مقدمات في العلوم الشرعية [6]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

أما بعد:

فبعدما أتينا على ما أردنا قوله فيما يتعلق بعلم القراءات، نضيف إليه علم علوم القرآن، وهذا العلم في الواقع هو تجميع لعلوم شتى ليس واحد منها كبيراً وإنما هو علم يجمع علوماً متفاوتة، هذه العلوم بعضها راجع إلى اللفظ وبعضها راجع إلى المعنى وبعضها تاريخي أي: يرجع إلى تاريخ القرآن، فمما يرجع إلى المعنى منها أسباب النزول، وهذا باب من أبواب علوم القرآن لكنه قد أفرد وألف فيه بعض الكتب أشهرها كتاب الواحدي النيسابوري ثم كتاب السيوطي كلاهما مسمى بأسباب النزول، وقد اهتم أهل التفسير كثيراً بأسباب النزول لما ذكرنا من قبل من أنها تعين على فهم الآيات.

ثم مما يتعلق بالمعنى كذلك مناسبات القرآن مثل مناسبات السور بعضها لبعض ومناسبات الآيات بعضها لبعض ومناسبات الكلمات بعضها لبعض؛ فالقرآن معجز في ترتيبه وتنسيقه ولهذا فالترتيب فيه إعجاز عجيب فقد بدأ بعد الفاتحة، الفاتحة ملخص للقرآن بكامله فكل معاني القرآن مجتمعة في الفاتحة جمعت كل ما تناوله القرآن من معاني سواءً كان ذلك في التوحيد والثناء على الله وذكر اليوم الآخر أو كان في الأحكام والعبادات والمعاملات أو كان في ما يتعلق بحاجات بني آدم واحتياطاتهم وما يصلح أمور دينهم ودنياهم فقد بدأت الفاتحة أولا بالثناء على الله وتوحيده وتمجيده: الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ[الفاتحة:2-3]، ثم ذكر فيها اليوم الآخر وما اشتمل عليه من البعث وفي ما بعده في قوله: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ[الفاتحة:4]، ثم بعد ذلك ذكرت العبادات كلها في قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ[الفاتحة:5]، وذكرت المعاملات كلها في قوله: وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ[الفاتحة:5]، وذكر كذلك احتياجات بني آدم كلها في الدنيا والآخرة في قوله: اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ[الفاتحة:6-7]، وذكر كذلك القصص وأخبار السالفين وأيام الله وإهلاكه للأمم في قوله: غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ[الفاتحة:7]؛ فجمعت الفاتحة ملخصاً شاملاً للقرآن كله، كل الموضوعات التي تناولها القرآن موجودة في الفاتحة، بعدها جاءت طوال السور التي تتناول كثيراً من المعاني والأحكام وكلما ذهبت مع القرآن كلما قصرت السور حتى تصل إلى نهايته والتناسب بينها واضح كذلك التناسب في الأحكام وفي الأسلوب اللغوي وفي القصص واضح جداً، وكذلك التناسب بين الآيات فترتيب الآيات كذلك معجز وهذا التناسب بعضه راجع إلى الفواصل، والفواصل أيضاً علم من علوم القرآن المستقلة والمقصود به رؤوس الآي التي يوقف عليها لأن الفاصلة في القرآن مثل السجعة في السجع ومثل القافية في النظم، فالقرآن نوع من الكلام مستقل ليس مثل السجع ولا مثل النظم ففيه فواصل يقابلها في الشعر القوافي ويقابلها في السجع السجعات، وهذه الفواصل إنما كانت تعرف بوقف النبي صلى الله عليه وسلم وبعده للآيات فقد كان يعد الآيات لأصحابه كما ثبت: (أن أبياً سأل ابن مسعود فقال: كأين تقرؤون سورة الأحزاب آية؟ فقال: ثلاثاً وسبعين فقال: قط..) أي: ما كانت كذا قط، فقد كانت مثل سورة البقرة ثم نسخ منها الكثير وكان مما نسخ منها آية الرجم نسخ لفظها وبقي حكمها.

والفواصل قد وضع لها أهل العلم قواعد تعرف بها من أهمها قضية التناسب، فإذا كانت الفاصلة على حرف معين إذا وجدت حرف معين يمكن الوقف عليه وقبله فاصلة فيها نفس الحرف وبعده فاصلة فيها نفس الحرف فاعلم أن ذلك رأس آية واعلم أنه فاصلة من فواصل القرآن؛ ومن هنا فمثلاً سورة الإسراء فيها مائتا فاصلة كلها على الألف التي هي حرف مد إلا الآية الأولى منها فالفاصلة فيها على حرف الراء الساكنة فقط الساكنة في الوقف سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ المَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ[الإسراء:1]؛ فهذه الراء وحدها هي التي ليس بعدها ألف في فواصل السورة كلها ما بعد ذلك كله بالألف وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا * ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا[الإسراء:2-3].. وهكذا بالألف كلها إلى نهاية السورة.

وفي بعض الأحيان تقع المناسبة بين الأحرف التي تقع عليها الفواصل من جهة تشابهها في المخرج أو من جهة تشابهها في الصفة كالنون والميم ونحو ذلك، وهذا كثير في القرآن، والفواصل أيضاً قد أفردت بالتأليف وأهم المؤلفات المفردة في علم الفواصل "ناظمة الزهر" وهي قصيدة للإمام الشاطبي وهي مشروحة مطبوعة وألف فيها عدد من الأئمة بعد الشاطبي فزادوا زيادات على الشاطبي في مواضع الخلاف لأن العد متباين باختلاف القراءات، عد الآي مختلف باختلاف القراءات فقد ذكرنا من قبل أن لأهل المدينة عدين، يسمى العد المدني الأول وهو العد الذي يوافق قراءة أبي جعفر يزيد بن القعقاع والعد المدني الثاني وهو العد الذي يوافق قراءة نافع، والعد المكي واحد وهو موافق لقراءة ابن كثير والعد الكوفي واحد وهو موافق للقراءات الكوفية الثلاثة، والعد البصري واحد، والعد الشامي واحد؛ فهذه أعداد للآيات وهي متباينة بحسب الاعتبارات فمثلا الفاتحة في العد المكي: بِسْمِ اللهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ[الفاتحة:1] آية منها، واهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ[الفاتحة:6-7]، آية واحدة؛ لأن الفاتحة صرح بأنها سبع آيات، فإذا عددت البسملة آية منها فلابد أن تجعل آخرها آية واحدة حتى يتم العدد، ومثل ذلك الفواتح فواتح السور في بعض القراءات تعد آية مستقلة فيقال: (الـم) آية (الـمص) آية (الــر) آية (الـمر) آية وهكذا (ق) آية (ن) آية، وبعضهم يصلها بما بعدها فيعد ذلك آية واحدة ومن هنا اختلفوا في سورة البقرة على ثلاثة أقوال في عد آياتها؛ فالمشهور أنها مائتان وستة وثمانون آية وبعضهم يجعلها خمس وثمانون آية وبعضهم يجعلها أربع وثمانون آية على هذه الاعتبارات السابقة؛ ولذلك فالعد عد آي القرآن كله على العد الكوفي ستة آلاف ومائتان وأربع وثلاثون آية، وعلى العد المدني الثاني - وهو قراءة نافع - ستة آلاف ومائتان وأربعة عشرة آية على هذا الخلاف الذي سبق، وقد بينا عناية الناس بالعد في هذا حتى عد النقاط ذكرنا أن النقاط التي وضعها أبو الأسود الدؤلي في القرآن مليون وخمسة وعشرين ألف وستة وثلاثين نقطة في القرآن كله.

وقد اعتنوا بعد الحروف التي اختلف فيها القراء كذلك، فالقراء اختلفوا في إثبات الحروف كما ذكرنا في: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ[الفاتحة:4]و (ملك يوم الدين) يُخَادِعُونَ[البقرة:9]، و(يخدعون) المد المتصل بميم الجمع في قوله: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ[الفاتحة:7]، (عليهُمْ) (عليهِمِ) (عليهُمُ) وهكذا فهذا المد حرف فإذا عددته ازداد عدد الحروف ومن هنا اختلفوا في تجزئة القرآن الخلاف المشهور فيما يتعلق بالتحزيب والتثمين والتربيع وغير ذلك كله راجع إلى عد الحروف باختلاف القراءات؛ فتجدون بعض الأجزاء مختلفة في بدأها فمثلاً الحزب الأول من القرآن مختلف في نهايته هل بداية الحزب الثاني قوله تعالى: وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا[البقرة:76]، أو قوله تعالى: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ[البقرة:75]، محل خلاف تجدونه في المصاحف ومثل ذلك قوله تعالى: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ[آل عمران:92]، مختلف هل هذا بداية الحزب أو قوله: كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ[آل عمران:93]، بجعل الآيتين تبعاً للحزب السابق محل خلاف، وهكذا في كل القرآن، ونظير هذا في انتصاف القرآن وتربيعه أي أرباعه فالنصف مختلف فيه هل ينتهي عند وَلْيَتَلَطَّفْ[الكهف:19]، عند هذه الكلمة نصف الحروف قيل ينتهي عند اللام من (وليتلطف) وقيل عند الفاء منها وأغرب بعض الناس فجعله ينتهي في سورة الحج؛ لأن الكلمات هي التي تنقسم في سورة الحج فذهب بعضهم إلى أن الحروف أيضاً تنقسم في سورة الحج عند قوله تعالى: وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ[الحج:36]، قال أحد مشايخنا - اسمه محمد أحيد، له ثلاثة وسبعون نظماً في علوم القرآن كلها ما ترك علماً من علوم القرآن إلا ونظم فيه نظماً-:

والبدن بين لامها والألف تناصفت حروف هذا المصحف

فالذي يبدو لي أن الجزم بأن (والبدن) هي التي حصل التناصف بين حروفها أن هذا غلط لأن الذي ينتصف في الحج الكلمات لا الحروف، الحروف لا خلاف في ما أعلم أنها تنتصف في سورة الكهف هي نصف القرآن الحقيقي الواقعي في سورة الكهف؛ ولذلك فإن المصاحف أعدلت إلى نهاية سورة الكهف وجعلت الانتصاف عند بداية سورة مريم وكذلك الأرباع الربع الأول عند نهاية الأنعام على الراجح وبعده النصف عند سورة الكهف ثم الربع الآخر نهايته عند نهاية سورة فاطر بداية ياسين وقيل عند نهاية سورة الصافات وبداية (ص) على خلاف هذا الخلاف فقط في سورتين في سورة ياسين وسورة الصافات هل هما من الربع الثالث أو من الربع الرابع ولا خلاف أن سورة (ص) من الربع الرابع..

والتسبيع ليس راجعاً إلى هذا لأن التسبيع إنما هو راجع إلى أوراد الناس في ما يقرؤونه يومياً من القرآن، فقد روي عن بعض الصحابة هذا التسبيع على التجزئة المعروفة للأسباع بالسور، وطبعاً هذه الأسباع غير متفقة من ناحية العدد بعضها أطول من بعض؛ ولذلك ليس راجع إلى عدد الحروف ولا عدد الكلمات، التسبيع خارج عما نحن فيه نتكلم هنا عن ما يتعلق بالتربيع والتثمين والتحزيب ونحو ذلك.

كذلك مما يتعلق بالألفاظ من علوم القرآن ما يتعلق بغريب القرآن وهو علم مستقل وقد ألف فيه عدد من المؤلفات وأول معجم ألف في الإسلام هو معجم الراغب الأصفهاني الذي سماه "المفردات" أي مفردات القرآن رتبه على الترتيب المعجمي ويمكن أن يكون بذلك تأثر بأهل الحديث فتابع البخاري وهو أول من ألف على المعاجم أول من ألف على ترتيب المعجم في كتابه "التاريخ" الذي حين عرضه على إسحاق بن راهويه قال: ما هذا إلا السحر! لأن فيه ترتيب ما كان العرب يعرفونه، رتب الأسماء ترتيباً حاصراً على الحروف هو أول من عمل ذلك وبعده تتابعت المعاجم، وأول من ألف معجماً في اللغة على هذه الطريقة هو الراغب الأصفهاني وكتابه في مفردات القرآن وهو مشهور مطبوع عدة طبعات، كذلك ألف الإمام مكي بن أبي طالب "غريب القرآن" وألف أبو عبيد القاسم بن السلام كتابه "غريب القرآن" وألف أبو عبيدة معمر بن المثنى كتاب "الغريبين" غريب القرآن وغريب الحديث، وألف الشافعي رحمه الله كذلك "غريب القرآن" وعدد كبير من أهل العلم ألفوا في هذا الباب مثل أبو هلال العسكري وغيره، ولا شك أن الغرابة متفاوتة ولهذا فالغريب في زماننا هذا يدخل فيه كثير من الكلمات التي لم تكن غريبة لدى السلف لأننا ابتعدنا عن العربية وكلما ابتعدنا ازداد عدد الغريب، كثير من الألفاظ لم تكن غريبة في الزمان الأول وأصبحت غريبة اليوم لندرة استعمالها في كلام الناس المعتاد لأن الناس لا يتكلمون في ما بينهم في العادة بالعربية الفصحى؛ فلذلك يصبح كثير من ألفاظها غريباً في التداول.

وعلم الغريب من أهم علوم القرآن لأن به فهم كثير من الألفاظ التي هي وعاء المعاني هي مندرجة فيها ومن لم يكن من أهل الغريب قال أهل العلم: لا يحل له التفسير أصلاً لأنه سيقدم على القول في الكتاب بغير علم، وهذا الذي امتنع منه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، ولذلك نجد اليوم بعض الذين يتجاسرون على دروس التفسير يجلس في درس يفسر سورة يوسف فلما بلغ قول الله تعالى: فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ[يوسف:63] قال: نكتل اسم أخي يوسف! فهذا النوع من الجهل بمفردات القرآن يؤدي إلى القول على الله بغير علم.

كذلك من علوم القرآن المتعلقة بالألفاظ ما يتعلق بالتناسب كما ذكرنا، التناسب بين السور والتناسب بين الآيات وكذلك التناسب بين الكلمات هو نوع آخر من أنواع التناسب، وهذا التناسب بين الكلمات معجز وله كثير من الأمثلة في القرآن مثل قول الله تعالى: إِنَّ المُسْلِمِينَ وَالمُسْلِمَاتِ وَالمُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالمُتَصَدِّقِينَ وَالمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللهُ لَهمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا[الأحزاب:35]، فجاء ترتيبها ترتيباً لفظياً عجيباً في ما يتعلق بالتشابه بين الحروف في المخارج والصفات قوله: إِنَّ المُسْلِمِينَ وَالمُسْلِمَاتِ وَالمُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ[الأحزاب:35]؛ فهذا يشترك في الميم التي بدأ بها وتوسطته، فالكلمات الأربعة كلها مبدوءة بالميم وتوسطت الميم فيها المُسْلِمِينَ وَالمُسْلِمَاتِ وَالمُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ[الأحزاب:35]، كذلك قوله: وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ[الأحزاب:35] تجتمع في القاف كذلك فالقاف في الكلمات الأربع، وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ[الأحزاب:35]كذلك مع وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ[الأحزاب:35] تشترك معها في العين التي هي حلقية.. الكلمة التي قبلها: وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ[الأحزاب:35]، نعم، (الصادقين والصادقات) وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ[الأحزاب:35]؛ فالدال والشين مخرجهما واحد من شجر الفم فيشتركان في ذلك، وكذلك قوله: وَالمُتَصَدِّقِينَ وَالمُتَصَدِّقَاتِ[الأحزاب:35]؛ فالدال كذلك فيها مناسبة للشين التي قبلها وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ[الأحزاب:35]، ووَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ[الأحزاب:35] مناسبة لـ: وَالمُتَصَدِّقِينَ وَالمُتَصَدِّقَاتِ[الأحزاب:35] بالاشتراك في الصاد كذلك ووَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ[الأحزاب:35]؛ فالاستعلاء الذي في الصاد كذلك نظيره في الظاء، (الحافظين فروجهم والحافظات) ووَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ[الأحزاب:35]؛ فالذال أيضاً والظاء صفتهما مشتركة فكان هذا تناسباً عجيباً وفيه تدرج أيضاً من ناحية المعنى لكن نحن نقصد هنا من ناحية اللفظ.

ومثل ذلك من ناحية اللفظ في التناسب قول الله تعالى: هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ[محمد:38]؛ فقد اجتمع في هذه الآية أنواع الفعل المضارع كلها الفعل المضارع المجزوم بالسكون والمجزوم بالحذف والمعل والمجزوم بحذف النون كلها مجتمعة في هذه الآية الواحدة، والتناسب في ذلك واضح، وكذلك اجتماع أحكام النون وأحكام الميم في آية واحدة وهي الآية السادسة من سورة الأنعام قوله تعالى: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ[الأنعام:6]، هذه آية واحدة جمعت جميع أحكام النون والتنوين وجميع أحكام الميم كذلك، كلها اجتمعت في آية واحدة من كتاب الله وهي التي سبق الإلغاز بها في البيت السابق:

خبروني عن آية جاء فيها كل حكم قد كان للنونات

واللغز قاصر لأنه لم يذكر الميمات كذلك فالآية فيها أحكام النونات وأحكام الميمات كلها، فيها الإدغام الخالص والإدغام بالغنة والإخفاء والإقلاب والإظهار كلها مجتمعة في ما يتعلق بالنون، وفيها كذلك فيما يتعلق بالميم الإدغام الشفوي والفك والإخفاء كلها مجتمعة.

كذلك من الأحكام المتعلقة بالتاريخ من علوم القرآن المكي والمدني والشتوي والصيفي ونحو ذلك؛ فهذا راجع إلى التاريخ وبه يعرف الترتب فيما يتعلق بالنسخ والتقييد والإطلاق فليست معرفة التاريخ شرطاً في النسخ فقط كما يتوهمه من درس التفسير أو درس الأصول بل إذا عرفنا المتأخر عرفنا كيف جاء التدرج في تشريع الأحكام مثل قول الله تعالى: تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا[النحل:67]، هذه أول ما نزل فيه ذكر الخمر امتن الله بها على أنها من الرزق لكنه أفردها على الرزق الحسن فجعلها ليست رزقاً حسناً لأنه عطف عليها قوله: وَرِزْقًا حَسَنًا[النحل:67]، والعطف يقتضي المغايرة فدل هذا على أن الخمر وإن كان رزقاً ليس رزقاً حسناً، ثم جاء بعدها: لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ[النساء:43]؛ فحرمت الخمر في وقت الصلاة فقط، ثم بعد ذلك أرشد إلى تركها وبينت مضارها دون أن يجزم في ذلك كقوله تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا[البقرة:219]، ثم جاء التحريم البات في قوله تعالى: إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ[المائدة:91]؛ فحرمها تحريما جازما وهذا أبلغ في التحريم مما لو قال: (فانتهوا) لأنه قال: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ[المائدة:91] تهديداً ولذلك يقال: إن عيينة بن حصن شرب الخمر فقيل له: ألم يحرمها الله؟ فقال: لا، إنما قال: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ[المائدة:91] وسكت وسكتنا، فما قلنا: نعم ولا قلنا: لا.

لكنه أسلم بعد ذلك، فيعتبر من الصحابة لأنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤمناً به، ثم رجع للإسلام بعد ردته.

كذلك من علوم القرآن ما يتعلق بالمعنى وهو كثير جداً، منه ما يتعلق بالإعجاز البلاغي فيه، وبلاغة القرآن اعتنى بها عدد من المفسرين قد سبقت الإشارة إلى ذلك كـالزمخشري ومحمد الطاهر بن عاشور ومن المتأخرين الصابوني، فهؤلاء الذين اعتنوا بأوجه البلاغة، وكذلك هذا الذي ألف كتاب الجدول في إعراب القرآن وبيانه بما يتعلق بالبيان، وكذلك أحد المشايخ الموريتانيين ألف كتاباً سماه "البيان والتعريف بما في القرآن من أحكام التصريف" هذا في التصريف فقط ليس في البلاغة، "البيان والتعريف بما في القرآن من أحكام التصريف" وهو مطبوع في مجلدين.

كذلك من هذه العلوم المتعلقة بالمعاني في القرآن ما يتعلق بأسرار التكرار؛ لأنه يقع التكرار في القرآن سواءً في القصص أو في الأخبار أو غير ذلك، وهذا التكرار قطعاً له سر بلاغي أو سر حكمي، فاستنباط ذلك من المهمات، فقد يكون هذا على وجه الإلغاز مثل ما جاء في قول الله تعالى: فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ[يوسف:76]، فهنا ما السر في التكرار؟ لأن الأسلوب المناسب في الأصل أن يقول: (فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها منه) أو (من وعائه) وهكذا، لكن الجواب عن هذا أن هذا حصل فيه إلغاز ألغز فيه أحد العلماء الشناقطة بقصيدة يقول فيها:

سؤال غريب دون شنقيط أرضه من البعد تيه يتصلن بتيه

إذا شبه الهادي بها وجه مرشد تشابه في عينيه وجه متيه

وأرسلها إلى المغاربة فلم يجيبوه، لم يهتدوا إلى جوابه؛ فأجابه أحد العلماء الشناقطة بقصيدة على نفس الروي يقول فيها:

سؤال قد أعيا أهل فاس وغيرهم فكنا بحمد الله مفتتحيه

وهذه يقول فيها: إن السر العجيب فيها أنه لو قال: (فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها منه) لكان هذا مما تأنف عنه الأنفس لأنه كأنه استخرجها من أخيه، ولو قال: (ثم استخرجها من وعائه) لأوهم هذا أنه استخرجها من وعاء نفسه، من وعاء يوسف وليس ذلك مقصوداً فلا يمكن أن نتخلص من هذا إلا بالتصريح بالاسم الظاهر، وقد ألف الكرماني في أسرار التكرار وهو كتاب مطبوع، أسرار التكرار في القرآن، وألف غيره كذلك، لكن كتاب الكرماني تناول كثيراً من الآيات التي فيها هذا النوع من التكرار مع أن هذه الآية لم يذكرها، سبحان الله! ما علق عليها.

كذلك من علوم القرآن ما يتعلق بنزوله، تاريخ نزوله؛ كنزوله منجماً ومثل التفريق بين مكيه ومدنيه، فالمدني عشرون سورة والمكي اثنتان وثمانون سورة، واثنتا عشرة سورة مختلف فيها، هل هي مكية أو مدنية أو مما تكرر نزوله؟ فالمدني عشرون سورة هي: البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنفال والتوبة والنور والأحزاب ومحمد والفتح، سورة الفتح وإن كانت لم تنزل بالمدينة إلا أنها نزلت بعد الهجرة، وهذا ضابط المدني، والحجرات والحديد والمجادلة والحشر والممتحنة والجمعة والمنافقون والتغابن والتحريم والنصر؛ فهذه عشرون متفق على أنها مدنية، واختلف في اثنتي عشرة سورة منها الفاتحة والمجموعة التي معها هل هي مدنية أو مكية أو مما تكرر نزوله؟ ومنها المعوذتان كذلك، وأما اثنتان وثمانون سورة فمتفق على أنها مكية، قد كنت نظمت هذا في الصغر وما أحفظه لكن فيه:

المدني من كتاب الله عشرون سورة بلا اشتباه

أولها بقرة فالآل ثم النسا المائدة الأنفال

فتوبة فالنور فالأحزاب محمد فالفتح لا كذاب

فالحجرات فالحديد فالجدال فتح امتحان جمعة نفاق تال

والباق مكي وذا ثنتان مع الثمانين بلا بهتان

فمعرفة هذا مما يعين الإنسان على تفهم القرآن والتدبر فيه والتفريق بين الأساليب المتنوعة فيه.

والكتب التي تجمع علوم القرآن المتنوعة من أعظمها كتاب الزركشي المسمى بـ(البرهان في علوم القرآن) وكتاب السيوطي المسمى بـ(الإتقان في علوم القرآن) كذلك، ومن كتب المعاصرين في هذا الباب كتاب الزرقاني المسمى "مناهل العرفان" وهو جيد لخصه من كتاب السيوطي تقريباً وأضاف إليه بعض ما يتعلق بترجمة القرآن وغير ذلك من الأبحاث النافعة.

ثم من الكتب المتعلقة بعلوم القرآن للمحدثين كذلك كتاب الشيخ مناع القطان رحمة الله عليه، واسمه "مباحث في علوم القرآن" وكذلك كتاب صبحي صالح رحمة الله عليه، المسمى أيضاً "مباحث في علوم القرآن" والذي يريد تدريس علوم القرآن الأفضل له أن يتقيد بكتاب محدد من هذه الكتب، وألا يتجاوز ذلك لأنه بتجاوزه سيضطر للتداخل بين علم علوم القرآن وعلم التفسير، سيقع في التداخل، وبالأخص الموضوعات المدروسة في الجانبين مثل الحروف السبعة وما يتعلق بها، هذا في مقدمات التفسير يدرسه المفسرون كـابن جرير الطبري الذي أتى به في المقدمة والقرطبي الذي أتى به في المقدمة وابن جزي الذي أتى به في المقدمة، ويدرسه أهل علوم القرآن كذلك، ومثل هذا ما يتعلق بأسباب النزول فهو المشترك كذلك، من المباحث المشتركة بين علوم القرآن وعلم التفسير، ومثل ذلك..

أما ما يتعلق بظاهرة الوحي فإنه مما يشترك فيه علم علوم القرآن مع علوم الحديث؛ لأن ظاهرة الوحي يشرحها أهل الحديث ويعقدون لها الأبواب والبخاري رحمه الله بدأ صحيحه بباب: كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقول الله تعالى: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ[النساء:163]، وأورد فيه الأحاديث المتعلقة ببدء الوحي، فهذا مما يدرسه أهل علوم القرآن كذلك لأن الوحي جاء على أوجه متعددة أوصلها بعضهم إلى اثني عشر وجهاً بجمع النصوص الواردة بذلك، ومعظمها ترجع إلى ثلاث هي المذكورة في قول الله تعالى: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْيًا[الشورى:51] أي: في رؤيا النوم، أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ[الشورى:51]، بالكلام مثل ما حصل لموسى وللنبي صلى الله عليه وسلم، أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ[الشورى:51]، وهذا هو الأكثر تنزيل الرسالة عن طريق الملائكة، فأكثر الوحي راجع إلى هذه الثلاثة، لكن هذه لها أنواع متعددة مثل الحديث الذي هو ثاني حديث في الصحيح يقول فيه البخاري: (حدثنا عبد الله بن يوسف قال: أخبرنا مالك عن هشام بن عروة عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: ( أن الحارث بن هشام سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، كيف يأتيك الوحي؟ قال: أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده علي، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلاً فيكلمني فأعي عنه ما يقول )، قالت عائشة: ( ولقد رأيته ينزل عليه في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقاً ) ) فهذا ذكر نوعين من أنواع نزول الوحي، ولا شك أن كل واحد منهما له صور؛ لأن الرجل الذي يأتيه يأتي تارة في صورة دحية الكلبي وتارة يأتي في صورة رجل مجهول، شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد، وكذلك يأتي مثل صلصلة الجرس تارة يأتي بشدة هائلة مثل ما حدث زيد بن ثابت: ( أنه كان جالساً إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسند رسول الله صلى الله عليه وسلم ركبته إلى فخذه فنزل عليه الوحي فارفضت فخذي )، كادت فخذه تتكسر من شدة ما غشيه من هول الوحي، وهذا النوع كان إذا نزل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو راكب راحلته لا يقوى له شيء أي دابة يركبها تمس الأرض إلا القصوى وحدها فكان إذا نزل عليها هذا النوع من الوحي ضربت بأخفافها الأرض ووقفت حتى ينقطع، لا تتحرك حتى ينقطع، ومنه ما دون هذا؛ ولهذا يتفاوت الناس فكان عمر إذا كان بمجلس النبي صلى الله عليه وسلم فنزل عليه هذا النوع من الوحي يسمع مثل أزيز النحل، النبي صلى الله عليه وسلم يسمع مثل صلصلة الجرس الشديد، مثل السلسلة الضخمة من الحديد التي تجر في الجبل الصلب، صوت شديد جداً وعمر يسمعه مثل أزيز النحل فقط، كل وقدرته بحسب ذلك، ومن دون عمر لا يسمع شيئاً أصلاً.

فإذاً على الباحث أو المدرس الذي يريد تدريس هذا العلم الذي هو علوم القرآن أن يعلم أنه ملفق من عدة علوم وأنه الأفضل له أن يرتبط بكتاب محدد يدرسه وألا يجعله كما سبق في تدريس التفسير لا يرتبط فيه الإنسان بكتاب معين، في إحدى الطريقتين اللتين ذكرنا، وإذا ارتبط بالكتاب فليس معنى ذلك أن يتابع الكتاب في كل ما فيه بل عليه أن يضيف ويزيد وأن يوضح ويبين وأن يحاول كذلك تلخيص ما تشعب ونظم ما انتثر والتمثيل لما أغفل والاعتراض على ما يمكن الاعتراض عليه والإجابة عن الاعتراضات؛ فهذا من أوجه التفهيم المهمة جداً في كل العلوم.

وبهذا نكمل ما نريد بيانه عن علوم القرآن