شرح الترمذي - باب النهي عن استقبال القبلة بغائط أو بول وباب الرخصة في ذلك [1]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً، بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

فقد انتهينا من مدارسة الباب الخامس من أبواب الطهارة من جامع الإمام أبي عيسى الترمذي عليه رحمة رب العالمين، وسنتدارس إن شاء الله الباب السادس والسابع، فأحاديث هذين البابين مرتبطة ببعضها.

الباب السادس: قال أبو عيسى الترمذي : باب في النهي عن استقبال القبلة بغائط أو بول.

قال أبو عيسى رحمه الله: حدثنا سعيد بن عبد الرحمن المخزومي ، قال: حدثنا سفيان بن عيينة ، عن الزهري ، عن عطاء بن يزيد الليثي ، عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول، ولا تستدبروها، ولكن شرقوا أو غربوا)، فقال أبو أيوب : فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض قد بنيت مستقبل القبلة، فننحرف عنها ونستغفر الله.

قال أبو عيسى : وفي الباب عن عبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي ، ومعقل بن أبي الهيثم ، ويقال: معقل ابن أبي معقل ، وأبي أمامة وأبي هريرة وسهل بن حنيف رضي الله عنهم أجمعين.

قال أبو عيسى : حديث أبي أيوب أحسن شيء في هذا الباب وأصح.

وأبو أيوب اسمه خالد بن زيد ، والزهري اسمه محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري ، وكنيته: أبو بكر .

قال أبو الوليد المكي : قال أبو عبد الله -يعني محمد بن إدريس الشافعي رحمهم الله جميعاً-: إنما معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول ولا تستدبروها)، إنما هذا في الفيافي، وأما في الكنف المبنية له رخصة في أن يستقبلها، وهكذا قال إسحاق بن إبراهيم .

وقال أحمد بن حنبل -رحمه الله-: إنما الرخصة من النبي صلى الله عليه وسلم في استدبار القبلة بغائط أو بول، وأما استقبال القبلة فلا يستقبلها، فإنه لم ير في الصحراء ولا في الكنف أن يستقبل القبلة.

الباب السابع: باب ما جاء من الرخصة في ذلك.

قال أبو عيسى الترمذي رحمه الله: حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى ، قالا : حدثنا وهب بن جرير ، قال: حدثنا أبي عن محمد بن إسحاق ، عن أبان بن صالح ، عن مجاهد ، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن نستقبل القبلة ببول، فرأيته قبل أن يقبض بعام يستقبلها).

وفي الباب عن أبي قتادة وعائشة وعمار بن ياسر رضي الله عنهم أجمعين، قال أبو عيسى : حديث جابر في هذا الباب حديث حسن غريب، وقد روى هذا الحديث ابن لهيعة عن أبي الزبير ، عن جابر ، عن أبي قتادة : (أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يبول مستقبل القبلة).

قال الإمام أبو عيسى : حدثنا بذلك قتيبة قال: حدثنا ابن لهيعة ، وحديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أصح من حديث ابن لهيعة ، وابن لهيعة ضعيف عند أهل الحديث، ضعفه يحيى بن سعيد القطان وغيره من قبل حفظه.

قال أبو عيسى عليه رحمة الله: حدثنا هناد ، قال: حدثنا عبدة بن سليمان ، عن عبيد الله بن عمر ، عن محمد بن يحيى بن حبان ، عن عمه واسع بن حبان ، عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: (رقيت يوماً على بيت حفصة ، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم على حاجته مستقبل الشام مستدبر الكعبة)، الشام -كما يأتينا- ضبطها الشام والشأم. قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح.

هذان بابان فيهما أربعة أحاديث كما ترون، الباب السادس فيه حديث، والباب السابع فيه ثلاثة أحاديث، كلها مرتبطة ببعضها، نتدارسها بعون الله جل وعلا ضمن المباحث التي نتدارس بها أحاديث الإمام أبي عيسى الترمذي .

المبحث الأول كما هي عادتنا حول رجال أسانيد هذه الروايات المروية عن خير البريات عليه صلوات الله وسلامه.‏

علاقة تعظيم القبلة بعدم الاستقبال والاستدبار عند قضاء الحاجة

وقبل أن نبدأ في دراسة أسانيد هذه الروايات المباركة أحب أن أقدم بين يدي الموضوع مقدمةً تنفعنا في بحثنا، وهي ضرورية لموضوعنا، مقدمة فيما يتعلق بالأذكار التي نقولها عند دخول الخلاء والخروج منه، وتلك الأذكار نغير بها العادات إلى عبادات، ولا يوجد أذكار في هذين البابين نقولها عندما نكون في الخلاء، وإنما يوجد أدب رفيع ينبغي أن يحرص عليه المسلم عندما يقضي حاجته، كما أنه يذكر الله عند دخوله الخلاء، وعند خروجه منه بأذكار مبينة عن نبينا عليه الصلاة والسلام.

أيضاً هناك أدب عندما يريد أن يجلس لقضاء حاجة البول والغائط، فسيأتينا هذا الأدب أنه لا ينبغي أن يستقبل الجهة المكرمة، جهة القبلة، جهة الكعبة المشرفة، فلا ينبغي أن نستقبلها ولا أن نستدبرها بغائطنا ولا ببولنا؛ لأننا نتجه إليها في صلاتنا، وهي جهة مباركة، فكيف نتوجه إليها عند قضاء الحاجة.

سبحان ربي العظيم! الذي أدبنا وأحسن تأديبنا، فشرع لنا أذكاراً نقولها عند قضاء الحاجة؛ ليكون أجر قضاء الحاجة كأجر العبادة، ثم بعد ذلك شرع لنا كيفيةً عند قضاء الحاجة كأننا نريد أن نصلي، يعني: كما أنه يوجد كيفية للصلاة، فلا يجوز أن تصلي على حسب رأيك، فكذلك هناك كيفية لقضاء الحاجة، لا ينبغي أن تقضي الحاجة على حسب رأيك.

إن من مميزات هذا التشريع الذي شرعه الله جل وعلا كتاب الطهارة، وأما هذه التشريعات والقوانين والأنظمة العفنة، فليس فيها في الأصل كتاب اسمه كتاب الطهارة، ولا يغسل وجهه بماء أو يتطهر من بول، ليس للأنظمة علاقة بهذا، ولا يوجد فيها كيف يقضي حاجته وإلى أي جهة من الجهات يتوجه، أو كيف يستنجي، وبيمينه أو شماله، أو لا يستنجي أصلاً، كل هذا ليس لهم علاقة به على الإطلاق، فسبحان من أكرمنا بنبينا عليه الصلاة والسلام، وشرع لنا ما نحتاجه لجميع حياتنا، بل لمماتنا الذي يتحقق به قول الله جل وعلا: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162-163].

كنت ذكرت في المباحث المتقدمة أن دين الله يقوم على خمسة أشياء: عقائد، وعبادات، ومعاملات، وأخلاق وآداب، وحدود وعقوبات، فنحن الآن في القسم الرابع من هذه الأقسام في قسم الأخلاق والآداب، فالأدب خير من الذهب، كما كان أئمتنا الكرام يقولون: الذي يميز المؤمن عن غيره في هذه الحياة أدبه، وليس أدبه مع الناس فقط، بل أدبه مع نفسه، وأدبه مع الحيوانات، وأدبه مع سائر المخلوقات، عندما يلتزم هدي رب الأرض والسموات، فهذا الأدب وهذا الخلق هو الذي ينبغي أن يتصف به المسلم في هذه الحياة.

والأدب كما عرفه أئمتنا باختصار كما في فتح الباري لـابن حجر ، الجزء العاشر صفحة أربعمائة، وعمدة القاري للعيني الجزء الثاني والعشرين صفحة ثمانين، الأدب: هو استعمال ما يحمد قولاً وفعلاً، فالأشياء المحمودة الحسنة التي تفعلها وتقولها وتتخلق بها هي الأدب، وقيل أيضاً في ضبط الأدب وحده وتعريفه: هو الأخذ بمكارم الأخلاق، والوقوف مع المستحسنات بحيث تعظم من فوقك، وترفق بمن دونك، فهذا كله خلق وأدب، ينبغي أن تقوم به، وأن تتصف به في هذه الحياة.

والإنسان عندما يريد قضاء الحاجة لا يستعمل اليد اليمنى لإماطة الأذى الذي يخرج منه، فإذا كانت اليد اليمنى مكرمة فالقبلة مكرمة من باب أولى، فلا يجوز أن تستقبلها، ولا أن تستدبرها عند قضاء حاجتك تعظيماً لشعائر ربك، وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج:32] .

قال الإمام القرطبي في تفسيره عند تفسير هذه الآية في الجزء الثاني عشر صفحة ست وخمسين: الشعائر جمع شعيرة، وهي كل شيء لله فيه أمر أشعر به وأعلم، فكل شيء لله فيه أمر توجيه وإرشاد، أشعر به وأعلم فينبغي تعظيمه والأخذ به، وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج:32]، والمراد من الشعائر المذكورة في هذه الآية تسمين البدن التي ستنحر في منى تعظيماً لله جل وعلا عندما يقدم بها الحاج هدياً قرباناً وتعظيماً، فتعظيم البدن تسمينها، والمغالاة في ثمنها، هذا كله من شعائر الله، فلا يأخذ أدنى ما يجزئ، وإنما يأخذ أكمل ما يستطيع، وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج:32]، فهذه من شعائر الله، كما قال الله جل وعلا: وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [الحج:36].

إذاً: هذه من شعائر الله، والقبلة من شعائر الله فينبغي أن تعظم وأن تكرم، فلا يجوز أن نستقبلها ولا أن نستدبرها بغائط أو ببول.

تأدب عبد الله بن عمرو بن العاص مع البلد الحرام

إن بيت الله الكريم في البلد الأمين واجب تعظيمه حتماً على المسلمين، وقد ذكر أئمتنا كيف كان من قبلنا يعظمون بيت الله جل وعلا، عندما يقتربون منه يريدون زيارته، وشرع الله لنا تعظيمه في حال الاقتراب منه، وفي حال الابتعاد عنه، فصارت البلد الحرام لا تغيب عن الأذهان في يوم من الأيام، فكلما دخلت الخلاء تقول في نفسك: لا أستقبل القبلة ولا أستدبرها، وإن بعدت أجسامنا عن ذلك المكان نعيش معه على الدوام، فاستمع لما كان يفعله سلفنا، وما كان يجري أيضاً من الأمم قبلنا من التعظيم لبيت ربنا ولحرم الله جل وعلا.

روى الإمام الأزرقي في أخبار مكة، وهو من علماء القرن الثالث للهجرة، توفي بحدود عشرين ومائتين للهجرة أو قبل ذلك بيسير، أو بعد ذلك على خلاف يسير، في الجزء الثاني صفحة إحدى وثلاثين ومائة، قال: كان لـعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما فسطاطان -والفسطاط هو: الخيمة التي ينزل الإنسان فيها- فسطاط في الحل وفسطاط في الحرم، فكان إذا أراد أن يذكر الله وأن يتعبد يكون في الفسطاط الذي في الحرم، وإذا أراد أن يعاتب أهله في أمر من الأمور أخرجها من هذا المكان الذي في الحرم إلى الفسطاط الذي في الحل وعاتبها هناك، وتكلم معها، ولا يحصل معاتبة منه لزوجه ضمن حرم الله وحول بيته، كأنه يرى هذا فيه شيء من الامتهان لبلد الله الحرام؛ لأن الله قال فيه: وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا [آل عمران:97]، فكأنه يقول لزوجه: سلمت من العتاب ما دمت في الحرم، فهو مكان العبادة والذكر وتعظيم الله جل وعلا.

مكانة البلد الحرام عند الأمم السابقة

انتبه لهذا الشعور نحو البلد الحرام، وهكذا كان من قبلنا يعظمون ذلك المكان، وقد شرع لنا تعظيمه نحن هذه الأمة المباركة سواء كنا فيه أو بعيدين عنه.

روى الأزرقي في الموضع المشار إليه آنفاً عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه، قال: بلغني أن الأمة من بني إسرائيل إذا جاءت لزيارة بيت الله الجليل، لزيارة مكة وحرم الله، ووصلت إلى ذي طوى -الطاء مثلثة كما قال أئمتنا، وبعضهم رجح الضم، وبعضهم رجح الفتح، وهو موضع قريب من مكة، وقيل: إنه واد فيها يقال له الأبطح والعلم عند الله، إذا وصلت إلى ذلك المكان نزعت خفيها وحملته بيديها، ومشت حافيةً؛ تعظيماً لحرم الله جل وعلا، كأنها ترى دخول مكة بالنعال من عدم تعظيم حرم الله جل وعلا.

وثبت أيضاً في موطأ مالك في صفحة سبع وثلاثين ومائة عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، قال: (حج الحواريون -وهم أصحاب عيسى- مع نبي الله عيسى -على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه- فلما وصلوا الحرم خلعوا أحذيتهم، ومشوا حفاةً؛ تعظيماً لربهم جل وعلا)، هذا هو حال الأمم السابقة في تعظيم هذا البيت، وكذلك شرع لنا تعظيمه ولو كنا في أي مكان، ولو في الصين فما يجوز لك أن تستقبل القبلة ولا أن تستدبرها عندما تقضي الحاجة، وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج:32].

تعظيم القبلة والبلد الحرام.. بين زماننا وزمن السلف الصالح

كان سلفنا يتهيبون غاية التهيب من المقام والمكث في بلد الله الحرام، ويرون أن الاختلاف إليه والتردد إليه ما بين الحين والحين أسلم من البقاء فيه على الدوام، ذكر هذا الإمام المحب الطبري المتوفى سنة (694هـ) في كتابه القرى لقاصد أم القرى في صفحة واحدة وستين وستمائة، فنقل عن إبراهيم النخعي وهو من التابعين، وعزا الأثر إلى سنن سعيد بن منصور ، قال: كانوا يرون أن الاختلاف إلى مكة أحب إليهم من المجاورة فيها، وكان بعض الصحابة رضوان الله عليهم لا يرون أن يقيموا في مكة المكرمة لعظم حرمتها، وحقوقها التي لا يمكن لإنسان أن يأتي بها.

ثم روى أيضاً المحب الطبري أثراً عن السعدي وهو من أئمة التابعين، وعزاه إلى سنن سعيد بن منصور أيضاً، قال: لم يكن أحد من المهاجرين والأنصار يقيم بمكة، إنما يأتي من أجل النسك ثم بعد ذلك يرحل ولا يستقر، حتى رووا في ترجمة الخليفة الراشد الخامس عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأرضاه أنه عندما جاء إلى العمرة وكان أميراً وطلبوا منه أن يمكث في مكة من أجل أن يتداول أمور المسلمين وأحوالهم، وأن يرفعوا إليه في حاجاتهم، فقال: خارج الحرم، حتى ذهب إلى الطائف، ثم قال: من له حاجة فليأت هناك، أما هذا الحرم فينبغي أن يعامل معاملةً خاصة.

وإذا كان المسلم في أقصى الدنيا نهي عن أن يستقبل القبلة بغائط أو ببول، فنحن أولى ألا نجلس فيه لمنازعات وخصومات وعرض أحوال، ونظر في قضايا، فهذا لا يصلح، بل نخرج إلى الطائف، هذا الذي فعله هذا الخليفة الراشد رضوان الله عليه.

وحقيقةً يتعجب الإنسان غاية العجب من المنكرات التي تعج بها مكة في هذه الأيام، والله الذي لا إله إلا هو لأن يصاب الإنسان بالعمى أيسر عليه من أن يرى هذه التلفزيونات التي هي أعلام الشيطان في بلد الله الحرام، ثم عندما يتجول أحدنا في شوارعها التي ينبغي أن تكون ذكراً وتهليلاً وصلاةً على النبي عليه الصلاة والسلام، وكل شيء فيها خشوع وتذكير للرحمن، إذا به يفاجأ ويرى الغناء وقلة الحياء والمقاهي وغير ذلك، هذا في بلد الله الحرام، حقيقةً إن الأمر عجيب عجيب عجيب، ولذلك كان أئمتنا يرون أن البعد عن مكة أسلم حتى لا يقع الإنسان في هذا الدنس، فيا ويحه عند الله من دنس هذه البقعة المباركة الطيبة المطهرة، التي كان من قبلنا إذا وصلوا إلى ذي طوى نزعوا أحذيتهم؛ لئلا يدخلوا بها إلى هذا البيت بصورة ليس فيها تعظيم لشعائر رب العالمين.

وقد نقل ابن الصلاح في منسكه عن سيد المسلمين وإمامهم في زمنه سعيد بن المسيب : أن بعض الناس استشاره في الإقامة بمكة من أجل طلب العلم وتلقيه عن العلماء هناك، فقال له سعيد : كنا نسمع أن ساكن مكة لا يموت حتى يكون الحرم عنده بمنزلة الحل. وأنا حقيقةً أعجب لأئمتنا، فهل أطلعهم الله على غيبه، والله كأنهم ينظرون إلى أحوالنا عن طريق الغيب، وكأنهم ينظرون إلى الغيب من ستر رقيق، أعرف بعض المشايخ الذين يقال لهم مشايخ يدرسون في مكة في كليات شريعة قال: أنا أسرتي لا يمكن أن تصبر عن التلفاز وعن هذا البلاء، وهو خارج مكة في جدة، ويأتي للتدريس في مكة ولكن سكنه في جدة، وبعد فترة خف عليه الأمر، ونقل أسرته إلى مكة وبدلاً من التلفاز الواحد جعل في كل حجرة تلفازاً، فما أعلم سعيد بن المسيب وغيره من أئمتنا عندما يقولون هذا الكلام! فهل أطلعهم الله على أحوالنا عندما يقول: كنا نسمع أن ساكن مكة لا يموت حتى يكون الحرم عنده بمنزلة الحل؟

هذا بيت الله، هذا حرم الله، من أراده بسوء جعل الله كيده في نحره، وعذبه عذاباً أليماً في الدنيا والآخرة، ثم يأتي بعد ذلك بعض الناس يفسد فيه ويجلس على الغناء وقلة الحياء في حرم الله بجوار الكعبة المشرفة! ودخان يشرب في كل مكان، وبنوك ربوية وتسجيلات غنائية، نعوذ بالله من هذا البلاء.

مرة تكلمت على الغناء في بعض الأمكنة، فأرسلت سفيهة من السفيهات، وهي مدرسة في كلية التربية ورئيسة علم النقص الذي يقال له: علم النفس، تقول: أنت تقول: الغناء حرام، وأنا اشتريت أشرطة الغناء من أمام الحرم في مكة المكرمة، فلو كان حراماً لما بيع في مكة!

فقد وصل الأمر إلى أن بعض المهابيل أو بعض الشياطين يقولون للحجاج: نريد أن تحضروا لنا دخان سجائر من عند النبي عليه الصلاة والسلام، أو سجائر من بلد الله الحرام، من هذه البركة، ويا للعجب من هذا الانحطاط الذي أصيبت به الأمة الإسلامية في هذه الأيام، وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا [الأعراف:56]، يعني: من أراد أن يفسد فليخرج إلى بلاد أخرى تسع فساده، وليس الفساد بمرخص فيه في أي مكان، ولكن وجود الفساد في الحرمين الشريفين خزي يندى له جبين الإنسان، كيف أن الناس توسعوا في الغناء وفي قلة الحياء، وفي السجائر، وفي الربا، وفي.. إلخ؟! أما كفاكم أنكم ملأتم جدة وغيرها بهذه البلية، فهل لا بد من وجود هذه البلية في مكة، في بلد الله الحرام التي طهرها نبينا عليه الصلاة والسلام، وكذا المدينة المنورة، فهذا المكان المعصية فيه أشنع، فاتركوا هذا المكان؛ لكي يأتي إليه المسلمون فيجدوا لذة الطاعة، ويجدوا البركة في هذه البلاد المباركة، لا لتدنس من هذه القاذورات، وهذه الرديات.

إخوتي الكرام! إن مكة لها شأن عظيم، فإذا حرم علينا أن نستقبل القبلة عند قضاء الحاجة ولو كنا في الصين، فكيف لو كنا في مكة؟ كيف إذا سُمع الغناء، وفُعِل فعلُ الشياطين؟ نعوذ بالله من هذا الضلال المبين، وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج:32].

وقد كره فقيه الأمة، وكل من تفقه بعده فهم عيال عليه أبو حنيفة النعمان بن ثابت كره الإقامة في أحد الحرمين الشريفين: مكة أو المدينة، وسبب كراهته أنه لورعه رضي الله عنه يعلم ما يترتب على ذلك، فقال:

الأمر الأول: إن الذي يجلس هناك قد يصيبه ملل، ولا يبقى عنده النشاط والعمل الذي يكون عند الإنسان، فإذا اعتراه الملل في ذلك المكان فهذه منقصة ومرذلة في الإنسان ليس بعدها منقصة ولا مرذلة.

الأمر الثاني: قال: قد يؤدي به مكثه في هذين البلدين المباركين إلى قلة احترامهما، وهذه قاصمة الظهر، وقد أخبرني بعض الناس فقال: يا شيخ! تقام صلاة الجمعة في المسجدين الطاهرين المباركين، وبعض الناس يعكفون في بيوتهم على رؤية أفلام تبث من إسرائيل فيها نساء عراة كما ولدن، كل هذا بواسطة أَعلام الشيطان التي نصبت في هذه الأيام على بيوت المسلمين في بلد الله الحرام.

الأمر الثالث: يقول: يكره الإقامة خوف ارتكاب ذنب ووزر في ذلك المكان، وهذا قاصمة الظهر، إن البعيد عن الحرمين يحن ما بين الحين والحين؛ يريد أن يذهب إليهما للطاعات، ومن كان فيهما فإن شوقه يتناقص وقد ينعدم، وأنا أدركت بعض الشيوخ الكبار إذا أتى موسم الحج ولم يتيسر لهم أن يحجوا -يعلم الله أدركتهم- ومنهم والدي رحمة الله عليه، يجلس ليلة العيد يبكي حسرة على ما فاته من تعظيم لبيت الله، ولا يعرف النوم، ولا يرقأ له دمع، ثم بعد ذلك في يوم العيد لا يسلم على الناس إلا من باب الإقامة لتعظيم شعائر الله، وبعض من أقام بالحرم تراه لا يبالي يمرح ويلعب ويضحك ويفخر، ولو ابتعد عن حرم الله وتعلق قلبه به لكان خيراً له.

بلغ من احتراس بعض أئمتنا وهو الإمام أبو عمرو الزجاجي محمد بن إبراهيم بن يوسف ، توفي سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة للهجرة، وكان في بلد الله الحرام الطاهر مكة المكرمة، قال عنه أئمتنا: صار رئيسها والمنظور إليه فيها، أي: هو من العلماء العاملين، صار هو الرئيس في مكة والذي ينظر إليه، بلغ من احتراسه كما روى أبو نعيم في الحلية في الجزء العاشر صفحة ست وسبعين وثلاثمائة، والفاسي في العقد الثمين في أخبار البلد الأمين، في الجزء الأول صفحة أربعمائة وثمانين، عن هذا الإمام الصالح أنه أقام في مكة أربعين سنة ما بال فيها ولا تغوط، فإذا جاءته حاجة الإنسان يخرج إلى الحل، وقد يقول قائل: كيف؟ الجواب: أولاً حاله ليس كحالنا، فأحدنا لازم أن يأكل ثلاث وجبات، بخلافه هو يأكل قليلاً، ثم بعد ذلك عندما يريد أن يقضي الحاجة يكون في اليوم مرة أو في اليومين مرة فيذهب إلى الحل، إلى جمرة العقبة -مثلاً- أو إلى التنعيم.

ولا يقولن قائل: إن هذا تنطع وبدعة، فالذي يتهم هذا بذلك هو المتنطع والمبتدع، ولا نقول: إن من لم يفعل هذا فقد أساء، فقضاء الحاجة في ذلك المكان مرخص فيه، قد فعله نبينا عليه الصلاة والسلام والسلف الكرام، لكن لو قدر أن الإنسان أراد أن يأخذ بشيء من الاحتراز الزائد كما نقل عن عبد الله بن عمرو : أنه كان له فسطاطان، فسطاط في الحل وفسطاط في الحرم، وقال: أنا لا أمنع قضاء الحاجة في هذا المكان، ولكن يكفينا ما عندنا من ذنوب وعيوب، فلا أريد أن أترخص في هذا الأمر بل أخرج إلى الحل فأقضي حاجتي هناك وأعود، أما هذا المكان المبارك فإني أنزهه عن خروج فضلات ونجاسات مني تقع على أرضه الطيبة، وهذا -كما قلت- زيادة أدب منه واحتراس من أجل أن يخفف ما عنده من تقصير، وعدم إجلال على وجه التمام لهذا المكان المبارك العظيم.

هذا هو حال سلفنا إخوتي الكرام نحو بلد الله الحرام، وكان هذا العبد الصالح أبو عمرو الزجاجي يقول كما في القرى لقاصد أم القرى: من جاور مكة وقلبه متعلق بغير الله فقد ظهر خسرانه، أفي هذا المكان الذي هو أشرف البقاع على الإطلاق لا زال قلبك يلتفت إلى مكان آخر وإلى بلاد أخرى، فقد ظهر خسرانك.

ينبغي أن نعي الأدب، والأدب خير من الذهب، ومن لم يجالس ملوك الأدب أسرع عليه العطب، فكيف بملك الملوك ورب العالمين سبحانه وتعالى؟! ولذلك بلد الله الحرام والكعبة المشرفة بيت الله العتيق لها مكانة عظيمة وقداسة سليمة، تحرم علينا أن نتوجه إلى ذلك المكان بفضلاتنا، سواء استقبالاً أو استدباراً تعظيماً لشعائر الله، وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج:32].

وقد ورد كما تقدم معنا الأحاديث في النهي عن ذلك، ولو لم يرد لكان الأدب يحتم علينا ألا نستقبل القبلة وألا نستدبرها ببول أو بغائط؛ إجلالاً لذلك المكان؛ لأن عندنا أدلة كثيرة في تعظيم شعائر الله، ولذلك ينبغي أن نراعي الأدب في جميع أحوالنا، ونحن في زمن ضيعنا فيه العلم النافع بعد أن ضيعنا الأدب، فقد فقد مع سلفنا.

اتصل بي مرةً بعض الإخوة من قريب بعد موعظة لعله كان فيها حاضراً، وأنظر إلى وجهه كوجه الذي سأل في بلاد الشام قال: زوجتي تقول: الله فوقها، والذي فوقها ما فعلت كذا، هل هذا صحيح أو لا؟ وهذا الأخ اتصل في الساعة الحادية عشر والنصف وخمس دقائق من الليل، وأخذ في عرض ما عنده قرابة ربع ساعة إلى الثانية عشرة، وخلاصة أسئلته: أنت تقول: ينبغي أن نتقيد بالمذاهب الأربعة، فما الدليل على هذا؟ والحنفية عندهم تخليط وتفريق وأقوال لا دليل عليها منها وضوء النبيذ، والرجل يهمس بما لا يعرف.

قلت له: يا أخي الكريم! أنا أريد أن أقول لك باختصار: إذا ضيعنا العلم فلنحافظ على الأدب على الأقل، لكن لا علم ولا أدب.

قال: ماذا تقصد؟

قلت: ليس الآن وقت مناظرات ومهاترات، بقي ثلاث ساعات لأذان الفجر.

قال: لا أعلم أنك كنت نائماً، قلت له: هل من اللازم أن تعلم أي كلام بيني وبين زوجتي حتى تنظر هل أنا نائم أو لا؟ فإذا رأيتني صاحياً تتصل، وإذا رأيتني نائماً لا تتصل، إذا لم يكن عندك علم فليس عندك أدب، وأنت لك شأن ولك هذا المكان، ومع ذلك ليس عندك أدب، فقال لي بعض الأهل: أنت تقسو عليه في الكلام؛ لأنه شيخ فقلت: أريد أن أعلم هل هذه الأمة التي شوشت على الناس عقولها ودينها إذا ضيعوا علمهم أما عندهم أدب مع الله ومع خلقه، تتصل لإنسان في الساعة الثانية عشرة ليلاً لمهاترات، هذه أحوال الأمة الإسلامية التي نعيش فيها.

وقبل أن نبدأ في دراسة أسانيد هذه الروايات المباركة أحب أن أقدم بين يدي الموضوع مقدمةً تنفعنا في بحثنا، وهي ضرورية لموضوعنا، مقدمة فيما يتعلق بالأذكار التي نقولها عند دخول الخلاء والخروج منه، وتلك الأذكار نغير بها العادات إلى عبادات، ولا يوجد أذكار في هذين البابين نقولها عندما نكون في الخلاء، وإنما يوجد أدب رفيع ينبغي أن يحرص عليه المسلم عندما يقضي حاجته، كما أنه يذكر الله عند دخوله الخلاء، وعند خروجه منه بأذكار مبينة عن نبينا عليه الصلاة والسلام.

أيضاً هناك أدب عندما يريد أن يجلس لقضاء حاجة البول والغائط، فسيأتينا هذا الأدب أنه لا ينبغي أن يستقبل الجهة المكرمة، جهة القبلة، جهة الكعبة المشرفة، فلا ينبغي أن نستقبلها ولا أن نستدبرها بغائطنا ولا ببولنا؛ لأننا نتجه إليها في صلاتنا، وهي جهة مباركة، فكيف نتوجه إليها عند قضاء الحاجة.

سبحان ربي العظيم! الذي أدبنا وأحسن تأديبنا، فشرع لنا أذكاراً نقولها عند قضاء الحاجة؛ ليكون أجر قضاء الحاجة كأجر العبادة، ثم بعد ذلك شرع لنا كيفيةً عند قضاء الحاجة كأننا نريد أن نصلي، يعني: كما أنه يوجد كيفية للصلاة، فلا يجوز أن تصلي على حسب رأيك، فكذلك هناك كيفية لقضاء الحاجة، لا ينبغي أن تقضي الحاجة على حسب رأيك.

إن من مميزات هذا التشريع الذي شرعه الله جل وعلا كتاب الطهارة، وأما هذه التشريعات والقوانين والأنظمة العفنة، فليس فيها في الأصل كتاب اسمه كتاب الطهارة، ولا يغسل وجهه بماء أو يتطهر من بول، ليس للأنظمة علاقة بهذا، ولا يوجد فيها كيف يقضي حاجته وإلى أي جهة من الجهات يتوجه، أو كيف يستنجي، وبيمينه أو شماله، أو لا يستنجي أصلاً، كل هذا ليس لهم علاقة به على الإطلاق، فسبحان من أكرمنا بنبينا عليه الصلاة والسلام، وشرع لنا ما نحتاجه لجميع حياتنا، بل لمماتنا الذي يتحقق به قول الله جل وعلا: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162-163].

كنت ذكرت في المباحث المتقدمة أن دين الله يقوم على خمسة أشياء: عقائد، وعبادات، ومعاملات، وأخلاق وآداب، وحدود وعقوبات، فنحن الآن في القسم الرابع من هذه الأقسام في قسم الأخلاق والآداب، فالأدب خير من الذهب، كما كان أئمتنا الكرام يقولون: الذي يميز المؤمن عن غيره في هذه الحياة أدبه، وليس أدبه مع الناس فقط، بل أدبه مع نفسه، وأدبه مع الحيوانات، وأدبه مع سائر المخلوقات، عندما يلتزم هدي رب الأرض والسموات، فهذا الأدب وهذا الخلق هو الذي ينبغي أن يتصف به المسلم في هذه الحياة.

والأدب كما عرفه أئمتنا باختصار كما في فتح الباري لـابن حجر ، الجزء العاشر صفحة أربعمائة، وعمدة القاري للعيني الجزء الثاني والعشرين صفحة ثمانين، الأدب: هو استعمال ما يحمد قولاً وفعلاً، فالأشياء المحمودة الحسنة التي تفعلها وتقولها وتتخلق بها هي الأدب، وقيل أيضاً في ضبط الأدب وحده وتعريفه: هو الأخذ بمكارم الأخلاق، والوقوف مع المستحسنات بحيث تعظم من فوقك، وترفق بمن دونك، فهذا كله خلق وأدب، ينبغي أن تقوم به، وأن تتصف به في هذه الحياة.

والإنسان عندما يريد قضاء الحاجة لا يستعمل اليد اليمنى لإماطة الأذى الذي يخرج منه، فإذا كانت اليد اليمنى مكرمة فالقبلة مكرمة من باب أولى، فلا يجوز أن تستقبلها، ولا أن تستدبرها عند قضاء حاجتك تعظيماً لشعائر ربك، وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج:32] .

قال الإمام القرطبي في تفسيره عند تفسير هذه الآية في الجزء الثاني عشر صفحة ست وخمسين: الشعائر جمع شعيرة، وهي كل شيء لله فيه أمر أشعر به وأعلم، فكل شيء لله فيه أمر توجيه وإرشاد، أشعر به وأعلم فينبغي تعظيمه والأخذ به، وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج:32]، والمراد من الشعائر المذكورة في هذه الآية تسمين البدن التي ستنحر في منى تعظيماً لله جل وعلا عندما يقدم بها الحاج هدياً قرباناً وتعظيماً، فتعظيم البدن تسمينها، والمغالاة في ثمنها، هذا كله من شعائر الله، فلا يأخذ أدنى ما يجزئ، وإنما يأخذ أكمل ما يستطيع، وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج:32]، فهذه من شعائر الله، كما قال الله جل وعلا: وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [الحج:36].

إذاً: هذه من شعائر الله، والقبلة من شعائر الله فينبغي أن تعظم وأن تكرم، فلا يجوز أن نستقبلها ولا أن نستدبرها بغائط أو ببول.

إن بيت الله الكريم في البلد الأمين واجب تعظيمه حتماً على المسلمين، وقد ذكر أئمتنا كيف كان من قبلنا يعظمون بيت الله جل وعلا، عندما يقتربون منه يريدون زيارته، وشرع الله لنا تعظيمه في حال الاقتراب منه، وفي حال الابتعاد عنه، فصارت البلد الحرام لا تغيب عن الأذهان في يوم من الأيام، فكلما دخلت الخلاء تقول في نفسك: لا أستقبل القبلة ولا أستدبرها، وإن بعدت أجسامنا عن ذلك المكان نعيش معه على الدوام، فاستمع لما كان يفعله سلفنا، وما كان يجري أيضاً من الأمم قبلنا من التعظيم لبيت ربنا ولحرم الله جل وعلا.

روى الإمام الأزرقي في أخبار مكة، وهو من علماء القرن الثالث للهجرة، توفي بحدود عشرين ومائتين للهجرة أو قبل ذلك بيسير، أو بعد ذلك على خلاف يسير، في الجزء الثاني صفحة إحدى وثلاثين ومائة، قال: كان لـعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما فسطاطان -والفسطاط هو: الخيمة التي ينزل الإنسان فيها- فسطاط في الحل وفسطاط في الحرم، فكان إذا أراد أن يذكر الله وأن يتعبد يكون في الفسطاط الذي في الحرم، وإذا أراد أن يعاتب أهله في أمر من الأمور أخرجها من هذا المكان الذي في الحرم إلى الفسطاط الذي في الحل وعاتبها هناك، وتكلم معها، ولا يحصل معاتبة منه لزوجه ضمن حرم الله وحول بيته، كأنه يرى هذا فيه شيء من الامتهان لبلد الله الحرام؛ لأن الله قال فيه: وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا [آل عمران:97]، فكأنه يقول لزوجه: سلمت من العتاب ما دمت في الحرم، فهو مكان العبادة والذكر وتعظيم الله جل وعلا.

انتبه لهذا الشعور نحو البلد الحرام، وهكذا كان من قبلنا يعظمون ذلك المكان، وقد شرع لنا تعظيمه نحن هذه الأمة المباركة سواء كنا فيه أو بعيدين عنه.

روى الأزرقي في الموضع المشار إليه آنفاً عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه، قال: بلغني أن الأمة من بني إسرائيل إذا جاءت لزيارة بيت الله الجليل، لزيارة مكة وحرم الله، ووصلت إلى ذي طوى -الطاء مثلثة كما قال أئمتنا، وبعضهم رجح الضم، وبعضهم رجح الفتح، وهو موضع قريب من مكة، وقيل: إنه واد فيها يقال له الأبطح والعلم عند الله، إذا وصلت إلى ذلك المكان نزعت خفيها وحملته بيديها، ومشت حافيةً؛ تعظيماً لحرم الله جل وعلا، كأنها ترى دخول مكة بالنعال من عدم تعظيم حرم الله جل وعلا.

وثبت أيضاً في موطأ مالك في صفحة سبع وثلاثين ومائة عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، قال: (حج الحواريون -وهم أصحاب عيسى- مع نبي الله عيسى -على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه- فلما وصلوا الحرم خلعوا أحذيتهم، ومشوا حفاةً؛ تعظيماً لربهم جل وعلا)، هذا هو حال الأمم السابقة في تعظيم هذا البيت، وكذلك شرع لنا تعظيمه ولو كنا في أي مكان، ولو في الصين فما يجوز لك أن تستقبل القبلة ولا أن تستدبرها عندما تقضي الحاجة، وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج:32].

كان سلفنا يتهيبون غاية التهيب من المقام والمكث في بلد الله الحرام، ويرون أن الاختلاف إليه والتردد إليه ما بين الحين والحين أسلم من البقاء فيه على الدوام، ذكر هذا الإمام المحب الطبري المتوفى سنة (694هـ) في كتابه القرى لقاصد أم القرى في صفحة واحدة وستين وستمائة، فنقل عن إبراهيم النخعي وهو من التابعين، وعزا الأثر إلى سنن سعيد بن منصور ، قال: كانوا يرون أن الاختلاف إلى مكة أحب إليهم من المجاورة فيها، وكان بعض الصحابة رضوان الله عليهم لا يرون أن يقيموا في مكة المكرمة لعظم حرمتها، وحقوقها التي لا يمكن لإنسان أن يأتي بها.

ثم روى أيضاً المحب الطبري أثراً عن السعدي وهو من أئمة التابعين، وعزاه إلى سنن سعيد بن منصور أيضاً، قال: لم يكن أحد من المهاجرين والأنصار يقيم بمكة، إنما يأتي من أجل النسك ثم بعد ذلك يرحل ولا يستقر، حتى رووا في ترجمة الخليفة الراشد الخامس عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأرضاه أنه عندما جاء إلى العمرة وكان أميراً وطلبوا منه أن يمكث في مكة من أجل أن يتداول أمور المسلمين وأحوالهم، وأن يرفعوا إليه في حاجاتهم، فقال: خارج الحرم، حتى ذهب إلى الطائف، ثم قال: من له حاجة فليأت هناك، أما هذا الحرم فينبغي أن يعامل معاملةً خاصة.

وإذا كان المسلم في أقصى الدنيا نهي عن أن يستقبل القبلة بغائط أو ببول، فنحن أولى ألا نجلس فيه لمنازعات وخصومات وعرض أحوال، ونظر في قضايا، فهذا لا يصلح، بل نخرج إلى الطائف، هذا الذي فعله هذا الخليفة الراشد رضوان الله عليه.

وحقيقةً يتعجب الإنسان غاية العجب من المنكرات التي تعج بها مكة في هذه الأيام، والله الذي لا إله إلا هو لأن يصاب الإنسان بالعمى أيسر عليه من أن يرى هذه التلفزيونات التي هي أعلام الشيطان في بلد الله الحرام، ثم عندما يتجول أحدنا في شوارعها التي ينبغي أن تكون ذكراً وتهليلاً وصلاةً على النبي عليه الصلاة والسلام، وكل شيء فيها خشوع وتذكير للرحمن، إذا به يفاجأ ويرى الغناء وقلة الحياء والمقاهي وغير ذلك، هذا في بلد الله الحرام، حقيقةً إن الأمر عجيب عجيب عجيب، ولذلك كان أئمتنا يرون أن البعد عن مكة أسلم حتى لا يقع الإنسان في هذا الدنس، فيا ويحه عند الله من دنس هذه البقعة المباركة الطيبة المطهرة، التي كان من قبلنا إذا وصلوا إلى ذي طوى نزعوا أحذيتهم؛ لئلا يدخلوا بها إلى هذا البيت بصورة ليس فيها تعظيم لشعائر رب العالمين.

وقد نقل ابن الصلاح في منسكه عن سيد المسلمين وإمامهم في زمنه سعيد بن المسيب : أن بعض الناس استشاره في الإقامة بمكة من أجل طلب العلم وتلقيه عن العلماء هناك، فقال له سعيد : كنا نسمع أن ساكن مكة لا يموت حتى يكون الحرم عنده بمنزلة الحل. وأنا حقيقةً أعجب لأئمتنا، فهل أطلعهم الله على غيبه، والله كأنهم ينظرون إلى أحوالنا عن طريق الغيب، وكأنهم ينظرون إلى الغيب من ستر رقيق، أعرف بعض المشايخ الذين يقال لهم مشايخ يدرسون في مكة في كليات شريعة قال: أنا أسرتي لا يمكن أن تصبر عن التلفاز وعن هذا البلاء، وهو خارج مكة في جدة، ويأتي للتدريس في مكة ولكن سكنه في جدة، وبعد فترة خف عليه الأمر، ونقل أسرته إلى مكة وبدلاً من التلفاز الواحد جعل في كل حجرة تلفازاً، فما أعلم سعيد بن المسيب وغيره من أئمتنا عندما يقولون هذا الكلام! فهل أطلعهم الله على أحوالنا عندما يقول: كنا نسمع أن ساكن مكة لا يموت حتى يكون الحرم عنده بمنزلة الحل؟

هذا بيت الله، هذا حرم الله، من أراده بسوء جعل الله كيده في نحره، وعذبه عذاباً أليماً في الدنيا والآخرة، ثم يأتي بعد ذلك بعض الناس يفسد فيه ويجلس على الغناء وقلة الحياء في حرم الله بجوار الكعبة المشرفة! ودخان يشرب في كل مكان، وبنوك ربوية وتسجيلات غنائية، نعوذ بالله من هذا البلاء.

مرة تكلمت على الغناء في بعض الأمكنة، فأرسلت سفيهة من السفيهات، وهي مدرسة في كلية التربية ورئيسة علم النقص الذي يقال له: علم النفس، تقول: أنت تقول: الغناء حرام، وأنا اشتريت أشرطة الغناء من أمام الحرم في مكة المكرمة، فلو كان حراماً لما بيع في مكة!

فقد وصل الأمر إلى أن بعض المهابيل أو بعض الشياطين يقولون للحجاج: نريد أن تحضروا لنا دخان سجائر من عند النبي عليه الصلاة والسلام، أو سجائر من بلد الله الحرام، من هذه البركة، ويا للعجب من هذا الانحطاط الذي أصيبت به الأمة الإسلامية في هذه الأيام، وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا [الأعراف:56]، يعني: من أراد أن يفسد فليخرج إلى بلاد أخرى تسع فساده، وليس الفساد بمرخص فيه في أي مكان، ولكن وجود الفساد في الحرمين الشريفين خزي يندى له جبين الإنسان، كيف أن الناس توسعوا في الغناء وفي قلة الحياء، وفي السجائر، وفي الربا، وفي.. إلخ؟! أما كفاكم أنكم ملأتم جدة وغيرها بهذه البلية، فهل لا بد من وجود هذه البلية في مكة، في بلد الله الحرام التي طهرها نبينا عليه الصلاة والسلام، وكذا المدينة المنورة، فهذا المكان المعصية فيه أشنع، فاتركوا هذا المكان؛ لكي يأتي إليه المسلمون فيجدوا لذة الطاعة، ويجدوا البركة في هذه البلاد المباركة، لا لتدنس من هذه القاذورات، وهذه الرديات.

إخوتي الكرام! إن مكة لها شأن عظيم، فإذا حرم علينا أن نستقبل القبلة عند قضاء الحاجة ولو كنا في الصين، فكيف لو كنا في مكة؟ كيف إذا سُمع الغناء، وفُعِل فعلُ الشياطين؟ نعوذ بالله من هذا الضلال المبين، وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج:32].

وقد كره فقيه الأمة، وكل من تفقه بعده فهم عيال عليه أبو حنيفة النعمان بن ثابت كره الإقامة في أحد الحرمين الشريفين: مكة أو المدينة، وسبب كراهته أنه لورعه رضي الله عنه يعلم ما يترتب على ذلك، فقال:

الأمر الأول: إن الذي يجلس هناك قد يصيبه ملل، ولا يبقى عنده النشاط والعمل الذي يكون عند الإنسان، فإذا اعتراه الملل في ذلك المكان فهذه منقصة ومرذلة في الإنسان ليس بعدها منقصة ولا مرذلة.

الأمر الثاني: قال: قد يؤدي به مكثه في هذين البلدين المباركين إلى قلة احترامهما، وهذه قاصمة الظهر، وقد أخبرني بعض الناس فقال: يا شيخ! تقام صلاة الجمعة في المسجدين الطاهرين المباركين، وبعض الناس يعكفون في بيوتهم على رؤية أفلام تبث من إسرائيل فيها نساء عراة كما ولدن، كل هذا بواسطة أَعلام الشيطان التي نصبت في هذه الأيام على بيوت المسلمين في بلد الله الحرام.

الأمر الثالث: يقول: يكره الإقامة خوف ارتكاب ذنب ووزر في ذلك المكان، وهذا قاصمة الظهر، إن البعيد عن الحرمين يحن ما بين الحين والحين؛ يريد أن يذهب إليهما للطاعات، ومن كان فيهما فإن شوقه يتناقص وقد ينعدم، وأنا أدركت بعض الشيوخ الكبار إذا أتى موسم الحج ولم يتيسر لهم أن يحجوا -يعلم الله أدركتهم- ومنهم والدي رحمة الله عليه، يجلس ليلة العيد يبكي حسرة على ما فاته من تعظيم لبيت الله، ولا يعرف النوم، ولا يرقأ له دمع، ثم بعد ذلك في يوم العيد لا يسلم على الناس إلا من باب الإقامة لتعظيم شعائر الله، وبعض من أقام بالحرم تراه لا يبالي يمرح ويلعب ويضحك ويفخر، ولو ابتعد عن حرم الله وتعلق قلبه به لكان خيراً له.

بلغ من احتراس بعض أئمتنا وهو الإمام أبو عمرو الزجاجي محمد بن إبراهيم بن يوسف ، توفي سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة للهجرة، وكان في بلد الله الحرام الطاهر مكة المكرمة، قال عنه أئمتنا: صار رئيسها والمنظور إليه فيها، أي: هو من العلماء العاملين، صار هو الرئيس في مكة والذي ينظر إليه، بلغ من احتراسه كما روى أبو نعيم في الحلية في الجزء العاشر صفحة ست وسبعين وثلاثمائة، والفاسي في العقد الثمين في أخبار البلد الأمين، في الجزء الأول صفحة أربعمائة وثمانين، عن هذا الإمام الصالح أنه أقام في مكة أربعين سنة ما بال فيها ولا تغوط، فإذا جاءته حاجة الإنسان يخرج إلى الحل، وقد يقول قائل: كيف؟ الجواب: أولاً حاله ليس كحالنا، فأحدنا لازم أن يأكل ثلاث وجبات، بخلافه هو يأكل قليلاً، ثم بعد ذلك عندما يريد أن يقضي الحاجة يكون في اليوم مرة أو في اليومين مرة فيذهب إلى الحل، إلى جمرة العقبة -مثلاً- أو إلى التنعيم.

ولا يقولن قائل: إن هذا تنطع وبدعة، فالذي يتهم هذا بذلك هو المتنطع والمبتدع، ولا نقول: إن من لم يفعل هذا فقد أساء، فقضاء الحاجة في ذلك المكان مرخص فيه، قد فعله نبينا عليه الصلاة والسلام والسلف الكرام، لكن لو قدر أن الإنسان أراد أن يأخذ بشيء من الاحتراز الزائد كما نقل عن عبد الله بن عمرو : أنه كان له فسطاطان، فسطاط في الحل وفسطاط في الحرم، وقال: أنا لا أمنع قضاء الحاجة في هذا المكان، ولكن يكفينا ما عندنا من ذنوب وعيوب، فلا أريد أن أترخص في هذا الأمر بل أخرج إلى الحل فأقضي حاجتي هناك وأعود، أما هذا المكان المبارك فإني أنزهه عن خروج فضلات ونجاسات مني تقع على أرضه الطيبة، وهذا -كما قلت- زيادة أدب منه واحتراس من أجل أن يخفف ما عنده من تقصير، وعدم إجلال على وجه التمام لهذا المكان المبارك العظيم.

هذا هو حال سلفنا إخوتي الكرام نحو بلد الله الحرام، وكان هذا العبد الصالح أبو عمرو الزجاجي يقول كما في القرى لقاصد أم القرى: من جاور مكة وقلبه متعلق بغير الله فقد ظهر خسرانه، أفي هذا المكان الذي هو أشرف البقاع على الإطلاق لا زال قلبك يلتفت إلى مكان آخر وإلى بلاد أخرى، فقد ظهر خسرانك.

ينبغي أن نعي الأدب، والأدب خير من الذهب، ومن لم يجالس ملوك الأدب أسرع عليه العطب، فكيف بملك الملوك ورب العالمين سبحانه وتعالى؟! ولذلك بلد الله الحرام والكعبة المشرفة بيت الله العتيق لها مكانة عظيمة وقداسة سليمة، تحرم علينا أن نتوجه إلى ذلك المكان بفضلاتنا، سواء استقبالاً أو استدباراً تعظيماً لشعائر الله، وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج:32].

وقد ورد كما تقدم معنا الأحاديث في النهي عن ذلك، ولو لم يرد لكان الأدب يحتم علينا ألا نستقبل القبلة وألا نستدبرها ببول أو بغائط؛ إجلالاً لذلك المكان؛ لأن عندنا أدلة كثيرة في تعظيم شعائر الله، ولذلك ينبغي أن نراعي الأدب في جميع أحوالنا، ونحن في زمن ضيعنا فيه العلم النافع بعد أن ضيعنا الأدب، فقد فقد مع سلفنا.

اتصل بي مرةً بعض الإخوة من قريب بعد موعظة لعله كان فيها حاضراً، وأنظر إلى وجهه كوجه الذي سأل في بلاد الشام قال: زوجتي تقول: الله فوقها، والذي فوقها ما فعلت كذا، هل هذا صحيح أو لا؟ وهذا الأخ اتصل في الساعة الحادية عشر والنصف وخمس دقائق من الليل، وأخذ في عرض ما عنده قرابة ربع ساعة إلى الثانية عشرة، وخلاصة أسئلته: أنت تقول: ينبغي أن نتقيد بالمذاهب الأربعة، فما الدليل على هذا؟ والحنفية عندهم تخليط وتفريق وأقوال لا دليل عليها منها وضوء النبيذ، والرجل يهمس بما لا يعرف.

قلت له: يا أخي الكريم! أنا أريد أن أقول لك باختصار: إذا ضيعنا العلم فلنحافظ على الأدب على الأقل، لكن لا علم ولا أدب.

قال: ماذا تقصد؟

قلت: ليس الآن وقت مناظرات ومهاترات، بقي ثلاث ساعات لأذان الفجر.

قال: لا أعلم أنك كنت نائماً، قلت له: هل من اللازم أن تعلم أي كلام بيني وبين زوجتي حتى تنظر هل أنا نائم أو لا؟ فإذا رأيتني صاحياً تتصل، وإذا رأيتني نائماً لا تتصل، إذا لم يكن عندك علم فليس عندك أدب، وأنت لك شأن ولك هذا المكان، ومع ذلك ليس عندك أدب، فقال لي بعض الأهل: أنت تقسو عليه في الكلام؛ لأنه شيخ فقلت: أريد أن أعلم هل هذه الأمة التي شوشت على الناس عقولها ودينها إذا ضيعوا علمهم أما عندهم أدب مع الله ومع خلقه، تتصل لإنسان في الساعة الثانية عشرة ليلاً لمهاترات، هذه أحوال الأمة الإسلامية التي نعيش فيها.




استمع المزيد من الشيخ عبد الرحيم الطحان - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح الترمذي - باب الاستتار عند الحاجة، والاستنجاء باليمين، والاستنجاء بالحجارة [4] 4042 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في فضل الطهور [6] 3975 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [9] 3904 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [46] 3785 استماع
شرح الترمذي - مقدمات [8] 3784 استماع
شرح الترمذي - باب مفتاح الصلاة الطهور [2] 3769 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [18] 3565 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [24] 3481 استماع
شرح الترمذي - باب ما يقول إذا خرج من الخلاء [10] 3462 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [59] 3413 استماع