واحدة ليست مختلفة.

وقد تناهت قسمة الفروض من غير إشكال ولا غموض

هذا فيما يتعلق بالفروض المقدرة في كتاب الله جل وعلا.

قد نرجح قول الإمام أحمد على قول إمام آخر وكلهم أئمة هدى، وإذا لم نعتبرهم أئمتنا فلا خير فينا، ولا نميل إلى واحدٍ دون الآخر فهذا شأن المشاغبين وشأن من يقطعون الطرق على المسلمين وليس هذا شأن من يعبدون رب العالمين، هؤلاء كلهم أئمة هدى، وهم شراح السنة المطهرة، لكن حقيقة الالتزام بأقوالهم هدى، والبعد عنها ردى، ونصوص الشرع ومفاهيم السلف انحصرت في مذاهبهم فالخروج عنها مضيعة، لكن بعد ذلك تنظر أحياناً في الأدلة ويكون عندك شيء من الميل إلى هذا أو إلى هذا، هذا ما كان يفعله أئمتنا.

فالإمام النووي عليه رحمة الله وهو شيخ الشافعية في زمنه رجح في المجموع شرح المهذب انتقاض الوضوء بالأكل من لحم الجزر، وهذا خلاف مذهب الشافعي ، لكن إذا ثبت الأمر فهذا هو الإنصاف، ومع ذلك بقي القول فلا يقال عنه: ضلال أو باطل، بل يحتمل له دليلاً، وهل كان آخر الأمرين من النبي عليه الصلاة والسلام ترك الوضوء من مست النار عام في كل ما مسته النار من لحم الجزور أم لا؟ أم هذا له حكم خاص؟

المهم أن النووي وهو شافعي رجح قول الإمام أحمد الذي انفرد به أيضاً عن المذاهب الأربعة، فهذا هو الدين وهذا هو الورع، أما أقوال بعد ذلك شاذة من هنا ومن هناك، إما من سلفية ابن حزم أو من سلفية هذا الوقت فهذا هو الضياع الذي لا نهاية له باسم السلفية، إنسان يستمني في نهار رمضان ولا يفطر، هذا يفتي به كثير من السلفية في هذه الأيام ومنشورة في رسائل، ما هو الدليل على ذلك من الكتاب والسنة؟ إذا كنت أنت تنسب نفسك للسلفية فهل هذا قول السلف؟

لنقف حدنا، ولنلتزم بمذاهب أئمتنا، هذه هي السلفية الحقة، والخروج عنهم ضلال وهلاك وإن كانوا هم على تعبيرهم يسمون هذا تعصباً مذموماً ولعل بعضهم يشتد فهذا عنده يعدل الشرك، يعني: عندما تتعصب للمذاهب فهذا عنده كما لو تعصبت للشيوعية.

ثم عندما ترد على واحد من هؤلاء الذين اتخذوهم أنداداً من دون الله باسم السلف، يقول: هذا يحارب السلفية ويحارب علماء السلف فاحذروه، حسن من الذي ألَّه وعبد من دون الله هؤلاء العلماء؟ نحن أم أنتم؟ والله إن أئمتنا مع أننا نتبرك برؤيتهم بل بذكر حديثهم ما وصل الأمر فينا ولا يصل بإذن الله إلى أن نقدم قول واحد على كتاب أو سنة، ومن باب أولى أن نقول هذا القول هو الحق وبقية أقوال المذاهب بلاء، ما قلنا هذا ولا يمكن أن نقوله، أما أنتم فقد جئتم في عصور متأخرة وتأخذون بقول واحد وتتركون المتقدمين والمتأخرين وعندما نقول: هذا غلط، تقولون: من يقعون في علمائكم فاحذروه، أي علماء يا عبد الله! إذا علماؤنا قرروا شيئاً وجاء بعض المتأخرين وعلق على المتقدمين قلنا: هذا غلط، وما ينبغي، هل جرى شيء؟ وما رددنا ولله الحمد قول واحد برأي يراه الإنسان لنفسه، إنما رددنا اعتراضه على أقوال مقررة في كتب أئمتنا البررة، فينبغي أن يقف عند حده.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، وسلم تسليماً كثيراً.

ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذب النار.

اللهم! اغفر لآبائنا وأمهاتنا، اللهم! ارحمهم كما ربونا صغاراً اللهم! اغفر لمشايخنا ولمن علمنا وتعلم منا، اللهم! أحسن إلى من أحسن إلينا، اللهم! اغفر للمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين.