مقدمات في العلوم الشرعية [4]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

فسنحاول إلقاء الظلال على طريقة تدريس التفسير.

إن هذه المادة من أشرف العلوم الشرعية وأهمها وأوسعها لتناولها لمختلف مجالات العلم، فيدخل فيها العقائد والعبادات والمعاملات وعلوم المقاصد وعلوم الوسائل، وتدخل فيها اللغات، وتدخل فيها بالعموم علوم الرواية وعلوم الدراية، وعلوم ما يتعلق باختلاف القراءات وما ورد من الآثار في التفسير وأسباب النزول، وعلوم الدراية على أوجه الاستنباط من كتاب الله سبحانه وتعالى وما يتضمنه من الغرائب والعجائب التي لا حصر لها ولا نهاية، فهو مائدة الله في الأرض لا يشبع منه العلماء ولا تنتهي عجائبه كما قال ابن عباس رضي الله عنهما.

طريقة الدرس العلمي

والذي يريد أن يعد درساً في التفسير له حينئذٍ حالتان:

الحالة الأولى: أن يريد درساً علمياً، معناه: يطبعه طابع النقل، وهذا لابد أن يرجع إلى كثير من المراجع في التفسير، ويفضل حينئذٍ التنويع في مشارب المراجع التي يرجع إليها؛ لأن للتفسير مدارس متنوعة من أشهرها:

مدرسة الأثر

المدرسة الأولى: مدرسة الأثر وهي: المدرسة التي تعتني بما ورد عن السلف في تفسير آيات كتاب الله، فيجمع ذلك سواءً كان أحاديث مرفوعة أو آثاراً موقوفاً على الصحابة أو على التابعين أو من دونهم فيجمع ذلك سواءً تعلق باستنباط حكم أو بتفسير كلمة أو ذكر مجلس أو نحو ذلك.

ومن أشهر الكتب المؤلفة في هذه المدرسة كتاب أبي جعفر محمد بن جرير الطبري وهو سيد هذه المدرسة ومقدمها، وكتابه من الكتب النافعة في شتى أوجه التفسير فإذا ذكر آية من كتاب الله أو مقطعاً من مقاطعه يقول: القول في تأويل قول الله تعالى كذا، ثم يبدأ بما جاء في المقطع الذي أورده من اختلاف القراءات وما يترتب على ذلك من اختلاف في الفهم، ثم يبدأ بتفسير المفردات وشواهده اللغوية وأقوال أهل اللغة فيها، ثم بعد ذلك يختم بما يستنبط منها ويعتني بالعقائد والفقه ويذكر أقوال أهل العلم وأدلتهم ويناقش ويختار هو رأياً في كل مسألة.

إلا أن ابن جرير رحمه الله تعالى لا يمكن الاعتماد عليه في كل ذلك لأقدميته، والقرآن ليس منزلاً لعصر واحد من العصور ولا يمكن أن يقصر فهمه على طبقة من الطبقات أو وقت من الأوقات بل هو منزل لهذه الأمة بكاملها ولابد أن يدخر فيه لكل عصر ما لا يعطاه العصر الآخر؛ ولهذا فلا يستغنى عن تفسير في كل عصر من العصور، ما من عصر من العصور تعيشها هذه الأمة إلا احتاجت فيه إلى أن يكتب فيه تفسير مختص بذلك الوقت ملبٍ لاحتياجات الناس ومتتبع لما تجدد من مقاصد وأمور في العصر الذي هم فيه.

وعموماً فتفسير ابن جرير كتب في وقت لم تكن القراءات فيه مشتهرة؛ ولهذا ربما حكم على قراءة بالشذوذ وهي متواترة وهذا من الملحوظات الواردة على ابن جرير رحمه الله فلم تكن القراءات في زمانه قد دونت وانتشرت؛ فلذلك يحكم على بعضها بالشذوذ مع تواترها.

وأيضاً فهو مجتهد مطلق لا يتبع قواعد مذهب من المذاهب المشهورة؛ ولهذا ربما أتى بقول شاذ يخالف فيه جمهور أهل السنة، كقوله في تفسير قول الله تعالى: وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة:6]، حين أتى بالقراءتين قراءة: (وأرجلكم) وقراءة: (وأرجكم) كان الصواب: أن القراءتين كالآيتين فأنا أقول بالخيار إن شئت فاغسلهما وإن شئت فامسحهما، فخير في الاثنين بين الغسل والمسح فهذا قول شاذ مخالف لما عليه أهل السنة؛ فلهذا لا يمكن الاعتماد عليه أحياناً.

ومن الكتب كذلك التي تعتني بالآثار وهي داخلة في كتب هذه المدرسة تفسير عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي وهو معاصر لـابن جرير الطبري فقد توفي ابن جرير سنة ثلاثمائة وعشر وتوفي عبد الرحمن سنة ثلاثمائة وسبع وعشرين، ومثل ذلك تفسير الإمام أبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي وهو من هذه الطبقة وفي هذا العصر وقد توفي سنة ثلاثمائة وثلاث، وكذلك تفاسير أهل الحديث المروية في كتبهم وكتاب التفسير في كتب الحديث كلها في هذه الطبقة.

ومن الذين يعتنون بالآثار من بعد هذه الطبقة الإمام ابن كثير فقد جمع كثيراً من الآثار في كتابه وينقلها عن الكتب المعتمدة ويذكر في بعض الأحيان أسانيد تلك الكتب ويحكم في بعضها عن الآثار تصحيحاً وتضعيفاً لكنه ربما نقل بعض الإسرائيليات المشوشة مثل أن الشجرة كانت تأكل منها الملائكة ونحو هذا، فلا يخلو تفسيره من بعض هذه من الهفوات القليلة ومع ذلك فقد وضع عليه القبول وتداوله الناس في الروايات.

وكذلك تفسير الإمام البغوي رحمه الله فهو أيضاً من هذه المدرسة التي تعتني بالآثار.

وقد جاء الجلال السيوطي رحمه الله فجمع انتاج هذه المدرسة بكامله في كتابه الذي سماه الدر المنثور في التفسير بالمأثور، فجمع ما يرويه هؤلاء وسلك في ذلك طريقة المحدثين فإن اختلفت أسانيد هؤلاء وألفاظهم لم يبال بذلك بل يجمع النسبة إليهم فيقول: أخرج ابن منده وابن جرير والبغوي وفلان وفلان كذا ويأتي بلفظ أحدهم فيختار أتم الألفاظ وأكملها كما يفعل البيهقي وغيره من أئمة أهل الحديث؛ ولهذا قال العراقي رحمه الله في الألفية:

والأصل يعني البيهقي ومن عزا وليت إذ زاد الحميدي ميزا

فإنما يقصدون بذلك إخراج الأصل أنهم أخرجوا أصل الحديث لا أخرجوا هذا اللفظ بذاته.

ومع هذا فلا يخلو الكتاب من كثير من الأحاديث والآثار الواهية والضعيفة بل وكثير من الموضوعات؛ لأن صاحبه لم يشترط فيه الصحة وإنما اشترط فيه الجمع وقد وفى بجمعه فقد جمع فأوعى وأتى على عدد كبير من تفاسير السلف المعتنين بالآثار فجمع ما فيها في هذا الكتاب.

وجاء بعده الإمام الشوكاني رحمه الله فلخص كلام السيوطي في فتح القدير وزاد عليه بعض مختاره من تفسير القرطبي؛ ولذلك سمى كتابه فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير.

مدرسة الرأي

المدرسة الثانية: مدرسة الرأي، والمقصود بالرأي: أن لا يعتمد المفسر في تفسير آيات كتاب الله على مجرد النقل عن من سبقه بل يُعمل ذهنه في الاستنباط من النص وذكر معانيه اللغوية وما يمكن أن يستنبط من الأحكام من جمع هذا النص بغيره من النصوص، فهذه المدرسة هي التي انتشرت وكثر المؤلفون فيها.

ومن مشاهير الكتب المؤلفة فيها كتاب ابن عطية المسمى بالمحرر الوجيز، وتفسير القرطبي أبي عبد الله المسمى بالجامع لأحكام القرآن، وقد تميز القرطبي بعنايته بنقل المذاهب الفقهية وذكر أدلتها والمقارنة بينها، والعناية بالأحاديث والشواهد اللغوية بتخريجها وذكر من هي له؛ ولهذا كان ديوانا ًمن دواوين العلم المهمة ومرجعاً من مراجع الإفتاء في كل العصور التي جاءت بعده.

ومن كتب تفسير الرأي المهمة تفسير ابن الجوزي الذي سماه زاد المسير، وهو ينقل فيه بعض الآثار القليلة ولكن كثيراً مما يعتمد عليه في التفسير معلوماته هو ورأيه ولذلك هو مصنف في مدرسة الرأي، وهو ملخص جيد لخصه لولده يريد أن يغريه به عن شراء عدد كبير من كتب التفسير لكنه مع ذلك قد لا يشفي عليلاً في كثير من المسائل التي يتعرض لها لاختصاره.

وكذلك تفسير الإمام الماوردي المسمى بالنكت والعيون، وهو مختصر ملخص إلا أن طريقة الماوردي رحمه الله هي طريقة منهجية فهو متقن لتنظيم المعلومات وترتيبها؛ ولذلك فمن أراد بحثاً في المسائل الفقهية فلينظر إلى تقسيمات الماوردي فإنها ستعينه على تصور المسألة وتتبع شعبها وما يتعلق بها، ومع هذا فهو مختصر كذلك لا يطيل النفس في بعض المواطن التي يحتاج فيها إلى توسع.

وكذلك كتاب البحر المحيط لـأبي حيان الأندلسي، وهو كتاب حافل بما يتعلق بلغة القرآن سواءً كان ذلك متعلقاً بالنحو أو بالصرف أو بالبلاغة أو بغريب اللغة فعنايته بلغة القرآن بارزة جداً وكذلك بتوجيه القراءات وإعرابها، ولكنه لا يتوسع كثيراً في الأحكام وأسباب النزول ونحو ذلك.

وكذلك من الكتب المهمة في هذا الباب تفسير الإمام الفخر الرازي المسمى بالتفسير الكبير أو بمفاتيح الغيب، وقد أطال فيه النفس كثيراً حتى إنه جعل تفسير الفاتحة في جزء كامل، وهذا التفسير قد ملأه بالعلوم العقلية للمنطق والفلسفة والجدل وغير ذلك، فهو مدرسة مخصوصة بما يتعلق بفهم القرآن واستيعابه على الطريقة العقلية، ولكن مشكلته أنه في كثير من الأحيان يورد كثيراً من المصطلحات غير المشهورة فلا يعرفها إلا المتخصصون في تلك العلوم العقلية، وكذلك يلام بأنه يورد في بعض الأحيان شبهاً فيرد عليها رداً أضعف منها، يقرر الشبهة ويوضحها ثم يرد عليها رداً أضعف من الشبهة، ولذلك يحتاج القارئ فيه إلى مهارة بعلم الكلام وعلم المنطق وعلم الفلسفة وإلى إتقان رد الشبهات كذلك.

والغريب أن المؤلف رحمه الله استمر على هذه الطريقة حتى بلغ أواخر سورة الأنبياء فتوفي رحمه الله عند تفسيره لقول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لا يَحْزُنُهُمْ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمْ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ [الأنبياء:101-103]، فهذا المقطع هو آخر مقطع فسره من القرآن وتوفي، فانتدب أحد تلامذته لإكمال الكتاب فأكمله على طريقة المؤلف ولا يستطيع الماهر أن يفصل بين كلام الفخر الرازي وكلام تلميذه لمهارته بأسلوب الشيخ وإتقانه له.

وكذلك من الكتب المهمة في هذه المدرسة كتاب الزمخشري الذي سماه بالكشاف، وقد سلك فيه أسلوباً رصيناً قوياً في تفهيم معاني القرآن ودلالاته، وأغرق في علم البلاغة وأوجه الإعجاز اللفظي، ولكنه مع ذلك يلمح فيه بإشارات خفية إلى مذهب المعتزلة فيستر فيه مذهب المعتزلة في الأماكن التي تخفى وتدق، وقد اعتمد عليه عدد من المفسرين الذين جاءوا بعده، فمن الذين اعتمدوا اعتماداً كلياً البيضاوي، وأبو السعود، فكلاهما اعتمدا عليه وأخذوا طريقته، ومن طريقته أنه يختم تفسير كل سورة بما ورد في فضلها، وقد أتى بحديث طويل وضعه أحد الوضاعين في فضائل السور، وتبعه على ذلك البيضاوي وأبو السعود، وهذا خطأ فادح، لكن عذر هؤلاء أنهم لم يكونوا يعلمون أن هذا الحديث موضوع، وإنما رأوا عبارته فاستحسنوها واستهوتهم؛ فلذلك أوردوه في تفاسيرهم، وقد أثنى المؤلف على هذا الكتاب ثناءً عطراً، فقد قال فيه: (الكتب كالداء والكشاف كالشافي).

إن التصانيف في الدنيا ذوو عدد وليس فيها لعمري مثل كشافي

وقد أثنى عليه أمير مكة الذي ساكنه فيها، ولهذا قال مجد الدين الفيروزآبادي في القاموس: (زمخشر كسفرجل بلدة بنواحي خوارزم، اجتاز بها أعرابي فسأل عن اسمها واسم كبيرها، فقيل زمخشر والرداد، فقال: لا خير في شر ورد) وتركها، منها جار الله محمود بن عمر وفيه يقول أمير مكة علي بن عيسى بن وهاس الحسني:

جميع قرى الدنيا سوى القرية التي تبوأها داراً فداء زمخشرا

وأحر بأن تزهى زمخشر بامرئ إذا عد في أسد الشرى زمخ الشرا

وكذلك الذين استفادوا منه واتبعوه كـالبيضاوي الذي ألف كتابه فأتقن صنعته وترتيب المعلومات فيه على جودة سبك ودقة في العبارة، وذكر لكثير من النكت البديعة، ومن غرائب ما حصل له فيه أنه حين ألفه وهو بأرض الروم التي تسمى اليوم بتركيا ذهب به يريد إهدائه إلى أحد الملوك، فنزل على رجل من الزهاد من الصوفية فبات عنده فسأله: أين تقصد أيها الشيخ؟ فقال: ألفت كتاباً نادراً في التفسير أريد أن أهديه لهذا الملك لعله يعينني على أمور دنياي، فسكت الرجل، ثم بعد وقت سأله فقال: ماذا قلت في تفسير قول الله تعالى: وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]؟ ففهم البيضاوي إشارة الصوفي، فقطع رحلته ورجع إلى بيته فما وصل البيت حتى أتته معونة الملك، وكانت أضعاف ما كان يتوقعه، لكنه مع هذا يتأول كثيراً في آيات الصفات على مذهبه.

وأيضا فإن اتباعه للزمخشري في التفسير أوقعه كما ذكرنا في جلب بعض الأحاديث الموضوعة، ومثل ذلك أبو السعود، إلا أنه قد أتقن جانب إعراب القرآن وبرز فيه، فإعراب مفردات القرآن وجمله من أحسن ما يميز تفسير أبي السعود على اختصاره وبراعته في الإبداع، ومثله أيضا تفسير الإمام النسفي، فهو تفسير ملخص مختصر، حاو لكثير من أوجه الاستنباط في القرآن، ومن قرأه فتحت أمامه أبواب فهم الآية حين يرى ألفاظها وما يتعلق بها مربوطاً بآيات أخرى وبأوجه أخرى من أوجه الاستنباط، وقد وقع في الإشكال السابق في تأويل بعض آيات الصفات ونحو ذلك.

ومن الكتب المختصرة النافعة في هذا الباب تفسير ابن جزي المسمى بـ(التسهيل) وقد خلا من كثير من العيوب السابقة، فخلا من الإسرائيليات، وكذلك يندر فيه تأويل الصفات، وخلا كذلك من الأحاديث الموضوعة، وأتى بعبارة مختصرة دقيقة، ومؤلفه مشهور بدقة العبارة والاختصار، فهو مؤلف القوانين الفقهية في المذاهب الأربعة، ومؤلف التقريب في أصول الفقه، وكتبه مختصرة، جيدة السبك، وقد توفي شهيداً رحمه الله نسأل الله أن يتقبله في قتال الروم بالأندلس؛ ولذلك فكتابه من الكتب التي ينبغي أن تقرر في البدايات على صغار الطلبة، وللدروس المسجدية ونحو ذلك، وكتابه سهل يسهل تدبره والتذاكر فيه، ومعلوماته منضبطة، فإذا أراد الإنسان أن يتقيد بشرح كتاب واحد في التفسير كما سنذكره في طرائق التفسير فبالإمكان أن يخصص هذا الكتاب لذلك.

وكذلك من الكتب المختصرة في هذا الباب تفسير الجلالين، الجلال المحلي والجلال السيوطي، وهذا الكتاب بدأه الجلال المحلي رحمه الله فافتتحه بتفسير سورة الكهف حتى أكمل القرآن، وفسر سورة الفاتحة، ووافاه الأجل المحتوم عندما أكمل تفسير الفاتحة، وقد أتقن سبكه فيدرج الكلمات في أثناء مواقعها ليتبين لك بها الإعراب وأوجه القراءات دون أن يفصلها عن القرآن، ولهذا كان بعض علمائنا يحفظه مع القرآن حفظا كما هو، يحفظ كلماته مع القرآن كما هي، له كلمات قليلة مختصرة، وأسلوبه رصين جداً، ومن العجيب دقته في التعبير ونباهة صاحبه وذكاؤه في تقدير المضمرات وتقدير الأفعال التي ينصب بها ونحو ذلك، فيقدرها بدقة بالغة، وقد أكمله الجلال السيوطي رحمه الله فافتتح تفسيره من بداية سورة البقرة حتى وصل سورة الكهف، وقد وضع القبول على هذا الكتاب فانتشر في مشارق الأرض ومغاربها، وكثرت الحواشي عليه، وأهمها على الإطلاق حاشية الشيخ سليمان الجمل الشافعي، المسماة بالفتوحات الإلهية.

وهذا الكتاب تميز بجمعه لما يتعلق بإعراب القرآن، فقد أتقنه إتقانا عجيباً، وقد رجع للذين سبقوه في الإعراب فحصر أقوالهم ونقحها، فجمع ما ذكره أبو حيان في تفسيره وما ذكره أبو السعود في تفسيره، وما ذكره كذلك السمين الحلبي في إعرابه للقرآن، وما ذكره العكبري في إملاء ما من به الرحمن من إعراب القرآن، فجمع كل ما في هذه المراجع، فكان مغنياً عن كتب إعراب القرآن.

كذلك من الكتب النافعة في هذا الباب كتب المتأخرين ومن أهمها: كتاب روح المعاني للألوسي رحمه الله فقد سلك فيه طريقة بديعة في التفسير، فيذكر الآثار الواردة في التفسير، ثم يذكر أوجه الاستنباط على طريقة الرأي، ثم يورد بعد ذلك ما يسميه بالتفسير الإشاري أي ما يمكن أن يفهم من الآية أو ترمز إليه بوجه من الوجوه، حتى لو كان ذلك بأعداد الحروف أو نحو هذا، وكتابه سلس العبارة، سهل الفهم، إلا أن التفسير الإشاري فيه مزالق حين يجزم الإنسان بأن هذا من تفسير القرآن أو من معنى الآية أو نحو ذلك، ومثله كتاب شيخه روح البيان فهو كذلك جامع لكثير من هذه الأوجه.

وكذلك من الكتب النافعة في الرأي من كتب المتأخرين كتاب جمال الدين القاسمي، وقد حاول المؤلف كذلك التعبير فيه بلغة عصرية وأن يكون دقيقاً في تنظيم معلوماته وترتيبها، وهو مشهور بذلك فكتبه مشهورة بدقة الاختيار والنقل، فكتابه قواعد التحديث هو أهم كتب المتأخرين في مصطلح الحديث بلا منازع، وإتقانه لتلخيص التفسير جيد إلا أنه قد وقع في بعض ما وقع فيه من سبقه من الأخطاء في تأويل بعض الآيات ونحو ذلك.

وكذلك من الكتب النافعة من كتب المتأخرين كتاب الإمام محمد الطاهر بن عاشور، فهو كتاب حافل، وبالأخص فيما يتعلق بإعجاز القرآن سواءً كان ذلك من ناحية التشريع، أو من ناحية علم الاجتماع، أو من ناحية البلاغة والتركيب، والمؤلف ضليع في هذه الفنون كلها فقد كان مفتي تونس في زمانه يلقب بشيخ الإسلام، وقد مهر في الحديث والتفسير وعلوم اللغة وعلم الاجتماع والفلسفة، واطلع على ثقافات الأمم الأخرى؛ فلذلك كان كتابه من أهم هذه الكتب على الإطلاق، وكتابه اسمه (التحرير والتنوير).

وكذلك من كتب المتأخرين المهمة في هذا الباب تفسير السعدي رحمه الله فقد لخص فيه ما ذكره القرطبي، بالإضافة إلى كثير من فوائد ابن القيم في كتبه الكثيرة، وأتى بذلك على طريقة القرطبي، فـالقرطبي رحمه الله يقول: قول الله تعالى، ويأتي بآية ويقول: فيه كذا وكذا مسألة، مثلاً يقول: فيه مائة وسبع مسائل، أو سبعون مسألة، أو خمس وثلاثون مسألة، ويأتي بتلك المسائل مرتبة، وهذه الطريقة هي في الأصل لـابن العربي وابن الفرس في كتابيهما (أحكام القرآن) وسلكها القرطبي ثم تبعه عليها السعدي، وعدد من المتأثرين بـالقرطبي رحمه الله، وكتابه ملخص جيد كذلك إلا أن أسلوبه ليس أسلوباً معاصراً، بل الذي يقرأ فيه يستشعر أنه يقرأ في لغة عصور قد مضت من السالفين، لكنه مع هذا ملخص جيد خال من كثير من العيوب السابقة.

وكذلك من الكتب أضواء البيان للشيخ محمد الأمين رحمه الله ولم يقصد به أن يكون تفسيراً متكاملاً للقرآن، وإنما قصد به أن يلم بالآيات التي يفسر بعضها بعضاً، فأصل الكتاب كله تفسير لآية واحدة من كتاب الله وهي قول الله تعالى: اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ [الزمر:23]؛ ففكرة الكتاب كلها تفسير لهذه الآية وحدها، أراد أن يفسر هذه الآية فجنح إلى أن يذكر كل موضع من القرآن يفسر موضعاً آخر أو له به تعلق، ولذلك لم يستوعب كل آيات القرآن، وما كان منها واضح الدلالة تجاوزه، وقد استطرد الشيخ في مواطن من الكتاب، ففي سورة الأعراف استطرد في علم أصول الفقه وإثبات القياس وما يتعلق بذلك، وفي تفسير سورة الحج استطرد في أحكام الحج وما يتعلق به، والترجيح بين المذاهب، حتى كان تفسير آيات الحج من كتابه منسكاً واسعاً، بل هو من أكبر المناسك التي عرفت في زماننا هذا، وأوسعها على الإطلاق، والشيخ كذلك متأثر بأسلوب القرطبي، وإن كان الشيخ يتعرض لكثير من المسائل العصرية، كالقوانين الوضعية والحكم بغير ما أنزل الله، وكالعلاقات مع الدول الكافرة، العلاقات الدبلوماسية، وكالقوانين التي توقع عليها الدول الإسلامية من باب الإكراه، كقوانين الأمم المتحدة وغير ذلك، وتعرض كذلك لكثير مما يعرض للمسلمين في زماننا هذا من الأوضاع الحرجة كتقاسم الدول، فالأصل أن يكون خليفة المسلمين واحداً، وألا يكونوا دولاً، الأصل أن يكونوا دولة واحدة، ويترتب على ذلك أحكام، تعرض الشيخ لبعض هذه المسائل وأجاد فيها، وقد بحث في كثير من الأمور بحثاً علمياً دقيقاً، ومع هذا فإن كثيراً من الناس قد لا يستفيدون من بحثه، لأن أسلوب الشيخ أسلوب علمي، والذي يريد أن يفهمه لابد أن يكون متنوع المعلومات، فالشيخ يبحث في دقائق التفسير، وفي علم أصول الفقه، وفي علم الفقه، وفي علم الجدل، وفي غير ذلك من أنواع العلوم.

كذلك من الكتب النافعة في هذا الباب كتاب (في ظلال القرآن) لـسيد قطب رحمه الله وهذا الكتاب كذلك لم يرد مؤلفه أن يجعله تفسيراً كاملاً للقرآن وإنما أراد أن يبين الوجهة الفكرية والثقافة الإسلامية البارزة من خلال القرآن لينشأ عليها الجيل وليتربى عليها، ولهذا فقد أبدع في المقدمات التي يضعها للسور، فكل سورة يضع لها مقدمة يذكر فيها الموضوع الذي ركزت عليه السورة، والمواضيع الجانبية التي تناولتها والعلاقة بين هذه المواضيع، فيجعل السورة وحدة متكاملة بين يديك، ولهذا فإن كثيراً من أهل العلم قال: إذا أردت درساً في التفسير فابدأ من مقدمة الظلال، المقدمة التي يضعها في السورة، ثم راجع ما شئت من كتب التفسير بعد ذلك في تفسير الآيات، ومع هذا فإن المؤلف رحمه الله قد ألف أكثره في السجن، ولما خرج راجعه إلى سورة الحديد، وقتل عند بلوغه في المراجعة قول الله تعالى: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [الحديد:20]، سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ [الحديد:21].

وكذلك من الكتب النافعة في هذا الباب تفسير المنار للشيخ محمد رشيد رضا رحمة الله عليه، وهذا الكتاب يبدو فيه تنوع المعارف والاجتهادات لدى الرجل فقد بدأه في البداية على طريقته الأولى التي كان عليها أيام كان مع شيخه محمد عبده وبذلك يظهر في الأجزاء الأولى من الكتاب عقلانية الرجل وفلسفته، بل إنه كثيراً ما يُأول كثيراً من الأمور الغيبية ويحملها على أمور معنوية فقط، ثم رجع عن هذا المذهب بالكلية، واعتنى بدراسة الحديث وتخريجه والحكم عليه، وكان صاحب مدرسة بارزة في هذا الباب، تأثر بها عدد كبير من الناس كالشيخ أحمد شاكر رحمة الله عليه وكالإمام حسن البنا رحمة الله عليه فقد تأثر بـمحمد رشيد رضا في هذه المدرسة، مدرسة الرجوع إلى الحديث، وهذه المدرسة هي التي اشتهرت فيما بعد بمدرسة التخريج، وأثرت في الشام وفي مصر ثم انتشرت في البلدان الأخرى، والشيخ هو منشئ هذه المدرسة رحمة الله عليه، وقد بلغ في التفسير قول الله تعالى في سورة يوسف: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ المُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [يوسف:101]، فكتب تفسير هذه الآية بعد صلاة العصر، وتوقف ومات في حادث سير في صبيحة اليوم الذي يليه، رحمة الله عليه، ومع هذا فهذا القدر الذي كتبه في التفسير فيه كثير من الأبحاث المعاصرة، والرد على شبهات المستشرقين والعلمانيين، والمدارس المختلفة، وتعرض لكثير من النوازل والمستجدات التي حصلت في زمانه، فهو مرجع في هذا الباب، وعنايته بما يتجدد من الأمور واضحة، وأسلوبه كذلك أسلوب عصري سلس، فإذا راجع الإنسان كتب هذه المدرسة تبين بجلاء أن الفكرة التي تدور على ألسنة كثير من الناس بذم مدرسة الرأي، وتمجيد مدرسة الأثر في التفسير فكرة غير صحيحة، فليس المقصود بمدرسة الأثر أنها المدرسة التي لا تأتي بشيء من الرأي وإنما تأتي فقط بالأحاديث، بل أكثر ما ينقله الذين ذكرناهم من مدرسة الأثر كله آراء عن بعض الصحابة أو بعض التابعين، والمرفوع من ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم شيء يسير جداً لا يمثل إلا واحداً في المائة أو أقل، وما عدا ذلك كله آراء لكنها آراء مروية عن بعض الصحابة أو التابعين أو من دونهم، فإذاً ما هي إلا رأي، لكنه رأي لأولئك السلف السابقين، وكذلك مدرسة الرأي ليست كما يتصورها كثير من الناس أنها من الرأي المذموم، والقول على الله بغير علم، أو القول في كتابه بما يخالف ما قال به رسوله صلى الله عليه وسلم كما يتوهمه كثير من الناس، بل المقصود أن المؤلف فيها لا ينطلق من قناعات من سبقه، بل ينطلق من قناعاته هو، فيؤلف على أساس فهمه وما توصل إليه وعلى أساس اختياره في التفسير.

مدرسة التخصص

المدرسة الثالثة: المدرسة التخصصية في تفسير كتاب الله، وهي التي تعتني بتفسير آيات مخصوصة كآيات الأحكام مثلاً أو آيات السلوك أو نحو ذلك، وهذه المدرسة من مشاهير المؤلفين فيها البيهقي رحمه الله فقد جمع أحكام القرآن للشافعي، وهو كتاب مطبوع، جمع فيه الآيات التي نزع بها الشافعي واستدل بها وبين أوجه استدلاله بها، ثم بعده الإمام الجصاص الحنفي، فقد ألف كتابه (أحكام القرآن) وأورد فيه كثيراً من المسائل الفقهية التي مرجعها الاستنباط من آيات الأحكام من كتاب الله، وكثيراً ما ينتصر للمذهب الحنفي عندما يبين مأخذه من القرآن، ومع ذلك فهو متحرر إلى حد كبير، بل إنه يخالف الحنفية في بعض المسائل مخالفة صريحة، كمسألة الخروج على الحكام ونحوها من المسائل التي تعرض لها؛ فإنه كان يرى أن لا إجماع في المسألة وأن ركون المتأخرين إلى عدم الخروج على حكام الجور إنما هو من باب الذلة والمسكنة والاستضعاف وأن الأدلة تدل على خلافه، وأطال النفس في هذا الباب وذكر أن هدي الصحابة خير من هدي الفقهاء، وقد خرج الصحابة والتابعون وذكر كثيراً من السلف الذين خرجوا في الحكم بغير ما أنزل الله.

وكذلك ابن الفرس المالكي الأندلسي، فقد ألف أحكام القرآن على هذه الطريقة، ولكن كتابه لم يطبع حسب علمي إلى الآن وهو موجود مخطوط، وكذلك ابن العربي أبو بكر القاضي، فقد ألف كتابه أحكام القرآن، وحاول فيه حصر الاستنباط، من كتاب الله دون التحيز لمذهب محدد، لكنه كان سليط اللسان، شديداً على خصومه، فكثيراً ما يتهكم بالأئمة، فيقول مثلاً قال: الشافعي وهو عند أصحابه سحبان وائل، ويقول: قال مالك: ولم يبلغنا فيها شيء، قلت: فماذا؟ فيتهكم بالأئمة، وذلك لسلاطة لسانه وقوة أسلوبه، وكثيراً ما يأتي بمسألة ينقل فيها كلام من سبقه من العلماء ثم يقول: بالله الذي لا إله إلا هو لقد زلت أقدام العلماء في هذه المسألة، ومع ذلك فالرجل مؤتىً له في تلخيص العلم، عندما بلغ تفسير قول الله تعالى: وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة:275] قال: البيوع التي نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية وخمسون بيعاً وحصرها بالترتيب، وهذه دقة نادرة، حيث يحصر كل الأحاديث الواردة في الباب ويلخصها لك في نصف صفحة، ومع ذلك فمن المؤسف أن الكتاب لم يطبع حتى الآن طبعة صحيحة، فالطبعات الموجودة المنتشرة لا تمثل شيئاً من الكتاب، بل كثيراً ما يقول: قول الله تعالى كذا فيه خمس مسائل أصولية، وثلاث فقهية، وأربع مسائل عقدية، فإذا رجعت أنت إلى المسائل وجدت أربعا فقهية، وثلاثاً أصولية، واثنتين عقديتين وهكذا، فلا تجد المسائل منضبطة مع العد الذي ذكره، وهذا يبين لك أنه حصل فيه سقط كثير، وحذف منه كثير من المباحث المهمة، وكان ابن العربي رحمه الله في المجال السياسي توفيقياً، يسعى للتوفيق بين طوائف الأمة المختلفة، ولهذا كان يرد التهم التي يوجهها المؤرخون في أيام دولة بني العباس إلى بني أمية، وكان يرى أن كثيراً منها لا يصح من ناحية الإسناد وهو كذلك منكر من ناحية العقل، ولهذا ألف كتابه (العواصم من القواصم) بدأ فيه أولا بالصحابة رضوان الله عليهم وكل التهم السياسية الموجهة إليهم، وكل ما يثار بينهم، إما أن ينفيه ويقول لا يصح هذا ويدرسه من ناحية الإسناد ويحكم عليه بالضعف أو الوضع، وإما أن يثبته ثم يجد له مخرجاً شرعياً، ووجهاً واضحاً من أوجه الاجتهاد، ثم بعد ذلك عدل إلى خلفاء بني أمية وخلفاء بني العباس، فرأى أن التاريخ الإسلامي مشوه وأن كل دولة يكتب مؤرخوها على حسب هوى ملوكها، وعموماً فكتابه هذا من الكتب التي لا يستغنى عنها في مجال تفسير آيات الأحكام.

ومن أهم الكتب المختصة في آيات الأحكام كتاب السيوطي (الإكليل في استنباطات التنزيل) وهو كتاب صغير الحجم كثير العلم غزير الفائدة، أوراقه قليلة، حيث جمع فيه ما يستنبط من هذه الآيات التي هي آيات الأحكام خمسمائة آية أورد ما يستنبط منها دون أن يرجح في ذلك مذهباً من المذاهب بأسلوب مختصر دقيق؛ ولهذا فإن بعض أهل العلم يمتحنون طلابهم في الاستنباط من هذا الكتاب، عندما يذكر مثلاً الكثير من المسائل المستنبطة من الآية الواحدة يقال: بين وجه الاستنباط في هذه المسألة؟ وهكذا على طريقة الامتحان.

ومن الكتب (دقائق التفسير) المنسوبة لشيخ الإسلام ابن تيمية، فهي دقائق في بعض آيات القرآن، ولم تكن تفسيراً كاملاً، ومثل ذلك الكتاب المنسوب إليه المطبوع تحت عنوان التفسير الكبير لـابن تيمية، فليس هو تفسيراً مقصوداً لكل القرآن وإنما هو دقائق استنباط الشيخ من الآيات، ومثل ذلك الكتاب المطبوع تحت عنوان (التفسير القيم لـابن القيم) إنما هو من باب كلامه في آيات مختلفة بأوجه الاستنباط العجيبة، فـابن القيم رحمه الله كثيراً ما يستنبط من آية واحدة كثيراً من الفوائد، وظهر ذلك في كثير من كتبه ولهذا فكتابه (مدارج السالكين بين مقامي إياك نعبد وإياك نستعين) مع أنه تلخيص لكتاب الهروي، لكنه جعله تفسيراً فقط لمنازل إياك نعبد وإياك نستعين.

فهذه المدارس الثلاث إذا كان الإنسان يريد أن يكون مفسراً لا بد أن يختار من كتبها ما يناسبه من المراجع فيرجع إليه في الموضوع الذي سيحضر فيه درساً وإذا استطاع الرجوع إلى هذه الكتب كلها فبها ونعمت، والكتب التي سميناها هي مختارات فقط ولا تمثل كتب التفسير كلها ولا أغلبها بل هي مختارات، وقد كان بعض أهل العلم إذا أراد أن يفسر رجع إلى ثلاثين مفسراً، فيجمع الأقوال في ذهنه، ومن رجع إليها استطاع أن يثبت المعلومات لديه، وأن يكون ما سيقدمه في الدرس بعض ما لديه فقط كما بينا في القواعد السابقة.

وهذا النوع إذا أراد فيه الإنسان درسا متسلسلاً فإما أن يلتزم كتابا معيناً يقرأ عليه ويشرحه بما قرأ في الكتب الأخرى، وينبغي له حينئذ أن يعلم أن القرآن لم تنته معانيه عند الحد الذي بلغه أهل التفسير به، بل لابد أن يبحث هو عن أوجه الاستنباط الجديدة، وعما يتعلق بواقعه، وأن يجتهد في ذلك، ولعلنا نذكر أمثلة إن شاء الله تعالى حيث نختار بعض الآيات مما كان هو مقرراً ونتناولها من أوجه متعددة، نذكر منها ما يتصل بواقعنا وما نعيشه.

أما إذا كان الإنسان لا يتقيد بكتاب واحد بل يفسر من تلقاء نفسه فهذا مستوىً عال راق يحتاج فيه الإنسان إلى صفاء ذهن وجودة حفظ، وإتقان لتسلسل المعلومات، ولذلك لا ينبغي أن يقدم عليه إلا من هو أهل لذلك، كما قال أبو العلاء المعري:

أرى العنقاء تكبر أن تصادا فعاند من تطيق له عنادا

فالذي ينطلق في التفسير من خلفيته العلمية دون الارتباط بكتاب معين لابد أن يكون أعد لذلك العدة، هذا هو الوجه الأول فيما يتعلق بتحضير درس في التفسير.

طريقة الدرس الموضوعي

الحالة الثانية: ما يتعلق باختيار موضوعات من كتاب الله تعالى والاستنباط منها، وهذا الوجه ينبغي فيه جمع النظائر والعناية بها، ولا يمكن أن يتم ذلك إلا لمن درس علوم القرآن، فالدارس لعلوم القرآن يعرف النظائر في القرآن وأوجه التقابل فيها والتقارب، فإن أهل علوم القرآن لم يتركوا وجهاً مما يتعلق بالقرآن إلا وألفوا فيه وخدموه، كل شيء في القرآن معدود، حروف القرآن معدودة، نقاط القرآن معدودة، والمصحف ما فيه من النقاط معدود، مليون وخمسة وعشرون ألفاً وثلاثون نقطة، هي ما في القرآن من النقاط، ومثل ذلك ما فيه من الفواصل، وما فيه مما يتعلق بالمواضيع المحددة مثلاً ما يتعلق بالبعث بعد الموت جاء فيه سبع مائة وسبعة وستون آية في القرآن، في إثبات البعث بعد الموت فقط، وهكذا، فالذي يريد هذا النوع من التفسير عليه أن يرجع إلى كتب علوم القرآن حتى يعرف النظائر والأشباه، وإذ

والذي يريد أن يعد درساً في التفسير له حينئذٍ حالتان:

الحالة الأولى: أن يريد درساً علمياً، معناه: يطبعه طابع النقل، وهذا لابد أن يرجع إلى كثير من المراجع في التفسير، ويفضل حينئذٍ التنويع في مشارب المراجع التي يرجع إليها؛ لأن للتفسير مدارس متنوعة من أشهرها: