شرح الترمذي - باب الاستنجاء بالحجرين [7]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين.

اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهّل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين.

اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين.

سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك.

اللهم صلِّ على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:

إخوتي الكرام! لا زلنا نتدارس ترجمة الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، وقلت: سنتدارس ترجمته الطيبة المباركة ضمن ثلاثة أمور: أولها: فيما يتعلق بنسبه ونشأته وصلته بالنبي عليه الصلاة والسلام، وقد مر الكلام على الأمر الأول فيما مضى.

والأمر الثاني: في منزلته العلمية في الشريعة الإسلامية، وكنا نتدارس هذا الأمر في اللقاء الماضي، وسنكمله في هذا اللقاء وما بعده بعون الله وتوفيقه.

والأمر الثالث: في نبذة من أقواله الحكيمة المحكمة، وإرشاداته القويمة القيّمة، نختم ترجمته بهذا الأمر الثالث إن شاء الله.

كنا نتدارس الجانب الثاني من ترجمته الطيبة المباركة فيما يتعلق بمنزلته العلمية، وآخر شيء ذكرته فيما مضى شدة احتياطه في روايته عن نبينا عليه الصلاة والسلام، وكان يمر عليه أحياناً العام بأكمله ولا يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وتقدم معنا من هو عبد الله بن مسعود ، فهو الذي كان يصاحبه في سره وعلنه، وسفره وحضره، وداخل بيته وخارجه، ومع ذلك كان يحتاط غاية الاحتياط، فتمر عليه السنة ولا يقول: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام, وأحياناً السنة والنصف، وإذا تحرك لسانه أحياناً بالحديث يعتريه الوجل والخشية والخوف، فيضطرب جسمه وتتحرك عصاه؛ من شدة خوفه عندما يريد أن يحدث عن النبي عليه الصلاة والسلام.

والسبب في ذلك أن الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام شديد، وأن الإنسان إذا لم يتيقن من الرواية فلا يجوز أن يضيفها إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فمن حدث عن نبينا عليه الصلاة والسلام بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين كما تقدم معنا تقرير هذا.

ووصلنا إخوتي الكرام إلى احتياطٍ آخر من احتياطات عبد الله بن مسعود ، كما كان يحتاط في الرواية عن نبينا عليه صلوات الله وسلامه، كان يحتاط في الفتيا، وكان يقف أحياناً في المسألة شهراً لا يجيب فيها إلا بعد منحة، فاستمع لهذه القصة التي ينبغي أن نعتبر بها، وأن تكون نصب أعيننا فيما نجيب به عن أمر ديننا.

ثبت في مسند الإمام أحمد والسنن الأربع، والحديث رواه ابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه، والبيهقي في السنن الكبرى، وقد صححه الحاكم وأقره عليه الذهبي ، وقال الإمام ابن حزم رحمة الله ورضوانه عليه وعلى أئمتنا أجمعين: لا مغمز فيه لصحة إسناده. نعم حول هذا الحديث كلام، لكن جميع رجال الإسناد ثقات أثبات، أئمة هداة, لا مغمز فيه لصحة إسناده.

ولفظ الحديث: عن مسروق رضي الله عنه وأرضاه قال: أُتي عبد الله بن مسعود بمسألة في بلاد الكوفة جاءه أناس وسألوه، وخلاصة مسألتهم: أن رجلاً توفي بعد أن عقد على امرأة ولم يدخل بها، ولم يسمِّ لها مهراً.

فلو كان دخل بها ولم يسمّ فالمسألة لا إشكال فيها, بالإجماع لها مهر المثل، ولو سُمّي المهر وتوفي فلا خلاف بالإجماع يجب دفع ما سُمّي, وإن كان لم يدخل بها.

لكن في هذه المسألة لا يوجد تسمية للمهر ومات قبل الدخول، فما الحكم؟

فقال: ما عرضت عليّ مسألة أشد من هذه المسألة، بعد أن شاركت رسول الله عليه الصلاة والسلام، ولا أملك نصاً فيها، فكيف أتكلم فيها؟ أخّروا سؤالكم حتى أستشير الناس وأسأل هل أحد يعلم سنة عن النبي عليه الصلاة والسلام في ذلك؟

فعاودوه المرة بعد المرة حتى مضى شهر كامل، ثم قالوا له: أنت صاحب رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأنت معلمنا في الكوفة، فمن نسأل إذا لم تجبنا أنت؟ فلا بد أن تجيب. فقال رضي الله عنه وأرضاه: فالآن أقول فيها برأيي وأجتهد؛ أي: بما أنه لا يوجد نص من كتاب الله ولا في سنة رسوله عليه الصلاة والسلام سأجتهد، واجتهاده سيوافق قضاء النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن السنة تسري في كل ذرة من ذراته، فهو وإن لم يقف على كلام النبي عليه الصلاة والسلام لكن الهدي العام عنده سيقيس النظير بالنظير، والمثيل بالمثيل, وسيصل إلى الحكم الذي هو مقرر في شرع الله الجليل.

فقال: أقول فيها برأيي، فإن كان صواباً فمن الله، وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان، والله ورسوله من ذلك بريئان، ولا يضاف الحكم إلى الشريعة المطهرة، إنما أنا أخطأت, والشيطان هو الذي وسوس لي بهذا الحكم, فإن أصبت ففضل من الله، وإن أخطأت فالإنسان محل للخطأ والتقصير والنسيان، وهذا حاله.

ثم قال: لها مهر مثلها، ولها الميراث وعليها العدة. العدة لها مهر مثلها لا وكس ولا شطط. لا وكس أي: لا نقص، ولا شطط: ولا زيادة.

هذا قضائي في هذه المرأة.

فقام ناس من أشجع، وفي بعض الروايات: منهم معقل بن سنان, فقال: ( أبا عبد الرحمن! حضرت النبي صلى الله عليه وسلم فقضى فيها بمثل قضائك في بروع بنت واشق ). فـبروع امرأة عندما توفي زوجها هلال بن مرة الأشجعي ولم يفرض لها، ولم يدخل بها، قضى النبي صلى الله عليه وسلم بأن لها مهر مثلها، وعليها العدة، ولها الميراث.

فكبّر عبد الله بن مسعود وما فرح بشيء بعد الإسلام كفرحه بأن وافق قضاؤه في هذه المسألة قضاء النبي عليه الصلاة والسلام.

فانظر إلى هذا الاحتياط, شهر كامل يؤخر القضاء في هذه المسألة، وهذا القضاء الذي قضى به عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، نقله ناس من أشجع عن نبينا عليه الصلاة والسلام.

أقوال الفقهاء فيمن مات عن امرأة ولم يسمِّ لها

وهذا القضاء اختلف الأئمة الفقهاء نحوه بكلامٍ حول الحديث سيأتينا، وما أحد أخذ بهذا القضاء من الأئمة الأربعة دون تردد إلا أبو حنيفة فقط، فعنده لو عقد على امرأة ولم يفرض لها مهراً ومات قبل أن يدخل بها، عليه مهر المثل، وترث منه، وعليها العدة، هذا لا خلاف فيه عند الحنفية قولاً واحداً.

أما الإمام الشافعي والإمام أحمد فلهما قولان فيه, القول الاول: لها مهر المثل كقول أبي حنيفة ، القول الثاني: لها نصف مهر المثل؛ قياساً على المطلقة قبل الدخول إذا سُمّي لها المهر، فلها إذا طُلِّقت نصف المهر؛ كما قال الله جل وعلا: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [البقرة:237].

والإمام مالك يقول: ليس لها شيء على الإطلاق, فإذا مات زوجها ولم يسمِّ لها مهراً فلا شيء لها، إنما لها الميراث وعليها العدة، لكن لو سمّى لها المهر فلها ما سُمّي.

رأي الفقهاء في حديث بروع بنت واشق

إخوتي الكرام! هذه الأقضية التي قضى بها أئمتنا لا بد من بيان ملحظها، فعندنا نحن سنة ثابتة, فكيف وجد هؤلاء الأئمة هذه السنة الثابتة؟

فأما الإمام الشافعي رحمة الله ورضوانه عليه قال: هذا حديث لا أحفظه من وجه يثبت مثله, فهذا الحديث عندي أنا معلوم، فلا يقولن أحد بعدي: ما بلغت الإمام الشافعي هذه السنة فهي بلغتني، لكن أنا لا أحفظه من وجه يثبت فيه، يعني: أن الإسناد حوله كلام.

ثم قال في الأم: إن كان ثبت حديث بروع بنت واشق فهو أولى الأمور، ولا حجة في أحد دون النبي عليه الصلاة والسلام, وإن كان إماماً جليلاً, فلا حجة في قوله دون النبي عليه الصلاة والسلام.

ووجه الاعتراض على هذا الحديث أن هذا الحديث جرى حوله كلام بما يتعلق من ناحية الإسناد، فالإسناد فيه اضطراب, فمرة قالوا: ناس من أشجع، وفي بعض الروايات: معقل بن سنان ، وفي رواية أخرى يقول مسروق : معقل بن يسار .

ولكن هذا في الحقيقة لا يقدح في إسناد الحديث، ولا يجب أن يكون فيه مغمزة؛ لأنه معقل بن سنان ، أو معقل بن يسار ، أو ناسٌ من أشجع إذا كانوا من الصحابة, وقد حضروا قضاء النبي عليه الصلاة والسلام، فلا يضر من أعيانهم.

فالاضطراب في الحقيقة منتف، والمقصود أنه حضر صحابي سواءٌ ضبط مسروق أو غيره اسمه أو لا، فهو معقل بن سنان ، أو معقل بن يسار ، أو ناس من أشجع فلا يضر ذلك, والصحابة إِذا جهلت أسماؤهم وأعيانهم فلا يضر بعد الوقوف على أنهم صحابة حضروا هذا القضاء من نبينا عليه الصلاة والسلام, فهذه علة.

وعلة ثانية يقولها الواقدي : هذا حديث لم يعرف في بلاد الحجاز، وجاءني من الكوفة إليها، وكان بعض المحدثين يقول: نزلوا أحاديث أهل الكوفة كأخبار أهل الكتاب؛ فإن وجد لها أصل عند الحجازيين استدللنا بها وإلا توقفنا.

وكذا أحاديث أهل الشام، فأهل العلم من الحجاز ولا شك في ذلك، فنبينا عليه الصلاة والسلام بين مكة والمدينة، فكون هذه السنة تُنقل من الكوفة وليس لها أصل في بلاد الحجاز وما ضبطها أحد، فهذا في الحقيقة ريبة في النفس ونحو هذا الخبر لا يكذّب، لكن نقول: لعله حصل وهم، أو نسيان، أو ذهول، أو عدم ضبط للقصة, فالمقصود عندنا مبرر في ترك العمل بهذا. وهذه المقولة في الحقيقة وإن قالها بعض المحدثين قاسية ومشكلة، وقد نقلها الإمام ابن تيمية في رفع الملام عن الأئمة الأعلام عن بعض المحدثين في صفحة 29، أنهم كانوا ينزلون أحاديث أهل الكوفة وأمصار المسلمين إذا لم يكن لها أصل في بلاد الحجاز كأخبار أهل الكتاب لا تصدق ولا تكذب، حتى يقوم الدليل على صحتها أو على بطلانها.

قياس الفقهاء في هذه المسألة

إذاً: إما اضطراب، وإما الأمر الثاني وهو أن هذا الحديث لا يعلم في بلاد الحجاز، فإذا لم يُعلم نتوقف فيه.

إذا لم يعلم ولم يثبت، لم لم تأخذ بعد ذلك بالقياس الذي يُلجئكم إلى تقرير المهر المسلم لهذه المرأة التي مات زوجها قبل أن يدخل بها؟

الحنفية رحمة الله ورضوانه عليهم أجمعين يقولون: الموت قبل الدخول كالوطء في تقرير المسمى.

لو ماتت قبل الدخول كما لو وطئ في تقرير المسمى، يعني: لو فرض لها عشرة آلاف ريال، إن وطئ فلها المهر، وإن مات فلها المهر، فالموت قبل الدخول كالوطء في تقرير المسمى.

فكذا في إيجاب مهر المسمى, يعني: أذا لم يطأ ولم يسمِّ لها مهراً فيجب عليه مهر المثل، نقول: نحن اتفقنا على أنه إذا سمّى لها مهراً فإن وطئها فلها المهر، وإن مات عنها فلها المهر.

فإذاً: الموت قبل الدخول كالوطء في تقرير المسمى، فهذا أمر متفق عليه.

وقول الحنفية صريح الكلام: فالموت قبل الدخول كالوطء في تقرير مهر المثل.

فكما أن بالوطء يجب المهر إذا كان مسمى، ويجب مهر المثل إذا لم يسمَّ، فكذلك: إن مات قبل الدخول يجب المهر إذا كان مسمى، وإذا لم يكن مسمى فينبغي مهر المثل.

وقال المالكية: لا مهر لهذه المرأة؛ لأنها فرقة على تفويض صحيح -تفويض يعني: عدم تسمية مهر- قبل فرض ومسيس، فلم يجب مهر، كفرقة الطلاق، فلو طلّقها قبل أن يسمِّ لها شيئاً فلا يجب لها شيء على الإطلاق، قال تعالى: لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ [البقرة:236] لها المتعة فضلاً لخاطرها، كأن ترسل لها هدية من ثياب وملابس.

فلا يجب لها نصف مهر المثل، فلو سمّيت لها مهراً وطلقتها فلها نصف مهر المثل، فالمالكية يقولون: عندنا فرقة على تفويض صحيح قبل فرض ومسيس فلا يجب المهر، كفرقة الطلاق، فكما لو طلقها قبل أن يسمي لها مهراً, لا يجب عليه نصف مهر المثل فكذا لو مات قبل أن يسمي لها مهراً وقبل أن يدخل بها فلا يجب لها شيء، فهذه كفرقة الطلاق. وحقيقة القياس قوي وسليم.

فقالوا إذاً: الأصل براءة ذمته، فلا يجب عليه مهر شيء منه، والحديث -كما قلت- عندهم يقولون: لا يصلح؛ لأنه جاء من بلاد الكوفة إلى بلاد الحجاز، فحول ثبوته نظر عندنا.

أما الإمام الشافعي وأحمد عليهم جميعاً رحمة الله ورضوانه على القول بثبوته، وثبوت قياس الحنفية قالوا: يجب مهر المثل، وعلى القول بعدم ثبوت الحديث, قالوا: نعتبر الموت قبل الدخول كالطلاق قبل الدخول إذا سُمّي لها مهر، فهناك يجب نصف المهر، وهنا يجب نصف مهر مثلها.

المسمّى, نصف مهر مثلها.

فلو سمى لها مهراً وطلقها لها نصف المهر إذا لم يدخل بها، وهنا إن مات عنها فلها نصف المهر، فإذا كان ليس لها مهر محدد، فلها نصف مهر مثلها.

فالإمام أحمد والشافعي عليهم جميعاً رحمة الله يقولون: لها مهر المثل؛ على حسب قول الحنفية، ولها نصف مهر المثل؛ قياساً على المطلقة قبل الدخول إذا سُمي لها المهر.

والإمام مالك لا شيء لها، وأبو حنيفة يقول: لها مهر مثلها تماماً كاملاً.

وبقية الأحكام متفق عليها, فالعدة لا بد منها، والقوت لا بد منه، لكن هل تأخذ مهر المثل أو لا؟

فـأبو حنيفة يقول: تأخذه، وهذا أحد قولي الشافعي وأحمد ، وهو الذي رجحه الإمام النووي محقق المذهب الشافعي, قال في منهاج الطالبين الذي شُرح في السراج الوهاج, فالمتن للإمام الشافعي والشرح للخطيب الشربيني صفحة 392: وإن مات أحدهما -يعني: أحد الزوجين- قبلهما -قبل الفرض والوطء- لم يجب مهر المثل في الأظهر. قلت - النووي -: الأظهر وجوبه.

بناءً على هذا الحديث أن النبي عليه الصلاة والسلام قضى بذلك، وهذا هو قضاء عبد الله بن مسعود رضي الله عنهم أجمعين.

المقصود بالمثل في قول الفقهاء: لها مهر المثل

إذا وجب مهر المثل فالجمهور يقولون: المراد بالمثل خصوص الأقارب من جهة الأب، يعني: من جهة أبو هذه المرأة. كالأخت الشقيقة والأخت لأب، فلا تدخل أخت لأم، وتدخل بنات الأخ، وهكذا العمات. والأقارب من جهة الأب فلها مهر المثل.

وقال الشافعية: لها مهر المثل فيما يساويها ويماثلها في عقلها، ويسارها، وبكارتها، وثيوبتها, وما اختلف به غرض النكاح ككونها كبيرة، أو صغيرة، نقدرها بمثيلاتها في البلدة.

وإلى نحو هذا ذهب الإمام مالك عليهم جميعاً رحمة الله فقال: كحالها، ومالها، وشرفها، ولا يختص ذلك بأقاربها.

فالحديث -كما قلت- واحد، واختلف أئمتنا, والشافعي من ورعه وديانته علّق القول به على صحة الحديث، قال شيخ الإمام الحاكم وهو أبو عبد الله الأخرم محمد بن يعقوب الذي توفي سنة 344هـ، وهو الذي اختصر صحيح مسلم وندم على اختصاره وقال: من حقنا أن نجتهد في تكثير الصحيح لا باختصار الصحيح وتقليله.

فـابن الأخرم عليه رحمة الله يقول: لو أدركت الشافعي عليهم جميعاً رحمة الله لقمت على رأسه على رءوس الأشهاد وقلت: يا إمام قد صح حديث بروع بنت واشق فقل به، وأنت تقول: لو صح حديث بروع لقلت به.

وقد قال الشافعي : أن حديث رسول الله هو أول الأمور، ولا حجة في قول أحد دون قول الرسول عليه الصلاة والسلام، وإن كبر.

إذاً يقول الإمام ابن الأخرم -شيخ الإمام الحاكم , وينقل عنه هذا الإمام الحاكم في المستدرك في الجزء الثاني صفحة 180- يقول: لو أدركت الشافعي لقمت على رأسه على رؤوس الأشهاد وقلت: يا إمام! قد صح حديث بروع فقل به، فقل: يجب للتي لم يسمَّ لها مهر إذا مات عنها زوجها، مهر المثل، وعليها العدة، ولها الميراث، وإن ماتت قبل زوجها. فزوجها يرث بعد ذلك منها على أنه زوج، وهنا لا يوجد فرع وارث إذا لم يكن لها أولاد من غيره وهو أول من تزوجها، فله نصف مالها، فيعطيها مهر المثل ثم يأخذ نصفه، ثم يأخذ نصف مالها الآخر. هذا إذا ماتت قبله لها مهر المثل، ثم هو وارث من الورّاث يوزع المال حسب ما بيّن ذو العزة والجلال.

إخوتي الكرام! كما قلت: حديث واحد، ومع ذلك اختلفت أنظار الأئمة نحوه.

أريد أن تكلم باختصار حول هذه القضية كلاماً ينفعنا لنكون على بيّنة من أمرنا.

وهذا القضاء اختلف الأئمة الفقهاء نحوه بكلامٍ حول الحديث سيأتينا، وما أحد أخذ بهذا القضاء من الأئمة الأربعة دون تردد إلا أبو حنيفة فقط، فعنده لو عقد على امرأة ولم يفرض لها مهراً ومات قبل أن يدخل بها، عليه مهر المثل، وترث منه، وعليها العدة، هذا لا خلاف فيه عند الحنفية قولاً واحداً.

أما الإمام الشافعي والإمام أحمد فلهما قولان فيه, القول الاول: لها مهر المثل كقول أبي حنيفة ، القول الثاني: لها نصف مهر المثل؛ قياساً على المطلقة قبل الدخول إذا سُمّي لها المهر، فلها إذا طُلِّقت نصف المهر؛ كما قال الله جل وعلا: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [البقرة:237].

والإمام مالك يقول: ليس لها شيء على الإطلاق, فإذا مات زوجها ولم يسمِّ لها مهراً فلا شيء لها، إنما لها الميراث وعليها العدة، لكن لو سمّى لها المهر فلها ما سُمّي.

إخوتي الكرام! هذه الأقضية التي قضى بها أئمتنا لا بد من بيان ملحظها، فعندنا نحن سنة ثابتة, فكيف وجد هؤلاء الأئمة هذه السنة الثابتة؟

فأما الإمام الشافعي رحمة الله ورضوانه عليه قال: هذا حديث لا أحفظه من وجه يثبت مثله, فهذا الحديث عندي أنا معلوم، فلا يقولن أحد بعدي: ما بلغت الإمام الشافعي هذه السنة فهي بلغتني، لكن أنا لا أحفظه من وجه يثبت فيه، يعني: أن الإسناد حوله كلام.

ثم قال في الأم: إن كان ثبت حديث بروع بنت واشق فهو أولى الأمور، ولا حجة في أحد دون النبي عليه الصلاة والسلام, وإن كان إماماً جليلاً, فلا حجة في قوله دون النبي عليه الصلاة والسلام.

ووجه الاعتراض على هذا الحديث أن هذا الحديث جرى حوله كلام بما يتعلق من ناحية الإسناد، فالإسناد فيه اضطراب, فمرة قالوا: ناس من أشجع، وفي بعض الروايات: معقل بن سنان ، وفي رواية أخرى يقول مسروق : معقل بن يسار .

ولكن هذا في الحقيقة لا يقدح في إسناد الحديث، ولا يجب أن يكون فيه مغمزة؛ لأنه معقل بن سنان ، أو معقل بن يسار ، أو ناسٌ من أشجع إذا كانوا من الصحابة, وقد حضروا قضاء النبي عليه الصلاة والسلام، فلا يضر من أعيانهم.

فالاضطراب في الحقيقة منتف، والمقصود أنه حضر صحابي سواءٌ ضبط مسروق أو غيره اسمه أو لا، فهو معقل بن سنان ، أو معقل بن يسار ، أو ناس من أشجع فلا يضر ذلك, والصحابة إِذا جهلت أسماؤهم وأعيانهم فلا يضر بعد الوقوف على أنهم صحابة حضروا هذا القضاء من نبينا عليه الصلاة والسلام, فهذه علة.

وعلة ثانية يقولها الواقدي : هذا حديث لم يعرف في بلاد الحجاز، وجاءني من الكوفة إليها، وكان بعض المحدثين يقول: نزلوا أحاديث أهل الكوفة كأخبار أهل الكتاب؛ فإن وجد لها أصل عند الحجازيين استدللنا بها وإلا توقفنا.

وكذا أحاديث أهل الشام، فأهل العلم من الحجاز ولا شك في ذلك، فنبينا عليه الصلاة والسلام بين مكة والمدينة، فكون هذه السنة تُنقل من الكوفة وليس لها أصل في بلاد الحجاز وما ضبطها أحد، فهذا في الحقيقة ريبة في النفس ونحو هذا الخبر لا يكذّب، لكن نقول: لعله حصل وهم، أو نسيان، أو ذهول، أو عدم ضبط للقصة, فالمقصود عندنا مبرر في ترك العمل بهذا. وهذه المقولة في الحقيقة وإن قالها بعض المحدثين قاسية ومشكلة، وقد نقلها الإمام ابن تيمية في رفع الملام عن الأئمة الأعلام عن بعض المحدثين في صفحة 29، أنهم كانوا ينزلون أحاديث أهل الكوفة وأمصار المسلمين إذا لم يكن لها أصل في بلاد الحجاز كأخبار أهل الكتاب لا تصدق ولا تكذب، حتى يقوم الدليل على صحتها أو على بطلانها.