حاء في الحياة، وباء بعد الموت
مدة
قراءة المادة :
4 دقائق
.
حاء في الحياة، وباء بعد الموتفي تلك الليلة الجميلة، حيث كان النسيم يَسري رقيقًا ناعمًا تتمايل معه الأشجار، وتنحني له الأغصان وتتراقَص له الأنوار، ما أجملَها من مناظر تَسُر العيون! وما أحلاها من نسمات تُنعِش النفوسَ! جلس معها، مدَّ يدَه إليها، قرأ في عينيها ما يقرؤه شاعر مُرهَف الإحساس، يا إلهي! كم كانت نظراتها فصيحة تَرجَمت عما في نفسها بأبسط لغة وأصدقها وأسرعها تغلغلاً إلى الفؤاد، راح يُقلِّب صفحات ذاكرته، يعود إلى الوراء وهو ينظر إلى عينيها، فالمودة والرحمة التي نشأت منها المحبة كانت تَسكُن بينهما.
وفي الصباح عندما أرسلت الشمس أشعتَها الذهبية البراقة مُعلِنة بداية نهار جديد، استيقظ كعادته؛ لكي يتناول الطعام مع زوجته، ثم يذهب إلى عمله.
لكنه تعجَّب عندما نظر إلى زوجته فرآها ما زالت نائمة كملاك طاهرٍ بريء، فإنه اعتاد أن تستيقظ قبله، وتُحضِّر له الطعام.
حينها شعر كأن الساعة تباطأت عقاربُها، فتقدَّم إليها والدمع يَنسكِب من عينيه، وبدأ يُقلِّب صفحات حياته التي كتبها هو ومحبوبته، فكأنه شعر بلحظة وداع، يا إلهي! كم هي مؤلمة رؤية المحبوب في هذه الحالة، جارحةٌ الدَّمعة التي يصحبها الخوف من لحظة فِراق، خيَّم سكون رهيب أَشْبَه سكونَ الموت، مدَّ يده وأمسك بيدها، وإذ به يسمع صوتًا رهيبًا يُناديه: "أَعِد يدك..
إنها زهرة ذبَلت ولن تعود..
لن ترجع..
لقد ماتت!"، حاول أن يُكذِّب الصوتَ وهو يبكي بكاء شديدًا: "لا ترحلي..
لا تودِّعيني...
لا تتركيني!".
وفجأة...
انتفض ومسَح دموعه، ثم تبسَّم، لم يُصِبه جنون، ولكنه أيقن أن الموت هو محطة في سفر طويل إلى جنة عَرْضُها السمواتُ والأرض، فاستلقى بجانبها ولم يستيقظ، نعم، لقد مات هو أيضًا.
أيُّ سِرٍّ هذا؟ لقد خصَّهما الله بنعمة الحب الأبدي، الحب الرُّوحي الخالد، وكانت تلك الليلة كأنها ليلة زفافهما، الأهل والأقارب يبكون، وهما فَرِحان بما آتاهما الله من الحب الأبدي، فوُضِع الزوج في القبر، ثم حملوا إليه زوجتَه وقدَّموها له، وأُغلِق القبر عليهما.
القبر...
يراه الأهل حفرةً صغيرة ضيقة، ولكنهم رأوه روضة جميلة، جلسا يستذكران معًا أيامًا خلْت، وليالي انقضت، أتذكرين يوم كنا ننظر إلى جمال صُنْع الله في الأشجار والأطيار والأزهار؟ انظري ماذا أعدَّ الله لنا؟! أليست هذه الروضة أكثر جمالاً، نسمع ما يَسُر القلوب، ونرى ما تَنشرِح به النفوس؟
وارتميا في أحضانها..
ليُشكِّلا لوحةً، يَعجِز البيان عن وصْفها، والأطيار تَصدَح بشجي أنغامها.
عندها طاب التلذذ بمناجاة الله تعالى على هذه النِّعم، وعلى كَرَمه عليهم، وإحسانه إليهم.
أحبتي في الله:
هذه القصة من وحي الخيال، ولكن ألستم معي بأن الحبَّ هو ذلك الإحساس الصافي الذي لا تراه العيون، ولكن تُدرِكه القلوب؟ ألستم معي بأن الحبَّ الصافي هو الذي يكون بين زوجين نشأت بينهما المودة والرحمة، فيولد الحب الأبدي الخالد؟ ألستم معي بأن الحب يتكوَّن من حرفين: حاء في الحياة، وباء بعد الموت؟!