{يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمت الله عليكم... }
مدة
قراءة المادة :
7 دقائق
.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ... ﴾
قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ [المائدة: 11].
أولًا: سبب نزولها:
قد أورد المفسرون في سبب نزول هذه الآية الكريمة روايات؛ منها:
♦ عن جابر: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل منزلًا، وتفرق الناس في العُضاةِ يستظلون تحتها، وعلَّق النبي صلى الله عليه وسلم سلاحه بشجرة، فجاء أعرابي إلى سيف رسول الله فأخذه فسلَّهُ، ثم أقبل عليه، فقال: مَن يمنعك مني؟ قال: الله عز وجل، فسقط السيف من يد الأعرابي، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه، فأخبرهم خبر الأعرابي وهو جالس إلى جانبه، ولم يعاقبه)).
قال ابن كثير: "وقصة هذا الأعرابي - وهو غورث بن الحارث - ثابتة في الصحيح".
♦ وقال ابن كثير: "وذكر محمد بن إسحاق ومجاهد وعكرمة وغير واحد أنها نزلت في شأن بني النضير، حين أرادوا أن يلقوا على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم الرَّحَى، لما جاءهم يستعينهم في دِيَةِ العامريَّيْنِ، ووكلوا عمرو بن جحَّاش بن كعب بذلك، وأمروه إن جلس النبي صلى الله عليه وسلم تحت الجدار واجتمعوا عنده أن يلقيَ الرحى من فوقه، فأطلع الله رسوله صلى الله عليه وسلم على ما تمالؤوا عليه، فرجع إلى المدينة وتَبِعَهُ أصحابه، فأنزل الله في ذلك هذه الآية".
وقد رجح ابن جرير أن تكون الآية قد نزلت بسبب ما أضمره بنو النضير من كيد وسوء للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ فقال: "وأولى الأقوال بالصحة في تأويل ذلك قول من قال: عَنَى الله بالنعمة التي ذكر في هذه الآية نعمتَه على المؤمنين به وبرسوله، التي أنعم بها عليهم في استنقاذه نبيهم محمدًا صلى الله عليه وسلم مما كانت يهود بني النضير همَّت به؛ مِن قتله وقتل مَن معه يوم سار إليهم في الدية التي كان تحملها عن قَتِيلَيْ عمرو بن أمية، وإنما قلنا ذلك أولى بالصحة في تأويل ذلك؛ لأن الله عقَّب ذكر ذلك برمي اليهود بسوء صنائعها، وقبيح أفعالها، وخيانتها ربَّها وأنبياءها".
ثانيًا: تضمنت الآية كما ورد في سبب النزول أن الله تعالى حفِظ النبي صلى الله عليه وسلم من محاولات الاغتيال التي حاكها ضده الكفار؛ سواء أكانوا من مشركي العرب أم من يهود بني النضير، وذلك بناء على الروايتين المذكورتين أعلاه؛ فيكون المراد بقوله تعالى: ﴿ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ﴾ تذكيرَ المؤمنين بنعمة الله عليهم؛ حيث أنجى نبيهم صلى الله عليه وسلم مما أضمره له أعداؤه وأعداؤهم.
ثالثًا: جاء دفاع الله تعالى عن النبي صلى الله عليه وسلم عندما حاول مَن حاول اغتياله دفاعًا بالفعل وبالقول:
♦ أما دفاعه بالفعل: فهو ما وقع للأعرابي عندما جاء إلى الشجرة، فأخذ سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلَّه، ثم أقبل عليه، فقال: مَن يمنعك مني؟ قال: الله عز وجل، فسقط السيف من يد الأعرابي، فسقوط السيف من يده معجزة إلهية، دفع الله بها شر ذلك الأعرابي.
♦ وأما دفاعه تعالى القولي عنه صلى الله عليه وسلم: فهو نزول تلك الآية في كتابه تذكيرًا للمؤمنين بنعمة نجاته صلى الله عليه وسلم، وفي هذا إغاظة للأعداء، وفي طيِّه تحذير من أن يحاول أحدهم من النَّيْلِ من سيد الأنبياء صلى الله عليه وسلم، وإليك ما تحتويه الآية من جليل المعاني:
1- قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ ﴾؛ أي: تنبَّهوا إلى نِعَمِ الله عليكم، وقابلوها بدوام الشكر والطاعة له سبحانه؛ حيث أراد قوم من أعدائكم أن يبسطوا إليكم أيديهم؛ أي: أن يبطشوا بكم القتل والإهلاك، ولكنه سبحانه رحمة ربكم، ودفاعًا عنكم - حال بين أعدائكم، وبين ما يريدونه بكم من سوء.
فالآية الكريمة تذكيرٌ للمؤمنين بنعمة عظيمة من نعم الله عليهم؛ حيث نجاهم من كيد أعدائهم، ومن محاولتهم إهلاكهم، إثر تذكيرهم قبل ذلك بنِعَمٍ أخرى؛ كإكمال الدين، وهدايتهم إلى الإسلام، وغير ذلك من الآلاء والمنن، وفي تكرار هذا التذكير ما فيه من الحضِّ على تأكيد المداومة على طاعة الله، والمواظبة على شكره.
2- وقوله: ﴿ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ ﴾ ظرفٌ لقوله: ﴿ نِعْمَتَ اللَّهِ ﴾، والهَمُّ: إقبال النفس على فعل الشيء؛ أي: اذكروا نعمة الله عليكم وقت أن قصدكم قومٌ من أعدائكم بالسوء والإهلاك، وبسط اليد هنا كناية عن البطش والإهلاك، يقال: بسط يده إليه: إذا بطش به، وبسط إليه لسانه: إذا شتمه، والبسط في الأصل: مطلق المد، وإذا استُعمل في اليد واللسان كان كناية عما ذُكر.
3- وقوله: ﴿ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ ﴾ معطوف على قوله: ﴿ هَمَّ قَوْمٌ ﴾، وهذا الكفُّ هو النعمة التي قصد تذكيرهم بها؛ حتى يداوموا على شكره وطاعته، وعبر سبحانه بقوله: ﴿ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ ﴾ للإيذان بأن نعمةَ كفِّ أيدي الأعداء عنهم قد جاءت عند شدة الحاجة إليها.
وقال سبحانه: ﴿ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ ﴾ بإظهار الأيدي، ولم يقل: "فكفها عنكم"؛ لزيادة التقرير، وللإشارة إلى أنه سبحانه هو الذي قضى على موضع قوة أعدائهم، ومناط شدتهم؛ إذِ الأيدي هي من أهم وسائل البطش والقتل.
أي: إنه سبحانه قد منع أيديهم عن أن تمتد إليكم بالأذى عقيب همهم بذلك؛ دفاعًا عنكم أيها المؤمنون، وحماية لكم من الشرور، فقابلوا ذلك بالشكر لخالقكم.
4- وقوله: ﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴾؛ أي: كونوا مواظبين على طاعة الله تعالى، ولا تخافوا أحدًا في إقامة طاعات الله تعالى.
5- وقوله: ﴿ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ أمرٌ لهم بالاعتماد على الله وحده.
أي: داوموا على شكر نعم الله عليكم، وصونوا أنفسكم عن كل ما نهاكم عنه، وعليه وحده اعتمدوا وتوكلوا؛ فإنه سبحانه هو الفعَّال لِما يريد، وهو الذي يدفع الشر عمن توكل عليه، ويعطي الخير لمن شكره وأطاعه.
فالجملة الكريمة تذييلٌ مقرر لِما قبله من وجوب المداومة على طاعة الله، وشكره على نِعَمِهِ.