شرح الترمذي - باب النهي عن البول قائماً وباب الرخصة في ذلك [1]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، (اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً)، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً، بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

فكنا تدارسنا البابين الثامن والتاسع من أبواب الطهارة من جامع الإمام أبي عيسى الترمذي رحمه الله، وهذان البابان يتعلقان بموضوع قضاء حاجة البول قائماً، وما ورد من النهي عن ذلك، وما ورد من الرخصة في ذلك، أما الباب الثامن فهو باب ما جاء في النهي عن البول قائماً، وأورد فيه الترمذي حديث أمنا عائشة رضي الله عنها، قالت: (من حدثكم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبول قائماً فلا تصدقوه، ما كان يبول إلا قاعداً).

قال أبو عيسى : حديث عائشة رضي الله عنها أحسن شيء في هذا الباب وأصح.

وأما الباب التاسع فهو باب: ما جاء من الرخصة في ذلك، فروى فيه الترمذي حديث حذيفة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى سباطة قوم فبال عليها قائماً، فأتيته بوضوء فذهبت لأتأخر عنه فدعاني حتى كنت عند عقبيه، فتوضأ ومسح على خفيه).

هذان الحديثان هما موضوع هذين البابين: فالأول: باب ما جاء من النهي عن البول قائماً، والثاني: باب ما جاء من الرخصة في ذلك، وكما هي عادتنا في مدارسة حديث نبينا عليه الصلاة والسلام، أن نبدأ بالمبحث الأول، وغالب ظني أننا قد انتهينا من دراسة رجال الإسناد، وأما المبحث الثاني: ففي فقه الحديث، وأما الثالث: ففي بيان درجة الأحاديث التي أوردها الترمذي ، وأما الرابع: ففي تخريج الأحاديث التي أشار إليها في هذين البابين.

المبحث الأول: في بيان حال رجال الإسناد، وكنا قد انتهينا منه، وآخر شيء تكلمت عليه هو ترجمة حذيفة بن اليمان رضي الله عنه.

وقلت: إنه يتعلق بترجمة رجال الإسناد أمر مهم ينبغي أن ننتبه له وهو: أن عندنا راويان في هذين البابين رميا بالإرجاء.

أولهما: شيخ الترمذي وهو: الجارود بن معاذ السلمي الترمذي ، وهو ثقة رمي بالإرجاء، توفي سنة أربع وأربعين بعد المائتين، ولم يخرج حديثه إلا الترمذي وهو من شيوخه.

والثاني: حماد بن أبي سليمان وقد رمي بالإرجاء، وهو فقيه صدوق، وحديثه في كتاب الأدب المفرد للإمام البخاري ، وصحيح مسلم ، والسنن الأربعة.

وهذه البدعة أعني: بدعة الإرجاء، سيأتي معنا وصف كثير من رواة الحديث بها، فلا بد من بيان حالها لنكون على علم بذلك.

الإرجاء معناه في اللغة: التأخير، ومنه قول الله جل وعلا في سورة الشعراء حكايةً عن سحرة فرعون عندما قالوا للعاصي فرعون: أَرْجِه وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ [الشعراء:36]، أرجه يعني: أخر نبي الله موسى عليه صلوات الله وسلامه وأخاه هارون، ثم ابعث في المدائن حاشرين من أجل أن يأتوا من كل جهة فتحصل المبارزة والمحادة بين السحرة وبين نبي الله موسى.

ومنه قول الله جل وعلا أيضاً في سورة التوبة: وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ [التوبة:106]، مرجون، أي: أنهم مؤخرون، وأمرهم إلى ربهم جل وعلا.

ويأتي الإرجاء بمعنى: إعطاء الرجاء، وسيأتينا وجه تسمية فرقة المرجئة بالمرجئة، وانطباق هذين المعنيين: معنى التأخير، ومعنى إعطاء الرجاء على هذه الفرقة.

أما هذا اللقب -أعني لفظ الإرجاء وفرقة المرجئة- فهو يطلق بإطلاقين اثنين:

الأول: إطلاق مذموم، والمتصف به ضال مبتدع، والثاني: إطلاق متنوع لكنه لا يصل إلى درجة الذم، فتارةً يكون إطلاق هدى، وتارة يكون إطلاق ورع، وتارة يكون إطلاق على أمر وفيه خطأ في اللفظ.

فلا بد إذاً من استعراض هذه الحقائق لنكون على بينة من الأمر، ولنعلم نوع الإرجاء الذي نسب إليه الجارود ، وحماد بن أبي سليمان ، وأبو حنيفة النعمان وغيرهم رحمهم الله جميعاً.

إذاً: الإرجاء أنواع:

فالإرجاء الأول: المذموم وهو إرجاء بدعي، والمتصف به ضال بلا خلاف، وله نوعان:

لا يضر مع الإيمان معصية

النوع الأول: أن يقول صاحب هذه البدعة: لا يضر مع الإيمان معصية، وما دون الشرك مغفور، والإيمان هو نطق الشهادة، لا إله إلا الله محمد رسول الله عليه الصلاة والسلام، فمن أقر بذلك فهو صديق، والنار محرمة عليه، وسواء فعل المأمورات أو تركها، أو اجتنب المحظورات أو ارتكبها، فهو مع الصديقين والنبيين والشهداء والصالحين في جميع أحواله، والنار محرمة عليه، بمجرد نطقه بكلمة التوحيد، وهذا ينطبق عليه ما تقدم معنا من أنه الإرجاء بمعنى التأخير، وبمعنى إعطاء الرجاء، فهم أخروا العمل عن الإيمان وأخرجوه منه فعلاً وتركاً، اكتساباً واجتناباً، فقالوا: من ترك فعل الطاعات، ومن ارتكب الموبقات لا يضره؛ لأن هذا ليس من الإيمان، الإيمان: أن تعتقد بجنانك وأن تنطق بلسانك، وأما بالنسبة للعمل فإن فعلت فلا حرج، وإن تركت فلا حرج، وهذا النوع من الإرجاء بدعة، وهو إرجاء الغلاة، والمتصف به مبتدع، وهذه البدعة مكفرة، كبدعة القدرية الغلاة، ولا ينسب إليها أحد من أئمتنا الهداة، فكونوا على علم، فعندما يقال مثلاً: إن حماد بن أبي سليمان مرجئي، فهل يعني هذا أنه يقول: إن الزاني والعفيف عند الله بمنزلة واحدة؟ أو أن الصادق والكذاب بمنزلة واحدة؟ أو أن المصلي وتارك الصلاة بمنزلة واحدة؟ حاشاه من ذلك.

إذاً: هذا النوع من الإرجاء بدعي، والمتصف به ضال ولا خلاف في ذلك، وهذه بدعة مكفرة، وقد قال بهذا القول اليونسية وهم من المرجئة الغلاة، وقال به العبيدية، كما ذكر ذلك الشهرستاني في كتابه الملل والنحل.

وهذه فرق ضالة وجدت في هذه الأمة، ويقولون: الإيمان إقرار واعتقاد، وأما العمل فوجوده وعدمه سواء، فمن نطق بكلمة التوحيد فالنار محرمة عليه، سواء فعل المأمورات أو لا، وسواء ارتكب المحظورات أو لا، فما دون الشرك مغفور له، فلا يدخل النار أحدٌ إلا من لم يوحد الله.

لا يدخل أحد العصاة النار

النوع الثاني للإرجاء البدعي والمرجئة المبتدعة الضالة: هم القائلون بأنه لا يدخل أحد من العصاة النار.

وهؤلاء يقولون: إن الله فرض علينا المأمورات، وأمرنا أن نترك المحظورات، لكنه لم يرد للعصاة أن يعملوا المأمورات فلا يضرهم تركها، ولا أن يتركوا المحظورات، فلا يضرهم فعلها، لكن الله أمرنا بأن نطيعه، ونهانا أن نعصيه، فالإيمان على قول الفرقة الأولى: إقرار واعتقاد فقط.

إذاً: فالله ما أراد للعاصي أن يطيع، ولا أراد له أن يترك المعصية، وعليه فإنه إذا لم يطع، ولم يترك المعصية فقد تحققت إرادة الله فيه، فلا يضره ترك الطاعة، ولا يضره فعل المعصية؛ لأنه مغفور له.

ولا نعلم أحداً من العصاة يعذب في النار، ببدعة كتلك، فأولئك اختصروا الطريق وهونوا الأمر، وأظهروا عن معتقدهم بلا لف أو دوران، وقالوا: إن الإيمان إقرار واعتقاد، وما عداه فليس منه، فعلته أو تركته لا يضرك.

وأما هؤلاء فزادوا في الكلام واللغط وقالوا: أمرت بفعل الطاعة ونهيت عن ترك المعصية، لكن الله ما أراد لك أن تطيع، وما أراد لك أن تترك المعصية، وعليه فإذا تركت المأمورات وارتكبت المحظورات فهذا لا يضرك، وهو مغفور لك، وفي النهاية فإن هذا القول كالقول الأول، وهذا -كما قلت- إرجاء بدعي.

قال ابن تيمية رحمة الله في مجموع الفتاوى في الجزء السابع، صفحة واحدة وثمانين ومائة، بعد أن حكى قولهم الذي ذكرته: هذا قول الغالية منهم -يعني: قول الغلاة من المرجئة- ويقوله من لا خلاق له.

قلت لكم: إن المتصف بذلك صاحب بدعة، وبدعته مكفرة كبدعة القدرية الغلاة الذين نفوا علم الله الأزلي للأشياء كما تقدم معنا عند دراسة تلك الفرقة الردية.

إذاً: فهو إرجاء بدعي المتصف به ضال، وهذا قول لم يقل به أحد من أئمتنا الأبرار فكونوا على علم بذلك، ولم يرو عن أحد من أهل السنة، في كتب السنة أنه يقول بأحد هذين القولين، فهو قول باطل بلا شك، وقد تواترت الأحاديث عن نبينا عليه الصلاة والسلام بدخول العصاة نار جهنم، وخروجهم منها بعد ذلك بشفاعة الشافعين، ورحمة أرحم الراحمين، فالقائل: بأنه لا يعذب أحد من العصاة يرد على نبينا عليه الصلاة والسلام، وهذه الأحاديث المتواترة ترد على المرجئة.

مقابلة الخوارج والمعتزلة للمرجئة

لقد قابل قول المرجئة قول الخوارج والمعتزلة، وهذه الأحاديث أيضاً تبطل قولهم؛ فالخوارج عندهم صاحب الكبيرة كافر ويخلد في النار، والمعتزلة والإباضية وافقوهم على هذا القول الضال المبتدع: بأنه مخلد؛ لأنه ليس بمؤمن، لكنهم خالفوا الخوارج في الدنيا فقالوا: فاعل الكبيرة ليس بكافر وليس بمؤمن، ولكنه في منزلة بين المنزلتين، فاتفق الخوارج والمعتزلة والإباضية على تخليد فاعل الكبيرة في نار جهنم، سواء ترك مأموراً أو ارتكب محظوراً.

إذاً: هم على طرفين اثنين: أولئك يقولون: يدخل النار ولا يخرج منها، والمرجئة يقولون: لا يدخلها أبداً، وهؤلاء وأولئك على ضلال، وهم من أتباع الشيطان.

ثبت في المسند، والصحيحين، وفي سنن الترمذي ، والنسائي ، وابن ماجه ، من رواية أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وفي قلبه وزن ذرة من خير)، وهي حبة القمح، أو حبة الحنطة وهي: البر، ( ويخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه وزن شعيرة من خير، ويخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وفي قلبه وزن ذرة -بضم الذال- من خير).

إذاً: هذه ثلاثة أوزان: وزن برة، وزن شعيرة، وزن ذرة -بضم الذال-، واللفظة الثالثة صحفها أبو بسطام وهو: شعبة بن الحجاج تقدم معنا، صحفها إلى ذرة؛ فلعله لما ذكرت قبلها حبة القمح، وحبة الشعير قال: ويخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه وزن ذرة بضم الذال من خير، وتصحيفه ثابت في صحيح مسلم ، وقال الإمام مسلم : صحف أبو بسطام ذَرة -بفتح الذال- إلى ذُرَة -بضم الذال- والصواب أنها وزن ذرة -بفتح الذال- من خير، والذرة -بفتح الذال- ذكرت فيها أقوال ومنها: ما قاله أئمتنا: هي أقل شيء، وقيل: هي الهباء الذي يرى في شعاع الشمس عندما تسطع أشعة الشمس في الحجرة، فأنت ترى هذا الهباء يتطاير، فهذا يقال له: ذره، وهذا هو أحد الأقوال في معنى قوله: ذرة -بفتح الذال- ويكون المعنى: إذا كان في قلبك وزن ذرة من هذا الذر الذي يتطاير عند شعاع الشمس تخرج من النار بعدما يشاء العزيز القهار سبحانه وتعالى.

وقيل: الذرة هي النملة الصغيرة، وقيل: الذرة -كما نقل عن ابن عباس -، وهذه الأقوال الأربعة ذكرها الحافظ ابن حجر في الفتح.

قال: الذرة أن تضع يدك على التراب ثم تنفخها فما تطاير هو الذر.

خلاصة القول في الإرجاء المذموم

إذاً: فخلاصة الكلام في الإرجاء هنا أنه إرجاء بدعي، والقائل به ضال، وبدعته مكفرة، ولم يقل بهذا الإرجاء أحد من أئمتنا البررة، سواء بالإرجاء الأول وهو: أنه لا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة.

قال بعضهم:

مت مسلماً ومن الذنوب فلا تخف حاشا المهيمن أن يري توكيدا

لو رام أن يصليك نار جهنم ما كان ألهم قلبك التوحيدا

وهذا كلام في الحقيقة كما يقال: حق يراد به باطل؛ لأن من علامة توحيد الله أن تطيع الله عز وجل، والله لا يسوي بين من وحده وبين من جحده، كما لا يسوي بين من أطاعه وبين من عصاه، فلا يمكن أن يجعل الصادق كالكذاب، أو أن يجعل التقي كالسقيم، فأنت إذا لقيت الله بكلمة التوحيد فلا تخلد، وبالمقابل لن تكون أيضاً مع النبيين والصديقين، فلا بد من وضع الأمر في موضعه في الشرع.

والإرجاء الثاني قلنا: بأنه قريب منه لكنهم قالوا: إن الله أمر الناس بالطاعة ونهاهم عن المعصية، لكن الله لم يُرد للعصاة أن يقلعوا أو أن يتركوا المعصية، فإذا وقعوا في ترك المأمور، أو في فعل المحظور فسيغفر الله سبحانه لهم؛ لأن الله أراد منهم ذلك، ولا نعلم أحداً يعذب في نار جهنم.

قلت: ومآل القولين إلى شيء واحد، والذي يقول بهذا لا خلاق له، ولقد قال بهذا غلاة المرجئة: كاليونسية والعبيدية وغيرهما من الفرق الضالة، ولا نعلم أحداً من أئمتنا قال بهذا الإرجاء.

النوع الأول: أن يقول صاحب هذه البدعة: لا يضر مع الإيمان معصية، وما دون الشرك مغفور، والإيمان هو نطق الشهادة، لا إله إلا الله محمد رسول الله عليه الصلاة والسلام، فمن أقر بذلك فهو صديق، والنار محرمة عليه، وسواء فعل المأمورات أو تركها، أو اجتنب المحظورات أو ارتكبها، فهو مع الصديقين والنبيين والشهداء والصالحين في جميع أحواله، والنار محرمة عليه، بمجرد نطقه بكلمة التوحيد، وهذا ينطبق عليه ما تقدم معنا من أنه الإرجاء بمعنى التأخير، وبمعنى إعطاء الرجاء، فهم أخروا العمل عن الإيمان وأخرجوه منه فعلاً وتركاً، اكتساباً واجتناباً، فقالوا: من ترك فعل الطاعات، ومن ارتكب الموبقات لا يضره؛ لأن هذا ليس من الإيمان، الإيمان: أن تعتقد بجنانك وأن تنطق بلسانك، وأما بالنسبة للعمل فإن فعلت فلا حرج، وإن تركت فلا حرج، وهذا النوع من الإرجاء بدعة، وهو إرجاء الغلاة، والمتصف به مبتدع، وهذه البدعة مكفرة، كبدعة القدرية الغلاة، ولا ينسب إليها أحد من أئمتنا الهداة، فكونوا على علم، فعندما يقال مثلاً: إن حماد بن أبي سليمان مرجئي، فهل يعني هذا أنه يقول: إن الزاني والعفيف عند الله بمنزلة واحدة؟ أو أن الصادق والكذاب بمنزلة واحدة؟ أو أن المصلي وتارك الصلاة بمنزلة واحدة؟ حاشاه من ذلك.

إذاً: هذا النوع من الإرجاء بدعي، والمتصف به ضال ولا خلاف في ذلك، وهذه بدعة مكفرة، وقد قال بهذا القول اليونسية وهم من المرجئة الغلاة، وقال به العبيدية، كما ذكر ذلك الشهرستاني في كتابه الملل والنحل.

وهذه فرق ضالة وجدت في هذه الأمة، ويقولون: الإيمان إقرار واعتقاد، وأما العمل فوجوده وعدمه سواء، فمن نطق بكلمة التوحيد فالنار محرمة عليه، سواء فعل المأمورات أو لا، وسواء ارتكب المحظورات أو لا، فما دون الشرك مغفور له، فلا يدخل النار أحدٌ إلا من لم يوحد الله.

النوع الثاني للإرجاء البدعي والمرجئة المبتدعة الضالة: هم القائلون بأنه لا يدخل أحد من العصاة النار.

وهؤلاء يقولون: إن الله فرض علينا المأمورات، وأمرنا أن نترك المحظورات، لكنه لم يرد للعصاة أن يعملوا المأمورات فلا يضرهم تركها، ولا أن يتركوا المحظورات، فلا يضرهم فعلها، لكن الله أمرنا بأن نطيعه، ونهانا أن نعصيه، فالإيمان على قول الفرقة الأولى: إقرار واعتقاد فقط.

إذاً: فالله ما أراد للعاصي أن يطيع، ولا أراد له أن يترك المعصية، وعليه فإنه إذا لم يطع، ولم يترك المعصية فقد تحققت إرادة الله فيه، فلا يضره ترك الطاعة، ولا يضره فعل المعصية؛ لأنه مغفور له.

ولا نعلم أحداً من العصاة يعذب في النار، ببدعة كتلك، فأولئك اختصروا الطريق وهونوا الأمر، وأظهروا عن معتقدهم بلا لف أو دوران، وقالوا: إن الإيمان إقرار واعتقاد، وما عداه فليس منه، فعلته أو تركته لا يضرك.

وأما هؤلاء فزادوا في الكلام واللغط وقالوا: أمرت بفعل الطاعة ونهيت عن ترك المعصية، لكن الله ما أراد لك أن تطيع، وما أراد لك أن تترك المعصية، وعليه فإذا تركت المأمورات وارتكبت المحظورات فهذا لا يضرك، وهو مغفور لك، وفي النهاية فإن هذا القول كالقول الأول، وهذا -كما قلت- إرجاء بدعي.

قال ابن تيمية رحمة الله في مجموع الفتاوى في الجزء السابع، صفحة واحدة وثمانين ومائة، بعد أن حكى قولهم الذي ذكرته: هذا قول الغالية منهم -يعني: قول الغلاة من المرجئة- ويقوله من لا خلاق له.

قلت لكم: إن المتصف بذلك صاحب بدعة، وبدعته مكفرة كبدعة القدرية الغلاة الذين نفوا علم الله الأزلي للأشياء كما تقدم معنا عند دراسة تلك الفرقة الردية.

إذاً: فهو إرجاء بدعي المتصف به ضال، وهذا قول لم يقل به أحد من أئمتنا الأبرار فكونوا على علم بذلك، ولم يرو عن أحد من أهل السنة، في كتب السنة أنه يقول بأحد هذين القولين، فهو قول باطل بلا شك، وقد تواترت الأحاديث عن نبينا عليه الصلاة والسلام بدخول العصاة نار جهنم، وخروجهم منها بعد ذلك بشفاعة الشافعين، ورحمة أرحم الراحمين، فالقائل: بأنه لا يعذب أحد من العصاة يرد على نبينا عليه الصلاة والسلام، وهذه الأحاديث المتواترة ترد على المرجئة.

لقد قابل قول المرجئة قول الخوارج والمعتزلة، وهذه الأحاديث أيضاً تبطل قولهم؛ فالخوارج عندهم صاحب الكبيرة كافر ويخلد في النار، والمعتزلة والإباضية وافقوهم على هذا القول الضال المبتدع: بأنه مخلد؛ لأنه ليس بمؤمن، لكنهم خالفوا الخوارج في الدنيا فقالوا: فاعل الكبيرة ليس بكافر وليس بمؤمن، ولكنه في منزلة بين المنزلتين، فاتفق الخوارج والمعتزلة والإباضية على تخليد فاعل الكبيرة في نار جهنم، سواء ترك مأموراً أو ارتكب محظوراً.

إذاً: هم على طرفين اثنين: أولئك يقولون: يدخل النار ولا يخرج منها، والمرجئة يقولون: لا يدخلها أبداً، وهؤلاء وأولئك على ضلال، وهم من أتباع الشيطان.

ثبت في المسند، والصحيحين، وفي سنن الترمذي ، والنسائي ، وابن ماجه ، من رواية أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وفي قلبه وزن ذرة من خير)، وهي حبة القمح، أو حبة الحنطة وهي: البر، ( ويخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه وزن شعيرة من خير، ويخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وفي قلبه وزن ذرة -بضم الذال- من خير).

إذاً: هذه ثلاثة أوزان: وزن برة، وزن شعيرة، وزن ذرة -بضم الذال-، واللفظة الثالثة صحفها أبو بسطام وهو: شعبة بن الحجاج تقدم معنا، صحفها إلى ذرة؛ فلعله لما ذكرت قبلها حبة القمح، وحبة الشعير قال: ويخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه وزن ذرة بضم الذال من خير، وتصحيفه ثابت في صحيح مسلم ، وقال الإمام مسلم : صحف أبو بسطام ذَرة -بفتح الذال- إلى ذُرَة -بضم الذال- والصواب أنها وزن ذرة -بفتح الذال- من خير، والذرة -بفتح الذال- ذكرت فيها أقوال ومنها: ما قاله أئمتنا: هي أقل شيء، وقيل: هي الهباء الذي يرى في شعاع الشمس عندما تسطع أشعة الشمس في الحجرة، فأنت ترى هذا الهباء يتطاير، فهذا يقال له: ذره، وهذا هو أحد الأقوال في معنى قوله: ذرة -بفتح الذال- ويكون المعنى: إذا كان في قلبك وزن ذرة من هذا الذر الذي يتطاير عند شعاع الشمس تخرج من النار بعدما يشاء العزيز القهار سبحانه وتعالى.

وقيل: الذرة هي النملة الصغيرة، وقيل: الذرة -كما نقل عن ابن عباس -، وهذه الأقوال الأربعة ذكرها الحافظ ابن حجر في الفتح.

قال: الذرة أن تضع يدك على التراب ثم تنفخها فما تطاير هو الذر.

إذاً: فخلاصة الكلام في الإرجاء هنا أنه إرجاء بدعي، والقائل به ضال، وبدعته مكفرة، ولم يقل بهذا الإرجاء أحد من أئمتنا البررة، سواء بالإرجاء الأول وهو: أنه لا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة.

قال بعضهم:

مت مسلماً ومن الذنوب فلا تخف حاشا المهيمن أن يري توكيدا

لو رام أن يصليك نار جهنم ما كان ألهم قلبك التوحيدا

وهذا كلام في الحقيقة كما يقال: حق يراد به باطل؛ لأن من علامة توحيد الله أن تطيع الله عز وجل، والله لا يسوي بين من وحده وبين من جحده، كما لا يسوي بين من أطاعه وبين من عصاه، فلا يمكن أن يجعل الصادق كالكذاب، أو أن يجعل التقي كالسقيم، فأنت إذا لقيت الله بكلمة التوحيد فلا تخلد، وبالمقابل لن تكون أيضاً مع النبيين والصديقين، فلا بد من وضع الأمر في موضعه في الشرع.

والإرجاء الثاني قلنا: بأنه قريب منه لكنهم قالوا: إن الله أمر الناس بالطاعة ونهاهم عن المعصية، لكن الله لم يُرد للعصاة أن يقلعوا أو أن يتركوا المعصية، فإذا وقعوا في ترك المأمور، أو في فعل المحظور فسيغفر الله سبحانه لهم؛ لأن الله أراد منهم ذلك، ولا نعلم أحداً يعذب في نار جهنم.

قلت: ومآل القولين إلى شيء واحد، والذي يقول بهذا لا خلاق له، ولقد قال بهذا غلاة المرجئة: كاليونسية والعبيدية وغيرهما من الفرق الضالة، ولا نعلم أحداً من أئمتنا قال بهذا الإرجاء.

الإرجاء الثاني: تارةً يطلق على ما يعدل الهدى، ولا خير فينا إذا لم نكن مرجئة بهذا المعنى، وتارةً يطلق على ما يعدل الورع، وتارةً يطلق على من هو على خطأ، فلا بد من تحقيق الأمر.

الإرجاء بمعنى الهدى

النوع الأول: الإرجاء الذي هو هدى هو ما يطلقه المعتزلة السفهاء على أهل السنة الأتقياء، من معشر أهل السنة مرجئة بهذا الاعتبار لماذا؟ قال العلماء: لأننا نفوض الحكم في صاحب الكبيرة إلى رب الأرض والسماء، والله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، ففاعل الكبيرة مستحق للنار، لكن هل يكفر؟ نحن نقول: أمره إلى ربه، إن شاء عذبه عدلاً منه، وإن شاء غفر له فضلاً منه، وإن عذب لم يخلد؛ لأنه لا يمكن أن يسوى بين من وحد الله تعالى وبين من جحده.

لذلك فإن المعتزلة يقولون: أنتم ترجئون الحكم في صاحب الكبيرة، أي: تؤخرونه عن النار، فلو قيل مثلاً: إن فلاناً يشرب الخمر، ومات وهو يشرب الخمر، فنحن المعتزلة نقول: هو في النار، وأنتم تقولون: لا، نحن نخشى عليه من النار، كما نرجو للمحسن الجنة، فلا نجزم للمحسن بالجنة، ولا نجزم للمسيء بالنار؛ لأن الله يقول: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]، فإن عذب الله العاصي فهذا عدل، وإن غفر له فهذا فضل، ومن الذي يمنعه وهو أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين! فكل من جاء بالتوحيد وعصى فدخل النار يعذب ولكنه لا يخلد فيها، فالمعتزلة السفهاء يطلقون على أهل السنة الأتقياء لفظة الإرجاء؛ لأنهم كما قلت: يؤخرون الحكم في صاحب الكبيرة إلى رب الأرض والسماء، ويقولون: لا هو في النار ولا في الجنة، بل أمره موكول إلى الله.

قال الناظم:

ومن يمت ولم يتب من ضله فأمره مفوض لربه

وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه في حديث مبايعة الصحابة لنبينا عليه الصلاة والسلام، وأول الحديث: (بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوا في معروف، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئاً ثم ستره الله -أي مات على حاله- فهو إلى الله، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه، ثم ستره الله) وهذا فيما إذا كان بدون توبة منه؛ لأنه لو تاب من هذا فبالإجماع ذنبه مغفور، فالمعنى: ستره الله ولم يقع منه توبة، فهذا أمره إلى الله إن شاء عفا عنه، وإن شاء عذبه، وكما قلت: النصوص في ذلك قطعية من كلام الله وأحاديث نبينا رسول الله عليه الصلاة والسلام، وتقدم معنا قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]، وقلت: إن هذا يبطل قول الخوارج والمعتزلة والإباضية ومن يقابلهم وهم المرجئة، ودائماً الحق بين طرفين متقابلين متناقضين، فأهل الإرجاء قالوا: لا يدخل أحد من العصاة نار جهنم، والخوارج والمعتزلة والإباضية قالوا: العاصي سيدخلها ولا يخرج منها، فهو وأبو جهل سواء، والصواب وسط بلا إفراط ولا تفريط، ولا تهوين ولا تهويل؛ لأن دين الله وسط بين الغالي والجافي، فلا نقول للعاصي: إنك تقي، ولا نقول له: إنك مخلد في النار كالكافر الشقي، بل نقول: إنك مؤمن بإيمانك، فاسق بعصيانك، وأمرك إلى ربك، إن غفر لك فذلك فضل منه، وإن عذبك فذلك عدل منه، ولن تخلد في نار جهنم؛ لأنه لا يخلد فيها إلا المشركون الكافرون.

إذاً: الإرجاء الأول: إرجاء هدى، ويطلق على أهل السنة، أطلقه عليهم المبتدعة ونبزوهم به، ونحن نفتخر به، ورحمة الله على الإمام الشافعي عندما يقول:

إن كان نصباً حب أصحاب النبي فليشهد الثقلان أني ناصبي

وإن كان رفضاً حب آل محمد فليشهد الثقلان أني رافضي

يقول: إذا كان حب آل النبي عليه الصلاة والسلام يعتبر رفضاً عندكم فأنا أول الرافضة، وإذا كان حب الصحابة عندكم يعتبر نصباً فأنا أول الناصبة، ولكن الأمر ليس كذلك، الناصبة هم من يناصبونا آل البيت العداء، فيدعون أنهم يحبون الصحابة ويعادون آل البيت، والرافضة على العكس يدعون محبة آل البيت ويبغضون الصحابة.

ونحن نقول نحن أولى بحب آل البيت من الرافضة، ومع هذا نحن لا نبرئ من الصحابة بل نحبهم، ونحن أولى بحب الصحابة من النواصب، ومع هذا نحب الصحابة بلا بغض لآل البيت، ونحب لآل البيت دون بغض للصحابة، وإطلاق المعتزلة والخوارج والإباضية علينا لفظ الإرجاء، ونقول لهم: هذا لا يضرنا؛ لأن هذا إرجاء هدى، فنحن فوضنا الحكم في فاعل الكبيرة إلى الله؛ لأن الله أمرنا بذلك، فقال: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]، ومن الذي أعلمكم أن هذا العاصي سيعذب؟ حتى تألهتم على الله وقلتم: إن هذا العاصي في نار جهنم ولا يخرج منها، فهل أطلعكم على غيبه؟ وهل وقفتم عند آيات الله عندما أوقفكم الله كما في الآية السابقة؟

ولذلك نقول: إن المشرك هو الذي لا يخرج من النار، وهذا قول الله وليس بقولنا، أما العاصي فنقول له: أمرك إلى الله: إن غفر لك فهذا كرم منه، وإن عذبك فهذا عدل منه، ومآله إلى الجنة، ولا يسوي الله بين المؤمنين وبين الكافرين سبحانه وتعالى، فهو أحكم الحاكمين، وهو العليم الحكيم.

الإرجاء المقابل للورع والزهد وكيفية التعامل معه

الإرجاء الثاني: يطلق لفظ الإرجاء على ما يقابل الورع والزهد، وهذا لا حرج في إطلاقه على من يطلق عليه، ولا يعتبر هذا من ألفاظ البدعة، ويطلق هذا النوع من الإرجاء على تأخير الحكم، أو تأخير القول بالحكم في تفويض إحدى الطائفتين المتقاتلين بعد عثمان رضي الله عنه، ومنه: الخلاف الذي جرى بين الصحابة الكرام، كالذي جرى بين علي ومن خالفه من الصحابة الكرام في موقعة الجمل مع طلحة والزبير ، وفي موقعة صفين مع معاوية وعمرو بن العاص رضوان الله عليهم أجمعين، هذا الخلاف الذي وقع بينهم، وجعل أهل السنة الكرام في هذا على أقسام:

الأول: من قالوا: لا نتكلم فيما وقع بين الصحابة ونمسك عنه، فلا نقول: فلان مصيب، أو فلان مخطئ، إنما نفوض أمرهم إلى الله جل وعلا، فهو أعلم بمن كان على صواب منهم، وبمن كان على خطأ.

والثاني: وهو قول لأهل السنة: أن نبحث في هذه القضية بإنصاف وقد قالوا عندما بحثوا: الحق كان مع علي ومن قاتله كان مخطئاً لكنه معذور وهو مأجور؛ لأنه كان متأولاً في خطئه ورحمة الله واسعة، وعلى الحالتين يجب علينا أن نصون ألسنتنا عن الوقوع في صحابة نبينا عليه الصلاة والسلام.

والإمساك منهم على قسمين: الأول: إمساك بلا بحث، فلا نقول: هذا مصيب وهذا مخطئ، فالله هو الذي يحكم بينهم وهو أعلم بحكمهم.

والثاني: إمساك من بحث من أهل السنة وقال الصواب: كان مع علي ، ومن عاداه أو خالفه كان مخطئاً متؤولاً وهو معذور ومأجور، ولا نخرج عن حب واحترام الصحابة، وعن سلامة الألسن نحوهم، ومن أخطأ منهم نلتمس له عذراً، ونرجو له المغفرة والرحمة ونمسك.

فمن سكت منهم أخذ بالورع والاحتياط، فلا يقولون: أخطأت، ولا أصبت، والأمر إلى الله جل وعلا، وتلك الأمور صان الله عنها أيدينا فلنصن ألسنتنا عنها ، ونفوض أمرهم إلى ربنا جل وعلا، فقالوا: ومن أخر الحكم فيهم ولم يبحث ولم يخض فيه، نطلق عليه بأنه مرجئ؛ لأنه أخر الحكم فيهم إلى الرحمن، وإطلاقهم على تأخيره إرجاء لا يضره ذلك الإطلاق، ولا يعني أنه صاحب بدعة، إنما هذا إرجاء ورع واحتياط، وهذان لا حرج فيهما على الإطلاق.

النوع الأول: الإرجاء الذي هو هدى هو ما يطلقه المعتزلة السفهاء على أهل السنة الأتقياء، من معشر أهل السنة مرجئة بهذا الاعتبار لماذا؟ قال العلماء: لأننا نفوض الحكم في صاحب الكبيرة إلى رب الأرض والسماء، والله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، ففاعل الكبيرة مستحق للنار، لكن هل يكفر؟ نحن نقول: أمره إلى ربه، إن شاء عذبه عدلاً منه، وإن شاء غفر له فضلاً منه، وإن عذب لم يخلد؛ لأنه لا يمكن أن يسوى بين من وحد الله تعالى وبين من جحده.

لذلك فإن المعتزلة يقولون: أنتم ترجئون الحكم في صاحب الكبيرة، أي: تؤخرونه عن النار، فلو قيل مثلاً: إن فلاناً يشرب الخمر، ومات وهو يشرب الخمر، فنحن المعتزلة نقول: هو في النار، وأنتم تقولون: لا، نحن نخشى عليه من النار، كما نرجو للمحسن الجنة، فلا نجزم للمحسن بالجنة، ولا نجزم للمسيء بالنار؛ لأن الله يقول: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]، فإن عذب الله العاصي فهذا عدل، وإن غفر له فهذا فضل، ومن الذي يمنعه وهو أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين! فكل من جاء بالتوحيد وعصى فدخل النار يعذب ولكنه لا يخلد فيها، فالمعتزلة السفهاء يطلقون على أهل السنة الأتقياء لفظة الإرجاء؛ لأنهم كما قلت: يؤخرون الحكم في صاحب الكبيرة إلى رب الأرض والسماء، ويقولون: لا هو في النار ولا في الجنة، بل أمره موكول إلى الله.

قال الناظم:

ومن يمت ولم يتب من ضله فأمره مفوض لربه

وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه في حديث مبايعة الصحابة لنبينا عليه الصلاة والسلام، وأول الحديث: (بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوا في معروف، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئاً ثم ستره الله -أي مات على حاله- فهو إلى الله، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه، ثم ستره الله) وهذا فيما إذا كان بدون توبة منه؛ لأنه لو تاب من هذا فبالإجماع ذنبه مغفور، فالمعنى: ستره الله ولم يقع منه توبة، فهذا أمره إلى الله إن شاء عفا عنه، وإن شاء عذبه، وكما قلت: النصوص في ذلك قطعية من كلام الله وأحاديث نبينا رسول الله عليه الصلاة والسلام، وتقدم معنا قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]، وقلت: إن هذا يبطل قول الخوارج والمعتزلة والإباضية ومن يقابلهم وهم المرجئة، ودائماً الحق بين طرفين متقابلين متناقضين، فأهل الإرجاء قالوا: لا يدخل أحد من العصاة نار جهنم، والخوارج والمعتزلة والإباضية قالوا: العاصي سيدخلها ولا يخرج منها، فهو وأبو جهل سواء، والصواب وسط بلا إفراط ولا تفريط، ولا تهوين ولا تهويل؛ لأن دين الله وسط بين الغالي والجافي، فلا نقول للعاصي: إنك تقي، ولا نقول له: إنك مخلد في النار كالكافر الشقي، بل نقول: إنك مؤمن بإيمانك، فاسق بعصيانك، وأمرك إلى ربك، إن غفر لك فذلك فضل منه، وإن عذبك فذلك عدل منه، ولن تخلد في نار جهنم؛ لأنه لا يخلد فيها إلا المشركون الكافرون.

إذاً: الإرجاء الأول: إرجاء هدى، ويطلق على أهل السنة، أطلقه عليهم المبتدعة ونبزوهم به، ونحن نفتخر به، ورحمة الله على الإمام الشافعي عندما يقول:

إن كان نصباً حب أصحاب النبي فليشهد الثقلان أني ناصبي

وإن كان رفضاً حب آل محمد فليشهد الثقلان أني رافضي

يقول: إذا كان حب آل النبي عليه الصلاة والسلام يعتبر رفضاً عندكم فأنا أول الرافضة، وإذا كان حب الصحابة عندكم يعتبر نصباً فأنا أول الناصبة، ولكن الأمر ليس كذلك، الناصبة هم من يناصبونا آل البيت العداء، فيدعون أنهم يحبون الصحابة ويعادون آل البيت، والرافضة على العكس يدعون محبة آل البيت ويبغضون الصحابة.

ونحن نقول نحن أولى بحب آل البيت من الرافضة، ومع هذا نحن لا نبرئ من الصحابة بل نحبهم، ونحن أولى بحب الصحابة من النواصب، ومع هذا نحب الصحابة بلا بغض لآل البيت، ونحب لآل البيت دون بغض للصحابة، وإطلاق المعتزلة والخوارج والإباضية علينا لفظ الإرجاء، ونقول لهم: هذا لا يضرنا؛ لأن هذا إرجاء هدى، فنحن فوضنا الحكم في فاعل الكبيرة إلى الله؛ لأن الله أمرنا بذلك، فقال: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]، ومن الذي أعلمكم أن هذا العاصي سيعذب؟ حتى تألهتم على الله وقلتم: إن هذا العاصي في نار جهنم ولا يخرج منها، فهل أطلعكم على غيبه؟ وهل وقفتم عند آيات الله عندما أوقفكم الله كما في الآية السابقة؟

ولذلك نقول: إن المشرك هو الذي لا يخرج من النار، وهذا قول الله وليس بقولنا، أما العاصي فنقول له: أمرك إلى الله: إن غفر لك فهذا كرم منه، وإن عذبك فهذا عدل منه، ومآله إلى الجنة، ولا يسوي الله بين المؤمنين وبين الكافرين سبحانه وتعالى، فهو أحكم الحاكمين، وهو العليم الحكيم.