مقدمات في العلوم الشرعية [13]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

من علوم السنة كذلك الخادمة لها: علم التخريج، وهو علم مهم لاقتضائه أمرين:

الأمر الأول: معرفة الحكم على الأحاديث تصحيحاً وتضعيفاً.

والأمر الثاني: معرفة ما فيها من الزيادات التي قد تكون مؤثرة في الحكم.

فلم يكن الأولون بحاجة إلى هذا العلم فلذلك لم يبتكروه، وإنما احتيج إليه بعد أن اتسعت المؤلفات في الحديث، وكان كثير منها كتب مطولة يشق على الناس روايتها بالأسانيد، بل قلت الرواية بالحفظ حينئذٍ، فاحتيج إلى التخريج.

ولا يمكن أن نحدد تقريباً إذا بدأنا بالمقدمات العشر؛ لأن التخريج نقول تعريفه: هو بيان من أخرج الحديث أو الأثر، وبيان موضعه من الكتاب، وذكر الحكم عليه، فإن له علم يتناول ثلاثة أمور:

أولاً: بيان من أخرج الحديث من أهل العلم.

ثانياً: بيان موضعه أو مواضعه من كتاب؛ لأن الحديث الواحد قد يورد في الكتاب مرات؛ فإن البخاري أخرج حديثاً واحداً في صحيحه اثنين وعشرين مرة, وأخرج عدداً من الأحاديث ثمانية عشر مرة، مواضع مختلفة من الصحيح, كذلك الحكم عليه، إما بطريق النقل تعريف من حكم عليه من السابقين من أهل العلم ممن يختصون بهذا، أو أن تحاول أنت قدر جهدك للوصول إلى قناعة فيه، وهذه القناعة ستكون أمراً اجتهادياً، يمكن أن توافق عليها، ويمكن أن تخالف، مثل: القناعة التي تحصل للفقيه في المسألة المتجددة, ولهذا لو وجدت حكماً على حديث بالتصحيح أو بالتضعيف ليس معنى ذلك أن الأمر فيه قد انتهى، بل هذا مثل ما لو وجدت فتوى لأحد المفتين، يمكن أن توافق عليها أو يمكن ألا توافق، تنظر إلى الدليل، إذا حصلت لديك القناعة فبها ونعمت وافقت، وإن لم تحصل لديك فأنت مطالب بالبحث من جديد.

أما موضوعه: فهو الأحاديث والآثار، أي: الأحاديث المرفوعة والآثار الموقوفة على الصحابة والمقطوعة كذلك عن التابعين وأتباعهم, وجهة البحث فيها هي من جهة ذكر محالها والحكم عليها.

ولا يعرف له واضع مخصص، بل من مشاهير الذين اعتنوا بعلم التخريج الإمام الدارقطني , وبعده كذلك الحاكم ثم البيهقي , ثم بعده البغوي , ثم جاء فارس هذا العلم الزيلعي , وذلك بعد أن أصبح كثير من الفقهاء يعتمدون على الأحاديث الضعيفة ويدرجونها في كتبهم فيلتبس على دارس الفقه غير المتخصص ما هو دليل صحيح، وما ليس كذلك، فيحتاج هنا إلى التخريج، وبالأخص إذا وجدت كتاباً مشحوناً بالأدلة، فمن ليس طالب العلم يجد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، والعادة أن أهل الحديث لا يقولون هذا إلا بلزوم صحته، وهذه الكتب الفقهية مجردة من الأسانيد، وأهلها أيضاً لا يعتنون في الغالب بتخريج الأحاديث، ومن النادر أن يقولوا: أخرجه فلان، وإنما يطلقون ذلك على ما كان في الصحيحين، وهذا أصلاً ينبغي ألا يكون محتاجاً لتخريجه؛ لأن الصحيحين مازال الناس يحفظونهما ويروونهما, فكان الزيلعي بداية سد هذه الثغرة، فألف كتابه نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية, والهداية شرحاً للمرغيناني على كتابه بداية المبتدي في الفقه الحنفي، وفيها عدد كبير من الأحاديث والآثار التي يستدل به الحنفي, ولذلك كان كثير من علماء الحنفية يظنون أن كل ما فيها فهو صحيح، سواء من الفقهيات أو من الأحاديث أو من الآثار, وقد اعتنى صاحبها بها عناية بالغة، فجمع فيها بين كتابين من كتب الحنفية، كتاب الكتاب أي: مختصر القدوري، وكتاب الجامع الصغير لـمحمد بن الحسن الشيباني، فيأتي غالباً بألفاظهما، ثم يضيف هو الأدلة زيادة على ذلك, ولهذا قال فيها أحد الحنفية:

إن الهداية كالقرآن قد نسخت ما ألفوا قبلها في الشرع من الكتب

فاحفظ قواعدها واحفظ فوائدها يسلم كلامك من زيغ ومن كذب

ولهذا اعتنوا بها عناية كبيرة وشرحوها كثيراً من الشروح، الشروح المطبوعة اليوم..

فوفق الزيلعي رحمه الله لحصر أحاديث الكتاب وآثاره، وتخريجها والحكم عليها، والحكم المقصود هنا في التخريج، هو الحكم على الحديث بالتصحيح أو التضعيف، وليس مجرد الحكم على الإسناد، فهذا من الصنعة الحديثية.

والتخريج إلى علم الدلالة أقرب منه إلى علم الرواية، إن التخريج يتعلق بمرحلة من مراحل علم الدراية، إذا عرفت صحته بعد ذلك تستنبط منه الرواية.

وكان الزيلعي رحمه الله معتدلاً في أحكامه، وأبدى مهارة عجيبة في كتب الحديث، ومع ذلك فقد يجتره موافقة المنهج إلى تضعيف الأحاديث التي هي في أحد الصحيحين، كحديث القضاء بالشاهد واليمين، وهو في صحيح مسلم من حديث ابن عباس، وقد جاء عن عدد من الصحابة، فقد روي من حديث جابر وأنس وأبي هريرة وعائشة وغيرهم، ووجه تضعيفه له من علتين:

الأولى: أن ابن جريج وهو الذي رواه عن سيف بن عمر عن ابن شهاب قال فيه: فلقيت ابن شهاب فسألته فأنكره، وأثنى على سيف بن عمر، فـابن شهاب لم يتذكر مرويه، وأنكره مع ذلك أثنى على سيف بن عمر، وهذا لا يضعف الحديث؛ لأن نسيان الراوي لمرويه إذا كان قد نقل عنه ونقله ثقة، موجود وكثير فلا يكون طعناً فيه، ولهذا فإن سهيل بن أبي صالح كان يحدث عن سفيان عن نفسه، حدثني سفيان عن نفسي عن أبي؛ لأنه نسي الحديث بعد أن حدث به سفيان، فكان يأخذه عن سفيان عن نفسه.

العلة الثانية: أنه زيادة على النص؛ لأن الحنفية يعتبرون أن الزيادة على النص نسخ مطلقاً، والله تعالى ذكر وسائل الإثبات في قوله: وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ [البقرة:282]، وجعل النصاب إما شاهدين وإما رجلاً وامرأتين، فزاد الحديث شاهداً ويميناً، فقالوا: هذا زيادة على النص، والزيادة على النص نسخ، والقرآن لا يمكن أن ينسخ بخبر آحاد معل، لكن أجابوا عن هذا بأن هذه الزيادة ليست من زيادة على النص ناسخة؛ لأن القرآن ما جاء في هذه الآية لحصر وسائل الإثبات، والحنفية يوافقون على هذا اليمين في غير هذا الموطن، ويجعلونها وسيلة إثبات، فدل هذا على أن المذكور في الآية نصاب الشهادة فقط، حصر النصاب في الشهادة في غير الزيادة المذكور.

أما وسائل الإثبات فلم تتعرض الآية لحصرها، بل منها الإقرار وهو آكد من الشهادة بالاتفاق، ومنها كذلك الكتابة التي ذكرها الله قبل هذا، والرهن الذي ذكره قبل هذا وسائل الإثبات كثيرة.

كذلك فإن من فرسان هذا الفن فقيه الحنابلة ابن رجب رحمه الله، وكان ذا باع طويل في الحديث، ومهارة عظيمة بعلله، وقد تلقى ذلك عن تلامذة شيخ الإسلام ابن تيمية، الذين أكسبهم هذه المهارة، وقد ألف هو في التخريج فخرج كثيراً من الأحاديث إما في رسائل صغيرة، وإما في بعض الكتب التي اعتنى بها، وقبله كذلك عناية شيخ الإسلام رحمه الله بتخريج الأحاديث التي يستدل بها للخصوم، لكن هذه لم تكن كتباً مستقلة، والزيلعي في الواقع إنما سبق للتخريج بهذه الطريقة المحكمة الواضحة المعالم، بكتاب التنقيح ولذلك يعتمد عليه كثيراً، فيعتمد كثيراً على التنقيح وينقل منه.

ثم جاء بعد الزيلعي الحافظ ابن حجر، فكان سيد أهل علم الحديث بزمانه، بمختلف علوم الحديث، ومنها علم التخريج، وقد ألف كتاباً اختصر فيه كتاب الزيلعي نصب الراية اختصره في كتاب الدراية في تخريج أحاديث الهداية، وكذلك خرج أحاديث شرح فتح العزيز في شرح الوجيز، للرافعي وهو شرح الكبير على الوجيز للغزالي، والغزالي ألف ثلاثة كتب في الفقه الشافعي سنذكرها إن شاء الله في الفقه البسيط والوسيط والوجيز، والوجيز يذكر فيه الأدلة مختصرةً ويشير فيه للمذاهب الأربعة فكان أهم هذه الكتب.

وقد اعتنى به الشافعية كثيراً، ومن الذين اعتنوا به الرافعي، ألف عليه ثلاثة شروح كذلك، شرح طويل هو الذي يسمى بفتح العزيز هو مطبوع الآن، وشرح متوسط وشرح مختصر، ففتح العزيز هذا اعتنى به الشافعية عناية كبيرة، فألف الفيومي المصباح المنير في غريب لغة الرافعي الكبير، ما يتعلق بلغته، وألف الحافظ ابن حجر كذلك التلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير.

وخدم الحافظ في هذا الكتاب كثيراً من أدلة الأحكام، وضعف كثيراً مما كان حجة قاطعة لدى كثير من الذين سبقوه من الفقهاء، ولهذا فلدينا بعض الأحاديث الذي اعتمد عليها في مرحلة من الفقه قبل أن ينتشر علم التخريج، وبني عليها ما يمكن أن نصفه بأنه إجماع، وهي في الواقع من ناحية صنع الحديث ضعيف، وفي الحديث: ( كل قرض جر نفعاً فهو ربا )، ومثل الحديث النهي عن الكالئ بالكالئ، وغيرها من الأحاديث التي هي ضعيفة من ناحية الصنعة، ولكن حصل الإجماع عليها في قرون مضت، فأصبحت الحجة فيها الإجماع.

وجاء قبله أيضاً كما تجاوزنا شيخه أبو الفضل عبد الرحيم بن الحسين العراقي، الذي خرج أحاديث إحياء علوم الدين في كتابه المغني عن حمل الأسفار في الأسفار، وأكب رحمة الله تعالى بالتماس مراجع الغزالي التي هي كثيرة جداً؛ لأن الغزالي فتح الله له في الحفظ فتحاً عجيباً، وفي الاطلاع كذلك لكثرة أسفاره والبلدان التي استقر فيها، فكان تقصي مراجعه أمراً شاقاً جداً، وهي كثير من الأسفار أي المجلدات، فأراد العراقي أن يجمع هذا الكتاب حتى يكون مغنياً عن حمل الأسفار في الأسفار.

وجاء السيوطي بعد الحافظ ابن حجر فكان أيضاً فارس التخريج في زمانه، وقد اعتنى طبعاً قبله من المشاهير المخرجين أيضاً الإمام الزركشي، فقد ألف كتابه المعتبر في تخريج أحاديث المنهاج والمختصر، المنهاج للبيضاوي والمختصر لـابن حاجب وكلاهما في أصول الفقه، أحدهما: هو عمدة المالكية، الثاني: هو عمدة الشافعية، مختصر ابن حاجب عمدة المالكية، ومنهاج البيضاوي هو عمدة الشافعية، وجاء السيوطي فاختصر تخريجات الزركشي والعراقي وابن حجر في كثير من الفقه، فألف كتابه تخريج أحاديث العقيدة، وتخريج أحاديث المنهاج، وتخريج أحاديث المختصر، وتخريج أحاديث التفسير، وهذا ذكرناه في علم التفسير هو كتاب الدر المنثور، وتخريج أحاديث النحو، الأحاديث التي يستدل بها النحويون.

اعتنى السيوطي رحمه الله بالتخريج عناية كبيرة، وذلك لطول يده أيضاً فيما اطلع عليه من الكتب، ثم بقي التخريج فترة بعد هؤلاء لم يجد فيه الجميع.

وفي زماننا هذا رجع الناس إلى التخريج، ومن الذين كان لهم الفضل في ذلك بعد الله تعالى الشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله، فقد اعتنى في فترة طلبه بكتاب العراقي المغني عن حمل الأسفار في الأسفار، وهو أول كتاب من كتب التخريج وقع في يده فاعتنى به، ثم وجد بعد ذلك كتاب محمد مرتضى الزبيدي في تخريج أحاديث الإحياء أيضاً، فمن هذين الكتابين تعلم التخريج، فهو تلميذ في التخريج لكتاب الحافظ العراقي ولكتاب الشيخ محمد مرتضى الزبيدي، وقد ألف كثيراً من الكتب في التخريج، بعضها يمكن أن يطلق عليه تأليف فعلاً؛ لأنه كتب منسقة منظمة، سلك فيها قواعد التخريج، وبعضها إنما هو مقالات حول أحاديث جمعت، ولا تكون لها قيمة المؤلفات، فمن الكتب التي لها قيمة المؤلف فعلاً كتاب إرواء الغليل، وأراد به تخريج أحاديث منار السبيل في شرح الدليل، ووفق في تخريج كثير منها مع أنه بداية مبكرة لذلك لم يكن مستوعباً إذ ذاك لكثير من القواعد الحديثية، ولا لكثير من أسماء الرواة والحكم عليهم، وأيضاً كثير من الكتب ما انتشرت بالقدر الكافي وهو يرجع إلى مخطوطة واحدة، قد يكون فيها خرم، وقد يكون فيها نقص، ولذلك حصل له في كثير من الأخطاء التي رجع عنها فيما بعد.

وأما الكتب التي ليست مؤلفة بمعنى التأليف الحقيقي فهي مثل كتابه: صحيح الجامع الصغير، ومثل كتبه في صحيح سنن أبي داود وضعيفه، وصحيح سنن الترمذي وضعيفه، وصحيح سنن النسائي وضعيفه، وصحيح سنن ابن ماجه وضعيفه، ومثل سلسلة الأحاديث الصحيحة، وسلسلة الأحاديث الضعيفة، فهذه إنما هي مقالات حول أحاديث، ولذلك كثير منها إحالات إلى كتب سابقة إلى الإرواء وغيره.

وعموماً فقد نفع الله به اشتغاله هو للتخريج، فاقتفى أثره في ذلك عدد كثير من الباحثين، واعتنت به الجامعات، وكان من فضل الله عليه هو أن انتدب للتدريس في الجامعة الإسلامية في أول نشأتها في المدينة، والمدينة إذ ذاك فيها عدد كبير من العلماء الفطاحل الكبار، وفيها أيضاً عدد لا بأس به من ذوي الهمم من طلاب العلم الذين أصبحوا الآن ممن يشار إليهم بالبنان، وأصبحوا أصحاب مدارس في الواقع، فهؤلاء نشروا فكرة الألباني في إحياء علم التخريج، ولذلك يمكن أن يوصف الشيخ الألباني في زماننا هذا بأنه شيخ مدرسة التخريج، لكن لا يقال: مثلاً شيخ مدرسة الحديث، أو شيخ علم الحديث؛ لأنه الأحاديث كثيرة، وكثير منها ما له فيه يد أصلاً، وكثير منها يده فيه في مثل غيره، أو يوجد في معاصريه من هو أفضل منه في ذلك، لكن في التخريج فعلاً أفاد كثيراً رحمه الله نسأل الله أن يتقبل ذلك منه.

والذين اتبعوه على هذا أيضاً تفاوتت مستوياتهم تفاوتاً عجيباً، فمن الذين سلكوا الأسلوب العلمي في التخريج فعلاً بعض الأفراد القلائل، ومنهم مثلاً: أبو إسحاق الحويني في بعض تخريجاته، فعلاً تجد تخريج المحقق درس التخريج سلك فيه طريق لا بأس بها، تخريجه مثلاً لكتاب ابن الجارود، تخريج محكم.

ومن الذين عاصروا الألباني واستفادوا من تجربته، وإن كانوا لم يتتلمذوا عليه، بل ربما كان لهم سبق في علوم أخرى الشيخ شعيب الأرناؤوط، ولا شك أنه في التخريج أيضاً ضليع، وكذلك محمد عبد الله صديق الغماري الطيشي من شمال المغرب، وغير هؤلاء من المشاهير الذين يخرجون الكتب اليوم وهم كثر.

أما فائدة علم التخريج فهي كما ذكرنا إحدى فائدتين: الحكم عليه والاستنباط منه، وهذه الفائدة فيها مناقشة ذكرها الشوكاني رحمة الله، هي أن كثير من الأئمة يحكمون على الحديث بالتضعيف ثم بعد ذلك يذكرون بعض فوائده، وممن حصل منه هذا الحافظ ابن حجر نفسه، وسبقه إلى هذا عدد من الكبار كـابن عبد الهادي الحنبلي وابن الملقن، وغيرهم يحكمون على الحديث بالضعف، ويقولون: أنه يستنبط منه كذا وكذا، وقصدهم بذلك التمرين الذهني للاستنباط، وأن الحديث قد يجبر ضعفه من وجه آخر، ولهذا فطريقة الشيخ الأمير الصنعاني رحمه الله في نقل التضعيف في الحديث ثم بعد ذلك ما يستنبط منه إنما هي سالكة في هذا الفج.

والشوكاني وإن انتقد هذا فقد عمله أيضاً، هو في الفوائد المجموعة ينتقد هذا ثم يعمل به في غير الفوائد، في نيل الأوطار.

أما علاقة هذا العلم، أو نسبته إلى غيره من العلوم فهي نسبة العموم والخصوص الوجهي؛ لاشتراكه مع علم الحديث في دراسة الأسانيد والمتون، ولاشتراكه كذلك مع علم العلل في هذين الأمرين، ولاشتراكه مع أصول الفقه في أوجه الاستنباط، وفي الفقه كذلك أن التخريج غالباً ينصب على أدلة الأحكام، ونادر جداً أن تجد من الناس من يخرج ما يتعلق بغيرها غير أدلة الأحكام، نعم لا شك أن بعض الناس خرج بعض ما لا علاقة له بأدلة الأحكام بصفة مباشرة، مثلاً في القدماء القاضي عياض خرج حديث أم زرع، ولم يقصد التخريج فقط، ولذلك ذكر ما يستنبط منه وسمى كتابه: بغية الرائد لما تضمنه حديث أم زرع من الفوائد، ذكر أوجهه وأوجه هل هو مرفوع كله؟ أو المرفوع منه فقط؟ هو: كنت لك كـأبي زرع أو أم زرع غير أني لا أطلقك أو غير ذلك، وأتي حصر طرقه، ثم ذكر ما يستنبط منه من فوائد وأجاد وأفاد رحمه الله.

وكذلك الحافظ ابن حجر مثلاً في حديث: ( لا تسبوا أصحابي )، قد خرجه في جزء مستقل، ذكر فيه طرق هذا الحديث وحاول أن يستوعبها.

وكذلك السيوطي في الأحاديث المتواترة حاول استيعاب بعض طرق لبعض الأحاديث مثل حديث: ( نضر الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها، فأداها كما سمعها ).

أما حكمه، حكم علم التخريج فهو فرض كفاية على غير المناظر، أما المناظر فيجب عليه أن يعرف درجة الحديث الذي يناظر به، فلا يحل له أن ينسب للنبي صلى الله عليه وسلم ما لا يجزم بأنه قاله، ولذلك فإن أول حديث من صحيح مسلم في مقدمته للنبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من حدث عني بحديث وهو يراه مكذوب علي فهو أحد الكاذبَين )، أو ( الكاذبِين ).

وفضله حسب ما يستفاد منه؛ لأن فضل كل عمل بحسب فائدته.

واسمه التخريج، أصله من الإخراج، كأن الإنسان يريد خروج ذلك الحديث من روايته لينتشر بين الناس، ويقال في فعله: خرج وأخرج، ويقال: أخرج أحمد في المسند، وخرج أحمد في المسند، لكن للمتأخرين مصطلح خاص، فـالدمياطي رحمه الله يفرق بين أخرج وخرج، فإذا قال: أخرج، فمعناه أن الحديث مما يستدل به مقبول، سواء كان صحيحاً أو حسناً أو غيره ذلك، وإذا قال: خرج، فمعناه أن الحديث مردود لا يستدل به ضعيف أو موضوع، هذا الفرق بين أخرج وخرّج، لكنه فرق اصطلاحي ليس لغوياً، وأهل الحديث إنما يفرقون بين الاستخراج والإخراج، فالإخراج هو كما ذكرنا: ذكر طرق الحديث ومن رواه وموضعه والحكم عليه، وأما الاستخراج فهو: ذكر طريق للحديث غير طريق صاحب الكتاب، كما ذكرنا من قبل في المستخرجات.

بهذا نكون قد أتينا على مقدمات علم التخريج.

منهجية المؤلفين في الحكم على الحديث

السؤال: السؤال مهم ما يتعلق بمنهجية المؤلفين في الحكم على بعض الأحاديث تصحيحاً وتضعيفاً، وكذلك لافتراق شخصيتهم بين التشدد والتساهل في مختلف مؤلفاتهم؟

الجواب: والجواب عن هذا: أن علماءنا رحمهم الله لم يكن لديهم التخصص كما ذكرنا من قبل، وإنما كانت علومهم علوم شمولية، والعلوم نفسها مؤثرة بحسب حال الدارس، فيتكلوا في دراسة الفقه إذا ذكر دليلاً على أنه سيدرسه في مكان آخر، وإذا درسه في الجانب العقدي مثلاً يحيل عليه في موضع آخر وهكذا، ولذلك تكثر الإحالات في كتبهم، كثير من علمائنا إذا قرأت لهم لا تقرأ صفحة إلا وفيها، ومحل استقصاء ذلك في موضع آخر، وقد استقصينا ذلك في مكان آخر، والمقصود هنا كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: قد بينا ذلك في موضع بما هو أبسط مما هنا، والمقصود هنا كذا وكذا، ولذلك فهم يحيلون إلى مراجعهم؛ لأنها دائمة لديهم، فإذا كان أحدهم يؤلف في فقه، قد يتساهل بجلب بعض الأحاديث الضعيفة تبعاً للفقهاء؛ لأنه الآن في مملكة الفقهاء وسالك لطريقهم، أما إذا كان يؤلف في التخريج وفي العلل فيأخذ بدقة أهل التخريج والعلل، وبهذا يكون له أكثر من شخصية، أما ما يحصل من نقل بعض أهل العلم لبعض الأحاديث بتضعيفها في موضع، وتصحيحها في موضع فذلك لزيادة علم، إما عن طرق زيادة علم فعلاً فيكون هذا رجعة عن الحكم السابق، وإما أن يكون من باب الوهم والذهول والنسيان، وكل ذلك ممكن والسيوطي رحمه الله من المشهورين في هذا، فيصحح الحديث في كتاب من كتبه ويضعفه في كتاب آخر، لتجدد علم تجدد لديه في الأمر، أو لأنه في هذا الكتاب يقصد اختصار كتب معينة أصحابها يضعفون هذا الحديث، وفي موضع آخر إنما يقتفي الذين ذكروه مطلقاً، أو يعتمده هو على نفسه فيصححه اعتماداً على معلوماته.

وكذلك نقوله عن الأئمة كثيراً ما يقع فيها مثل هذا، كنقله عن مالك رحمه الله أنه كان يرى تحريم الاقتباس من الكتاب والسنة في الشعر، فنقل عنه هذا في شرح عقود الجمان، ونقل عنه نظيره أيضاً في الإتقان في علوم القرآن، وكذب ذلك تكذيباً قاطعاً في شرح الموطأ تنوير الحوالك، وتنوير الحوالك في التـأليف متأخر على الكتابين السابقين، قال: ما نظمه شيخي محمد سالم بقوله:

ما ذكر الجلال في الإتقان وفي عقوده من الجمان

من منع الاقتباس عند مالك أكثر في تنويره الحوالك

من رده ونسب الفشارى لمن إلى تحريمه أشارا

أقول والتاريخ بالتأخير يحكم للتنوير حاول خيري

التنوير هو المتأخر في التأليف عن سابقيه، ولهذا فما يفعله اليوم الذين يتقصون الزلات ويبحثون عنها من دراسة كتب الشيخ الألباني مثلاً ليجدوا فيها تضعيفاً لبعض الأحاديث في موضع، وتصحيحاً له في موضع آخر، هذا منهج غير مستقيم، والتصحيح والتضعيف كلامهما حينئذٍ ينبني على تغير قناعة الإنسان بحسب علمه، قد قال عمر رضي الله عنه: تلك على ما قضيناه وهذه على ما نقضي، والإنسان يجب عليه تجديد الاجتهاد في كل أمر ولا يأنف عن الرجوع للحق، ولهذا كتب عمر إلى أبي موسى في كتاب القضاء: ولا يمنعنك قضاء قضيت فيه في الأمس، فراجعت فيه نفسك فهديت به إلى رشدك أن ترجع إلى الحق، فإن الحق قديم لا ينقضه شيء، وإن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل.

أما بالنسبة لمنهجيات الناس فلا شك أن العلم الحديث اليوم، قد أوجد مناهج منضبطة في الغالب، إن لم يسبقك الإنسان في كل كتبه على الأقل يلتزم بها في الكتاب الواحد، مثل الرسائل العلمية اليوم، إذا أخل بمنهجية حتى في ترتيب الأقوال أو في مناقشة الأدلة أو غير ذلك يحاسب على ذلك؛ لأنه غير المنهجية، أما لدى القدماء فتغيير المنهجية لديهم قد يكون محبوباً، وبالأخص من يؤلف في النحو والبيان، فأهل البلاغة يفضلون التغيير في الأساليب على الروتين فيها؛ لأنهم يرون أن الروتين فيها مقتضي الملل، والتغيير فيها إبداع بالتعبير بأساليب مختلفة، ولذلك فإن ابن مالك رحمه الله في ألفيته ينتهي بدائماً هذا المنحل بلا غير، قال مثلاً في عد الضمائر المنفصلة، قال:

ومن ضمير رفع ما يستتر كأفعل أوفق نغتبط إذ تشكر

وذو ارتفاع في انفصال أنا هو وأنت والفروع لا تشتبه

وذو انتصاب في انفصال جعلا إياي والتفريع لا مشكلا.

فيجعل الحكم الإعرابي ظرفاً في البيت الأخير، ويجعله هو الحكم، ويجعل الانفصال هو الظرف في البيت الذي سبقه، يغير المنهجية تبعاً لهذا.

بالنسبة للمشتغل بالتخريج، بتخريج أي حديث إذا كان مؤلفاً يكتب لغيره، لا يجزئ في تخريجه أن يقول: وصححه فلان أو ضعفه فلان هذا لا يكفي، بل إنما يكفي في ذلك لو أتى بعدد كبير من العلماء المشاهير تواتروا على تصحيحه، يمكن أن تبرأ ذمته هو، إذا قال: صححه الترمذي، وابن خزيمة، وابن حبان، الحاكم، والحفاظ ابن حجر وفلان وفلان.. عد مجموعة؛ لأنه لا يمكن أن يكون هؤلاء جميعاً من المتساهلين ويحصل عليهم الخطأ جميعاً، ومع ذلك فالأحوط دائماً له هو أن يبحث عن قناعته هو، فإذا حصلت لديه القناعة اكتفى، وهو لا فرق بين نقله للتصحيح والتضعيف، وبين نقله لفتوى علم من العلماء في مسألة فقهية، ومع الأسف أن كثيراً من الباحثين مثل المسائل الفقهية يضرب الذكر صفحاً عن قول الإمام أحمد وقول ابن قدامة وقول ابن تيمية ويأتي هو لاجتهاده، أما في التخريج فيقول: صححه الألباني ويكتفي، فلماذا تقلد تقليداً أعمى لشخص معاصر لك في مسألة؟ والأخرى تتنكر فيها بالكلية للتقليد حتى عن المجتهدين الكبار؟

منهج المحدثين بين التشدد والتساهل

السؤال: بالنسبة للسؤال أفعال المحدثين في أنهم إذا كانوا في حال النقد يتشددون، وفي حال الجمع يتساهلون؟

الجواب: أن أصل ذلك أن أهل الحديث ينصحون طالب الحديث في مرحلة الطلب بالتخريج، وفي مرحلة التأليف بالتفتيش، ولذلك ذكر العراقي رحمه الله قوله:

قمش إذا قرأت قمش قمشي فتش إذا حدثت فتش فتشي

في حال الجمع يقمش يجمع كل شيء، وفي حال التأليف والتحديث يفتش، لكن القضية المهمة في هذا الباب أن يعلم أن الاختلاف بين النظرية والتطبيق حاصل فعلاً، وقد انتبه له كثير من العلماء الذين يسميهم الناس بالمحققين، فمثلاً ابن نجيم من الحنفية كثيراً ما يأتي باستدراك، عندما يقعد الحنفية قاعدة من القواعد، يأتي هو ويقول: انظر إلى الاضطراب الحاصل في كلامهم بين القاعدة وبين فروعه، يقصد النظرية والتطبيق.

وكذلك شيخ الإسلام ابن تيمية انتبه إلى فرق كبير بين التطبيق والتقعيد، ونبه عليه أيضاً في بعض المواضع، ومن أمثلة الاختلاف بين التطبيق والتقعيد حتى في القواعد الفقهية العادية، قاعدة: لا إنكار في مسائل الخلاف، هذه قاعدة قعدها المذاهب، وقالوا: الإنكار يشمل مثلاً نقض الحكم، قالوا: لا ينقض حكم القاضي إلا إذا خالف النص من الكتاب والسنة، أو الإجماع أو جلي القياس، أو القاعدة المعتبرة.

إذا قضى حاكم يوماً بأربعة فالحكم منفسخ من بعد إبرام

خلاف نص وإجماع وقاعدة كان القياس الجلي قذف أفهام

جاء القرافي فقال: لا بد من تقييد هذه المذكورات، فإذا قيل: خلاف النص فالمقصود به خلاف النص الخالي من المعارض، فإذا قيل: في القاعدة والمقصود بها الخالية من المعارض، وإذا قيل: بخلاف القياس الجلي، فالمقصود به الخالي من المعارض، أما الإجماع فالمقصود به، الإجماع الواقعي وليس الإجماع السكوتي الإجماع الصريح.

وجاء ابن تيمية فقال قيدها تقييداً آخر، فقال: المقصود بقولهم: لا إنكار في مسائل الخلاف، مسائل الاجتهاد، وليس كل خلاف جاء معتبراً إلا خلاف له حظ من النظر.

ومن هنا فالمسائل الغير الاجتهادية التي هي محسومة بالنصوص قوية ينقض فيه الحكم وينكر فيها على المخالف، جاء ابن الهمام من الحنفية بعد ابن تيمية واستدرك استدراكاً آخر، فقال: لا معنى للتفريق بين مسائل الاجتهاد ومسائل الخلاف، كيف نعرف أن المسألة من مسائل الاجتهاد أو ليست منها؟ بحسب المختلفين فيها، فإذا ثبت أن أبا حنيفة والشافعي ومالكاً وأحمد أهل اجتهاد فاختلفوا في مسألة، فلا يمكن إلا أن نحكم عليها بأنها من مسائل الاجتهاد، ومن مسائل الاختلاف، وقد ثبت أنه من اجتهاد ورفعه، فكل أمر اختلفوا فيه فهو قابل للاجتهاد.

وابن تيمية رحمه الله ذكر أمثلة منها مثلاً: النكاح بلا ولي، قال: هذه من مسائل الخلاف وليست من مسائل الاجتهاد؛ لأنها محسومة بالنص، ابن الهمام يرد عليه يقول: هذا النص يقابله نص آخر، أنت تعتمد على حديث أبي موسى الأشعري: ( لا نكاح إلا بولي )، ونحن نعتمد في عدم اشتراطها على قول الله تعالى: فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:232]، فلا يحسم الخلاف، سيبقى الخلاف موجوداً دائماً.

فإذاً الاختلاف بين النظرية والتطبيق موجود، ومن المسائل اللاحقة لهذه العمل بالضعيف، فقد ذكر كثير من أهل العلم، ومنهم الإمام النووي وسلطان العلماء العز بن عبد السلام والمنذري أن الضعيف يعمل به في فضائل الأعمال، وجعلوا هذه قاعدة، لكن المشكلة عندما نأتي للتطبيق ما هي فضائل الأعمال؟ ما مقصودكم بفضائل الأعمال؟ إذا قصد بها مندوبات الصلاة، ومندوبات الحج وهذه، سيكون هذا تشريعاً في الصميم، وتكون فيها بدعة لا أول لها ولا آخر، كثيرة جداً، وإذا قصد بفضائل الأعمال: الرقائق والأخلاق والزهديات وما يدل على زيادة الثواب في أمر من الأمور هذا أمر يسير؛ لأنها لا تكون حينئذٍ دليل، ومن الذين انتقدوا هذه القاعدة ولاحظوا عليها الشيخ الألباني رحمه الله، فقد اهتم بهذه القاعدة كثيراً وتشدد فيها، وشدد النكير على النووي وغيره في مقدمة كتابه: صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك في مقدمة سلسلة الأحاديث الصحيحة، لكن الواقع أن الألباني ذهب إليها من ناحية التطبيق، والعلماء السابقين ذهبوا إليها من ناحية التقعيد، ولهذا فيمكن للدارس المنصف أن يجمع بين أقوالهم، وأن يجد أن الأمر أسهل مما جعله فيه الألباني رحمه الله.

خصيصة الإسناد لهذه الأمة

بالنسبة للإسناد كما ذكرنا من قبل هو نسب الحديث، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء، والإسناد هو من خصائص أمة النبي صلى الله عليه وسلم، وأهل الحديث يقولون: كفى بالمرء شرفاً أن يكون اسمه أدنى سلسلة أسمائها اسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو اتصال واقعي تصريحي بالرواية بين النبي، بينك وبين النبي صلى الله عليه وسلم، وبين أهل العلم الذي تروي عنهم، ولذلك ما كان ينبغي للأمة أن تفرط في الأسانيد ولا أن تتركها.

أما واقعنا اليوم فلا شك أن كثيراً من الكتب التي وصلت إلينا غير مروية، وقد ذكرنا من قبل أن كثير الطبعات غير موثوقة، ونبهنا إلى كثير من الأخطاء الفاحشة فيها، فما الحل؟ كثير من الذين يمتهنون التخريج في زماننا هذا يعتمدون على مخطوطة واحدة موجودة في مكتبة في الغرب مثلاً، ويعتبرون بذلك الحديث صحيحاً أو ضعيفاً اعتماداً على أنه موجود في كتاب لـابن أبي الدنيا، أو كتاب لـابن أبي عاصم غير مشهور وغير مروي، موجود في مخطوطة في مخطوطات ألمانيا أو بريطانيا، أو حتى في بعض البلدان الإسلامية، هذه مشكلة كبيرة، وقد تكلم عنها ابن عبد البر والسيوطي من قبل.

فـابن عبد البر قال: إن السنة محفوظة كحفظ القرآن؛ لأنها وحي، وأما ما نسي من المؤلفات والكتب الكبيرة التي ما وصلت إلينا فمعناه أنها ليست للأمة بحاجة إليها فتكون كما نسخت، ولذلك التنقيب عنها وإخراجها من جديد غير مطلوب شرعاً، وهو من التعني الذي لا فائدة فيه، فيرى أنه مثل المنسوخات المنسية، مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا [البقرة:106].

وكذلك السيوطي تكلم عن هذا الأمر، فذكر أن ما تحتاج إليه الأمة، ما يحتاج إليه عوام الأمة موجود لدى العوام، وما يحتاج إليه الخواص موجود لدى الخواص، فمثلاً: قد تكون بعض الأحاديث في كتب نادرة لا يحتاج إليها كل الناس، لكن العلماء الجهابذة تصل إليها أيديهم، أو على الأقل تصل إليها يد من تقوم به الحجة في ذلك الباب.

وعموماً لا يزال هذا الأمر محل إشكال؛ لأن المحدثين يجعلون التحديث بالتحديث أو نسبته إلى كتاب دون أن يكون للإنسان فيه رواية، من سرقة الحديث التي يجرح به الإنسان، كثير من الرواة الذين ضعف بهم الأحاديث ما ضعفوا من قبل دين ولا صدق وإنما ضعفوا من قبل سرقة الحديث، هم عدد كبير، واليوم أكثر المحدثين من سراق الحديث، ما لهم رواية في هذه الكتب، لكن يمكن أن يقال: إن هذا النوع مما يرجع فيه إلى الاستئناس بعدد النسخ الموجودة، ولا شك أن الثقة بكتاب توجد منه عشرون نسخة خطية أقوى وأكبر من الثقة بكتاب لا يوجد منه إلا نسخة واحدة منسوخة من شريط، فيها كثير من الضبابية والمحو، ومع الأسف فإن كثيراً من المحققين يصورون المخطوطة، فإذا رجعت إلى الصورة فقط التي أرادوا بها الإثبات، وجدتهم خالفوها فيما كتبوا.

ومن أمثلة ذلك: هذا الذي حقق كتاب الموطأ من رواية أبي مصعب الزهري، في مجلدين وهو مطبوع ومشهور، صور صورة المخطوطة التي اعتمد عليها في الصفحة الأولى، وكتب هو الحديث الأول الذي أخرجه مالك في الموطأ، حديث الزهري أن عمر بن عبد العزيز أخر الصلاة يوماً وهو في المدينة فدخل عليه عروة بن الزبير فقال: أليس قد علمت أن المغيرة بن شعبة آخر صلاته يوماً وهو في الكوفة، فدخل عليه أبو مسعود البدري فقال: ( ما هذا يا مغيرة أليس قد علمت أن جبريل نزل فصلى فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم صلى، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم صلى، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم صلى، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم صلى، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: بهذا أمرت )، ثم قال: بهذا أمرت واضحة جداً في المخطوطة، وهم حرفوها ومسخوها، فجعلوا مكانها كلمة أخرى بعيدة ما لها علاقة بالحديث، وليست مروية أصلاً.

بالنسبة لكثير من المحققين الذين لا يقرؤون الخطوط لا يوثق بهم؛ لأنه يمكن أن يجد مخطوطة بالخط الفارسي وهو لا يحسن هذا الخط، أو بالخط الكوفي وهو لا يحسنه، أو الخط المغربي هو لا يحسنه فيكتب خلاف ما فيها، وأنت عندما تراها تجد الحق واضح فيها نعم.

بالنسبة لغير المتخصص في التخريج ينبغي أن يرجع إلى عدة مراجع حتى تحصل لديه القناعة هو، وإذا لم يكن لديه وقت لذلك بالإمكان أن يسأل مباشرة، أن يسأل من يثق بدينه وعلمه، فيجعل القضية في عنقه هو المسئول عنه، وهذا الذي كان يفعله أهل العلم من قبل، فمثلاً: السؤالات كثيرة لدى المحدثين، طبع الآن سؤالات أبي داود للإمام أحمد في العلل، سؤالات الترمذي للبخاري أتى بها في علله، سألت محمداً عن هذا الحديث فقال: فيه نظر، سألت محمداً يعني البخاري، وكذلك سؤالات عدد من الأئمة للدارقطني، سؤالات عدد من الأئمة لـابن معين، وسؤالات الشيخ السلفي أيضاً لبعض شيوخه، هذه كلها طريقة معروفة في التخريج، كون الشخصين المتخصصين أو ما زال طالباً فيستمع من هو أقوى منه، كيف يحكم على الحديث.

أما اليوم فقد يسر الله أيضاً هذه الدسكات التي تجمع كثيراً من المتون، فيسهل الرجوع إليها في وقت واحد، وإن كانت الطبعات نفسها تجد فيها أخطاء فاحشة جداً، لكن عموماً تقارن بينها، وقد ابتلينا بهذا في كثير من الكتب، مثلاً: كتاب المسند للطيالسي وهو من أقدم المسندات، هو أقدم مسند لدينا اليوم، كل طبعاته فيها أخطاء لا تتصور، أخطاء فاحشة جداً، وابتلينا بذلك فكنا نرجع فيه إلى السن الكبرى للبيهقي، فنجد الحديث صحيحاً فيها، ويكون بالوسائط طبعاً بالنزول، لكن البيهقي يرويه بإسناده إلى أبي داود والطيالسي فيصحح مسند الطيالسي من سنن أبي داود، ومثل ذلك المستدرك يصححه سنن البيهقي، سنن البيهقي أقصد يصحح منه ما سبقه، كل كتاب متأخر يجعله بمثابة نسخة جديدة من كتب السابقين وتراجع ما فيه.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.