خطب ومحاضرات
فقه المواريث - أدلة عدم توريث ذوي الأرحام
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين.
سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
إخوتي الكرام! ذكرنا في المبحث الثاني من توريث ذوي الأرحام اختلاف علماءنا الكرام في توريثهم، وكنا نتدارس حجج القول الأول الذين قالوا بتوريث ذوي الأرحام عند وجود عاصب أو صاحب فرض من النسب، وقلت: والذين قالوا بذلك: هم السادة الحنفية والسادة الحنابلة بدون شرط ولا قيد، وأما المالكية والشافعية فاشترطوا ألا ينتظم بيت المال، وإلا فالأصل ألا يورث ذوو الأرحام عندهم.
إخوتي الكرام! قلت: استدل هؤلاء من القرآن الكريم، وذكرت وجه استدلالهم لذلك، واستدلوا بما ثبت عن نبينا الأمين عليه الصلاة والسلام، وتقدم معنا أن الأحاديث لا تنزل عن درجة الصحة؛ بأن الخال وارث من لا وارث له، وقلت: ما ينسحب على الخال ينسحب على غيره من ذوي الأرحام.
كنا نتدارس الدليل الثالث من أدلتهم ألا وهو آثار الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم أجمعين.
تكملة ما روي عن عمر بن الخطاب في توريث ذوي الأرحام
وتقدم معنا أيضاً في توريث ذوي الأرحام من قبل قضاء سيدنا عمر عند موت ابن الدحداح ، وتقدم معنا أيضاً أثر زياد هل هو ابن أبي مريم أو زياد ابن أبيه ؟
وتقدم معنا أن الطحاوي يقول: إن الأثر إسناده صحيح ثابت أن عمر رضي الله عنه قضى في عمةٍ وخالة أن العمة لها الثلثان والخالة لها الثلث.
انتهينا من هذه الآثار، وقضاء عمر رضي الله عنه بذلك ثابتٌ في آثار كثيرة، منها:
ما رواه ابن أبي شيبة في مصنفه (11/260) والأثر صحيح ثابت عن زر بن حبيش ، وهو مخضرم ثقة جليل إمام فاضل، توفي سنة إحدى أو اثنتين أو ثلاث وثمانين، أدرك الجاهلية والإسلام ولم ير نبينا عليه الصلاة والسلام.
ولما توفي كان عمره سبعاً وعشرين ومائة سنة، توفي كما قلت: سنة إحدى أو اثنتين أو ثلاث وثمانين وأدرك الجاهلية، يعني: ضف إلى ثلاث وثمانين عشر سنوات قبل هجرة نبينا الأمين عليه الصلاة والسلام أو ثلاث عشرة سنة هذه لا تحسب، فأضفها إلى هذه تصبح ستاً وتسعين، يعني: هذه كلها من بعثة النبي صلى الله عليه وسلم إلى وفاته، وقبلها أدرك الجاهلية، حيث كان عمره سبعاً وعشرين ومائة سنة عليه رحمة الله.
وقد روى عن سيدنا عمر رضي الله عنه، كما روى عن عثمان وعن علي وعن عبد الله بن مسعود وأمنا عائشة رضي الله عنهم أجمعين.
يقول زر بن حبيش : إن عمر رضي الله عنه قسم المال بين عمة وخالة.
هنا كيفية القسم في رواية زر لم ترد، يعني: مات إنسانٍ وترك عمةً وخالة فقسم عمر المال بينهما، وكيفية القسم تقدمت وسيأتي أيضاً فتوى أخرى: أن العم بمنزلة الأب والخالة بمنزلة الأم، وعليه للعمة ثلثان وللخالة ثلث.
في رواية زر : قسم المال بين عمة وخالة، الشاهد: أنه ورث ذوي الأرحام، وأعطاهم مالاً من ميت من بني الإنسان.
قال الإمام ابن التركماني : هذا سند صحيح متصل، ثم نقل عن شيخ الإسلام الحافظ ابن عبد البر أنه قال في الاستذكار: لم يختلف أهل العراق أن عمر رضي الله عنه ورثهما، يعني: العمة والخالة، لكن اختلفوا في ما قسمه لهما؟ وسيأتينا في آخر المباحث كيف نورث ذوي الأرحام على القول بتوريثهم في مذهب التنزيل ومذهب القرابة بالتفصيل إن شاء الله، لكنهم اتفقوا على أنه ورثهما، ثم اختلفوا في كيفية توريثهما.
وثبت في سنن الدارمي -أثر آخر- وسعيد بن منصور ، ومصنف عبد الرزاق ، ومصنف ابن أبي شيبة ، والأثر رواه البيهقي في السنن الكبرى عن الحسن البصري إمام التابعين، وحديثه في الكتب الستة، فـزر بن حبيش حديثه في الكتب الستة، وهذا توفي سنة (110هـ)، لكن روايته عن عمر رضي الله عنه منقطعة لأنه لم يدرك عمر رضي الله عنه وأرضاه.
عن الحسن البصري أن عمر رضي الله عنهم أجمعين أعطى الخالة الثلث والعمة الثلثين، لكن الآثار كما قلت: يعتضد بعضها ببعض، ومنها ما هو ثابتٌ صحيحٌ بنفسه، ومنه ما يتقوى بغيره.
وروى الإمام الدارمي في سننه (2/379) عن بكر بن عبد الله المزني ، وهو ثقة جليل حديثه في الكتب الستة توفي سنة (106هـ)، قال الإمام الذهبي في السير: والأصح أنه توفي سنة (108هـ)، والحافظ ابن حجر في التقريب جزم بأنه (106هـ) وما حكى غير هذا، انظروا ترجمته في السير (4/535).
عن بكر بن عبد الله المزني : أن رجلاً هلك على عهد سيدنا عمر رضي الله عنهم أجمعين، وترك عمته وخالته، فأعطى سيدنا عمر رضي الله عنه وأرضاه العمة نصيب الأخ، وأعطى الخالة نصيب الأخت.
يعني الذي يظهر لي أيضاً أن الرواية المتقدمة التي فيها للعمة نصيب الأخ أن المقصود أخوها الذي هو أب، والخالة نصيب الأخت، يعني: نصيب أختها، يعني: نصيب الأم، فأخت الخالة هي الأم، وأخو العمة هو الأب، فأعطى العمة نصيب الأخ، يعني: نصيب الأب، وأعطى الخالة نصيب الأخت نصيب الأم.
قال الإمام البيهقي في السنن الكبرى (6/217) قولاً كأنه يريد أن يضعف هذه الآثار ليرجح مذهب الشافعية، وقوله ضعيف قطعاً وجزماً، فاستمع لقطعه، قال بعد أثر زياد المتقدم.
وهذا الأثر رواه الحسن وجابر بن زيد وبكر بن عبد الله وغيرهم أن عمر جعل للعمة الثلثين وللخالة الثلث.
قال: وجميع ذلك مراسيل.
أقول: هذا غير مسلم، فعندنا روايتان متصلتان: رواية زر ورواية زياد، وهو ما ذكر رواية زر بن حبيش ورواية زياد ذكرها وتقدم معنا أنها صحيحة متصلة، أما زياد فهو الذي حوله كلام إن كان زياد ابن أبيه .
قال: وجميع ذلك مراسيل، ورواية المدنيين عن عمر أولى أن تكون صحيحة.
وسيأتينا رواية المدنيين التي من طريقين، طريق منقطع وطريق فيه مجهولان، أن عمر قال: عجب للعمة تورث ولا ترث، وعليه لا يقول عمر رضي الله عنه بتوريث ذوي الأرحام، والأثر ضعيف عنه بلا شك، فأعجب للإمام البيهقي عليه رحمة الله عندما يقول: ورواية المدنيين عن عمر رضي الله عنهم أجمعين أولى أن تكون صحيحة، وقد تعقبه الإمام ابن التركماني في الجوهر النقي بقوله: أثر زياد وزر صحيحان ثابتان متصلان لا اعتراض عليهما، وبقية الآثار مراسيل كما قال البيهقي ، لكنها تعتضد ببعضها فتتقوى، ثم قال: هذه وجوه كثيرة عن عمر رضي الله عنه وأرضاه يشد بعضها بعضاً أنه ورث ذوي الأرحام، وقد قدمنا ما في رواية المدنيين -أي: عن سيدنا عمر رضي الله عنه وأرضاه- من الجهالة والانقطاع. وستأتينا عند القول الثاني قول الشافعية والمالكية إن شاء الله.
وقد ثبت في سنن الدارمي ومصنف عبد الرزاق عن قيس بن حبتر النهشلي ، ونهشل بطن من تميم لذلك يقال له: قيس بن حبتر التميمي ، وهو ثقة أخرج حديثه أبو داود في السنن.
قال قيس بن حبتر : أتي عبد الملك بن مروان في عمة وخالة مات إنسان عنهما، فكتب يسأل: كيف يورثهما؟ فقال شيخ: سمعت عمر رضي الله عنه وأرضاه: جعل للعمة الثلثين وللخالة الثلث، فهم عبد الملك أن يكتب به -أي أن يظهر بذلك حكماً ويوزعه على أمراء الأمصار ليقضوا بهذا- ثم قال: أين زيد عن هذا؟
يعني: لو أن عمر رضي الله عنه قضى بذلك لما غفل عن هذا زيد له اجتهاده، والمسألة لا إجماع فيها، لو كان هناك إجماع لما صح لزيد ولا لغيره أن يخالف.
وثبت في سنن الدارمي أيضاً، ومصنف ابن أبي شيبة ، عن إبراهيم النخعي ، وروايته عن عمر رضي الله عنهم أجمعين منقطعة: أن عمر أعطى خالاً المال كله.
وفي رواية لـابن أبي شيبة -هذه زيادة- قال: وكان خالاً ومولى.
أقول: إذا كان مولى فلا إشكال فيها، لأنه عاصب عن طريق السبب.
وفي مصنف ابن أبي شيبة عن عبيد بن عمير وهو من التابعين الكبار، بل قال الإمام مسلم : إنه ولد في عهد نبينا المختار عليه الصلاة والسلام فله حكم الصحبة؛ لأن الغالب في الصحابة الذين ولدوا في عهد النبي عليه الصلاة والسلام أنه كان يؤتى بهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليبرك عليهم ويدعو لهم، لذلك الإمام مسلم يقول: ولد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، قال الحافظ : وعده غيره من كبار التابعين، مجمع على ثقته، وتوفي قبل سيدنا عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم أجمعين.
عن عبيد بن عمير : أن عمر رضي الله عنه وأرضاه ورث خالاً ومولاً من مولاه.
يعني: هو خال وهو مولاه، ورثه من مولاه.
ما روي عن علي وابن مسعود في توريث ذوي الأرحام
ففي مصنف ابن أبي شيبة (11/261) عن سليمان العبسي عن رجل عن علي رضي الله عنه وأرضاه أنه كان يقول في العمة والخالة بقول عمر : للعمة الثلثان وللخالة الثلث.
هذا قضاء علي رضي الله عنه من طريق فيه مجهول.
وثبت في سنن الدارمي وسنن سعيد بن منصور ومصنف عبد الرزاق والسنن الكبرى للإمام البيهقي عن مسروق وهو مسروق بن الأجدع ، توفي سنة اثنتين وستين حديثه في الكتب الستة، وهو أيضاً مخضرم أدرك الجاهلية والإسلام ولم ير نبينا عليه الصلاة والسلام، وهو من كبار أصحاب عبد الله بن مسعود ، وإسناد الأثر صحيح كالشمس، وينقل هذا عن عبد الله بن مسعود فيقول: قال عبد الله : الخالة بمنزلة الأم، والعمة بمنزلة الأب، وبنت الأخ بمنزلة الأخ، وكل ذي رحم بمنزلة رحمه التي يدلي بها إذا لم يكن وارث ذو قرابة.
أي: لأنه لو وجد وارث رد عليه المال، والرد يقدم على توريث ذوي الأرحام، وهكذا لو وجد عاصب.
وثبت في مصنف ابن أبي شيبة عن إبراهيم النخعي قال: قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه: للعمة الثلثان وللخالة الثلث.
قال الحافظ في الفتح (12/30): وقد روى أبو عبيدة بإسناد صحيح عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه أنه جعل العمة كالأب والخالة كالأم، وعليه هذا القضاء عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ثابت، وعن عمر رضي الله عنه ثابت، وعن علي قلت: في الإسناد رجل مبهم مجهول.
وثبت في سنن الدارمي ومصنف ابن أبي شيبة عن الشعبي : أنه سئل عن امرأة أو رجل مات وترك خالة وعمة، ليس له وارث ولا رحم غيرهما؟ فقال الشعبي : كان عبد الله ينزل الخالة بمنزلة الأم، والعمة بمنزلة أخيها.
وثبت في السنن الكبرى للإمام البيهقي (6/217) عن المغيرة بن مقسم الضبي الكوفي عن أصحابه .. أي: لم يسموا، والمغيرة بن مقسم ثقة متقن لكنه يدلس لا سيما في روايته عن إبراهيم النخعي ، وانتبه في تفريق الشيخ الألباني بين الأمرين عن أصحاب معاذ قال: مجاهيل، وهنا في إرواء الغليل (6/142) يقول: هم جماعة من التابعين يطمئن القلب لحديث مجموعهم وإن كانوا لم يسموا، طيب! لم أصحاب معاذ لا يطمئن القلب إلى مجموعهم مع أن الإمام ابن القيم تقدم معنا؟ قال: هم من الشهرة بمكان، وهذا أعلى وأقوى مما لو سمي واحد أو اثنان. أي: عندما قال: عن أصحاب معاذ فهذا أعلى مما لو قال: فلان وفلان من أصحاب معاذ؟
وهذا نظير ذلك، اسمع لعبارته يقول: هم جماعة من التابعين يطمئن لحديث مجموعهم وإن كانوا لم يسموا! طيب لو قال هذا في حديث معاذ كذلك لاسترحنا وزال الخلاف، حديث معاذ : (بم تقضي...) والذي لا يوجد كتاب من كتب أصول الفقه إلا ويستشهد بهذا الحديث في مبحث القياس، جاء هو بشذوذه وقال: إنه ضعيف منكر. طيب لم؟ قال: فيه جهالة أصحاب معاذ لم يسموا! طيب، هنا ما في جهالة وهذا الأثر دون ذاك بكثير، فهنا يطمئن القلب لخبر مجموعهم؛ لأنهم جماعة وإن لم يسموا، وهناك يستنكر القلب!
إخوتي الكرام! لابد من ضبط الأمور بالموازين العلمية، فكيف هنا جماعة لم يسموا نقبل خبرهم، وهناك جماعة لم يسموا نرد خبرهم؟ مع أن أصحاب معاذ أصحاب صحابي، وهنا أصحاب تابعي، فشتان بين هذا وذاك، واضح هذا؟ إذاً: بل المغيرة بن مقسم الضبي من أتباع التابعين، يعني: هو يروي عن التابعين الذين رووا عن علي وعبد الله كما ستسمعون، ولذلك أن يصحح قضاء علي وعبد الله بن مسعود رضي الله عنه بهذا الأثر، كما قلت الشيخ الألباني في إرواء الغليل يقول: الإسناد صحيح وإن لم يسموا يطمئن القلب إليهم، فإذاً: هو من أتباع التابعين يروي عن أصحابه عن علي وعبد الله بن مسعود .
إذاً: هنا عن المغيرة بن مقسم الضبي الكوفي عن أصحابه قال: كان علي وعبد الله إذا لم يجدوا ذا سهم أعطوا القرابة.
يقول: أعطوا لبنت البنت.. أعطوا لبنت البنت المال كله، وأعطوا الخالة المال كله، وكذلك ابنة الأخ يعطونها المال كله، وكذلك ابنة الأخت للأم أو للأب والأم أو للأب، يعني: ابنة الأخت سواء كانت من أخت شقيقة أو أختٍ لأبٍ فقط أو لأم، المقصود بنت الأخت تنزل منزلة الأخت، فإذا انفردت أخذت المال كله، يعني: بنت أخت شقيقة بنت أخت لأب بنت أخت لأم؛ أي واحدة وجدت من هؤلاء تنزل منزلة أمها فتأخذ المال كله كما لو كانت هناك أختٍ لأم تأخذ المال كله فرضاً ورد، أو كما لو كان هناك أخت لأب، أو كما لو كان هناك أخت شقيقة.
يقول: وكذلك العمة يعطونها المال كله إذا وجدت، وابنة العم المال كله، وابنة بنت الابن، والجد من قبل الأم، وما قرب أو بعد إذا كان رحماً إذا لم يوجد غيره، هذا كله أثر في السنن الكبرى للإمام البيهقي سنقرأ الأثر من نفس الكتاب إن شاء الله.
فإن وجد ابنة بنت، وابنة أخت لأب، فالنصف والنصف، هذا قضاء سيدنا علي وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم وأرضاهم. نزل بنت البنت منزلة البنت لها النصف، ونزل بنت الأخت منزلة الأخت لها الباقي عصبة مع الغير، فالنصف هو النصف.
وإن كانت عمة وخالة فالثلث والثلثان، أي فالعمة بمنزلة الأب، والخالة بمنزلة الأم.
وابنة الخال وابنة الخالة لهما الثلث والثلثان؛ لأن ابنة الخال بمنزلة الخال أخو الأم، وابنة الخالة منزلة الخالة أخت الأم، فصار كما لو ماتت الأم وتركت أخاً وأختاً، الأخ له الثلثان والأخت لها الثلث.
إخوتي الكرام! الأثر هو يقول: أنبأنا جرير عن المغيرة عن أصحابه أي: عن شيوخه الذين تلقى عنهم، قال: كان علي وعبد الله إذا لم يجدوا ذا سهم أعطوا القرابة، أعطوا لبنت البنت المال كله، والخال المال كله، وكذلك ابنة الأخت وابنة الأخت للأم أو للأب أو للأب والأم، أو للأب، والعمة، وابنة العم، وابنة بنت الابن، والجد من قبل الأم، وما قرب أو بعد إذا كان رحماً فله المال إذا لم يوجد غيره، فإن وجد ابنة بنت وابنة أخت، فالنصف والنصف، وإن كانت عمة وخالة فالثلث والثلثان، وابنة الخال وابنة الخالة الثلث والثلثان.
يعني: حكم على الإسناد بالصحة مع أنه عن أصحابه لم يسموا، لكن يقول: القلب يطمئن لحديث مجموعهم بأنهم جماعة من التابعين يروون هذا الحديث عن صحابيين جليلين عن سيدنا علي وعبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وعليه القضاء ثابت عن ثلاثة من الصحابة: عن عمر رضي الله عنه من طرق متعددة برواة مختلفين.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ثابت قطعاً، وعن علي من طريقين: من طريق ثابت ومن طريق فيه -كما تقدم معنا- مبهم مجهول.
الإمام البيهقي أورد بابين هنا:
باب: من لا يرث من ذوي الأرحام، وباب من قال بتوريث ذوي الأرحام، أورد هذه الآثار هنا.
ثم هنا يقول: باب ترجيح قول زيد بن ثابت على قول غيره من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين في علم الفرائض، وأن زيداً قال بهذا: لا يرث ذوو الأرحام، فأورد هذا وأورد هذا.
هنا الإمام البيهقي ما علق على هذا بشيء على الإطلاق، بعد أن أورده وقف عنده فقط عن أصحابه؛ لأنه أورده ضمن من قال بتوريث ذوي الأرحام، يعني: هذا من حججهم، قال الطحاوي : لا اختلاف عن علي وابن مسعود رضي الله عنهما في توريث ذوي الأرحام.
على كل حال: البيهقي ضعف الآثار عن عمر رضي الله عنه، وقد تقدم معنا أثران ثابتان متصلان: أثر زياد وأثر زر بن حبيش ، والمراسيل يعتضد بعضها ببعض. قال: رواية المدنيين أصح، رد عليه ابن التركماني فقال: رواية المدنيين من طريقين:
طريق فيه انقطاع، وطريق فيه جهالة. فليست رواية المدنيين أصح.
والبيهقي يقول: قول زيد مقدم، يعني: هي أقوال الصحابة في ذلك مختلفة، لكن ما ثبت أن ذوي الأرحام لا يورثون إلا من قول زيد بن ثابت من الصحابة، ونقل عن سيدنا أبي بكر رضي الله عنه كما سيأتينا في رواية المستدرك التوقف في توريث ذوي الأرحام.
أما عمر رضي الله عنه فالمنقول عنه والثابت توريثهم، وعدم توريثهم نقل عن عمر بأسانيد ضعيفة، وهكذا عن علي وهكذا عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، ومن أجل هذا اختلف المذاهب الأربعة، وإلا لو أن الصحابة كلهم كانوا على قول واحد لما حصل الخلاف في المذاهب الأربعة، وهذه هي الساعة التي تعيشها الأمة الإسلامية إن شاء الله، فالإمام البيهقي شافعي والشافعي يأخذ بقول زيد بن ثابت في الفرائض ولا يقدم عليه أحداً، وهنا يضع عنواناً بارزاً: باب تقديم قول زيد على غيره في الفرائض.
وثبت في سنن سعيد بن منصور (1/71) ومصنف ابن أبي شيبة (11/261) عن الأعمش عن إبراهيم النخعي أن عمر وابن مسعود كانا يورثان العمة والخالة إذا لم يكن غيرهم.
قال إبراهيم النخعي : كانوا يجعلون العمة بمنزلة الأب، والخالة بمنزلة الأم. وقد تقدم أن رواية النخعي عن عمر منقطعة.
وثبت في سنن الدارمي (2/380) عن عبيدة -وهو عبيدة بن عمرو السلماني بإسكان اللام وفتحها، أيضاً مخضرم، حديثه في الكتب الستة، توفي سنة سبعين- عن إبراهيم أن عمر وابن مسعود رضي الله عنهم أجمعين رأيا أن يورثا الخال. أي: أنه يكون وارثاً.
هذه آثار عن الصحابة ثابت القضاء عن ثلاثة من الصحابة.
ما ورد عن التابعين في توريث ذوي الأرحام
وثبت في سنن سعيد بن منصور ومصنف عبد الرزاق ومصنف ابن أبي شيبة عليهم جميعاً رحمة الله، عن أبي إسحاق السبيعي ، قال: شهد عامر على مسروق أنه قال: أنزلوهم منزلة آبائهم، يعني: منزلة من أدلوا به.
والأثر رواه البيهقي في المكان (6/217) عن مسروق عن شيخه عبد الله بن مسعود ، يعني: هذا الذي يقول مسروق منقول عن شيخه في رواية البيهقي ، قال مسروق : قال عبد الله : أنزلوهم منازل آبائهم، يقول: يورث كل إنسان بمنزلة أبيه.
بدأت بما ثبت عن سيدنا عمر رضي الله عنه أنه كتب إلى أبي عبيدة رضي الله عنه وأرضاه بأن يورث الخالة.
وتقدم معنا أيضاً في توريث ذوي الأرحام من قبل قضاء سيدنا عمر عند موت ابن الدحداح ، وتقدم معنا أيضاً أثر زياد هل هو ابن أبي مريم أو زياد ابن أبيه ؟
وتقدم معنا أن الطحاوي يقول: إن الأثر إسناده صحيح ثابت أن عمر رضي الله عنه قضى في عمةٍ وخالة أن العمة لها الثلثان والخالة لها الثلث.
انتهينا من هذه الآثار، وقضاء عمر رضي الله عنه بذلك ثابتٌ في آثار كثيرة، منها:
ما رواه ابن أبي شيبة في مصنفه (11/260) والأثر صحيح ثابت عن زر بن حبيش ، وهو مخضرم ثقة جليل إمام فاضل، توفي سنة إحدى أو اثنتين أو ثلاث وثمانين، أدرك الجاهلية والإسلام ولم ير نبينا عليه الصلاة والسلام.
ولما توفي كان عمره سبعاً وعشرين ومائة سنة، توفي كما قلت: سنة إحدى أو اثنتين أو ثلاث وثمانين وأدرك الجاهلية، يعني: ضف إلى ثلاث وثمانين عشر سنوات قبل هجرة نبينا الأمين عليه الصلاة والسلام أو ثلاث عشرة سنة هذه لا تحسب، فأضفها إلى هذه تصبح ستاً وتسعين، يعني: هذه كلها من بعثة النبي صلى الله عليه وسلم إلى وفاته، وقبلها أدرك الجاهلية، حيث كان عمره سبعاً وعشرين ومائة سنة عليه رحمة الله.
وقد روى عن سيدنا عمر رضي الله عنه، كما روى عن عثمان وعن علي وعن عبد الله بن مسعود وأمنا عائشة رضي الله عنهم أجمعين.
يقول زر بن حبيش : إن عمر رضي الله عنه قسم المال بين عمة وخالة.
هنا كيفية القسم في رواية زر لم ترد، يعني: مات إنسانٍ وترك عمةً وخالة فقسم عمر المال بينهما، وكيفية القسم تقدمت وسيأتي أيضاً فتوى أخرى: أن العم بمنزلة الأب والخالة بمنزلة الأم، وعليه للعمة ثلثان وللخالة ثلث.
في رواية زر : قسم المال بين عمة وخالة، الشاهد: أنه ورث ذوي الأرحام، وأعطاهم مالاً من ميت من بني الإنسان.
قال الإمام ابن التركماني : هذا سند صحيح متصل، ثم نقل عن شيخ الإسلام الحافظ ابن عبد البر أنه قال في الاستذكار: لم يختلف أهل العراق أن عمر رضي الله عنه ورثهما، يعني: العمة والخالة، لكن اختلفوا في ما قسمه لهما؟ وسيأتينا في آخر المباحث كيف نورث ذوي الأرحام على القول بتوريثهم في مذهب التنزيل ومذهب القرابة بالتفصيل إن شاء الله، لكنهم اتفقوا على أنه ورثهما، ثم اختلفوا في كيفية توريثهما.
وثبت في سنن الدارمي -أثر آخر- وسعيد بن منصور ، ومصنف عبد الرزاق ، ومصنف ابن أبي شيبة ، والأثر رواه البيهقي في السنن الكبرى عن الحسن البصري إمام التابعين، وحديثه في الكتب الستة، فـزر بن حبيش حديثه في الكتب الستة، وهذا توفي سنة (110هـ)، لكن روايته عن عمر رضي الله عنه منقطعة لأنه لم يدرك عمر رضي الله عنه وأرضاه.
عن الحسن البصري أن عمر رضي الله عنهم أجمعين أعطى الخالة الثلث والعمة الثلثين، لكن الآثار كما قلت: يعتضد بعضها ببعض، ومنها ما هو ثابتٌ صحيحٌ بنفسه، ومنه ما يتقوى بغيره.
وروى الإمام الدارمي في سننه (2/379) عن بكر بن عبد الله المزني ، وهو ثقة جليل حديثه في الكتب الستة توفي سنة (106هـ)، قال الإمام الذهبي في السير: والأصح أنه توفي سنة (108هـ)، والحافظ ابن حجر في التقريب جزم بأنه (106هـ) وما حكى غير هذا، انظروا ترجمته في السير (4/535).
عن بكر بن عبد الله المزني : أن رجلاً هلك على عهد سيدنا عمر رضي الله عنهم أجمعين، وترك عمته وخالته، فأعطى سيدنا عمر رضي الله عنه وأرضاه العمة نصيب الأخ، وأعطى الخالة نصيب الأخت.
يعني الذي يظهر لي أيضاً أن الرواية المتقدمة التي فيها للعمة نصيب الأخ أن المقصود أخوها الذي هو أب، والخالة نصيب الأخت، يعني: نصيب أختها، يعني: نصيب الأم، فأخت الخالة هي الأم، وأخو العمة هو الأب، فأعطى العمة نصيب الأخ، يعني: نصيب الأب، وأعطى الخالة نصيب الأخت نصيب الأم.
قال الإمام البيهقي في السنن الكبرى (6/217) قولاً كأنه يريد أن يضعف هذه الآثار ليرجح مذهب الشافعية، وقوله ضعيف قطعاً وجزماً، فاستمع لقطعه، قال بعد أثر زياد المتقدم.
وهذا الأثر رواه الحسن وجابر بن زيد وبكر بن عبد الله وغيرهم أن عمر جعل للعمة الثلثين وللخالة الثلث.
قال: وجميع ذلك مراسيل.
أقول: هذا غير مسلم، فعندنا روايتان متصلتان: رواية زر ورواية زياد، وهو ما ذكر رواية زر بن حبيش ورواية زياد ذكرها وتقدم معنا أنها صحيحة متصلة، أما زياد فهو الذي حوله كلام إن كان زياد ابن أبيه .
قال: وجميع ذلك مراسيل، ورواية المدنيين عن عمر أولى أن تكون صحيحة.
وسيأتينا رواية المدنيين التي من طريقين، طريق منقطع وطريق فيه مجهولان، أن عمر قال: عجب للعمة تورث ولا ترث، وعليه لا يقول عمر رضي الله عنه بتوريث ذوي الأرحام، والأثر ضعيف عنه بلا شك، فأعجب للإمام البيهقي عليه رحمة الله عندما يقول: ورواية المدنيين عن عمر رضي الله عنهم أجمعين أولى أن تكون صحيحة، وقد تعقبه الإمام ابن التركماني في الجوهر النقي بقوله: أثر زياد وزر صحيحان ثابتان متصلان لا اعتراض عليهما، وبقية الآثار مراسيل كما قال البيهقي ، لكنها تعتضد ببعضها فتتقوى، ثم قال: هذه وجوه كثيرة عن عمر رضي الله عنه وأرضاه يشد بعضها بعضاً أنه ورث ذوي الأرحام، وقد قدمنا ما في رواية المدنيين -أي: عن سيدنا عمر رضي الله عنه وأرضاه- من الجهالة والانقطاع. وستأتينا عند القول الثاني قول الشافعية والمالكية إن شاء الله.
وقد ثبت في سنن الدارمي ومصنف عبد الرزاق عن قيس بن حبتر النهشلي ، ونهشل بطن من تميم لذلك يقال له: قيس بن حبتر التميمي ، وهو ثقة أخرج حديثه أبو داود في السنن.
قال قيس بن حبتر : أتي عبد الملك بن مروان في عمة وخالة مات إنسان عنهما، فكتب يسأل: كيف يورثهما؟ فقال شيخ: سمعت عمر رضي الله عنه وأرضاه: جعل للعمة الثلثين وللخالة الثلث، فهم عبد الملك أن يكتب به -أي أن يظهر بذلك حكماً ويوزعه على أمراء الأمصار ليقضوا بهذا- ثم قال: أين زيد عن هذا؟
يعني: لو أن عمر رضي الله عنه قضى بذلك لما غفل عن هذا زيد له اجتهاده، والمسألة لا إجماع فيها، لو كان هناك إجماع لما صح لزيد ولا لغيره أن يخالف.
وثبت في سنن الدارمي أيضاً، ومصنف ابن أبي شيبة ، عن إبراهيم النخعي ، وروايته عن عمر رضي الله عنهم أجمعين منقطعة: أن عمر أعطى خالاً المال كله.
وفي رواية لـابن أبي شيبة -هذه زيادة- قال: وكان خالاً ومولى.
أقول: إذا كان مولى فلا إشكال فيها، لأنه عاصب عن طريق السبب.
وفي مصنف ابن أبي شيبة عن عبيد بن عمير وهو من التابعين الكبار، بل قال الإمام مسلم : إنه ولد في عهد نبينا المختار عليه الصلاة والسلام فله حكم الصحبة؛ لأن الغالب في الصحابة الذين ولدوا في عهد النبي عليه الصلاة والسلام أنه كان يؤتى بهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليبرك عليهم ويدعو لهم، لذلك الإمام مسلم يقول: ولد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، قال الحافظ : وعده غيره من كبار التابعين، مجمع على ثقته، وتوفي قبل سيدنا عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم أجمعين.
عن عبيد بن عمير : أن عمر رضي الله عنه وأرضاه ورث خالاً ومولاً من مولاه.
يعني: هو خال وهو مولاه، ورثه من مولاه.
استمع المزيد من الشيخ عبد الرحيم الطحان - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
فقه المواريث - الحجب [1] | 3829 استماع |
فقه المواريث - الرد على الزوجين [1] | 3593 استماع |
فقه المواريث - حقوق تتعلق بالميت | 3578 استماع |
فقه المواريث - ميراث الخنثى [1] | 3543 استماع |
فقه المواريث - توريث ذوي الأرحام | 3488 استماع |
فقه المواريث - المسألة المشتركة | 3442 استماع |
فقه المواريث - متى يسقط الجدات ومن يحجبهن | 3315 استماع |
فقه المواريث - أصحاب الفروض | 3263 استماع |
فقه المواريث - الجد والإخوة [7] | 3229 استماع |
فقه المواريث - تكملة مبحث التصحيح | 3130 استماع |