فوائد منتقاة من كتاب: الدليل العقلي عند السلف
مدة
قراءة المادة :
25 دقائق
.
فوائد منتقاة من كتاب (الدليل العقلي عند السلف) 1- أصل القول بإمكان تعارض العقل والنقل عند المتكلمين:
مقدمة التعارض بين العقل والنقل ممتنعة عند أهل السنة والجماعة، غير واقعة في حقيقة الأمر، بل هي دعوى ادَّعاها المتكلمون ومن تابعهم، وكان ذلك نتيجة لجعلهم العقل هو أصل الاستدلال عندهم، والنقل تابع له، بل ذهبوا إلى أكثر من ذلك؛ حيث جعلوا الأدلة العقلية هي القطعية واليقينية، وأما الأدلة النقلية فإنما هي ظواهر ظنية عند كثير منهم، فقام عندهم على هذا الأصل = المعارض العقلي الذي أرد به النصوص الشرعية؛ لأنها عارضت العقل! (ص6).
2- منهج أهل السنة في التلقي:
من المعلوم ضرورة أن منهج أهل السنة والجماعة في التلقي يرجع إلى "كتاب الله جل وعلا وسنة النبي صلى الله عليه وسلم" والوقوف عندهما بما فيهما، وأن فيهما الكفاية والكمال، سواء في باب الدلائل، أو في باب المسائل؛ (ص7).
3- تقديم الصحابة رضوان الله عليهم على غيرهم في كل فضيلة:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
"ومن المعلوم بالضرورة لمن تدبر الكتاب والسنة وما اتفق عليه أهل السنة والجماعة من جميع الطوائف: أن خير قرون هذه الأمة - في الأعمال والأقوال والاعتقاد وغيرها من كل فضيلة -: القرن الأول، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه، وأنهم أفضل من الخلف في كل فضيلة: من علم وعمل وإيمان وعقل ودين وبيان وعبادة، وأنهم أوْلَى بالبيان لكل مشكل.
هذا لا يدفعه إلا من كابر المعلوم بالضرورة من دين الإسلام وأضله الله على علم؛ كما قالعبدالله بن مسعود رضي الله عنه: "من كان منكم مستنًّا فليستنَّ بمن قد مات؛ فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة أولئك أصحاب محمد: أبر هذه الأمة قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلها تكلفًا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه، فاعرفوا لهم حقهم، وتمسكوا بهديهم؛ فإنهم كانوا على الهدى المستقيم"، وقال غيره: "عليكم بآثار من سلف؛ فإنهم جاءوا بما يكفي وما يشفي ولم يحدث بعدهم خير كامن لم يعلموه".
هذا وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((لا يأتي زمان إلا والذي بعده شَرٌّ منه حتى تلقوا ربَّكم)) فكيف يحدث لنا زمان فيه الخير في أعظم المعلومات وهو معرفة الله تعالى؟ هذا لا يكون أبدًا، وما أحسن ما قال الشافعي رحمه الله في رسالته: "هم فوقنا في كل علم وعقل ودين وفضل وكل سبب ينال به علم أو يدرك به هدى، ورأيهم لنا خير من رأينا لأنفسنا"! (ص11).
4- ما المقصود بالسلف؟
السلف هم: الصحابة رضي الله عنهم، ومن سار على طريقتهم ومذهبهم، وهم أهل السنة والجماعة؛ (ص13).
5- من الخطأ قصر العقل على معنى واحد.
قال الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله:
"إذا قيل: ما حَدُّ العقل؟ فلا تطمع في أن تحده بحَدٍّ واحدٍ فإنه هوس؛ لأن اسم العقل مشترك يطلق على عدة معانٍ؛ إذ يطلق على بعض العلوم الضرورية، ويطلق على الغريزة التي يتهيَّأ بها الإنسان لدرك العلوم النظرية، ويطلق على العلوم المستفادة من التجربة، حتى إن من لم تُحنِّكه التجارب بهذا الاعتبار لا يُسمَّى عاقلًا، ويُطلَق على من له وقار وهيبة وسكينة في جلوسه وكلامه، وهو عبارة عن الهُدُوِّ، فيقال: فلان عاقل؛ أي: فيه هُدُوٌّ، وقد يطلق على من جمع العمل إلى العلم، حتى إن المفسد وإن كان في غاية من الكياسة يمنع عن تسميته عاقلًا...
فإذا اختلفت الاصطلاحات فيجب بالضرورة أن تختلف الحدود"؛ (ص: 17).
6- اشتمال معنى العقل على أربعة معانٍ:
وفي جماع معاني العقل الصحيحة يقول شيخ الإسلام رحمه الله:
"فهنا أمور:
أحدها: علوم ضرورية يفرق بها بين المجنون الذي رفع القلم عنه وبين العاقل الذي جرى عليه القلم، فهذا مناط التكليف.
والثاني: علوم مكتسبة تدعو الإنسان إلى فعل ما ينفعه وترك ما يضره، فهذا أيضًا لا نزاع في وجوده.
الثالث: العمل بالعلم يدخل في مسمى العقل أيضًا؛ بل هو من أخص ما يدخل في اسم العقل الممدوح.
الأمر الرابع:
الغريزة التي بها يعقل الإنسان؛ (ص: 19).
7- أعظم معاني العقل:
يقول ابن تيمية:
"وأما العمل لعلم، وهو جلب ما ينفع الإنسان، ودفع ما يضره، بالنظر في العواقب، فهذا هو الأغلب على مسمى العقل في كلام السلف والأئمة"؛ (ص22 - 23).
8- أصول منهج الاستدلال عند السلف:
يقوم منهج الاستدلال عند السلف على الأخذ بالأدلة الصحيحة أيًّا كان مصدرها، نقليةً كانت أو عقليةً أو حسيَّةً، فهذه وسائل المعرفة التي خلقها الله جلا وعلا في نفوس العباد، وركزها في فطرهم وطبائعهم؛ (ص 24).
9- الإنسان بطبيعته مفطور على الاستدلال بالعقل:
الاستدلال بالعقل أمر بديهي، وأنه مما فطر عليه الإنسان، فهو ضرورة مركبة في الإنسان، فتجد الإنسان العامي البسيط ينظر إلى البعير الذي يركبه كيف خُلِق، فيصل به نظرُه وتدبُّرُه إلى اليقين والاعتقاد الجازم الصادق الذي لا يدخله ريب ﴿ أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ﴾ [البلد: 8 - 10]، كل إنسان ينظر كيف خلقه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فيصل عن طريق هذا النظر إلى أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حق؛ (ص 25).
10- من رحمة الله بعباده أن أقام لهم دلائل يستدلون بها على الحق:
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فإن الله تعالى نصب على الحق الأدلة والأعلام الفارقة بين الحق والنور وبين الباطل والظلام، وجعل فطر عباده مستعدة لإدراك الحقائق ومعرفتها، ولولا ما في القلوب من الاستعداد لمعرفة الحقائق، لم يكن النظر والاستدلال ولا الخطاب والكلام، كما أنه سبحانه جعل الأبدان مستعدة للاغتذاء بالطعام والشراب، ولولا ذلك لما أمكن تغذيتها وتربيتها، وكما أن في الأبدان قوة تفرق بين الغذاء الملائم والمنافي، ففي القلوب قوة تفرق بين الحق والباطل أعظم من ذلك"؛ (ص 27).
11- كل ما يحتاج إليه المكلف من دليل صحيح في دينه قد جاءت به النصوص:
ما من دليل صحيح يحتاج إليه المكلف في دينه إلا وقد جاءت به النصوص على أكمل وجه؛ ولهذا لا يمكن أن يستقل العقل بدليل صحيح لا يأتي في الشرع الدلالة عليه، والإرشاد إليه؛ (ص 28).
12- استحالة مخالفة السنة النبوية للقرآن:
يقول الإمام الشافعي رحمه الله: "واستُدِلَّ أنه لا تُخالِف له سنة أبدًا كتابَ الله، وأن سنَّتَه، وإنْ لم يكن فيها نصُّ كتاب: لازِمةٌ، بما وصفتُ من هذا، مع ما ذكرتُ سِواه، مما فَرَضَ اللهُ مِن طاعة رسولِهِ، ووَجَبَ عليه أن يَعْلَمَ أن اللهَ لم يجْعل هذا لخلقٍ غيرِ رسولِه.
وأن يجعل قولَ كلِّ أحدٍ وفعْلَه أبَدًا تَبعًا لِكِتاب الله ثم سنةِ رسوله"؛ (ص 28).
13- جاء القرآن بالأدلة العقلية الصحيحة:
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "القرآن قد دلَّ على الأدلة العقلية التي بها يعرف الصانع وتوحيده وصفاته وصدق رُسُله، وبها يعرف إمكان المعاد، ففي القرآن من بيان أصول الدين التي تعلم مقدماتها بالعقل الصريح ما لا يوجد مثله في كلام أحد من الناس بل عامة ما يأتي به حُذَّاق النظَّار من الأدلة العقلية يأتي القرآن بخلاصتها وبما هو أحسن منها، قال تعالى: ﴿ وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا ﴾ [الفرقان: 33]، وقال: ﴿ وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ ﴾ [الروم: 58] وقال: ﴿ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الحشر: 21]"؛ (ص 31).
14- طريقة السلف في نصوص الصفات:
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: "طريقة السلف إنما هي إثبات ما دلت عليه النصوص من الصفات وفهمها وتدبُّرها وتعقل معانيها وتنزيه الرب عن تشبيهه فيها بخلقه كما ينزهونه عن العيوب والنقائص وإبطال طريقة النُّفاة المُعطِّلة وبيان مخالفتها لصريح المعقول كما هي مخالفة لصحيح المنقول"؛ (ص 32).
15- خطأ نسبة تفويض الصفات إلى السلف:
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: "طريقة السلف أعلم وأحكم وأسلم وأهدى إلى الطريق الأقوم، وأنها تتضمن تصديق الرسول فيما أخبر، وفهم ذلك ومعرفته، ولا يناقض ذلك إلا ما هو باطل وكذب وخيال، ومن جعل طريقة السلف عدم العلم بمعاني الكتاب والسنة وعدم إثبات ما تضمناه من الصفات فقد أخطأ خطأً فاحشًا على السلف، كما أن من قال على الرسول أنه لم يبعث بالإثبات وإنما بعث بالنفي، كان من أعظم الناس افتراءً عليه، فهؤلاء المُعطِّلة مفترون على الله ورسوله وعلى سلف الأمة"؛ (ص 33).
16- من أبرز كتب السلف في بيان طرائق استعمال الأدلة العقلية في الحجاج العقدي:
الحيدة للكناني، والرد على الزنادقة والجهمية للإمام أحمد، والرد على بشر المريسي للدارمي، والتوحيد لابن خزيمة، والتبصير للطبري؛ (ص 35).
17- الاتفاق في الاسم العام لا يلزم منه التماثل في الحقيقة عند الإضافة والتخصيص:
يقول الإمام ابن خزيمة رحمه الله: "فهل يخطر يا ذوي الحجا ببال عاقل مركب فيه العقل، يفهم لغة العرب، ويعرف خطابها، ويعلم التشبيه، أن هذا الوجه شبيه بذاك الوجه؟ وهل هاهنا أيها العقلاء تشبيه وجه ربنا جل ثناؤه الذي هو كما وصفنا وبيَّنا صفته من الكتاب والسنة بتشبيه وجوه بني آدم، التي ذكرناها ووصفناها؟ غير اتفاق اسم الوجه، وإيقاع اسم الوجه على وجه بني آدم، كما سمى الله وجهه وجهًا، ولو كان تشبيهًا من علمائنا لكان كل قائل: أن لبني آدم وجهًا، وللخنازير والقردة، والكلاب، والسباع، والحمير، والبغال، والحيات، والعقارب، وجوهًا، قد شبه وجوه بني آدم بوجوه الخنازير والقردة، والكلاب وغيرها مما ذكرت ولست أحسب أن عقل الجهمية المُعطِّلة عند نفسه، لو قال له أكرم الناس عليه: وجهك يشبه وجه الخنزير والقرد، والدب، والكلب، والحمار، والبغل ونحو هذا إلا غضب؛ لأنه خرج من سوء الأدب في الفحش في المنطق من الشتم للمشبه وجهه بوجه ما ذكرنا، ولعله بعد يقذفه، ويقذف أبويه ولست أحسب أن عاقلًا يسمع هذا القائل المشبه وجه ابن آدم بوجوه ما ذكرنا إلا ويرميه بالكذب، والزور، والبهت أو بالعته، والخبل، أو يحكم عليه بزوال العقل، ورفع القلم، لتشبيه وجه ابن آدم بوجوه ما ذكرنا، فتفكَّروا يا ذوي الألباب، أو وجوه ما ذكرنا أقرب شبهًا بوجوه بني آدم، أو وجه خالقنا بوجوه بني آدم؟ فإذا لم تطلق العرب تشبيه وجوه بني آدم بوجوه ما ذكرنا من السباع واسم الوجه، قد يقع على جميع وجوهها كما يقع اسم الوجه على وجوه بني آدم، فكيف يلزم أن يقال لنا: أنتم مشبهة؟ ووجوه بني آدم ووجوه ما ذكرنا من السباع والبهائم محدثة، كلها مخلوقة، قد قضى الله فناءها وهلاكها وقد كانت عدمًا، فكوَّنها الله وخلقها وأحدثها، وجميع ما ذكرناه من السباع والبهائم لوجوهها أبصار، وخدود وجباه، وأنوف وألسنة، وأفواه، وأسنان، وشفاه"؛ (ص 54-55).
18- أهم المعالم في طريقة ابن تيمية رحمه الله مما يتعلق بمنهج الاستدلال:
• الكشف عن حقيقة مذهب السلف، وأنه شامل لكل الدلائل الصحيحة.
• بيان خطأ من لم يستعمل دلالة العقل من المنتسبين للسلف وأهل الحديث.
• بيان خطأ الفلاسفة والمتكلمين الذين جرَّدوا مذهب السلف من الدلائل العقلية.
• إظهار الدلائل العقلية الصحيحة، واستعماله لها سواء في باب التقرير، أو في باب الرد؛ (ص45-49).
19- حقيقة شهادة أن محمدًا رسول الله تمام التسليم له دون قيد:
حقيقة الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم عند أهل السنة تقوم على التسليم المطلق له ولما جاء به؛ ولهذا: "لا يمكن أن يكون تصديق الرسول فيما أخبر به معلقًا بشرط، ولا موقوفًا على انتفاء مانع، بل لا بد من تصديقه في كل ما أخبر به تصديقًا جازمًا، كما في أصل الإيمان به، فلو قال الرجل: أنا أؤمن به إن أذن لي أبي أو شيخي، أو: إلا أن ينهاني أبي أو شيخي لم يكن مؤمنًا به بالاتفاق، وكذلك من قال: أؤمن به إن ظهر لي صدقه، لم يكن بعد قد آمن به، ولو قال: أؤمن به إلا أن يظهر لي كذبه، لم يكن مؤمنًا.
وحينئذٍ فلا بد من الجزم بأنه يمتنع أن يعارض خبره دليل قطعي: لا سمعي ولا عقلي، وأن ما يظنه الناس مخالفًا له إما أن يكون باطلًا، وإما أن يكون مخالفًا، وأما تقدير قول مخالف لقوله وتقديمه عليه: فهذا فاسد في العقل، كما هو كفر في الشرع.
ولهذا كان من المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام أنه يجب على الخلق الإيمان بالرسول إيمانًا مطلقًا جازمًا عامًّا: بتصديقه في كل ما أخبر، وطاعته في كل ما أوجب وأمر، وأن كل ما عارض ذلك فهو باطل"؛ (43-44).
20- لا يتم إسلام أحد إلا بالاستسلام التام للشرع:
يقول الإمام ابن أبي العز رحمه الله: "لا يثبت إسلام من لم يسلم لنصوص الوحيَيْنِ، وينقاد إليها، ولا يعترض عليها ولا يعارضها برأيه ومعقوله وقياسه....والعاقل يعلم أن الرسول معصوم في خبره عن الله تعالى، لا يجوز عليه الخطأ، فيجب عليه التسليم له والانقياد لأمره، وقد علمنا بالاضطرار من دين الإسلام أن الرجل لو قال للرسول: هذا القرآن الذي تلقيه علينا، والحكمة التي جئتنا بها، قد تضمن كل منهما أشياء كثيرة تناقض ما علمناه بعقولنا، ونحن إنما علمنا صدقك بعقولنا، فلو قبلنا جميع ما تقوله مع أن عقولنا تناقض ذلك لكان قدحًا فيما علمنا به صدقك، فنحن نعتقد موجب الأقوال المناقضة لما ظهر من كلامك، وكلامك نعرض عنه، لا نتلقى منه هديًا ولا علمًا، لم يكن مثل هذا الرجل مؤمنًا بما جاء به الرسول، ولم يرض منه الرسول بهذا"؛ (ص 60).
21- كل ما خالف الوحي من المعقولات فهي في الحقيقة خيالات وجهالات:
يقول الإمام ابن أبي العز رحمه الله: "فهما توحيدان، لا نجاة للعبد من عذاب الله إلا بهما: توحيد المرسل، وتوحيد متابعة الرسول، فلا يحاكم إلى غيره، ولا يرضى بحكم غيره، ولا يقف تنفيذ أمره وتصديق خبره على عرضه على قول شيخه وإمامه وذوي مذهبه وطائفته ومن يعظمه، فإن أذنوا له نفذه وقبل خبره، وإلا فإن طلب السلامة فوَّضه إليهم وأعرض عن أمره وخبره، وإلا حرفه عن مواضعه، وسمى تحريفه تأويلًا وحملًا، فقال: نؤوله ونحمله، فلأن يلقى العبد ربه بكل ذنب - ما خلا الإشراك بالله - خير له من أن يلقاه بهذه الحال.
بل إذا بلغه الحديث الصحيح يعد نفسه كأنه سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل يسوغ أن يؤخر قبوله والعمل به حتى يعرضه على رأي فلان وكلامه ومذهبه؟! بل كان الفرض المبادرة إلى امتثاله، من غير التفات إلى سواه، ولا يستشكل قوله لمخالفته رأي فلان، بل تستشكل الآراء لقوله، ولا يعارض نصه بقياس، بل تهدر الأقيسة، وتلغى لنصوصه، ولا يحرف كلامه عن حقيقته، لخيال يسميه أصحابه معقولًا، نعم هو مجهول، وعن الصواب معزول! ولا يوقف قبول قوله على موافقة فلان دون فلان، كائنًا من كان"؛ (ص 62).
22- اشتمال السنة على الأدلة النقلية والعقلية:
فالمقرر عند سلف الأمة أن الرسول صلى الله عليه وسلم، هو من يؤخذ عنه "العلوم الإلهية الدينية سمعيها وعقليها ويجعل ما جاء به هو الأصول لدلالة الأدلة اليقينية البرهانية على أن ما قاله حق جملةً وتفصيلًا، فدلائل النبوة عامتها تدل على ذلك جملة، وتفاصيل الأدلة العقلية الموجودة في القرآن والحديث تدل على ذلك تفصيلًا.
وأيضًا فإن الأنبياء والرسل إنما بعثوا بتعريف هذا، فهم أعلم الناس به وأحقهم بقيامه وأولاهم بالحق فيه، وأيضًا فمن جرب ما يقولونه ويقوله غيرهم وجد الصواب معهم"؛ (ص 65).
23- سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ميزان توزن عليه الأقوال:
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "جماع "الفرقان" بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والرشاد والغي، وطريق السعادة والنجاة، وطريق الشقاوة والهلاك: أن يجعل ما بعث الله به رُسُلَه، وأنزل به كُتُبَه هو الحق الذي يجب اتِّباعه، وبه يحصل الفرقان والهدى والعلم والإيمان فيصدق بأنه حق وصدق، وما سواه من كلام سائر الناس يعرض عليه فإن وافقه فهو حق، وإن خالفه فهو باطل، وإن لم يعلم هل وافقه أو خالفه لكون ذلك الكلام مجملًا لا يعرف مراد صاحبه، أو قد عرف مراده، ولكن لم يعرف هل جاء الرسول بتصديقه أو تكذيبه، فإنه يمسك فلا يتكلم إلا بعلم"؛ (ص 66).
24- القرآن مملوء من ذكر الأدلة العقلية:
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: "إن أدلة القرآن والسنة التي يسميها هؤلاء الأدلة اللفظية نوعان:
أحدهما: يدل بمجرد الخبر.
والثاني: يدل بطريق التنبيه والإرشاد على الدليل العقلي، والقرآن مملوء من ذكر الأدلة العقلية التي هي آيات الله الدالة عليه وعلى ربوبيته ووحدانيته وعلمه وقدرته وحكمته ورحمته، فآياته العيانية المشهودة في خلقه تدل على صدق النوع الأول، وهو مجرد الخبر فلم يتجرد إخباره سبحانه عن آيات تدل على صدقها؛ بل قد بيَّن لعباده في كتابه من البراهين الدالة على صدقه وصدق رسوله ما فيه شفاء وهدى وكفاية"؛ (ص 68).
25- براءة أهل السنة من الطعن في جنس الأدلة العقلية:
كل ما كان برهانًا عقليًّا على أصول الاعتقاد فقد جاءت به النصوص، وعلى هذا فهو من دلالات النصوص، فلا يمكن معارضتها، وأما ما عارض النصوص مما جاء به المتكلمون فهو باطل، ونقد أهل السنة وردهم كان لهذا النوع مما يسميه أهله بالعقليات، وهو في حقيقته من الباطل الذي عارضوا به النصوص، فأهل السنة لم يطعنوا في جنس الدليل العقلي، بل طعنوا في الباطل الذي سُمِّي عقلًا وهو في حقيقته جهل؛ (ص 69).
26- نقض مقولة "مخالفة العقل للنقل" وبيان تناقض المتكلمين:
العلاقة بين العقل والنقل عند المتكلمين تقوم على التناقض والتعانُد والممانعة، وهذه المعارضة لا بد وأن نعلم أنها في حقيقتها، مناقضة للإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم، وللتسليم بما جاء به، فالمتكلمون أثبتوا النبوة بدليل العقل ثم ناقضوا ما جاء به بدليل العقل أيضًا، فما به أثبتوا النبوة أبطلوا به مقصود النبوة والرسالة، فكان هذا منهم إبطالًا للعقل والشرع؛ (ص 70).
27- منشأ الغلط في فرض مخالفة العقل للنقل:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ومنشأ الضلال قوله: (لو قدرنا قيام الدليل القاطع العقلي على خلاف ما دلَّ عليه الدليل السمعي) وإثبات هذا التقدير هو الذي أوقعكم في هذه المحاذير، فكان ينبغي لكم أن تعلموا أن هذا التقدير يجب نفيه قطعًا، وأنه يمتنع أن يقوم دليل قاطع عقلي مخالف للدليل السمعي"؛ (ص 73).
28- الأدلة الصحيحة لا يمكن أن تتعارض:
الأدلة الصحيحة لا تتعارض أيًّا كان جنسها ومصدرها، فالحكم لها بالصحة حكم لها بأنها حق، والحق في نفسه لا يتعارض ولا يتناقض قال شيخ الإسلام رحمه الله: "وبينا أن القياس الصحيح هو من العدل الذي أنزله، وأنه لا يجوز قَطُّ أن يختلف الكتاب والميزان فلا يختلف نص ثابت عن الرسل وقياس صحيح لا قياس شرعي ولا عقلي ولا يجوز قَطُّ أن الأدلة الصحيحة النقلية تخالف الأدلة الصحيحة العقلية، وأن القياس الشرعي الذي رُوعيت شروط صحته يخالف نصًّا من النصوص وليس في الشريعة شيء على خلاف القياس الصحيح؛ بل على خلاف القياس الفاسد كما قد بسطنا ذلك في مصنف مفرد وذكرنا في كتاب درء تعارض العقل والنقل، ومتى تعارض في ظن الظانِّ الكتاب والميزان النص والقياس الشرعي أو العقلي، فأحد الأمرين لازم أما فساد دلالة ما احتج به من النص أما بألَّا يكون ثابتًا عن المعصوم، أو لا يكون دالًّا على ما ظنه أو فساد دلالة ما احتج به من القياس سواء كان شرعيًّا أو عقليًّا بفساد بعض مقدماته أو كلها لما يقع في الأقيسة من الألفاظ المجملة المشتبهة"؛ (ص 74).
29- العقل الصريح لا يخالف النقل الصحيح:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وكلما خالف الكتاب والسنة فإنه مخالف أيضًا لصريح المعقول، فإن العقل الصريح لا يخالف النقل الصحيح، كما أن المنقول عن الأنبياء عليهم السلام لا يخالف بعضُه بعضًا ولكن كثير من الناس يظن تناقض ذلك، وهؤلاء من الذين اختلفوا في الكتاب ﴿ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ﴾ [البقرة: 176]"؛ (ص 77).
30- السنة وَحْي ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقول شيئًا إلا بوحي:
وسنة النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك- أي في عدم التناقض- فهي وَحْي الله أيضًا فهي حق وصدق، يقول الله جلا وعلا: ﴿ وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾ [النجم: 1 - 4].
والنبي صلى الله عليه وسلم لا يقول شيئًا في دين الله من عند نفسه، ولا يبدل شيئًا إلا بوحي الله له، قال تعالى: ﴿ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ * فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ ﴾ [يونس: 15 - 17]؛ (ص 79).
31- مذهب السلف لا يمكن أن يخالف العقل:
مذهب السلف لا يمكن أن يعارضه دليل عقلي صحيح، فالمراد إذا قيل: مذهب السلف أو: مذهب أهل السنة والجماعة إنما هو الإجماع، فإذا أجمعوا على أمر فهو حق، ولا شك، وإذا كان حقًّا فلا يمكن أن يعارضه ما هو حق، بل لا يعارضه إلا ما هو باطل، فإن مخالفة إجماع السلف خطأ قطعًا؛ (ص: 80).