خطب ومحاضرات
مقدمات في العلوم الشرعية [39]
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.
من العلوم الشرعية التي أصبحت علماً مستقلاً (علم الآداب الشرعية)، وهذا العلم قديماً كان جزءاً من أجزاء علم الحديث، فقد ألف المؤلفون الأوائل من المحدثين، فوضعوا كتاب الأدب ضمن كتبهم، فـالبخاري رحمه الله جعل في الصحيح كتاباً للأدب ثم أفرد كتاباً مستقلاً للأدب سماه الأدب المفرد، وهكذا غيره من المؤلفين في الحديث جعلوا كتباً في كتبهم للأدب الشرعي، فهذا الأدب المقصود به: الهيئات الفاضلة المطلوبة شرعاً في حياة الإنسان. فيشمل ذلك آداب النوم والاستيقاظ، وعشرة الأهل، والجيران، وتربية الأولاد، وآداب السفر والإقامة، وآداب التكسب وطلب الرزق، وكذلك آداب طلب العلم، وآداب الإفتاء والاستفتاء، وآداب التعليم وآداب الحسبة، وآداب النصيحة، وآداب مخالطة الحكام والولاة والقضاة، وأدب القاضي في نفسه، ومجلسه، والأدب مع العلماء ومع الكبار من أنواع الناس، ويشمل كذلك أدب البر بالولدين، وما يتعلق بهما، وكذلك الأجداد وما لهم من حقوق، فهو باب واسع من أبواب الشريعة، لكن بما أنه لا يدخل تحت باب مستقل من أبواب الفقه المعروفة لم يجعله الفقهاء باباً من أبواب الفقه، بل اعتنى به المحدثون كثيراً وبعض الفقهاء جعلوا له خواتم في نهايات كتبهم، وقد اعتنى بذلك المالكية؛ فكثير من مؤلفيهم يجعل في نهاية كتابه كتاب الجامع للآداب الشرعية.
وتعريف هذا العلم وحده، أنه: العلم الذي يبحث فيه عما ندبه الشرع من الآداب في تعامل الإنسان مع ربه، ومع نفسه ومع غيره ممن يخالطه، وهو أنواع كثيرة، يمكن أن تفرد كتب في بعضها كما حصل: آداب الأكل والشراب، آداب النفقة، عشرة النساء، بر الوالدين، حقوق الجيران.. إلى آخره كل هذه أبواب، أدب المفتي والمستفتي، ونحو ذلك آداب المجلس، آداب حفظ السر، آداب الخلطة والعشرة، آداب العزلة، آداب العبادة، آداب المسجد وما يتعلق به، آداب عيادة المرضى وزيارة الإخوان، فكل هذه ألّف فيها كتب مستقلة كما سنذكر إن شاء الله في المؤلفات.
أما موضوعه فهو: ما يرشد إليه الشارع من الأمور التي أغلبها لا تكون واجبة، وقد تصل إلى درجة الوجوب، فما نسميه أدباً قد يكون واجباً، ولذلك فإن الفقهاء رحمهم الله عندما ذكروا في أحكام الطهارة آداب الخلاء، وسموه بآداب الخلاء ذكروا أن أكثر أحكامه على الندب، وبعضها على الوجوب، فبعض آداب الخلاء على الوجوب مثل الاستفراغ، ومثل الاستنجاء والاستجمار فهذه على الوجوب، لكن ما عداها في هيئة الجلسة وفي تغطية الرأس، وفي اختيار المكان والارتياد له، وفي عدد حصى الاستجمار وفي نحو ذلك كله على الندب، فالواجب منه هو التستر حيث لا يراه أحد، فيجب عليه التستر إلى مكانه، والثاني الاستفراغ، والثالث الاستنجاء، والاستجمار، هذه الواجبات فما سواها كله آداب على الندب، فدل هذا على أنه يتضمن ما هو من الواجبات، وما هو من المندوبات.
أما واضع هذا العلم فالمقصود به تقريباً أول من ألّف فيه، ولا أعرف بالضبط أول المؤلفين في هذا العلم لكن يمكن أن يذكر أن أهل الحديث عموماً، والجامعين له هم من أوائل من أفرد هذا العلم، وجعله علماً مستقلاً، والبخاري رحمه الله حين كتب كتاب الأدب المفرد كان من السابقين في هذا الباب، وقد ألّف بعده عدد من المؤلفين كتباً مستقلة، فمنهم الإمام البيهقي رحمه الله ألف كتاب الآداب، وألف أيضاً كتاب الدعوات في آداب الدعاء، والطبراني ألف كتاب الدعاء، لآداب الدعاء أيضاً وأنواعه، والنسائي ألف كتاب عمل اليوم والليلة، وكتاب عشرة النساء، وقد يكون في الأصل جعله من ضمن كتابه السنن الكبرى، ولكنه أفرده بعض الرواة عنه، وتلميذه ابن السني ألف كتاب عمل اليوم والليلة، وكذلك فقهاء المذاهب المختلفة، فقد عنوا بتأليف بعض الكتب المتخصصة في الآداب، فمن أشهرها في المذهب المالكي كتاب الجامع لـابن رشد الذي ختم به كتاب المقدمات، وكتاب الجامع لـابن أبي زيد الذي ختم به الرسالة، وكتاب الجامع له أيضاً الذي ختم به النوادر والزيادات، وقد طبع مفرداً، وكتاب الجامع لـابن جزي الذي ختم به كتاب القوانين الفقهية، واختاروا هذه التسمية؛ لأن مالكاً جعلها في كل كتاب في كتب الموطأ يختمه بكتاب جامع لآداب ذلك الكتاب، كتاب جامع الوقوت، كتاب جامع الصلاة، كتاب جامع الوضوء إلى آخره، وكتاب الجامع أيضاً في الموطأ لبعض هذه الآداب.
ثم في المذهب الشافعي ألف عدد من المؤلفين في الآداب كما ذكرنا كتاب البيهقي، وهو يعد شافعياً ويعد أيضاً في أهل الحديث فهو جامع للأمرين، وكذلك الإمام النووي رحمه الله فقد ألف عدداً من الكتب المختصة بهذا العلم، فألف كتاب التبيان في آداب حملة القرآن، وألف كتاب الأذكار في عمل اليوم والليلة، وألف كتاب رياض الصالحين للتحلي والتخلي، التخلي عن صفات المنافقين والتحلي بصفات المؤمنين، وكذلك الدمياطي ألف كتاب المتجر الرابح في ثواب العمل الصالح، وركز فيه على الآداب، وكذلك ابن الملقن فقد ألف في بر الوالدين، وكذلك قبله الغزالي أبو حامد فقد ألف في إحياء علوم الدين كتباً كثيرة لآداب طلب العلم، ولآداب طلب الدنيا، وآداب طلب الحلال، ولعشرة النساء، ولحقوق الوالدين وحقوق النفس، وحقوق الجيران إلى آخره، وهو من المنظرين في هذا العلم.
وكذلك في المذهب الحنبلي؛ اعتنى ابن القيم رحمه الله بكثير من جوانب هذا العلم، وأفرد فيه عدداً من الكتب، التي هي لذكر بعض الآداب المختصة، فقد ألف في آداب السفر، والسياحة، فرسالة الفروسية وهي شرح لكتاب عمر إلى أهل أذريبجان، وألف كذلك في آداب السفر رسالته التي تسمى بالتبوكية، وألف عدداً كثيراً من الرسائل المختصة في بعض الآداب، مثل عدة الصابرين فيما يتعلق بحقوق النفس، ومثل إغاثة اللهفان فيما يتعلق بأدب التعامل من مكائد الشيطان كلها، وكذلك ابن مفلح الصغير فقد ألف كتابه الآداب الشرعية وجمع فيه فأوعى، وأتى على كثير من الأبواب، وذكر فيها ما ورد فيها من النصوص الشرعية والهيئات المرعية، التي ينبغي العناية بها.
وقد جاء المتأخرون فأضافوا كثيراً من الكتب المتخصصة نظماً ونثراً، في جوانب هذا العلم المتنوعة، فقد ألف القاضي عبد الوهاب بن نصر البغدادي المالكي في آداب المساجد، وما يتعلق بها عمارةً وبناءً، وعمراناً، وعبادة، إلى آخره، وألف ابن رجب كذلك عدداً كبيراً من المؤلفات المختصة في الرسائل في آداب مختصة.
ومن كتب المتأخرين في الآداب كتب السيوطي رحمه الله فقد ألف أيضاً عمل اليوم والليلة، ومكارم الأخلاق، مكارم الأخلاق قد سبق عدد من المؤلفين ألفوا بهذا العنوان كـالخرائطي رحمه الله، وكـالسراج البلقيني، وكذلك ابن أبي الدنيا جمع فيها بعضها في رسائله وقد اعتنى ابن أبي الدنيا بكثير من الجوانب المتعلقة بهذا العلم أيضاً، في رسائل مستقلة، ومن المتأخرين كذلك الذين عنوا بهذا العلم العلامة محمد مولود بن أحمد فال رحمه الله وقد ألف فيه عدداً من الكتب، منها مأدبة الأنداب في آداب الأكل والشراب، وهي نظم وقد شرحه، أتى فيه على آداب الأكل والشرب، وكتاب الصوان في محارم اللسان، ذكر فيه ما يتعلق بالمنهيات اللسانية، ومنهيات السمع والبصر، وهو نظم وشرحه أيضاً، وكتاب آداب عيادة المريض، وهو نظم وقد شرحه أيضاً، وكتاب البرور، أو الظفر بالمراد من بر الآباء والأجداد، وهو نظم وقد شرحه أيضاً، وكتاب مأدبة الصدقة، في الإنفاق وكتاب إحكام المقال في أحكام السؤال، ما يتعلق بمخالطة الفقراء وما لهم وما يجوز من السؤال وما يحرم، وكذلك ألف كتاب آداب المسجد هو نظم وقد شرحه أيضاً، وتنمية النية وهو نظم، وقد شرحه أيضاً وغير هذا من المنظومات المختصة في هذا العلم.
والخليل بن إسحاق جعل في خاتمة مختصره في فقه مالك، جامعاً حذا فيه حذو المؤلفين السابقين له من علماء المالكية كـابن الحاجب وابن شاس وغيرهما، وهذا الكتاب فُصل عن مختصر خليل فلم يطبع معه، ولم يشرحه كثير من شارحيه، لكن عني به بعض المؤلفين فشرحوه شروحاً مستقلة، فشرحه التاودي، بكتاب سماه تقريط المسامع في شرح كتاب الجامع، وقد نظم الشيخ محمد سالم هذا الكتاب مع بعض شرح التاودي عليه.
أما نسبة هذا العلم إلى غيره من العلوم فهو يتداخل كما ذكرنا مع علم الحديث ومع علم الفقه، فبينه وبينهما معاً نسبة العموم والخصوص الوجهي، وقد كان في قديم الزمان في الصدر الأول من هذه الأمة داخلاً في علم الحديث، وكانت نسبته إليه إذ ذاك نسبة العموم والخصوص المطلقين، ثم تحولت النسبة الآن بعد استقلال كل علم بذاته.
أما مستمده فهو الوحي كتاباً وسنةً، والخلق الحميد المروي عن السابقين؛ فإن للسابقين كثيراً من الأخلاق التي أقرها الشرع واعتمدت فيه، كما كان لدى العرب من حسن الضيافة، وكرم الأخلاق، كالوفاء، والنصح والشجاعة، والكرم، وغيرها من الأخلاق التي أقرها الشارع، ولذلك بقيت مأثرةً للذين اتصفوا بها، فـحاتم بن عبد الله الطائي عرف بالجود والكرم، وحسن الضيافة في الجاهلية فبقيت تلك المزية لأولاده بعده، وكذلك السموأل بن عاديا عرف بالوفاء، حين حاصره عدوه ليسلم له أمانته وأسروا ولده وقالوا: إما أن تسلمنا ما أودعت أو أن نقتل ولدك. فقال: اقتلوه؛ فإني حافظ أمانتي. فاشتهر بالوفاء وأصبح مضرباً المثل في الوفاء إلى الآن، وقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم تلك المحامد وتلك الأخلاق الكريمة، وهي لا شك مؤثرة في النفوس، فهذا معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما يقول: والله ما منعني من الفرار يوم صفين، إلا أبيات لـعمرو بن الإطنابة، وهي قوله:
أبت لي عفتي وأبى إبائي وأخذي الحمد بالثمن الربيح
وإجشامى على المكروه نفسي وضربي هامة البطل المشيح
وقولي كلما جشأت وجاشت: مكانك تحمدي أو تستريحي
لأدفع عن مآثر صالحات وأحمي بعد عن عرض صريح
وقد كان يهتم كثيراً بما يتعلق بهذه الأخلاق والآداب من أشعار العرب، فقد عرض ذات يوم في الناس في مجلسه جائزة عظيمة على من أتى بثلاثة أبيات، تتضمن حكماً من أدب العرب، كل واحد منها قائم بنفسه، فلم يجيبوه، فبينما هم على ذلك إذ طلع عليهم عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما، فقال: هذا مقوال العرب وعلامتها أبو خبيب قد أقبل، فعرض عليه السؤال فقال على البديهة:
بلوت الناس قرنا بعد قرن فلم أر غير ختال وقال
ولم أر في الخطوب أشد وقعا وأصعب من معاداة الرجال
وذقت مرارة الأشياء طرا فما طعم أمر من السؤال
فأعطاه الجائزة والأبيات للأفوه الأودي.
وكذلك كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يحض على حفظ آداب العرب، وعندما سئل عن أشعر الناس قال: قائل: مَن ومَن، يقصد زهير بن أبي سلمى فإنه في معلقته ذكر كثيراً من هذه الأخلاق والآداب.
وهذا يقتضي أن مأخذ الآداب الشرعية ليس مختصاً بالوحي.. بل بالوحي المنزل، وبالوحي المقر، معناه بإقرار الوحي أيضاً، فما كان محموداً لدى الناس مما أقرهم عليه الشرع يدخل في الآداب الشرعية أيضاً، ولذلك فإن كثيراً من أشعار الجاهليين تتضمن بعض ذلك كما في شعر عنترة فإنه تضمن كثيراً من الأخلاق الرفيعة التي يقرها الشرع..
إني امرؤ سمح الخليقة ماجد لا أتبع النفس اللجوج هواها
وفي تلك القطعة يذكر كثيراً من الأخلاق الشريفة، والصفات الحميدة التي اتصف بها، وكذلك الآخر الذي يقول:
حلت تماضر غربة فاحتلت فلجاً وأهلك باللوى فالحلة
زعمت تماضر أنني إما أمت يسدد أبينوها الأصاغر خلتي
تربت يداك وهل رأيت لقومه مثلي على يسري وحين تعلتي
رجلاً إذا ما النائبات غشينه أكفى لمعضلة وإن هي جلت
ومناخ نازلة كفيت وفارس نهلت قناتي من مطاه وعلت
وإذا العذارى بالدخان تقنعت واستعجلت هزم القدور فملت
دارت بأرزاق العفاة مغالق بيدي من قمع العشار الجلت
ولقد رأيت ثأى العشيرة بينها وكفيت جانيها اللتيا والتي
وصفحت عن ذي جهلها ورفدتها نصحي ولم تصب العشيرة زلتي
وكذلك قول عامر بن الطفيل العامري:
وإني وإن كنت ابن سيد عامر وفارسها المشهور في كل موكب
فما سودتني عامر عن وراثة أبى الله أن أسمو بأم ولا أب
ولكنني أحمي حماها وأتقي أذاها وأرمي من رماها بمنكب
وكذلك قول المثقب العبدي:
يعاتبني في الدين قومي وإنما ديوني في أشياء تكسبهم حمدا
ألم يدري قومي كيف أوسر مرة وأعسر حتى تبلغ العسرة الجهدا
فما زادني الإقتار منهم تقرباً ولا زادني فضل الغنى منهم بعدا
أسد به ما قد أخلوا وضيعوا ثغور حقوق ما أطاقوا لها سدا
وإن الذي بيني وبين بني أبي وبين بني عمي لمختلف جدا
أراهم إلى نصري بطاءً وإنهم دعوني إلى نصر أجبتهم شدا
ولا أحمل الحقد القديم عليهم وليس زعيم القوم من يحمل الحقدا
لهم جل مالي إن تطاول بي غنى وإن قل مالي لم أكلفهم رفدا
إلى آخر قصيدته.
وكذلك ما تمثل به علي بن أبي طالب رضي الله عنه يوم الجمل عندما وقف على طلحة بن عبيد الله قتيلاً رضي الله عنهم أجمعين، فمسح التراب عنه وقال:
فتى كان يدنيه الغنى من صديقه إذا ما هو استغنى ويبعده الفقر
فتى لا يعد المال رباً ولا يرى به جفوة إن نال مالاً ولا كبر
فتى كان يعطي السيف في الروع حقه إذا ثوب الداعي، وتشفى به الجزر
إلى آخر الأبيات التي تمثل بها في طلحة وهو أهل لها.
فكل ذلك هو من تلك الآداب التي أقرها الشارع، فكانت مستمداً لهذا العلم، ولا يبعد أن ينقل أن من مستمد هذا العلم أيضاً بعض ما ينقل من أخلاق الأمم الأخرى وحضاراتها، حتى ولو كان في العصور المتأخرة، فما يتعلق بالحضارة وأوجه النظافة، وتنظيم الأوقات، وترتيبها من الأمور التي ليست معهودة في صدر الإسلام ولا هي معروفة لدى أهل الجاهلية، فالشرع يحض على كل ما فيه نفع من ذلك، ولو كان غير معروف بذاته، كالتخطيط واستغلال الطاقات وتنظيم الأوقات؛ فهذه أمور يحض عليها الشارع عموماً، فترجمتها ونقلها من حضارة أمة أخرى من الأمور التي لا غبار عليها شرعاً ولا محذور فيها، وفي صحيح مسلم أن عمرو بن العاص رضي الله عنه أثنى على الروم، بما شهد فيهم من الأمور التي هي صفات حميدة والأخلاق المرضية فيهم، وكذلك أثنى النبي صلى الله عليه وسلم على صوالح نساء قريش، وذلك شامل لما كان قبل الإسلام وما كان بعده.. ( خير النساء صوالح نساء قريش، أحناه على ولد في صغره، وأرعاه على زوج في ذات يده، وأرضاه بالقليل )، فكل ذلك من الثناء على أخلاق كانت سابقة على الإسلام.
أما فضل هذا العلم فلا شك أنه بحسب مزيته فكل علم فضله بحسب فائدته، وسنذكر فائدة هذا العلم وأهميته، وقد ورد في فضله كثير من النصوص، فإن الله تعالى يثني على رسوله صلى الله عليه وسلم بقول: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4]، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( أولا أخبركم بأحبكم إلي وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة؛ أحاسنكم أخلاقا )، ويقول في حديث أم زرع لـعائشة رضي الله عنها: ( كنت لكِ كأبي زرع لأم زرع إلا أني لا أطلقك )، ويقول: ( خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي ).
وكذلك فإنه صلى الله عليه وسلم حض كثيراً على حسن الأدب وحسن الخلق، وقال لـأشج ابن عبد القيس: ( إن فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله: الحلم، والأناة )، وأعجب بخلق وفد الأزد، وبخلق زيد الخيل، وسماه زيد الخير، وهو زيد المهلهل الطائي، قد كان من سادة العرب وقادتها في الجاهلية، وما وصف أحد للنبي صلى الله عليه وسلم من أهل الجاهلية فرأه إلا كان دون الوصف، إلا زيد الخير وحده، قد أعجب به، وهو الذي يقول فيه زهير بن أبي سلمى:
وإلاّ يكون مالي بآت فإنه سيأتي ثنائي زيداً ابن مهلهل
وما نلتنا غدراً ولكن لقيتنا غداة التقينا بالمضيق بأخيل
تفادى حماة القوم عن وقع سيفه تفادي بغاث الطير عن وقع أجدل
وكذلك فإنه صلى الله عليه وسلم في خطبته أثنى على صهارة أبي العاص بن الربيع، وبين بعض الصفات الحميدة التي كانت فيه حتى في جاهليته، فقال: ( وعدني فوفى )، وذلك كان في جاهليته وكفره، فقد أثنى عليه النبي صلى الله عليه وسلم بتلك الأخلاق الرفيعة، فهذا كله يدل على فضل هذا العلم، ولذلك جاء فيه: ( الأدب خير ميراث )، فهو خير ما يورثه الإنسان أهل بيته، ومن كان متصفاً به؛ فإنه عرضة للمغنم دائماً، كما قال ابن عبد الحكم: ( إذا كنت في قوم فكن أصمتهم، فإن أصابوا كنت منهم، وإن أخطئوا سلمت ).
أما فائدته فهي تعويد النفس وترويضها على الخلق الكريم، وعلى الصفات الحميدة، وتحريك كوامن الخير فيها، فالنفس فيها كثير من كوامن الخير، ولاشك أن النفوس مفطورة على حب هذه الصفات الحميدة كالوفاء والشجاعة، والصدق، والبر، والصلة، فهي موافقة للفطرة موافقة لمقتضى العقول، فلذلك إذا تعود عليها الإنسان كان محلاً لأن يمدح، والناس يحبون الثناء، فمن شهد له بالفضل كان ذلك دليلاً على فضله.
والناس أكيس من أن يمدحوا رجلاً حتى يروا عنده آثار إحسان
كما قال الشاعر.
وقد قال ابن عطاء الله في حكمه: (ألسنة الخلق أقلام الحق)، قال: (العارفون إذا مدحوا انتشوا لشهودهم ذلك من الحق، والمريدون إذا مدحوا انقبضوا لشهودهم ذلك من الخلق)، وإنما كانت حال العارفين أكمل؛ لأن ألسنة الخلق أقلام الحق، فالخلق لا يمكن أن يتواتروا على أمر ويحكوه جميعاً إلا إذا كان مبنياً على أصل، لابد أن يكون له أصل من الحق.
ومن هنا فاستحباب الثناء في ذاته إذا لم يقصد به التفاخر في الدنيا محمود، ولذلك أثنى الله على نفسه في كتابه وافتتحه بقوله: الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:2-4]، وأثنى على رسوله صلى الله عليه وسلم في كتابه، وأثنى على رسله الآخرين، وعلى كثير من الصالحين من عباده في كتابه، وأثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك على كثير من أصحابه، الثناء العطر كثنائه على أبي بكر وعمر، وعلى العشرة المبشرين في الجنة، وعلى الأنصار والمهاجرين، فالأنصار يقول فيهم: ( إنهم يكثرون عند الفزع، ويقلون عند الطمع )، ( إنهم أدوا الذين عليهم، وبقي الذي لهم )، شهد لهم بكثير من الشهادات الرفيعة، وكان صلى الله عليه وسلم يستمع المدح ويثيب عليه، فعندما جلس بين يديه كعب بن زهير كان قد أهدر دمه، أنشده قصيدته التي مطلعها:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول متيم إثرها لم يفدَ مكبول
حتى وصل إلى مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها، يقول فيه:
وقال كل خليل كنت آمله لا ألهينك إني عنك مشغول
فقلت: خلوا سبيلي لا أبالكم فكل ما قدر الرحمن مفعول
كل ابن انثى وإن طالت سلامته يوماً على آلة حدباء محمول
نبئت أن رسول الله أوعدني والعفو عند رسول الله مأمول
وقد أتيت رسول الله معتذراً والعذر عند رسول الله مقبول
مهلاً هداك الذي أعطاك نافلة القرآن فيها مواعيظ وتفصيل
لا تأخذني بأقوال الوشاة ولم أذنب وإن كثرت في الأقاويل
لقد أقوم مقاماً لو يقوم به أرى وأسمع ما لو يسمع الفيل
لظل يرعد إلا أن يكون له من الرسول بإذن الله تنويل
إن الرسول لنور يستضاء به مهند من سيوف الله مسلول
في عصبة من قريش قال قائلهم ببطن مكة لما أسلموا زولوا
زالوا فما زال أنكاس ولا كشف عند اللقاء ولا ميل معازيل
يمشون مشي الجمال الزهر يعصمهم ضرب إذا عرد السود التنابيل
لا يقع الطعن إلا في نحورهم وما لهم عن حياض الموت تهليل
إلى آخر المدح الذي مدحه فيه، واستمع إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعجب به، وكذلك مدح حسان له، قد أثنى عليه كثيراً بمجلسه صلى الله عليه وسلم وهو يقره، وكذلك ثناء عمه أبي طالب عليه، وكان يستنشده بعد ذلك، أبو طالب يقول فيه في لاميته:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل
يلوذ به الهلاك من آل هاشم فهم عنده في نعمة وفواضل
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستنشد شعر أبي طالب فيما بعد.
وفي يوم بدر عندما جيء بسيد شهداء بدر عتبة بن الحارث بن المطلب، وهو يجود بنفسه ووضع بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا رسول الله بأبي أنت وأمي ليت أبا طالب حي حتى يعلم أنا أحق منه بقوله:
كذبتم وبيت الله نبزى محمداً ولما نقاتل دونه ونناضل
ونسلمه حتى نصرع حوله ونذهل عن أبنائنا والحلائل
فصدقه رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، فدل هذا على فائدة هذا العلم تعلماً وتعليماً وتطبيقاً.
أما حكم تعلمه فهو منه ما هو فرض عين على الناس، كما يحسن الإنسان به آداب صلاته، وطهارته، وفرائض عينه، فهذه فرض عين على كل أحد أن يتعلمه، ومنه ما هو دون ذلك لكنه لا ينزل عن فرض الكفاية، فكله من فروض الكفايات.
أما اسمه فهو علم الآداب الشرعية، ويمكن أن يقال: علم الآداب مطلقاً، كما كان سمي في الصدر الأول: علم الأدب، والمقصود بالشرعية إخراج الآداب اللغوية، فلا يقصد بها التي نزلت في الشرع فقط، بل يقصد التي نزلت في الشرع والتي أقرها الشرع، ويقصد بهذا القيد إخراج الآداب اللغوية كما يسمى بعلم الأدب في علوم اللغة، وسنذكره إن شاء الله فهذا علم يختلف عن هذا تماماً، موضوعهما مختلف لذلك سمي هذا بالآداب الشرعية.
استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
مقدمات في العلوم الشرعية [18] | 3789 استماع |
مقدمات في العلوم الشرعية [42] | 3515 استماع |
مقدمات في العلوم الشرعية [30] | 3440 استماع |
مقدمات في العلوم الشرعية [16] | 3393 استماع |
مقدمات في العلوم الشرعية [4] | 3375 استماع |
مقدمات في العلوم الشرعية [22] | 3326 استماع |
مقدمات في العلوم الشرعية [13] | 3263 استماع |
مقدمات في العلوم الشرعية [6] | 3256 استماع |
مقدمات في العلوم الشرعية [35] | 3147 استماع |
مقدمات في العلوم الشرعية [40] | 3123 استماع |