شرح الترمذي - باب ما يقول إذا أراد دخول الخلاء [4]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمدٍ وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً، بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد:

إخوتي الكرام! لا زلنا نتدارس الباب الرابع من أبواب الطهارة من جامع الإمام أبي عيسى الترمذي عليه وعلى أئمتنا والمسلمين أجمعين رحمات رب العالمين، وهذا الباب عنوانه: باب ما يقول إذا أراد دخول الخلاء.

وتقدم معنا أن الإمام الترمذي روى حديثاً في ذلك عن أنس بن مالك رضي الله عنه, وساقه من طريق فيه ثلاثةٌ من شيوخه: من طريق قتيبة بن سعيد ، وهناد بن السري ، وأحمد بن عبدة الضبي -رحمهم الله جميعاً- عن أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد دخول الخلاء يقول: اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبيث، أو من الخبث والخبائث).

قال أبو عيسى : حديث أنس أصح شيءٍ في هذا الباب وأحسن، وفي الباب عن علي وزيد بن أرقم ، وعبد الله بن مسعود وجابر بن عبد الله رضي الله عنهم أجمعين.

إخوتي الكرام! كنا في المبحث الأول في مدارسة الرجال الذين ورد ذكرهم في هذا الباب، وكنا في ترجمة العبد الصالح هشام بن سنبر بن أبي عبد الله الدستوائي أبو بكر رحمه الله وغفر له، وتقدم معنا أنه ثقةٌ ثبت، لكنه رمي بالقدر وقد خرج حديثه أهل الكتب الستة، وحديثه في دواوين الإسلام كما قال الإمام الذهبي إلا في موطأ الإمام مالك بن أنس عليهم جميعاً رحمة الله.

وهذه البدعة التي رمي بها هذا الإمام العلم تقدم الكلام على تفصيلها، وأنها تنقسم إلى قسمين: بدعة قدرية فيها غلو، وبدعة قدرية ليس فيها غلو، وهم الذين يقولون: إن فعل العبد مما يفعله من أمور الشر يكون بدون تقديرٍ من الله، مع أن الله يعلم ذلك قبل وقوعه، وقلنا: هذه بدعة وضلالة، وهي بدعةٌ مفسقة، وقد يلتمس للإنسان عذرٌ في قولها لتأويله، وأمره إلى ربه جل وعلا، وختمت الكلام بعد ذلك بحكم رواية المبتدع وفصلت أقوال أئمتنا في هذه المسألة.

وقبل أن ننتقل إلى بيان حال الرجال الآخرين الذين ورد ذكرهم في هذا الباب أحب أن أقف وقفةً عند هشام الدستوائي لنرى عبادته وعلمه، والبدعة التي رمي بها.

فأئمتنا أثنوا عليه بالعلم النافع، والعمل الصالح مع وصفه ببدعة القدر، وهو من عباد هذه الأمة وزهادها، ولذلك ترجمه أبو نعيم في كتابه حلية الأولياء، وهذا الكتاب موضوعٌ لترجمة العباد والزهاد والعلماء العاملين، ففي الجزء السادس صفحة ثمانٍ وسبعين ومائتين ترجم أبو نعيم لـهشام الدستوائي فيما يزيد عن عشر صفحات، وهكذا الإمام ابن الجوزي في كتابه صفوة الصفوة ترجم له على أنه من الزهاد والعباد والعلماء العاملين في الجزء الثالث صفحة ثمانٍ وأربعين وثلاثمائة، وترجم له الإمام الذهبي في سائر كتبه في تذكرة الحفاظ، وفي سير أعلام النبلاء، وفي تاريخه الكبير، وهو مترجمٌ بعد ذلك في كتب الرجال كتهذيب التهذيب وغير ذلك، وسأقتصر في ترجمته على ثلاثة أمور: أولها: فيما يتعلق بعبادته وعمله بعلمه. وثانيها: في منزلته العلمية، وأختم الكلام بالبدعة التي وقع فيها، وهل أثر ذلك على رواياته أم لا؟

عبادة هشام الدستوائي

أما عبادته وديانته فكل من ترجم له أثنى عليه في هذا الجانب، وتقدم معنا أن المبتدع إذا كان عابداً وديانته مستقيمة ولا يكذب، وهو سالمٌ من خوارم المروءة، فرواياته تقبل بشرط إذا لم يكن داعيةً إلى البدعة.

فأئمتنا كلهم ذكروا في ترجمته أنه كان كثير البكاء من خشية الله جل وعلا، وأنه بكى حتى فسدت عينه، فكانت مفتوحةً وهو لا يكاد يبصر بها، وفسدت يعني: عميت وخف النظر فيها إلى درجة العمى من كثرة خشيته وبكائه لربه.

وورد في ترجمته: أن أهل البصرة قاطبةً -وهو بصري- ما رأوا أكثر ذكراً للموت منه، هو كان أكثر أهل البصرة ذكراً للموت، وكان يقول في مجلسه كثيراً: كم من رجلٍ حدث بلسانه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أكل التراب لسانه، أي: هو من الميتين وفي عداد الموتى، فذكر الموت لا يغيب عن ذهنه طرفة عين، وكان إذا جنّ الليل واستلقى على فراشه لا يستطيع أن ينام إلا إذا كان السراج متوقداً مضيئاً، فإذا انقطع زيته لا يستطيع أن ينام، فيتململ على الفراش كأنه لديغ حتى تصلح زوجته السراج، فخاطبته في ذلك: لم إذا أوقد السراج تنام، وإذا طفئ السراج لا تنام؟ قال: تذكرني ظلمة الحجرة بظلمة القبور، فلا أستطيع أن أنام، وأنا عمّا قريب سأصير إلى القبر، كيف سأنام؟! فما يستطيع أن ينام إلا إذا كان السراج مضيئاً.

وكان يقول -وهذه النصوص في الحلية وفي الكتب التي مرت الإشارة إليها، وفي سير أعلام النبلاء في الجزء السابع صفحة تسعٍ وأربعين فما بعدها- كان يقول: عجبت للعالم كيف يضحك، ووددت أني نجوت من هذا الأمر كفافاً لا ليّ ولا عليّ، أي: من هذا العلم وطلب حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام، فلا أريد أجره، ولا أتحمل وزره.

وكان ينقل المواعظ عن الكتب السابقة ويحدث بها، وبما ورد في أخبار أنبياء الله السابقين: كنبي الله موسى وعيسى على نبينا وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه، وفيها ترقيقٌ للقلوب؛ ومن ذلك ما جاء في الحلية في الجزء السابع صفحة تسعٍ وسبعين ومائتين في ترجمته عن هشام الدستوائي قال: قرأت في كتابٍ بلغني من كلام عيسى بن مريم عليه السلام أنه كان يقول عيسى على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه لأتباعه: تعملون للدنيا وأنتم ترزقون فيها بغير العمل؛ لأنه ما من دابةٍ في الأرض إلا على الله رزقها، ولا تعملون للآخرة وأنتم لا ترزقون فيها إلا بالعمل.

سبحان الله! الدنيا لو لم تعمل فيها لأتاك رزق، فلو كنت في مغارةٍ وقدر لك رزق لسيق إليك ذلك الرزق إلى مغارتك، أما الآخرة فلا يمكن أن تدركها بغير عمل، ولا تعملون للآخرة وأنتم لا ترزقون فيها إلا بالعمل، فنسأل الله العافية من هذا الوصف الذي يطلقه على من يتصف به، ونسأل الله أن لا نكون منهم بفضله ورحمته.

وكان يقول: ويلكم علماء السوء، فالأجر تأخذون، والعمل تضيعون، يوشك رب العمل أن يطلب عمله، وتوشكون أن تخرجوا من الدنيا العريضة إلى ظلمة القبر وضيقه، فالله ينهاكم عن الخطايا كما يأمركم بالصيام والصلاة، فكيف يكون من أهل العلم من سخط رزقه، واحتقر منزلته -هكذا ضبطت منزلته بالتاء بعد اللام، ولعلها منزله- يعني: كأنه يقول: رزقي قليل، وداري ضيقة، ويصح أن تكون المنزلة يعني المكانة في الحياة، وقد علم أن ذلك من علم الله وقدرته، فكيف يكون من أهل العلم من اتهم الله فيما قضى له؟! فليس يرضى بشيءٍ أصابه، وكيف يكون من أهل العلم من دنياه عنده آثر من آخرته، وهو في دنياه أفضل رغبةً؟! وكيف يكون من أهل العلم من مسيره إلى آخرته وهو مقبلٌ على دنياه؟!

فهذه المواعظ التي ينقلها هذا العبد الصالح رحمه الله وغفر لنا وله عن نبي الله عيسى على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه، وعن الكتب السابقة تدل على أنه من أهل هذا المشرب، والإنسان دائماً يعتني بما يناسبه، فهو من أهل أعمال القلوب، وممن يخشون علام الغيوب، فتراه يعتني بهذه القصص، وهذه الأخبار، فيذكرها ويذكر بها.

وأختم هذا الجانب من عبادته بما ذكره أئمتنا في الحلية وفي سير أعلام النبلاء في الجزء السادس صفحة اثنتين وخمسين ومائة أنه كان يقول: والله ما أستطيع أن أقول: إني ذهبت يوماً قط أطلب الحديث أريد به وجه الله عز وجل. فانظر لاتهامه لنفسه، ووقوفه عند حده، يقول: والله ما أستطيع أن أقول: إني ذهبت يوماً قط أطلب الحديث أريد به وجه الله عز وجل، وإذا قال هذا في العلم فسيقول هذا في سائر أحواله وعبادته، ما أستطيع أن أقول: أنني فعلت طاعةً أريد بها وجه الله عز وجل.

فقارن قوله مع قول تلميذه شعبة بن الحجاج حيث قال: ما من الناس أحدٌ أقول: إنه طلب الحديث يريد به وجه الله إلا هشام الدستوائي وهشام يقول: والله ما أستطيع أن أقول: إني ذهبت يوماً أطلب الحديث أريد به وجه الله.

فـشعبة يقول بعد ذلك معلقاً على كلام هشام الدستوائي يقول: إذا كان هشام يقول هذا فكيف نحن؟ واستمع لتعليق العبد الصالح الإمام الذهبي على هذا الخبر، قلت: والله ولا أنا، يعني: أنا لا أستطيع أن أقول إنني في يومٍ من الأيام طلبت العلم لوجه الرحمن.

وهذا لا يقوله حقيقةً إلا من يعرف قدر نفسه، ويعظم ربه، أما نحن فقد ابتلينا بالغرور فإذا قلت لإنسان: أخلص النية يقول: أنا سيد المخلصين، وأما أن يتهم نفسه بالرياء وأنه لا يريد بعلمه وجه رب الأرض والسماء فهذا لا يخطر بباله.

وأئمتنا عندما يقولون هذا فهم يعون ما يقولون، وإذا نبزوا بذلك فهم يحلمون ولا يغضبون، ومن ذلك لما قالت زوجة مالك بن دينار لزوجها: يا منافق يا مرائي! قال: والله ما عرفني من أهل البصرة إلا أنت.

واستمع هنا للذهبي يقول: قال هشام : والله ما أستطيع أن أقول: إني ذهبت يوماً قط أطلب الحديث أريد به وجه الله، قال الذهبي : قلت: والله ولا أنا، فقد كان السلف يطلبون العلم لله فنبلوا، وصاروا أئمةً يقتدى بهم، وطلبه قومٌ منهم أولاً لا لله، وحصلوه ثم استقاموا وحاسبوا أنفسهم، فجرهم العلم إلى الإخلاص في أثناء الطريق، كما قال مجاهد وغيره، طلبنا هذا العلم وما لنا فيه كبير نية، ثم رزق الله النية بعد.

وهذا كان يقوله الإمام الغزالي رحمه الله: طلبنا العلم لغير الله، فأبى العلم إلا أن يكون لله، يعني: ساقنا بعد ذلك إلى محاسبة أنفسنا، والوقوف عند حدنا في نهاية أمرنا.

وبعضهم يقول: طلبنا هذا العلم لغير الله، فأبى أن يكون إلا لله.

إذاً فالسلف المتقدمون طلبوه لله فنبلوا، وجاء بعدهم من طلبه أولاً لغير الله ثم حاسب نفسه ورأى أن هذا العلم سيكون وبالاً عليه إذا لم يخلص فيه لربه، فأخلص في نهاية الأمر، ونشره بنيةٍ صالحة، فهذا أيضاً حسن.

وقومٌ طلبوه بنيةٍ فاسدة؛ لأجل الدنيا، وليثن عليهم فلهم ما نووا.

قال عليه الصلاة والسلام: (من غزا ولم ينو من غزوته إلا عقالاً فليس له إلا ما نوى) والحديث في المسند والمستدرك وسنن النسائي ومسند الإمام الدارمي ، وإسناده صحيحٌ كالشمس، من رواية عبادة بن الصامت رضي الله عنه وأرضاه. والعقال: حبل يربط به بعيره.

يقول: وترى هذا الصنف لن يستضيء بنور العلم، ولا لهم وقعٌ في النفوس، ولا لعلمهم كبير نتيجةٍ من العمل، وإنما العالم من يخشى الله عز وجل.

وقومٌ نالوا العلم، وولوا به المناصب فظلموا وتركوا التقيد بالعلم وركبوا الكبائر والفواحش فتباً لهم، فما هؤلاء بعلماء، وبعضهم لم يتق الله في علمه، بل ركب الحيل، وأفتى بالرخص، وروى الشاذ من الأخبار، وبعضهم اجترأ على الله بوضع الأحاديث، فهتكه الله، وذهب علمه، وصار زاده إلى النار، وأما نحن فوصفنا بعد ذلك: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ [الأعراف:169]، بان نقصهم في العلم والعمل، فلا علم ولا عمل، وتلاهم قومٌ انتموا إلى العلم في الظاهر ولم يتقنوا منه سوى نزرٍ يسير فأوهموا به أنهم علماء فضلاء، ولم يجر في أذهانهم قط أنهم يتقربون به إلى الله عز وجل، كما قال بعضهم: ما أنا عالمٌ ولا رأيت عالماً، فهذا حالنا حقيقة، وهذا بسبب فساد طلبة العلم فما رأوا شيخاً يقتدى به في العلم.

إذاً: هذا فيما يتعلق بهذا الجانب الأول من ترجمة هشام ، عابد عابد لا شك في عبادته، وكل من ترجمه أثنى عليه في هذا الجانب.

المنزلة العلمية لهشام الدستوائي

أما العلم فعلمه حدث عنه ولا حرج، يقول أبو داود الطيالسي : هو أمير المؤمنين في الحديث، وليس بعد هذا التوثيق توثيق.

ويقول شعبة بن الحجاج ، وتقدم معنا أنه هو الذي نشر علم الحديث في العراق، وإذا وجدت شعبة في إسناد فاشدد يدك به، يقول: هشام الدستوائي أعلم مني، وأحفظ مني بحديث قتادة .

وقال أبو نعيم الفضل بن دكين -وهو من كبار شيوخ الإمام البخاري من أئمة أهل الهدى والرشاد- يقول: قدمت البصرة فما رأيت فيها أفضل من هشام وحماد بن سلمة ، وكان يحيى القطان إذا سمع الحديث عن هشام الدستوائي لا يبالي ألا يسمعه من غيره.

وقال الإمام أحمد وأبو حاتم وأبو زرعة عندما سئلوا: أيهما أعلم هشام أو الأوزاعي ؟ والأوزاعي شيخ أهل السنة في زمنه، فقال أبو زرعة وأبو حاتم : هشام أولاً، والأوزاعي بعده، وقال الإمام أحمد : هشام لا يمكن أن ترى أثبت منه.

إخوتي الكرام! هذا حاله في العلم، فهو وإن رمي بتلك البدعة، لكن في العبادة على جانبٍ عظيم، وفي العلم والضبط والإتقان على جانبٍ عظيم، وهذا كلام شيوخ أهل السنة فيه.

البدعة التي رمي بها هشام الدستوائي

أما بدعته التي رمي بها وهي قوله: إن الله جل وعلا ما قدر على العبد الشر، ولا أراد له فعله، وإنما يفعله العبد باختياره دون تقديرٍ من الله عليه، فهذا ضلال، ويرد على قائله أياً كان، لكن إذا تأول الإنسان، فنقول: إن هذه بدعة، ولا يغير حكمها جلالة قائلها، لكن إذا كان له تأويل، فانظر لإنصاف أهل السنة، قالوا: هذا عابدٌ عالمٌ صادقٌ قانت، زل زلة، فلنرد هذه الزلة عليه، ولنسأل الله المغفرة له، وأما رواياته فتؤخذ وتقدم على روايات غيره.

أما بدعته فكل من ترجم له نعته بذلك، قال الإمام ابن سعد في الطبقات الكبرى: كان ثقةً ثبتاً في الحديث حجةً، إلا أنه كان يرى القدر.

وقال الإمام العجلي : هو بصريٌ ثقةٌ ثبتٌ في الحديث حجةٌ إلا أنه يرى القدر ولم يكن يدعو إليه.

وقال الإمام الجوزجاني : كان ممن تكلم في القدر، وكان من أثبت الناس في رواياته وضبطه وإتقانه.

هذا كلام أئمتنا فيه عليهم جميعاً رحمة الله، ولذلك نعته الإمام ابن معين أنه يقول ببدعة القدر، لكن مع ذلك روايته يؤخذ بها، بل تقدم روايته على غيره لضبطه وإتقانه وحذقه وإيمانه.

ويذكر الإمام الذهبي عن الحافظ محمد البرقي -توفي سنة تسعٍ وأربعين ومائتين للهجرة- أنه قال: قلت لـابن معين : أرأيت من يرمى بالقدر أيكتب حديثه؟ فقال: سبحان الله! قد كان قتادة بن دعامة -وحديثه مخرج في الكتب الستة، وتوفي سنة أربع عشرة ومائة للهجرة، وهو إمام المسلمين في زمنه، مع الحسن البصري في البصرة- وهشام الدستوائي ، وسعيد بن أبي عروبة ، وعبد الوارث يقولون بالقدر وهم ثقات يكتب حديثهم ما لم يدعوا إلى شيءٍ، أي: إذا لم يكونوا أئمةً قادةً في الدعوة إلى هذه البدعة.

والإمام الذهبي بعد أن حكى تلك الأقوال في سير أعلام النبلاء في ترجمة هشام الدستوائي ، قال: وهذه مسألةٌ كبيرة، وهي القدري والمعتزلي والجهمي والرافضي إذا علم صدقه في الحديث وتقواه ولم يكن داعياً إلى بدعةٍ فالذي عليه أكثر العلماء قبول روايته، والعمل بحديثه، وترددوا في الداعية هل يؤخذ عنه؟ فذهب كثيرٌ من الحفاظ إلى تجنب حديثه وهجرانه، وقال بعضهم: إذا علمنا صدقه، وكان داعيةً ووجدنا عنده سنةً تفرد بها فكيف يسوغ لنا ترك تلك السنة، فجميع تصرفات أئمة الحديث تؤذن بأن المبتدع إذا لم تبح بدعته خروجه من دائرة الإسلام، ولم تبح دمه فإن قبول ما رواه سائغٌ.

وهذه المسألة لم تتبرهن لي كما ينبغي، والذي اتضح لي منها أن من دخل في بدعةٍ ولم يعدل من رؤيتها، ولا أمعن فيها، فيقبل حديثه كما مثل الحافظ أبو زكريا وهو ابن معين ، بـقتادة وبـهشام الذين تقدم معنا ذكرهم، وسعيد بن أبي عروبة ، وعبد الوارث ، فحديثهم في كتب الإسلام لصدقهم وحفظهم.

والمذكور في ترجمة هذا العبد الصالح يعطينا أمرين اثنين: أولاً: إنصاف أئمتنا له ولغيره ممن يخالفهم فيما هم عليه، فنحن نرى أن القول بذلك بدعة وضلال، لكن إذا دلت لنا قرائن بأن الإنسان صادق وما أراد بذلك تحريفاً ولا سوء طوية، وإنما زل والتبس عليه الأمر، فنرد بدعته، ولكن نعرف له مكانته فنروي عنه.

الأمر الثاني: إذا كان هذا الإنسان مع علمه وعبادته قد خذل ووقع في البدعة, فيجب علينا أن نلجأ إلى الله ليل نهار أن يثبت الإيمان في قلوبنا، وأن يحيينا على سنة نبينا عليه الصلاة والسلام، فالقلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن، فمن شاء الله أن يضله أضله، ومن شاء الله أن يهديه هداه: رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [آل عمران:8].

أما عبادته وديانته فكل من ترجم له أثنى عليه في هذا الجانب، وتقدم معنا أن المبتدع إذا كان عابداً وديانته مستقيمة ولا يكذب، وهو سالمٌ من خوارم المروءة، فرواياته تقبل بشرط إذا لم يكن داعيةً إلى البدعة.

فأئمتنا كلهم ذكروا في ترجمته أنه كان كثير البكاء من خشية الله جل وعلا، وأنه بكى حتى فسدت عينه، فكانت مفتوحةً وهو لا يكاد يبصر بها، وفسدت يعني: عميت وخف النظر فيها إلى درجة العمى من كثرة خشيته وبكائه لربه.

وورد في ترجمته: أن أهل البصرة قاطبةً -وهو بصري- ما رأوا أكثر ذكراً للموت منه، هو كان أكثر أهل البصرة ذكراً للموت، وكان يقول في مجلسه كثيراً: كم من رجلٍ حدث بلسانه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أكل التراب لسانه، أي: هو من الميتين وفي عداد الموتى، فذكر الموت لا يغيب عن ذهنه طرفة عين، وكان إذا جنّ الليل واستلقى على فراشه لا يستطيع أن ينام إلا إذا كان السراج متوقداً مضيئاً، فإذا انقطع زيته لا يستطيع أن ينام، فيتململ على الفراش كأنه لديغ حتى تصلح زوجته السراج، فخاطبته في ذلك: لم إذا أوقد السراج تنام، وإذا طفئ السراج لا تنام؟ قال: تذكرني ظلمة الحجرة بظلمة القبور، فلا أستطيع أن أنام، وأنا عمّا قريب سأصير إلى القبر، كيف سأنام؟! فما يستطيع أن ينام إلا إذا كان السراج مضيئاً.

وكان يقول -وهذه النصوص في الحلية وفي الكتب التي مرت الإشارة إليها، وفي سير أعلام النبلاء في الجزء السابع صفحة تسعٍ وأربعين فما بعدها- كان يقول: عجبت للعالم كيف يضحك، ووددت أني نجوت من هذا الأمر كفافاً لا ليّ ولا عليّ، أي: من هذا العلم وطلب حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام، فلا أريد أجره، ولا أتحمل وزره.

وكان ينقل المواعظ عن الكتب السابقة ويحدث بها، وبما ورد في أخبار أنبياء الله السابقين: كنبي الله موسى وعيسى على نبينا وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه، وفيها ترقيقٌ للقلوب؛ ومن ذلك ما جاء في الحلية في الجزء السابع صفحة تسعٍ وسبعين ومائتين في ترجمته عن هشام الدستوائي قال: قرأت في كتابٍ بلغني من كلام عيسى بن مريم عليه السلام أنه كان يقول عيسى على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه لأتباعه: تعملون للدنيا وأنتم ترزقون فيها بغير العمل؛ لأنه ما من دابةٍ في الأرض إلا على الله رزقها، ولا تعملون للآخرة وأنتم لا ترزقون فيها إلا بالعمل.

سبحان الله! الدنيا لو لم تعمل فيها لأتاك رزق، فلو كنت في مغارةٍ وقدر لك رزق لسيق إليك ذلك الرزق إلى مغارتك، أما الآخرة فلا يمكن أن تدركها بغير عمل، ولا تعملون للآخرة وأنتم لا ترزقون فيها إلا بالعمل، فنسأل الله العافية من هذا الوصف الذي يطلقه على من يتصف به، ونسأل الله أن لا نكون منهم بفضله ورحمته.

وكان يقول: ويلكم علماء السوء، فالأجر تأخذون، والعمل تضيعون، يوشك رب العمل أن يطلب عمله، وتوشكون أن تخرجوا من الدنيا العريضة إلى ظلمة القبر وضيقه، فالله ينهاكم عن الخطايا كما يأمركم بالصيام والصلاة، فكيف يكون من أهل العلم من سخط رزقه، واحتقر منزلته -هكذا ضبطت منزلته بالتاء بعد اللام، ولعلها منزله- يعني: كأنه يقول: رزقي قليل، وداري ضيقة، ويصح أن تكون المنزلة يعني المكانة في الحياة، وقد علم أن ذلك من علم الله وقدرته، فكيف يكون من أهل العلم من اتهم الله فيما قضى له؟! فليس يرضى بشيءٍ أصابه، وكيف يكون من أهل العلم من دنياه عنده آثر من آخرته، وهو في دنياه أفضل رغبةً؟! وكيف يكون من أهل العلم من مسيره إلى آخرته وهو مقبلٌ على دنياه؟!

فهذه المواعظ التي ينقلها هذا العبد الصالح رحمه الله وغفر لنا وله عن نبي الله عيسى على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه، وعن الكتب السابقة تدل على أنه من أهل هذا المشرب، والإنسان دائماً يعتني بما يناسبه، فهو من أهل أعمال القلوب، وممن يخشون علام الغيوب، فتراه يعتني بهذه القصص، وهذه الأخبار، فيذكرها ويذكر بها.

وأختم هذا الجانب من عبادته بما ذكره أئمتنا في الحلية وفي سير أعلام النبلاء في الجزء السادس صفحة اثنتين وخمسين ومائة أنه كان يقول: والله ما أستطيع أن أقول: إني ذهبت يوماً قط أطلب الحديث أريد به وجه الله عز وجل. فانظر لاتهامه لنفسه، ووقوفه عند حده، يقول: والله ما أستطيع أن أقول: إني ذهبت يوماً قط أطلب الحديث أريد به وجه الله عز وجل، وإذا قال هذا في العلم فسيقول هذا في سائر أحواله وعبادته، ما أستطيع أن أقول: أنني فعلت طاعةً أريد بها وجه الله عز وجل.

فقارن قوله مع قول تلميذه شعبة بن الحجاج حيث قال: ما من الناس أحدٌ أقول: إنه طلب الحديث يريد به وجه الله إلا هشام الدستوائي وهشام يقول: والله ما أستطيع أن أقول: إني ذهبت يوماً أطلب الحديث أريد به وجه الله.

فـشعبة يقول بعد ذلك معلقاً على كلام هشام الدستوائي يقول: إذا كان هشام يقول هذا فكيف نحن؟ واستمع لتعليق العبد الصالح الإمام الذهبي على هذا الخبر، قلت: والله ولا أنا، يعني: أنا لا أستطيع أن أقول إنني في يومٍ من الأيام طلبت العلم لوجه الرحمن.

وهذا لا يقوله حقيقةً إلا من يعرف قدر نفسه، ويعظم ربه، أما نحن فقد ابتلينا بالغرور فإذا قلت لإنسان: أخلص النية يقول: أنا سيد المخلصين، وأما أن يتهم نفسه بالرياء وأنه لا يريد بعلمه وجه رب الأرض والسماء فهذا لا يخطر بباله.

وأئمتنا عندما يقولون هذا فهم يعون ما يقولون، وإذا نبزوا بذلك فهم يحلمون ولا يغضبون، ومن ذلك لما قالت زوجة مالك بن دينار لزوجها: يا منافق يا مرائي! قال: والله ما عرفني من أهل البصرة إلا أنت.

واستمع هنا للذهبي يقول: قال هشام : والله ما أستطيع أن أقول: إني ذهبت يوماً قط أطلب الحديث أريد به وجه الله، قال الذهبي : قلت: والله ولا أنا، فقد كان السلف يطلبون العلم لله فنبلوا، وصاروا أئمةً يقتدى بهم، وطلبه قومٌ منهم أولاً لا لله، وحصلوه ثم استقاموا وحاسبوا أنفسهم، فجرهم العلم إلى الإخلاص في أثناء الطريق، كما قال مجاهد وغيره، طلبنا هذا العلم وما لنا فيه كبير نية، ثم رزق الله النية بعد.

وهذا كان يقوله الإمام الغزالي رحمه الله: طلبنا العلم لغير الله، فأبى العلم إلا أن يكون لله، يعني: ساقنا بعد ذلك إلى محاسبة أنفسنا، والوقوف عند حدنا في نهاية أمرنا.

وبعضهم يقول: طلبنا هذا العلم لغير الله، فأبى أن يكون إلا لله.

إذاً فالسلف المتقدمون طلبوه لله فنبلوا، وجاء بعدهم من طلبه أولاً لغير الله ثم حاسب نفسه ورأى أن هذا العلم سيكون وبالاً عليه إذا لم يخلص فيه لربه، فأخلص في نهاية الأمر، ونشره بنيةٍ صالحة، فهذا أيضاً حسن.

وقومٌ طلبوه بنيةٍ فاسدة؛ لأجل الدنيا، وليثن عليهم فلهم ما نووا.

قال عليه الصلاة والسلام: (من غزا ولم ينو من غزوته إلا عقالاً فليس له إلا ما نوى) والحديث في المسند والمستدرك وسنن النسائي ومسند الإمام الدارمي ، وإسناده صحيحٌ كالشمس، من رواية عبادة بن الصامت رضي الله عنه وأرضاه. والعقال: حبل يربط به بعيره.

يقول: وترى هذا الصنف لن يستضيء بنور العلم، ولا لهم وقعٌ في النفوس، ولا لعلمهم كبير نتيجةٍ من العمل، وإنما العالم من يخشى الله عز وجل.

وقومٌ نالوا العلم، وولوا به المناصب فظلموا وتركوا التقيد بالعلم وركبوا الكبائر والفواحش فتباً لهم، فما هؤلاء بعلماء، وبعضهم لم يتق الله في علمه، بل ركب الحيل، وأفتى بالرخص، وروى الشاذ من الأخبار، وبعضهم اجترأ على الله بوضع الأحاديث، فهتكه الله، وذهب علمه، وصار زاده إلى النار، وأما نحن فوصفنا بعد ذلك: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ [الأعراف:169]، بان نقصهم في العلم والعمل، فلا علم ولا عمل، وتلاهم قومٌ انتموا إلى العلم في الظاهر ولم يتقنوا منه سوى نزرٍ يسير فأوهموا به أنهم علماء فضلاء، ولم يجر في أذهانهم قط أنهم يتقربون به إلى الله عز وجل، كما قال بعضهم: ما أنا عالمٌ ولا رأيت عالماً، فهذا حالنا حقيقة، وهذا بسبب فساد طلبة العلم فما رأوا شيخاً يقتدى به في العلم.

إذاً: هذا فيما يتعلق بهذا الجانب الأول من ترجمة هشام ، عابد عابد لا شك في عبادته، وكل من ترجمه أثنى عليه في هذا الجانب.

أما العلم فعلمه حدث عنه ولا حرج، يقول أبو داود الطيالسي : هو أمير المؤمنين في الحديث، وليس بعد هذا التوثيق توثيق.

ويقول شعبة بن الحجاج ، وتقدم معنا أنه هو الذي نشر علم الحديث في العراق، وإذا وجدت شعبة في إسناد فاشدد يدك به، يقول: هشام الدستوائي أعلم مني، وأحفظ مني بحديث قتادة .

وقال أبو نعيم الفضل بن دكين -وهو من كبار شيوخ الإمام البخاري من أئمة أهل الهدى والرشاد- يقول: قدمت البصرة فما رأيت فيها أفضل من هشام وحماد بن سلمة ، وكان يحيى القطان إذا سمع الحديث عن هشام الدستوائي لا يبالي ألا يسمعه من غيره.

وقال الإمام أحمد وأبو حاتم وأبو زرعة عندما سئلوا: أيهما أعلم هشام أو الأوزاعي ؟ والأوزاعي شيخ أهل السنة في زمنه، فقال أبو زرعة وأبو حاتم : هشام أولاً، والأوزاعي بعده، وقال الإمام أحمد : هشام لا يمكن أن ترى أثبت منه.

إخوتي الكرام! هذا حاله في العلم، فهو وإن رمي بتلك البدعة، لكن في العبادة على جانبٍ عظيم، وفي العلم والضبط والإتقان على جانبٍ عظيم، وهذا كلام شيوخ أهل السنة فيه.

أما بدعته التي رمي بها وهي قوله: إن الله جل وعلا ما قدر على العبد الشر، ولا أراد له فعله، وإنما يفعله العبد باختياره دون تقديرٍ من الله عليه، فهذا ضلال، ويرد على قائله أياً كان، لكن إذا تأول الإنسان، فنقول: إن هذه بدعة، ولا يغير حكمها جلالة قائلها، لكن إذا كان له تأويل، فانظر لإنصاف أهل السنة، قالوا: هذا عابدٌ عالمٌ صادقٌ قانت، زل زلة، فلنرد هذه الزلة عليه، ولنسأل الله المغفرة له، وأما رواياته فتؤخذ وتقدم على روايات غيره.

أما بدعته فكل من ترجم له نعته بذلك، قال الإمام ابن سعد في الطبقات الكبرى: كان ثقةً ثبتاً في الحديث حجةً، إلا أنه كان يرى القدر.

وقال الإمام العجلي : هو بصريٌ ثقةٌ ثبتٌ في الحديث حجةٌ إلا أنه يرى القدر ولم يكن يدعو إليه.

وقال الإمام الجوزجاني : كان ممن تكلم في القدر، وكان من أثبت الناس في رواياته وضبطه وإتقانه.

هذا كلام أئمتنا فيه عليهم جميعاً رحمة الله، ولذلك نعته الإمام ابن معين أنه يقول ببدعة القدر، لكن مع ذلك روايته يؤخذ بها، بل تقدم روايته على غيره لضبطه وإتقانه وحذقه وإيمانه.

ويذكر الإمام الذهبي عن الحافظ محمد البرقي -توفي سنة تسعٍ وأربعين ومائتين للهجرة- أنه قال: قلت لـابن معين : أرأيت من يرمى بالقدر أيكتب حديثه؟ فقال: سبحان الله! قد كان قتادة بن دعامة -وحديثه مخرج في الكتب الستة، وتوفي سنة أربع عشرة ومائة للهجرة، وهو إمام المسلمين في زمنه، مع الحسن البصري في البصرة- وهشام الدستوائي ، وسعيد بن أبي عروبة ، وعبد الوارث يقولون بالقدر وهم ثقات يكتب حديثهم ما لم يدعوا إلى شيءٍ، أي: إذا لم يكونوا أئمةً قادةً في الدعوة إلى هذه البدعة.

والإمام الذهبي بعد أن حكى تلك الأقوال في سير أعلام النبلاء في ترجمة هشام الدستوائي ، قال: وهذه مسألةٌ كبيرة، وهي القدري والمعتزلي والجهمي والرافضي إذا علم صدقه في الحديث وتقواه ولم يكن داعياً إلى بدعةٍ فالذي عليه أكثر العلماء قبول روايته، والعمل بحديثه، وترددوا في الداعية هل يؤخذ عنه؟ فذهب كثيرٌ من الحفاظ إلى تجنب حديثه وهجرانه، وقال بعضهم: إذا علمنا صدقه، وكان داعيةً ووجدنا عنده سنةً تفرد بها فكيف يسوغ لنا ترك تلك السنة، فجميع تصرفات أئمة الحديث تؤذن بأن المبتدع إذا لم تبح بدعته خروجه من دائرة الإسلام، ولم تبح دمه فإن قبول ما رواه سائغٌ.

وهذه المسألة لم تتبرهن لي كما ينبغي، والذي اتضح لي منها أن من دخل في بدعةٍ ولم يعدل من رؤيتها، ولا أمعن فيها، فيقبل حديثه كما مثل الحافظ أبو زكريا وهو ابن معين ، بـقتادة وبـهشام الذين تقدم معنا ذكرهم، وسعيد بن أبي عروبة ، وعبد الوارث ، فحديثهم في كتب الإسلام لصدقهم وحفظهم.

والمذكور في ترجمة هذا العبد الصالح يعطينا أمرين اثنين: أولاً: إنصاف أئمتنا له ولغيره ممن يخالفهم فيما هم عليه، فنحن نرى أن القول بذلك بدعة وضلال، لكن إذا دلت لنا قرائن بأن الإنسان صادق وما أراد بذلك تحريفاً ولا سوء طوية، وإنما زل والتبس عليه الأمر، فنرد بدعته، ولكن نعرف له مكانته فنروي عنه.

الأمر الثاني: إذا كان هذا الإنسان مع علمه وعبادته قد خذل ووقع في البدعة, فيجب علينا أن نلجأ إلى الله ليل نهار أن يثبت الإيمان في قلوبنا، وأن يحيينا على سنة نبينا عليه الصلاة والسلام، فالقلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن، فمن شاء الله أن يضله أضله، ومن شاء الله أن يهديه هداه: رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [آل عمران:8].