عقوبة الإعدام بين الإلغاء وعدمه
مدة
قراءة المادة :
13 دقائق
.
عقوبة الإعدام بين الإلغاء وعدمهإن الأحكام الشرعية، سواء أكانت في العقائد، أم في العبادات، أم في العقوبات - مصدر تشريعها من الله عز وجل؛ فهو خالق البشر ومُميتُهم، يعلم ما يُصلِح دينَهم ودنياهم؛ وذلك لأن عقولَ بني البشر تبقى قاصرةً في تفكيرها فلا تعرِف خفايا الأمور؛ فيمكن للإنسانِ أن يضعَ قانونًا يصلُح لبعض الناس ولا يصلح لبعضهم الآخر، يصلح لزمنٍ ولا يصلح لزمنٍ غيرِه، يصلح لمكان معين ولا يصلح لغيره، فيه مصلحة لبعض الفئات وفيه مضرَّةٌ لغيرها؛ فإذًا لن يخرجَ الإنسان بنتيجة صحيحة يُجمع عليها باقي البشر؛ فالله عز وجل وحده القادرُ على وضع القوانين الصالحة لكل زمانٍ ومكانٍ، والمناسِبة لجميع بني الإنسان، والعادلةِ بينهم.
فعندما جاء الإسلام وقرَّر العقوبات - ومنها عقوبة الإعدام (القِصاص) - لم يقرِّرْها عَبَثًا لأي جريمة؛ بل قدَّرها لأعظم الجرائم الموجودة؛ إذ إنه حصرها في جرائمَ تُهدِّد كِيانَ المجتمع، وتهدد مقاصدَ الشريعة الكلية.
واليومَ نجد أن أصواتَ الذين يُنادون بإلغاء عقوبة الإعدام قد كثُرت وتعالت؛ بل إن كثيرًا من الدول قد ألغت هذه العقوبة؛ بحُجَّةِ أنها عقوبةٌ قاسية تتنافى مع القيم الإنسانية، وإن إزهاقَ روح الإنسان لا يقبله عاقلٌ، ولا يحكم به قانون عادل.
أما الشريعة الإسلامية، فأظهرت تفوُّقَها على القوانين الوضعية، وبرهنت للمجتمعات على صمودها وصلاحها لكل زمان ومكان، "وإن المقصد العام لتشريع هذه العقوبة كان هو درءًا للمفاسد التي تنبثق من خلال التسويل للأنفس القيام بجرائم، وحين يكون هناك زجرٌ وتكون هناك عقوبات محتملة؛ فإن هذا الدَّرء يصبح أكثرَ إمكانًا للتحقُّق في واقع الإنسان، وهو قوله تعالى: ﴿ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [البقرة: 179]"[1].
فالعقوبات في الحقيقة ليست غايةً في حد ذاتها؛ وإنما هي وسيلة لأهداف نبيلة ووسيلة لإصلاح المجتمع؛ فالعقوبات ليس هدفُها إثباتَ الجرائم على المجرمين والانتقام منهم؛ عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ادرؤوا الحدودَ عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج فخلُّوا سبيله؛ فإن الإمام أن يخطئ في العفو خيرٌ من أن يخطئ في العقوبة))[2].
وفي هذا المقال، سأتطرَّقُ لموقف القوانين الوضعية من عقوبة الإعدام من خلال أُنموذجين اثنين: القانون المغربي، والقانون الأمريكي، ثم موقف المنظمات والمواثيق الدولية والرأي العام العالمي من هذه العقوبة؛ فيما أجَّلتُ الحديثَ عن موقف الإسلام من عقوبة الإعدام (القصاص) إلى مقالٍ لاحقٍ إن شاء الله تعالى.
1- موقف المملكة المغربية من عقوبة الإعدام:
وقفت القوانينُ الوضعية العالمية من عقوبة الإعدام مواقفَ مغايرة؛ فبعض الدول قامت بإلغائها من قوانينها نهائيًّا وعمليًّا، وبعض الدول أوقفت عقوبةَ الإعدام مهما بلغت خطورةُ الجريمة، وأخرى أوقفت العقوبة عمليًّا غير أنها أبقتْها في قوانينها، ودول أخرى قامت بتجميد عقوبة الإعدام من قانونها بالنسبة لجميع الجرائم باستثناء الجرائم غير العادية؛ مثل: جرائم الحرب، وتقوم بعض الدول بمحاولة إلغاء عقوبة الإعدام من قوانينها تدريجيًّا؛ في حين أبقى قسم آخر من الدول على هذه العقوبة فِعليًّا وعمليًّا[3].
وفي المغرب، قسَّم المُشرِّعُ العقوباتِ الأصليةَ إلى ثلاثة أقسام، ذَكَرها في الفصل 15 من القانون الجنائي؛ فهي إما أصلية جنائية أو جنحية أو ضبطية، وتندرج عقوبةُ الإعدام ضمن العقوبات الجنائية الأصلية؛ حيث أُدرجت هذه العقوبة في الفصل 16 باعتبارها أول عقوبة من العقوبات الجنائية الأصلية.
وفيما يخص تنفيذ عقوبة الإعدام بالمغرب؛ فإن هذه العقوبة لا تُنفَّذُ عمليًّا، وكان آخر حُكمٍ تم تنفيذه في سنة 1993م؛ أي: قبل 23 سنة مضت، وفي شأن التوصية الأُمَمِيَّة عن وقف تنفيذ الإعدام، اختار المغربُ موقف الامتناع عن التصويت، حين تمَّ عرض المشروع أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة مساء يوم الخميس 20 دجنبر 2012م؛ حيث إنه حظِيَ بتأييد أغلبيةٍ واسعة من الدول، بعد أن صوَّت لفائدته 111 عضوًا، مقابل معارضة 41 عضوًا، وامتناع 34 عضوًا عن التصويت، بينما تغيَّب 7 أعضاء عن جلسة التصويت[4].
وفي مقابلة مباشرة مع الناشطة الحقوقية "خديجة رياض"[5]، أكَّدت على ضرورة إلغاء هذه العقوبة من القانون المغربي؛ لأنها عقوبة وحشية، وتمَسُّ أحدَ أهمِّ حقوق الإنسان، ألا وهو: الحق في الحياة.
وقد عرفت سنةُ 2012م صدورَ ستة أحكام بالإعدام بالمحاكم المغربية[6]، وهكذا يتبيَّن استمرار إصدار المحاكم المغربية لعقوبة الإعدام مع وقف التنفيذ منذ 1993م.
2- موقف القانون الأمريكي من عقوبة الإعدام:
تعتبر الولايات المتحدة الأمريكية - إضافة إلى الصين والمملكة العربية السعودية وإيران - من البلدان التي أعدمت أعدادًا أكبر من السجناء، ولدى الولايات المتحدة الأمريكية أطولُ قائمةٍ في العالم للأشخاص المحكوم عليهم بالإعدام؛ إذ يزيد عددُ الذين ينتظرون حتْفَهم عن 2300 شخص[7].
وطالبت المنظمات الدولية الولاياتِ المتحدة الأمريكية بإلغاء العقوبة من قوانينها دون جدوى، وتلقَّت منظمةُ العفو الدولية في العام 1997م ردًّا من عضو مجلس الشيوخ في ولاية أركنساس يقول فيها: "إذا كان 77% من سكان أركنساس يريدونها - أي: عقوبة الإعدام - فإنهم سيحصلون عليها"[8]، وأظهرت استطلاعاتُ الرأي أن 70% من الجمهور الأمريكي يؤيدون عقوبة الإعدام[9].
وعليه؛ فإن الرأي العامَّ الأمريكي يؤيد القانون الأمريكي الواضح والمؤيد لفرض عقوبة الإعدام وتنفيذها عمليًّا، وفي سنة 2012م بلغ عددُ الولايات التي تعمل بهذه العقوبة 33 ولاية، في مقابل 16 ولاية ألغت عقوبة الإعدام من قوانينها.
وكانت الولايات المتحدة الأمريكية قد نفَّذت 74 حكمًا بالإعدام في العام 1997م، وهو العدد الأكبر منذ 40 عامًا، ولم يتفوق عليها في ذلك سوى الصين والمملكة العربية السعودية وإيران.
هذا، وقد تم إعدام 40 شخصًا في الولايات المتحدة الأمريكية سنة 2012م، وبذلك يواصل العدد منحاه التنازلي منذ سنة 2000م[10].
3- موقف المنظمات والمواثيق الدولية من عقوبة الإعدام:
لقد أقرَّ المنتظم الدولي بشكل صريح الدعوةَ إلى إلغاء عقوبة الإعدام؛ على اعتبار أنها انتهاكٌ للحق في الحياة، وعقوبةٌ في مُنتهى القسوة والوحشية والامتهان للكرامة البشرية، كما أن منظمة حقوق الإنسان اعتمدت سياسةَ حثِّ الدول التي لم تُلغِ عقوبةَ الإعدام على السعي نحو التقليص التدريجي من عدد الجرائم التي تجوز المعاقبةُ عليها بالإعدام؛ لكن دون إغفال التأكيد على الأُفُقِ الواضح، الذي هو الإلغاء.
إن فلسفةَ المنتظم الدولي في مناداة الدول إلى العمل على التقليص التدريجي من عدد الجرائم التي تكون عقوبتُها الإعدام - تتوخى توفيرَ أكبرِ وأوسع حمايةٍ ممكنة للحق في الحياة.
وتُعدُّ عقوبة الإعدام من هموم وإشكاليات حقوق الإنسان دوليًّا، وصدر بشأنها العديد من المواثيق الدولية والإقليمية الهادفة لإلغاء هذه العقوبة، وهذه المواثيق هي: البروتوكول الاختياري الثاني الملحق بالعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية 1989م، والبروتوكول الملحق بالاتفاقية الأمريكية لحقوق الإنسان الذي أقرَّته منظمة الدول الأمريكية 1990م، وبروتوكول رقم 6 الملحق بالاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، الذي أقره مجلس أوروبا في العام 1993م، وتنطبق هذه المواثيق على جميع الدول التي صادقت عليها[11].
فمن الواضح أن التوجُّهَ لدى الأمم المتحدة هو: تشجيع أيِّ خطوة باتجاه إلغاء أو تقليص عقوبة الإعدام، وكذلك العمل على توفير ضماناتٍ للأشخاص الذين يواجهون هذه العقوبة، وقد أكدت الجمعية العامة في قرارها رقم 2857 أن الهدفَ الأساس الذي يجب متابعته هو ضرورة تقليص عدد الجرائم المعاقَب عليها بالإعدام إلى أكبر قدر ممكن.
إن المنظمات والمواثيق الدولية - وفي مقدمتها الأمم المتحدة ومنظمة العفو الدولية - تدعو بشكل صريح إلى إلغاء عقوبة الإعدام مهما كانت درجة الجُرْمِ المُرتكَب؛ إلا أن هذه المنظمات تسلُك مسلَكَ التدرج من أجل الوصول إلى غايتها الكبرى؛ حيث يتم تشجيعُ أي خطوة في هذا الاتجاه، كما يتم تشجيع الدول التي ما تزال تُنفِّذ الإعدام عمليًّا على وقف تنفيذه كمرحلة أولى، وتقوم كذلك بمحاولة إقناع الرأي العام العالمي بمدى قساوة هذه العقوبة، باعتبارها تمس الحقَّ الأسمى في الوجود، وهو: الحق في الحياة.
4- موقف الرأي العام من عقوبة الإعدام:
يشهد الرأي العام العالمي تحوُّلاتٍ بين تأييد ومعارضة عقوبة الإعدام حسب الظروف المرافِقة؛ فقد يُعارِض الناسُ أحيانًا هذه العقوبة عندما يموت الأبرياء بعد سوء تطبيق العدالة، أو كنتيجة لتجاوزات تعسُّفِيَّة يشهدها النظام؛ بينما يمكن أن يتحول الرأي العام إلى الرأي المضاد في حالة ارتكاب جريمة وحشية، أو ظهور أنماطِ جرائمَ جديدةٍ؛ كاختطاف الطائرات أو الإرهاب لدواعٍ سياسية؛ لذا فإن الآراء حول عقوبة الإعدام تتأثر بشكل كبير بالعوامل العاطفية؛ ومن ثَمَّ انقسم الرأي العام إلى: اتجاه يرى في عقوبة الإعدام قوَّة مُفرِطة تصل إلى الوحشية، ومن ثَمَّ فالأليق إلغاء هذه العقوبة، ورأي يرى الإبقاء عليها بصفتها عقوبة زاجرة، مع التضييق كثيرًا من نطاق إعمالها.
وأثارت هذه العقوبةُ خلافاتٍ عميقة وواسعة، وأصبح مؤيدو إلغائها ينادون بأعلى أصواتهم أن هذه العقوبة صارمة وقاسية ووحشية، وهي ضد كرامة الإنسان؛ فهي تسلُب منه أغلى ما يملك، وهي الحياة، وأصبح لهم حُجَجٌ وبراهينُ تؤيِّد أقوالهم، ويرد عليهم مؤيدو عقوبة الإعدام أن تلك الحجج لم تُبْنَ على أساسٍ ديني، فما هي إلا شُبُهات غير مُجدية أو مُقنِعة، أقاموها لتغيير أساسٍ من أسُسِ قانون العقوبات الإسلامي، الذي نصَّ عليه الله عز وجل، ووضع أُسَّه في كتابه الحكيم؛ حيث قال الله تعالى: ﴿ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [البقرة: 179].
وتقود منظمة العفو الدولية الدعوةَ إلى إلغاء عقوبة الإعدام؛ حيث إنها تكتسب مؤيِّدين وأنصارًا وأرضًا جديدة في دعوتها؛ فالمُشاهَد أن الدول التي ألغت الإعدام من تشريعاتها في ازديادٍ مستمر.
هذا، وقد أجَّلتُ موقفَ الإسلام من عقوبة الإعدام، ومن حُجَجِ المُنادِين بإلغاء هذه العقوبة، للحديث عنه في مقال آخر فيما يُستقبل من الأيام إن كان في العمر بقية.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
[1] "عقوبة الإعدام": المجلس الوطني لحقوق الإنسان: سلسلة الندوات، من مداخلة الدكتور أحمد عبادي الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء، أكتوبر 2008م، الرباط، ص: 52.
[2] "المستدرك على الصحيحين"؛ محمد بن عبدالله، أبو عبدالله الحاكم النيسابوري، ج4، حديث رقم 8163، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1 /1990م، ص: 262.
[3] لمعرفة التفاصيل والأرقام يُرجى الاطلاع على تقرير منظمة العفو الدولية لعام 2007م عن حالة حقوق الإنسان في العالم، مطبوعات منظمة العفو الدولية.
[4] "التقرير السنوي حول وضعية حقوق الإنسان بالمغرب خلال سنة 2012م"، الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، يوليوز 2013م، ص: 75.
[5] "خديجة رياض": مناضلة حقوقية، الرئيسة السابقة للجمعية المغربية لحقوق الإنسان، والمنسقة العامة للائتلاف المغربي لهيئات حقوق الإنسان بالمغرب، والحائزة على الجائزة الأممية لحقوق الإنسان لعام 2013م.
[6] انظر تفصيل تلك الأحكام في "التقرير السنوي حول وضعية حقوق الإنسان بالمغرب خلال سنة 2012م"، الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، يوليوز 2013م، ص: 75.
[7] "الولايات المتحدة الأمريكية: الحقوق للجميع"، منظمة العفو الدولية، أكتوبر1998م، ط1، ص: 145.
[8] المرجع السابق نفسه، ص: 156.
[9] المرجع السابق نفسه، ص: 156.
[10] "التقرير العالمي 2013م، الولايات المتحدة الأمريكية"، Human Rights Watch.
[11] "حقوق الإنسان: أسئلة وإجابات"، اليونسكو، 2009م، ص: 155.