مقدمات في العلوم الشرعية [22]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

أما علم التاريخ الإسلامي، فهو علم من العلوم الإسلامية التي كانت في الأصل تابعة لعلم الحديث وعلم التفسير، ثم استقلت بالتأليف وانفردت.

وتعريفه: أنه العلم بحوادث السنين، ووفيات الأعيان، وأخبار الملوك، فيهتم بهذه الأمور الثلاثة أساساً: حوادث السنين، وما يحصل فيها من الأمور المهمة كفتوح البلدان والآيات الكونية المهمة، ومثل ذلك الغزوات حتى أيام العدو في بلاد المسلمين، وكذلك ما يتعلق بوفيات الأعيان، لبيان أعيان كل زمن، وتاريخ أولئك الأعيان، ثم بعد ذلك بأخبار الملوك توليهم وعدلهم، وما يتعلق بذلك.

وبتعريفه يعرف موضوعه، فموضوعه القصص عن الماضين، ويمكن أن يضاف إلى ذلك العبر في المستقبل، فإن الزمان يعود نفسه، ولهذا فإن كثيراً من المؤرخين يضعون في كتبهم هذا الاعتبار، فيشيرون به إلى المستقبل، فـ الذهبي في كتابه سماه كتاب العبر لأخبار من غبر، فالعبر لاعتبارنا نحن بأخبار السابقين، وكذلك ابن خلدون سمى كتابه كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أخبار من غبر، وأخبار الملوك من العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر، فجعله ديواناً للمبتدأ والخبر، المبتدأ لأخبار الماضين، والخبر للمستقبل، وهذا فيه تلميح لتركيب الجملة الاسمية، لمبتدئها وخبرها، وكذلك أنه يعرف بالأشخاص أولاً، ثم يذكر الحكم عليهم بأوصافهم؛ لأن المبتدأ معرفة، والخبر هو الحكم عليه، الخبر حكم على المبتدأ، ولا يمكن الحكم على المجهول.

وكذلك فإنه يلمح أيضاً إلى الخبر الذي هو قصة مع المبتدأ، أي: المنشأ، أي منشأ القصص وأسبابها، فالمبتدأ منشأ القصة، والخبر هو القصة نفسها التي يتحدث بها؛ لأن الخبر هو يقول الصدق والكذب.

ومثل ذلك ما فعل ابن كثير في تاريخه فإنه سماه البداية والنهاية، فالبداية في أخبار الماضين، والنهاية لما سيأتي من مستقبل الدنيا.

أما واضع هذا العلم فلا يعرف أنه بالأخص من علوم الأقدمين، فقد كانت كل أمة تعتني بتاريخها، وتهتم بتدوينه.

علم التاريخ عند غير المسلمين

وقد اعتنى ملوك الفرس قديماً بتدوين تواريخهم، وكذلك ملوك الصين، وقد استدل الله سبحانه وتعالى في كتابه بالتاريخ على اليهود، مما يشعر أيضاً بأن اليهود كانوا يعتنون بالتاريخ، فقال تعالى: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ[آل عمران:67]، إلى أن قال: وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإِنجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ[آل عمران:65]، وهذا استدلال بالتاريخ، فإن اليهود زعموا أن إبراهيم كان يهودياً، فقال: وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإِنجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ[آل عمران:65]، كيف يكون يهودياً، واليهودية منشأها من نزول التوراة، والنصارى زعموا أنه نصراني، فكيف يكون كذلك وما أنزل الإنجيل إلا من بعده، ونشأت النصرانية من نزول الإنجيل.

وكذلك في تفنيد بعض أخبارهم، جاء أيضاً الاستدلال بالتاريخ في القرآن كقول الله تعالى: كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلّاً لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا..[آل عمران:93]، فهذا احتجاج على اليهود بالتاريخ: مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ[آل عمران:93].

من أوائل من ألف في علم التاريخ من المسلمين

وفي المسلمين من أوائل الذين اعتنوا بالتاريخ وسطروه عروة بن الزبير بن العوام رضي الله عنهما، ولكنه لم يكتب في ذلك شيئاً، وإنما كان يجمع القصص ويرويها.

ويقال: اعتنى قبله بهذا الفن عقيل بن أبي طالب، وقد كان نسابة العرب وخبيراً بأيامهم وتواريخهم، وكان يحدث بها في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم في أيام عمر بن الخطاب. وقبل ذلك كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه مهتماً بأنساب العرب وأخبارهم، ولهذا حين جاء حسان إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذنه في هجاء قريش أذن لهم وقال: (كيف تهجوهم وأنا منهم، قال: لأنتزعنك منهم كما تسل الشعرة من العجين، قال: اذهب إلى أبي بكر فاستعن به. ثم قال: اهجهم وروح القدس معك)، فلما جاء شعره إلى قريش، إذا فيه:

وإن كرام الأصل من آل هاشم بنو بنت مخزوم ووالدك العبد

فقالت قريش: هذا شعر، والله ما غاب عنه ابن أبي قحافة، فإن أولاد عبد المطلب اثنا عشر ولداً، وعبد الله بن عبد المطلب وأبو طالب، وبعض إخوته، أما أمهم فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، ولذلك قال:

وإن كرام الأصل من آل هاشم بنو بنت مخزوم ووالدك العبد

وهو لا يهجو أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة.

ومن أوائل الذين ألفوا في هذا العلم: خليفة بن خياط، الذي يلقب بـ شباب، وهو شيخ البخاري، وقد ألف كتابه التاريخ، واعتنى به بثلاثة أمور: الأمر الأول: بحوادث السنين. الأمر الثاني: من توفي في تلك السنة من الأعيان. والأمر الثالث: من قاد الشاتية فيها، ومن قاد الصائفة، ومن أقام الحج للناس. (من قاد الشاتية) أي: الفرقة الغازية التي تخرج في الشتاء، (ومن قاد الصائفة) أي: الطائفة التي تخرج إلى الجهاد في سبيل الله، (ومن أقام الحج للناس) ثلاثة أمور، وكتابه ليس بالكبير.

وألف أيضاً كتاب الطبقات، أي: اختص بطبقات الرواة.

ثم جاء بعده محمد بن سعد كاتب الواقدي، وقد اعتنى ببعض التاريخ في كتابه الطبقات الكبرى، وبالأخص ما يتعلق بسكن الرواة والمدن التي أقاموا فيها، واعتنى بهذا عناية فائقة، فهو المرجع الأكبر فيما يتعلق بسكنى الأنصار، فيذكر الطبقات من سكان المدينة ومن سكان البصرة، ومن سكان الكوفة، ومن سكان مصر، ومن سكان الشام، ويميزهم بذلك، وكذلك اعتنى بفصل الرجال عن النساء، فهو أول من فصل النساء فجعل لهن كتاباً مستقلاً، في آخر كتابه.

ثم جاء الإمام البخاري فاعتنى بتاريخ أهل الحديث بالخصوص، وألف فيه كتابه التاريخ الكبير، وقد سبق ذكره في كتب الرجال، لكن نظراً لأنه قد اعتنى ببعض وفيات الرواة، وإن كان لم يعتنِ بها اعتناء كاملاً، فكثير من الرواة لم يذكر شيئاً يتعلق بتاريخه، ولكن نظراً لاسم الكتاب؛ لأن اسمه التاريخ عد في كتب التاريخ، وهذا الكتاب عندما عرضه البخاري على إسحاق بن راهويه نظر فيه، فتعجب فقال: ما هو إلا السحر، فهو أول كتاب يرتب على حروف المعجم، من حروف الأوائل من أتباع الرواة والثواني والثوالث، فجعله إسحاق من السحر؛ لأن الله فتح للبخاري فيه فتحاً عجيباً، في الترتيب، ومنه انطلقت المعاجم كلها.

ومن مشاهير الذين ألفوا في هذا العلم محمد بن جرير الطبري أبو جعفر المتوفى سنة ثلاثمائة وعشر، وقد سبق أنه من أوائل المؤلفين أيضاً في التفسير، وتاريخه بدأه ببعض قصص الأنبياء، والسالفين، وأخبار الملوك والأمم السابقة، ولهذا سمى كتابه: أخبار الأمم والملوك، ولكن ما يتعلق بأخبار الصحابة منه، أكثره مروي عن طريق لا يثبت، إما عن طريق أبي السائب محمد بن السائب الكلبي عن أبي صالح، وهذا طريق الكذابين كما يعرف لدى علماء أهل الحديث، وإما عن طريق الواقدي وقد سبق أنه متروك، وإما عن طريق أبي مخنف وقد كان شيعياً متعصباً، وإما عن طريق ابن أبي مريم وهو كذاب أيضاً، ومع هذا ففيه كثير من القصص والأخبار الأخرى، وبعضها من مشاهداته، وبعضها من المتواتر التي رواها الناس، وقد دونها في كتابه فكان مرجعاً في هذا الباب.

ومن الذين اعتنوا كذلك بتدوين هذه القصص والأخبار ابن الأثير الأكبر، فقد اشتهر في هذه الأسرة ثلاثة من العلماء: ابن الأثير الأكبر وهو المؤرخ، والأوسط وهو النحوي، والأصغر وهو المحدث اللغوي، وهو أبو السعادات الذي ألف جامع الأصول وألف النهاية، أما الأكبر فهو الذي ألف تاريخه الذي سماه الكامل، وهو كتاب حافل اعتمد على ابن جرير، ولكنه زاد عليه وذكر أخبار ملوك زمانه والفتن التي حصلت في أيام زمن بني العباس، ووثقها؛ لأنه كان في قلب الأحداث، وكان مقرباً من السلطات في ذلك العصر، وكان من سكان مدينة الموصل، فهي مدينة تتوسط بين ديار بكر وديار أواسط العراق، وبين الرافدين، وبلاد الترك، وهي كذلك منفذ المشرق كله على الشام، وقد كانت أول دولة بني العباس مدينة صغيرة، فلما ولى عليها هارون الرشيد يزيد بن مزيد، دخلها وقد عقد له لواء على رمح، فلما دخل من الحصن انكسر اللواء فتطير بذلك، فقال علي بن الجامية وهو أحد الشعراء المشاهير وكان مرافقاً له:

ما كان مندق اللواء لريبة تخشى ولا أمر يكون مبذلا

لكن هذا الرمح أضعف متنه صغر الولاية فاستقل الموصلا

قد استقل الموصل على أن تكون ولاية لـيزيد، فكبرها هارون الرشيد من ذلك الوقت، وجعلها إحدى العواصم، واستمر الحال على ذلك حتى أصبحت فيما بعد عاصمة لدولة مستقلة تابعة للخلافة الإسلامية في بغداد.

عموماً فكتابه أيضاً مرتب ترتيباً جيداً، لا تتكرر فيه الأحداث، ويحال فيه على مواضع مختلفة كحال كتاب ابن كثير.

وكتاب ابن كثير البداية والنهاية، ديوان حافل كذلك بالأخبار، فقد جمع فيه تاريخ المشارق والمغارب، ولكن ترتيبه غير جيد؛ لأنه تتداخل الأخبار فيه بتراجم الرجال، ويسير في الترتيب على السنين، ثم إذا جاءت وفاة رجل من المشاهير في سنة من السنوات ذهب إلى فصل حياة ذلك الرجل، فذكر سنوات مضت وسنوات تأتي، كي يتداخل التاريخ.

وأيضاً فإن ابن كثير رحمه الله مع أنه إمام من أئمة الحديث والتفسير، لم يعتنِ كثيراً بتدقيق الحكايات والقصص في كتابه.

من عيوب كتب التاريخ

ومن العجائب أن أكثر المؤرخين حتى في القصص التي أدركوها والأمور التي كان ينبغي أن يحدثوا عنها، تنتهي كتبهم قبل الوصول إليها، فمن المهم للمؤرخ أن يكتب أولاً ما في عصره مما شهده؛ لأنه الذي صح عنده، وهذا في الغالب لا يشتغل به المؤرخون، إنما يكتبون في أخبار السابقين، ويفتكر أن في العمر فسحة أو بقية، ويموت قبل أن يدون للناس تاريخه هو، إلا الذهبي رحمه الله، فإنه قد اعتنى بالكتابة كثيراً، ثم وفق في كتابة ما كان في أيام حياته في عدد من كتبه، سواء منها ما كان في تراجم الرجال، مثل تذكرة الحفاظ، وسير أعلام النبلاء، أو ما كان منها في التاريخ المحض، مثل تاريخ الإسلام الكبير، فإنه استمر فيه إلى أواسط حياته هو، وقد وضع بعض الذيول على بعض كتب السابقين، وذكر فيها ما شهده هو، كذيله على تاريخ بغداد للخطيب البغدادي، وغيره من الذيول التي وضعها على كتب السابقين.

وعموماً فإن الذهبي أحسن المؤرخين من الناحية التصحيح والتضعيف، في القصص والأخبار والتثبت فيها، فإنه في كثير من الأحيان يرويها بالأسانيد، ويطعن في المطعون فيه منها، ويحدث عن مشاهداته والغرائب التي رآها.

أما الكتب المسماة بتواريخ البلدان، فهي داخلة في علم الرجال وعلم الحديث، كما سبق مثل تاريخ بغداد ومثل تاريخ دمشق، للحافظ ابن عساكر، ومثل تاريخ جرجان ومثل تاريخ أصفهان، وغيرها من الكتب المسماة بالتاريخ، مثل تواريخ يحيى بن معين الثلاثة، فهذه من تراجم الرجال، ومن خصوص رجال الحديث.

طريقة ابن خلدون في كتابة علم التاريخ

ثم جاء ابن خلدون فكان صاحب نظرية مستقلة، وهي تحليل الأحداث لاستخراج تيسير الاجتماع في الناس، فيفهم الأوضاع ليس فهماً فردياً بل فهماً جماعياً، ويحلل الأسباب التي تؤدي إلى الأحداث، وقد تميز تاريخ ابن خلدون بالمقدمة التي هي أشهر منه، وقد أفردت وجعلت كتاباً مستقلاً، وهذه المقدمة كانت كشكولاً للعلوم الإسلامية؛ أدرج فيها العلوم الدينية والدنيوية الموجودة في زمانه، وبين فوائد كل علم من هذه العلوم، وبعض تاريخ تلك العلوم وآثارها في الناس، ويأخذ الدروس والعبر المتكررة من المقارنة في الأحداث بين المشرق والمغرب، وبالأخص ما يتعلق بسقوط الدول، وما يتعلق بنشأة الحروب ونحو هذا، فكان صاحب نظرية، وهو رجل عملاق من ناحية الفلسفة، وقد شارك في عدة ثورات، وأسقط نظام الحكم في عدة بلدان بنفسه، وقد كان أيام كان بالمغرب يجمع تواريخ المغرب كلها، فلما ذهب إلى المشرق في سفينة غرقت ونجا هو منها، وقد غرقت فيها كتبه.

وقد حصل في حياته كثير من التطورات، وشاهد كثيراً من الأحداث العجيبة، فهو قد نجا من الطاعون الذي أهلك الناس بتونس، فلم ينجُ من آل بيته إلا هو، وجهل نسبه، فلم يعرف كم بينه وبين جده الأعلى الذي هو خلدون، فهو يعرف أنه جده، لكن لا يدري كم بينه وبينه من أب، هل بينه وبينه ثلاثة آباء أو أربعة أو اثنان، ما يدري، نسابة الدنيا ولا يدري ما بينه وبين خلدون من الآباء، بسبب هذا الطاعون الذي قضى على معظم أهله.

فكان تاريخه معتنياً كثيراً بأخبار الدول والسياسات والحروب.

كتابة تاريخ الأندلس

وقد اعتنى المغاربة والأندلسيون كذلك بتواريخهم بالخصوص، فقد كان ابن حزم من المؤرخين المشاهير في الأندلس، وقد لقي من جراء ذلك أذى كثيراً، فإنه قد تعرض إلى كثير من المحن بسبب كتاباته في التاريخ، أو كتابته عن أنساب بعض القوم، وهكذا الإمام أبو عمر بن عبد البر، وهو شيخ ابن حزم، وقد اعتنى بالتاريخ، وكتب بالخصوص في الصحابة، فهو الذي ألف كتاب الاستيعاب في تراجم الأصحاب، أي: أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا المجال من مجالات التاريخ المهمة؛ لأن الراوي إذا ثبتت صحبته فلا يبحث في عدالته؛ لأن الصحابة جميعاً عدول، لكن كيف تثبت صحبته؟ هذا الذي يحتاج إلى تثبت وتأمل.

وقد ألف الحافظ أبو نعيم الأصبهاني في معرفة الصحابة، وألف كذلك ابن الأثير أسد الغابة في معرفة الصحابة، وألف هو كتابه هذا الاستيعاب في تراجم الأصحاب، وألف الحافظ ابن حجر كتاب الإصابة في تمييز الصحابة، وألف ابن حزم أيضاً الصحابة الذين روي عنهم الإفتاء، وابن حزم قد جمع خلاصة علمه في الأنساب في كتابه الجمهرة في الأنساب، وسنخص كتب الأنساب بالخصوص ببعض التفصيل؛ لأنها تتميز عن التاريخ الإسلامي.

ومن المعتنين بالتاريخ في الأندلس لسان الدين بن الخطيب، وهو ذو الوزارتين الأديب الشاعر المشهور، مؤلفاته كثيرة جداً، وقد ألف كتاب الإحاطة في تاريخ غرناطة، وغيره من كتب تاريخ الأندلس.

وكذلك من المؤرخين في الأندلس المشاهير، ابن بسام الذي ألف الذخيرة في محاسن الجزيرة، ثم أخيراً المقري الذي ألف نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، وهو في الأصل ترجمة للسان الدين بن الخطيب، لكنه تعداه فكتب عن الأندلس كلها، ووصف أمصارها وحدد أماكنها، وذكر من دخلها من الأعيان، وذكر ما ورد فيها من الأشعار والأخبار والقصص وتراجم الناس والثورات، فكان كتاباً تاريخياً مهماً.

وكذلك في المغرب اشتهر عدد من المؤلفين في التاريخ.

ومن مشاهير المتأخرين منهم: المراكشي، الذي ألف المغرِب بأخبار المغرب، والناصر السلاوي الذي ألف الاستقصاء لأخبار المغرب الأقصى.

كتابة تاريخ مصر

كذلك اعتنى أهل مصر بتاريخها من مختلف الوجوه، فمن أوائل المعتنين بتاريخ مصر الكندي، الذي ألف أخبار القضاة، ثم ألف أخبار الولاة، واعتنى فقط بالذين تولوا القضاء في مصر من لدن عمرو بن العاص إلى زمانه هو، وكذلك أخبار الولاة الذين تولوا ولاية مصر من أيام الفتح الإسلامي إلى زمانه، وهذان كتابان منفصلان، وطبعهما أحد المستشرقين في كتاب واحد، يسمى أخبار القضاة وأخبار الولاة، وهما في الواقع كتابان منفصلان.

وكذلك ألف الحافظ ابن حجر عدداً من الكتب المتعلقة بتاريخ مصر منها: رفع الإصر عن أخبار قضاة مصر، ومثل كتابه الآخر: الدرر الكامنة في أعيان أهل المائة الثامنة، ومثل كتابه الآخر: إنباء الغمر عن أنباء العمر، ومثل كتابه الآخر في أهل عصره، الذين لقيهم وأجازوا له، وألف تلميذه السخاوي كتاباً حافلاً كبيراً بأخبار أهل مصر، وألف كذلك السيوطي حسن المخابرة بأخبار مصر والقاهرة.

وألف اليافعي كتاب مرآة الزمان، وألف كذلك ابن بردي تغري، أو بردي ثتغري وهو تركي، واسمه ينطق بالياء المقصورة وبالياء المنقوطة، وألف كتابه النجوم الزاهرة في أخبار مصر والقاهرة.

واشتهر من المؤرخين الذين يعتنون بتواريخ الأمصار عموماً ابن خلكان الذي ألف كتابه وفيات الأعيان، وقد كان هذا الكتاب مزاراً لكثير من التآليف الأخرى من الزيادات عليه والإضافات والاستدراكات وغيرها، فقد وضع عليه كثيراً من الذيول، وفي الوفيات للسندي.

كتابة التاريخ على طريقة السمعاني

وكذلك نحا السمعاني رحمه الله منحًى آخر في التاريخ، فاعتنى فقط بالنسبة للأعلام من الناحية اللغوية أولاً، ثم بعد ذلك يترجم لهم، فكل نسبة اشتهرت في التاريخ سواء كانت إلى بلد أو إلى قبيلة أو إلى حرفة أو تجارة أو نحو ذلك يشرح تلك النسبة، ثم يبين الذين اشتهروا بهذه النسبة بأسمائهم وتواريخهم وتراجمهم، وكتابه الأنساب من الكتب المهمة في هذا الباب، وبالأخص أنه يشرح الأنساب الغريبة إلى مدن أو نسبة مندرسة إلى قرى مجهولة.

وقد اعتنى ملوك الفرس قديماً بتدوين تواريخهم، وكذلك ملوك الصين، وقد استدل الله سبحانه وتعالى في كتابه بالتاريخ على اليهود، مما يشعر أيضاً بأن اليهود كانوا يعتنون بالتاريخ، فقال تعالى: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ[آل عمران:67]، إلى أن قال: وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإِنجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ[آل عمران:65]، وهذا استدلال بالتاريخ، فإن اليهود زعموا أن إبراهيم كان يهودياً، فقال: وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإِنجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ[آل عمران:65]، كيف يكون يهودياً، واليهودية منشأها من نزول التوراة، والنصارى زعموا أنه نصراني، فكيف يكون كذلك وما أنزل الإنجيل إلا من بعده، ونشأت النصرانية من نزول الإنجيل.

وكذلك في تفنيد بعض أخبارهم، جاء أيضاً الاستدلال بالتاريخ في القرآن كقول الله تعالى: كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلّاً لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا..[آل عمران:93]، فهذا احتجاج على اليهود بالتاريخ: مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ[آل عمران:93].

وفي المسلمين من أوائل الذين اعتنوا بالتاريخ وسطروه عروة بن الزبير بن العوام رضي الله عنهما، ولكنه لم يكتب في ذلك شيئاً، وإنما كان يجمع القصص ويرويها.

ويقال: اعتنى قبله بهذا الفن عقيل بن أبي طالب، وقد كان نسابة العرب وخبيراً بأيامهم وتواريخهم، وكان يحدث بها في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم في أيام عمر بن الخطاب. وقبل ذلك كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه مهتماً بأنساب العرب وأخبارهم، ولهذا حين جاء حسان إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذنه في هجاء قريش أذن لهم وقال: (كيف تهجوهم وأنا منهم، قال: لأنتزعنك منهم كما تسل الشعرة من العجين، قال: اذهب إلى أبي بكر فاستعن به. ثم قال: اهجهم وروح القدس معك)، فلما جاء شعره إلى قريش، إذا فيه:

وإن كرام الأصل من آل هاشم بنو بنت مخزوم ووالدك العبد

فقالت قريش: هذا شعر، والله ما غاب عنه ابن أبي قحافة، فإن أولاد عبد المطلب اثنا عشر ولداً، وعبد الله بن عبد المطلب وأبو طالب، وبعض إخوته، أما أمهم فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، ولذلك قال:

وإن كرام الأصل من آل هاشم بنو بنت مخزوم ووالدك العبد

وهو لا يهجو أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة.

ومن أوائل الذين ألفوا في هذا العلم: خليفة بن خياط، الذي يلقب بـ شباب، وهو شيخ البخاري، وقد ألف كتابه التاريخ، واعتنى به بثلاثة أمور: الأمر الأول: بحوادث السنين. الأمر الثاني: من توفي في تلك السنة من الأعيان. والأمر الثالث: من قاد الشاتية فيها، ومن قاد الصائفة، ومن أقام الحج للناس. (من قاد الشاتية) أي: الفرقة الغازية التي تخرج في الشتاء، (ومن قاد الصائفة) أي: الطائفة التي تخرج إلى الجهاد في سبيل الله، (ومن أقام الحج للناس) ثلاثة أمور، وكتابه ليس بالكبير.

وألف أيضاً كتاب الطبقات، أي: اختص بطبقات الرواة.

ثم جاء بعده محمد بن سعد كاتب الواقدي، وقد اعتنى ببعض التاريخ في كتابه الطبقات الكبرى، وبالأخص ما يتعلق بسكن الرواة والمدن التي أقاموا فيها، واعتنى بهذا عناية فائقة، فهو المرجع الأكبر فيما يتعلق بسكنى الأنصار، فيذكر الطبقات من سكان المدينة ومن سكان البصرة، ومن سكان الكوفة، ومن سكان مصر، ومن سكان الشام، ويميزهم بذلك، وكذلك اعتنى بفصل الرجال عن النساء، فهو أول من فصل النساء فجعل لهن كتاباً مستقلاً، في آخر كتابه.

ثم جاء الإمام البخاري فاعتنى بتاريخ أهل الحديث بالخصوص، وألف فيه كتابه التاريخ الكبير، وقد سبق ذكره في كتب الرجال، لكن نظراً لأنه قد اعتنى ببعض وفيات الرواة، وإن كان لم يعتنِ بها اعتناء كاملاً، فكثير من الرواة لم يذكر شيئاً يتعلق بتاريخه، ولكن نظراً لاسم الكتاب؛ لأن اسمه التاريخ عد في كتب التاريخ، وهذا الكتاب عندما عرضه البخاري على إسحاق بن راهويه نظر فيه، فتعجب فقال: ما هو إلا السحر، فهو أول كتاب يرتب على حروف المعجم، من حروف الأوائل من أتباع الرواة والثواني والثوالث، فجعله إسحاق من السحر؛ لأن الله فتح للبخاري فيه فتحاً عجيباً، في الترتيب، ومنه انطلقت المعاجم كلها.

ومن مشاهير الذين ألفوا في هذا العلم محمد بن جرير الطبري أبو جعفر المتوفى سنة ثلاثمائة وعشر، وقد سبق أنه من أوائل المؤلفين أيضاً في التفسير، وتاريخه بدأه ببعض قصص الأنبياء، والسالفين، وأخبار الملوك والأمم السابقة، ولهذا سمى كتابه: أخبار الأمم والملوك، ولكن ما يتعلق بأخبار الصحابة منه، أكثره مروي عن طريق لا يثبت، إما عن طريق أبي السائب محمد بن السائب الكلبي عن أبي صالح، وهذا طريق الكذابين كما يعرف لدى علماء أهل الحديث، وإما عن طريق الواقدي وقد سبق أنه متروك، وإما عن طريق أبي مخنف وقد كان شيعياً متعصباً، وإما عن طريق ابن أبي مريم وهو كذاب أيضاً، ومع هذا ففيه كثير من القصص والأخبار الأخرى، وبعضها من مشاهداته، وبعضها من المتواتر التي رواها الناس، وقد دونها في كتابه فكان مرجعاً في هذا الباب.

ومن الذين اعتنوا كذلك بتدوين هذه القصص والأخبار ابن الأثير الأكبر، فقد اشتهر في هذه الأسرة ثلاثة من العلماء: ابن الأثير الأكبر وهو المؤرخ، والأوسط وهو النحوي، والأصغر وهو المحدث اللغوي، وهو أبو السعادات الذي ألف جامع الأصول وألف النهاية، أما الأكبر فهو الذي ألف تاريخه الذي سماه الكامل، وهو كتاب حافل اعتمد على ابن جرير، ولكنه زاد عليه وذكر أخبار ملوك زمانه والفتن التي حصلت في أيام زمن بني العباس، ووثقها؛ لأنه كان في قلب الأحداث، وكان مقرباً من السلطات في ذلك العصر، وكان من سكان مدينة الموصل، فهي مدينة تتوسط بين ديار بكر وديار أواسط العراق، وبين الرافدين، وبلاد الترك، وهي كذلك منفذ المشرق كله على الشام، وقد كانت أول دولة بني العباس مدينة صغيرة، فلما ولى عليها هارون الرشيد يزيد بن مزيد، دخلها وقد عقد له لواء على رمح، فلما دخل من الحصن انكسر اللواء فتطير بذلك، فقال علي بن الجامية وهو أحد الشعراء المشاهير وكان مرافقاً له:

ما كان مندق اللواء لريبة تخشى ولا أمر يكون مبذلا

لكن هذا الرمح أضعف متنه صغر الولاية فاستقل الموصلا

قد استقل الموصل على أن تكون ولاية لـيزيد، فكبرها هارون الرشيد من ذلك الوقت، وجعلها إحدى العواصم، واستمر الحال على ذلك حتى أصبحت فيما بعد عاصمة لدولة مستقلة تابعة للخلافة الإسلامية في بغداد.

عموماً فكتابه أيضاً مرتب ترتيباً جيداً، لا تتكرر فيه الأحداث، ويحال فيه على مواضع مختلفة كحال كتاب ابن كثير.

وكتاب ابن كثير البداية والنهاية، ديوان حافل كذلك بالأخبار، فقد جمع فيه تاريخ المشارق والمغارب، ولكن ترتيبه غير جيد؛ لأنه تتداخل الأخبار فيه بتراجم الرجال، ويسير في الترتيب على السنين، ثم إذا جاءت وفاة رجل من المشاهير في سنة من السنوات ذهب إلى فصل حياة ذلك الرجل، فذكر سنوات مضت وسنوات تأتي، كي يتداخل التاريخ.

وأيضاً فإن ابن كثير رحمه الله مع أنه إمام من أئمة الحديث والتفسير، لم يعتنِ كثيراً بتدقيق الحكايات والقصص في كتابه.