خطب ومحاضرات
شرح الترمذي - مقدمات [1]
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونؤمن به ونتوكل عليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِ الله فهو المهتدِ، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.
الحمد لله رب العالمين؛ شرع لنا ديناً فضيلاً، وهدانا صراطاً مستقيماً، وأسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة، وهو اللطيف الخبير.
اللهم لك الحمد كله، ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر كله أنت رب الطيبين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولي الصالحين، وخالق الخلق أجمعين ورازقهم، وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [هود:6]، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ [فاطر:3].
وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين، فشرح به الصدور وأنار به العقول، وفتح به أعيناً عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً، فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبياً عن أمته، ورضي الله عن أصحابه الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71]، أما بعد:
فسنتدارس بإذن ربنا الرحمن كتاباً من كتب أحاديث نبينا عليه الصلاة والسلام، وهذا الكتاب هو كتاب الإمام أبي عيسى الترمذي عليه رحمة الله، الذي توفي سنة تسع وسبعين ومائتين للهجرة.
وقبل الشروع في مدارسة أحاديث نبينا عليه الصلاة والسلام التي رواها هذا الإمام الهمام في كتابه الجامع الصحيح المعروف بسنن الترمذي ، قبل هذا يحسن بنا بل يجب علينا أن نقف وقفات يسيرة عند ثلاثة أمور:
الأمر الأول: ضروري جداً لنا، بل لكل إنسان في هذه الحياة أينما كان، وفي أي وقت كان، وهذا الأمر هو روح الأعمال، ألا وهو إخلاص النية لرب البرية سبحانه وتعالى.
والأمر الثاني: في فضل تعلم حديث النبي عليه الصلاة والسلام ودراسة سنته.
والأمر الثالث: في بيان منزلة كتاب الإمام الترمذي ، المعروف بسنن الترمذي في كتب السنة.
وهذه المقدمة التي تدور حول هذه الأمور الثلاثة، قد تأخذ منا عدة مواعظ.
وكثير من الناس في هذه الأيام يريدون الأمر من غير جد ولا جهد ولا تعب، وقد أخبرني بعض الإخوة الكرام في هذا اليوم أن بعض من سيحضرون يتساءل: هل بالإمكان أن ننتهي من مدارسة سنن الترمذي في فترة وجيزة؟ وما الفترة المقدرة لدراسة هذا الكتاب؟
وأنا أقول: إن ابن عمر رضي الله عنهما كما ثبت في موطأ الإمام مالك بلاغاً في كتاب القرآن، وبوب عليه الإمام مالك : باب: ما جاء في القرآن، يقول: بلغه أن عبد الله بن عمر مكث في تعلم سورة البقرة ثماني سنين، وهذا الأثر الذي رواه الإمام مالك في موطئه بلاغاً وصله الإمام ابن سعد في الطبقات الكبرى المعروفة بطبقات الإمام ابن سعد في الجزء الرابع: صفحة: أربع وستين ومائة، بإسناده عن العبد الصالح التابعي ميمون بن مهران ، قال: إن ابن عمر مكث في حفظ سورة البقرة وتعلمها أربع سنين، وفي رواية الإمام مالك : ثماني سنين، فإذا كان هذا الصحابي الجليل النحرير يمكث هذه الفترة الطويلة في تعلم أحكام هذه السورة الجليلة، فحقيق بنا إذا أردنا أن نتدارس سنن الإمام الترمذي الذي بلغت أحاديثه ثلاثة آلاف وتسعمائة وواحداً وخمسين حديثاً.
هذا بدون أحاديث كتاب العلل الملحق بالجامع الصحيح، ففيه أيضاً اثنا عشر حديثاً، فيكون مجموع أحاديث الكتاب مع كتاب العلل ثلاثة آلاف وتسعمائة وثلاثة وستين حديثاً، إذاً قاربت أحاديثه أربعة آلاف حديث عن النبي عليه الصلاة والسلام، هذا فيما يتعلق بالأحاديث، فضلاً عما فيه من متون قيدها الفقهاء الأتقياء، وعما فيه بعد ذلك من قواعد في علم الحديث المعروف بعلم مصطلح الحديث، فقد جمع إلى الحديث الفقه والمصطلح، فهل يتوقع أن ينتهي منه إنسان في شهر أو شهرين؟! إن علينا أن نعي أمورنا عندما نقبل على ما ينفعنا.
وقد روى الخطيب البغدادي عليه رحمة الله في كتاب الرواة عن الإمام مالك ، من طريق ابنه عبد الله رضي الله عنهم أجمعين: أن عمر بن الخطاب أقام اثنتي عشرة سنة في حفظ سورة البقرة وتعلم أحكامها، فالابن مكث ثماني سنين، وأما الأب الذي زاد مكوثه في العلم وجده واجتهاده فمكث فترة أطول في تعلم سورة البقرة؛ حفظاً ودراسة، فبقي فيها ثنتي عشرة سنة، وإذا أراد الإنسان أن يأخذ العلم بتحقيق وتدقيق، وخشية لله -جل وعلا- وأن يعمل به، فهذا يتطلب منه فترة طويلة.
فلذلك إذا تساءل الإنسان عن المدة التي يمكن أن ننتهي فيها من مدارسة سنن الإمام الترمذي، فأقول: هذا غيب لا يعلمه إلا الله، لكن أنا أجزم أنه لا يمكن أن ينتهي شرح الكتاب في سنة أو سنتين، لكن متى ينتهي؟ هذا العلم عند الله الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، لكنني أتعهد وسترون أنني أفي بهذا -إن شاء الله-، أن لا أستطرد في الشرح وأن لا أطيل، وأن أعطي الموضوع حقه فيما يتعلق بالإسناد والمتن وتحقيق المباحث الفقهية التي تعرض لها الإمام الترمذي عليه رحمة الله.
أما الأمر الأول فإنه ضروري لكل إنسان في هذه الحياة، وهو روح أعمالنا، وهو للعمل كالروح للبدن، وهذا الأمر هو الإخلاص، وكما أن الروح حياة لأبداننا، فلا يمكن لأبداننا أن تحيا بدون روح، فكذلك لا يمكن لعمل أن يحيا وأن يقبل عند الله -عز وجل- إلا بهذه الروح، وهذا الأمر هو إخلاص النية لله -جل وعلا- وقد ثبت في الكتب الستة الصحيحين والسنن الأربعة من رواية أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه )، وهو حديث صحيح، تفرد بروايته عمر بن الخطاب رضي الله عنه من الصحابة، ثم حمله بعد ذلك مئات من التابعين فمن بعدهم رضوان الله عليهم أجمعين، وهو كما قال أئمتنا: متواتر باعتبار آخره، غريب باعتبار أوله؛ لأنه لم يرو إلا من طريق عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، إنما الأعمال بالنيات، وهو في أعلى مراتب الصحة لأفراد الشيخين الإمام البخاري ومسلم .
( إنما الأعمال بالنيات )، أي: إنما الأعمال صحة وفساداً بالنيات، فيصح العمل إذا صحت النية، ويفسد العمل إذا فسدت النية، وإنما الأعمال قبولاً ورداً ومثوبة وعقوبة بالنيات، فتثاب على عملك أو تعاقب، ويقبل العمل أو يرد، ويصح أو يبطل على حسب ما يكون في ضميرك وقلبك من نية حسنة أو خبيثة، فمن هاجر لله ورسوله فلن يضيع أجره عند الله -جل وعلا- ومن هاجر لعرض الدنيا، أو لزواج امرأة فهو خاطب أو تاجر وليس بمهاجر، فهجرته إلى ما هاجر إليه.
كان أئمتنا يستحبون البدء بهذا الحديث الجليل في مصنفاتهم، وفي أول مجالسهم، وهذا ما فعله أمير المؤمنين في الحديث وشيخ المحدثين وسيدهم أبو عبد الله البخاري عليه رحمة الله في كتابه الجامع الصحيح المسند المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه، حيث أورد هذا الحديث في أول كتابه، مع أن أول كتاب في صحيح البخاري هو كتاب الوحي، وأول باب في كتاب الوحي: باب: كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فأورد الإمام البخاري هذا الحديث في هذا الباب من كتاب الوحي، ولا صلة بين الترجمة وبين هذا الحديث، وإنما قصد هذا الإمام المبارك تنبيه القارئ إلى إخلاص النية لرب البرية عند دراسته أحاديث نبينا عليه الصلاة والسلام، فكأن الإمام البخاري عليه رحمة الله يقول لقارئ كتابه: اعلم يا عبد الله! يا من يريد نصح نفسه ونجاتها أنك ستقدم على أعظم الأعمال وأفضلها عند ذي العزة والجلال، وهذا العمل لا تثاب على شيء منه إلا إذا أخلصت لربك -جل وعلا-، فصحح نيتك من أول الطريق، ( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى ).
قال شيخ الإسلام وسيد الحفاظ في زمنه الإمام عبد الرحمن بن مهدي الذي توفي سنة ثمانٍ وتسعين ومائة للهجرة عليه رحمة الله، قال: من أراد أن يصنف كتاباً فليبدأ بحديث عمر رضي الله عنه وأرضاه: ( إنما الأعمال بالنيات )؛ من أجل أن يصحح نيته في تصنيف وتأليف هذا الكتاب، ومن أجل أن يذكر قارئ كتابه بإخلاص النية لربه جل وعلا.
نسأل الله أن تكون نيته -البخاري- خيراً مما ظهر لنا من حاله، وهذا ظننا فيه ولا نزكيه على الله -عز وجل- فقد أخلص النية لربه جل وعلا حسب ما ظهر لنا من حاله، فكان إذا أراد أن يودع حديثاً في كتابه الجامع يغتسل ويصلي ركعتين، ويستخير الله في وضعه بعد أن يصح إسناده عنده، بل بعد أن اختاره من أحاديث صحيحة كما أخبرنا أنه ما ذكر كل صحيح عنده، وإنما انتخب شيئاً مما عنده من الصحيح، وترك كثيراً من الصحاح؛ لأن الكتاب سيطول ولا غبار عليه، ومع ذلك يقول: ربِ أنت تعلم الغيب، ونحن لا نطلع إلا على الشاهد، فأنت وجه قلبي نحو هذا الحديث الذي نقلته عن الثقات عن نبيك خير المخلوقات عليه الصلاة والسلام، فإن كان فيه علة أو آفة فأرشدني إليها.
صنع هذا كله في كل حديث دونه في صحيحه الصحيح المسند المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه، فكم ركعة صلى؟! وكم غسلاً اغتسل؟! رحمه الله ورضي عنه وأرضاه.
اهتمام السلف بإخلاص النية
اسمع لهذه القصة التي رويت في ترجمته، وهي في سير أعلام النبلاء في الجزء التاسع صفحة: اثنتين وتسعين ومائة فما بعدها وفي غيره، وهو من رجال الكتب الستة، فحديثه في الصحيحين والسنن الأربعة، يقول هذا العبد الصالح: كنت أجلس يوم الجمعة للحديث والوعظ، فكنت إذا كثر الجمع فرحت وابتهجت نفسي، وإذا قل الجمع حزنت وانقبضت نفسي -فكان هذا خاطراً يخطر في بال هذا العبد الصالح- يقول: وكنت عرضت الأمر على شيخي بشر بن منصور -توفي سنة: ثمانين ومائة للهجرة، وقد أخرج حديثه الإمام مسلم في صحيحه وأبو داود والنسائي - فقلت له: عرفت هذا الخاطر من نفسي، وهو أني إذا كثر الجمع أفرح والنفس تبتهج، وإذا قل أحزن والنفس تنقبض، فقال له شيخه بشر : إياك إياك، هذا مجلس سوء فلا تقربه، ما دام هذا الخاطر في نفسك، فأنت من طلاب الدنيا ولست من طلاب الآخرة، تُحب كثرة الناس وتحزن إذا قلوا، ونفسك تبتهج لأنه حصل عندك جمع كثير!!
و بشر بن منصور يقول عنه أئمتنا: محدث رباني، كان يصلي في كل ليلة مائة وخمسين ركعة، فلما رآه بعض الناس يصلي ويطيل الصلاة، التفت إليه بشر وقال: إياك أن تغتر بكثرة صلاتي، فإبليس عبد الله مع الملائكة في السماء فترة من الزمان، فإياك أن تغتر، فالخاتمة مجهولة، ونسأل الله أن يحسن ختامنا، إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
فانظر كيف كانوا يفتشون عن نياتهم؟ وانظر كيف كان يحاسب نفسه ويقول لها: كيف إذا كثر الجمع فرحت، وإذا قل الجمع حزنت؟
إذاً: من زمان وأنا أعمل لنفسي ولحظي لا من أجل ربي.
وانظر لمراقبته لنفسه وإخلاصه لربه جل وعلا، وقد كان يقول: والله لولا أن تكون معصية لأحببت أن يغتابني كل أحد.
سبحان الله! تفرح إذا اغتابك الناس؟ نعم، فما يضرك أيها الإنسان! لن يضروك إذا تكلموا عليك، وقدحوا في عرضك، فقد تكلموا على رب العالمين جل وعلا، وفي الحديث: (إني والإنس والجن في نبأ عظيم، أخلق ويُعبد غيري، وأرزق ويشكر غيري)، هذا حال الله مع عباده، وليس أحد أصبر على أذى سمعه من الله جل وعلا، يجعلون له نداً وهو يرزقهم ويعافيهم ويعطيهم سبحانه وتعالى.
يقول هذا العبد الصالح: إياك أن تحزن من كلام الناس عليك، ومن عرف قدر نفسه لم يضره كلام الناس فيه ذماً أو مدحاً، فهو أعلم بنفسه، فإن قدحوا فيه فهو أعلم، وإن أثنوا عليه فهو أعلم بنفسه، فلا يتأثر بمدحهم ولا بذمهم، ولا يمكن للإنسان أن يخلص لله إلا إذا وصل إلى هذه الحالة، وهي أن يستوي عنده المادح والذام، ومن عرف قدر نفسه هان عليه كلام الناس مدحاً أو ذماً، ثم قال معللاً لذلك: وهل يوجد أهنأ من حسنات تكتب في صحيفتك ولم تعملها؟ الناس يغتابونك، وحسناتك تسطر لك في صحفك دون أن تعملها، هل يوجد أحسن من هذا؟!
حقيقة لا يصل إلى هذه الحالة إلا من أخلص لله جل وعلا، ولذلك فإن من علامات الإخلاص أن تطلب الثواب من الله، وأن تنسى العمل عندما تقوم به، فلا تضل ولا تفتخر ولا ترى نفسك، فيستوي عندك المدح والذم.
وقال العبد الصالح يحيى بن معاذ الرازي ، ونقل أيضاً عن ذي النون المصري عليهم رحمة الله: ثلاث من علامات الإخلاص: استواء المدح والذم من العامة، ونسيان رؤية الأعمال في الأعمال.
وهذا الإمام أبو سليمان الخطابي الذي توفي سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة للهجرة، وهو صاحب كتاب معالم السنن في شرح سنن أبي داود، وهو أول شرح للسنة وصلنا، وليس بين الخطابي وأبي داود إلا راوٍ واحد، يقول الخطابي: كان المتقدمون من شيوخنا يستحبون تقديم حديث عمر قبل كل قول وعمل.
فإذا أردت أن تصنف أو أن تتكلم في موضوع مهم أو في موعظة أو في شأن له مكانة، فقدم بين يدي كلامك حديث عمر ، من أجل أن تذكر نفسك والحاضرين بإخلاص النية لرب العالمين.
حقيقة ينبغي أن نعتني بهذا الأمر، وأن نخلص النية لربنا في بدء طلبنا ومدارستنا لحديث نبينا صلى الله عليه وسلم.
سبب الاهتمام بإخلاص النية في بدء طلب العلم خاصة
والجواب: أن النية وإن كانت ضرورية لكل عمل، إلا أنه ينبغي الاعتناء بها في طلب العلم والتذكير بها في بدء طلب العلم لأمرين معتبرين، وقد كان سلفنا يتواصون بإخلاص النية لله جل وعلا في بدء طلب العلم لهذين الأمرين:
الأول: أن العلم أشرف الطاعات، وأفضل القربات، وإذا كان كذلك فينبغي أن تبذل نحوه أفضل النيات وأخلصها لرب الأرض والسماوات، فإذا كنت تطلب العلم وتريد أن تكون خليفة ووارثاً للنبي عليه الصلاة والسلام، فينبغي أن تخلص كإخلاصه عليه صلوات الله وسلامه، وأن تتأسى به.
والأمر الثاني الذي ينبغي للإنسان أن يصله وكان السلف يوصون به: إخلاص النية لله في بدء طلب العلم، أما كثيراً من الناس فقد اعتادوا كسب الحطام وعرض الدنيا بالعلم الشرعي، فلذلك لا بد من تذكير طالب العلم ليحذر هذا المسلك، فقلة قليلة من الناس يتكسبون بصلاتهم أو صيامهم أو جهادهم أو حجهم، والأكثر يصوم لله وقد يرائي، ويصلي لله وقد يرائي، لكن الأصل في عبادة الصلاة أنها تفعل بدون عرض دنيوي، أما العلم فصار الأصل عند الناس أنه يطلب من أجل الدنيا، فلولا الدنيا لما طلب.
إذاً: هذا الذي هو أشرف الأعمال وأعلاها عند ذي العزة والجلال، وينبغي أن يبذل نحوه أشرف النيات صار يبذل نحوه أخس النيات، ويجعل هذا العلم الذي هو أفضل القربات سلماً لتحصيل عرض الدنيا وحطامها، وهذا حقيقة أمره عظيم وشأنه خطير، والإنسان إذا فسدت نيته في طلب العلم وأراد الدنيا بعلمه، فسيترتب على هذا شناعة أخرى، وهي ما تعيشه البشرية في هذه الأيام، عندما يطلب العلم للدنيا، ولا يمكن بعد ذلك أن ينال الدنيا بتحريف دين الله عن مواضعه، وتحليل ما حرم الله، وتحريم ما أحل الله، فلا يمكن أن ينال الدنيا إلا بهذا المسلك المنكر، وبما أنه طلب العلم للدنيا فإنه يسهل عليه أن يحرف دين الله، وأن يشتري بآيات الله ثمناً قليلاً، وأن يقول للحرام: حلال؛ لأنه طلب العلم من أجل غاية، فهو محصور فيما طلبه، فسيسهل عليه أن يتلاعب بدين الله، وقد خشي نبينا صلى الله عليه وسلم علينا من هؤلاء خشية زادت على خشيته علينا من الدجال، ففي صحيح مسلم وغيره من حديث النواس بن سمعان: أن النبي عليه الصلاة والسلام عندما ذكر الدجال ، قال في الحديث: ( غير
ولذلك في آخر الزمان يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل، قال الحسن البصري عليه رحمة الله: لقد رأيناهم والله، فراش نار وذبان طمع، يغدو أحدهم بدرهمين ويروح بدرهمين، يبيع دينه بثمن عنز.
إذا طلب أحدهم العلم من أجل عرض الدنيا فسيسهل عليهم التضحية بدين الله من أجل متاع الدنيا، وأما إذا طلب العلم تقرباً إلى الله جل وعلا، فإن جاءه شيء من عرض الدنيا دون أن يمس دينه، ودون أن يخدش مروءته وعرضه وكرامته، فيأخذه مطية له، وإذا لم يأته إلا بنقصان الدين والعرض تركه وقال: ما إياك أردت، ولا لك طلبت، بل طلبت العلم لله جل وعلا، وكفاني فخراً أن وفقني الله جل وعلا لخدمة شرعه، وتعلم وتعليم حديث نبيه عليه الصلاة والسلام.
إخوتي الكرام! إن طالب العلم إذا فسدت نيته فهو أخبث من الدجال ، ولن يشم ريح الجنة يوم القيامة، وقد ثبت هذا عن نبينا عليه الصلاة والسلام في مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود وابن ماجه، والحديث رواه ابن حبان والحاكم في المستدرك وإسناده صحيح، من رواية أبي هريرة رضي الله عنه، والحديث روي أيضاً عن جابر بن عبد الله وكعب بن مالك رضي الله عنهم أجمعين، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله، لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا، لم يجد عرف الجنة يوم القيامة )، يعني: ريحها، فمن طلب العلم من أجل عرض الدنيا، يكون بعد ذلك أضر على هذه الأمة من الدجال، ولن يجد عرف الجنة يوم القيامة.
وثبت في مسند الإمام أحمد وصحيح ابن حبان ومستدرك الحاكم وكتاب شعب الإيمان للإمام البيهقي من رواية أبي بن كعب رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( بشر هذه الأمة بالسناء والدين والرفعة والنصر والتمكين في الأرض، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا فليس له عند الله من نصيب ).
إذاً: لا بد أن نخلص النية لربنا في بدء طلبنا لحديث نبينا عليه الصلاة والسلام.
كيفية إخلاص النية لله تعالى في طلب العلم
فنقول: يتحقق هذا بأمرين اثنين، إذا ذهب واحد منهما فالنية فاسدة.
الأمر الأول: أن تتعلم العلم لتزكي به نفسك، ولتخرجها من الردى إلى الهدى، ومن الظلمات إلى النور، فإذا تعلمت العلم لهذه الغاية، فهذا دليل على أنك تخلص لله، وأنك تعلمت هذا العلم لتتقرب به إلى الله جل وعلا.
واعلم أن هذا العلم إذا لم تتعلمه لهذه النية فهو عليك لا لك، وهو حسرة وندامة ووبال عليك، وقد ثبت في المسند والصحيحين من رواية أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن حبه رضي الله عن أسامة وعن والده وعن الصحابة الكرام أجمعين، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يجاء بالعالم يوم القيامة، فيلقى في النار، فتندلق أقتابه -أمعاؤه- فيدور حولها كما يدور الحمار حول الرحى -الطاحون- فيدخل إليه أهل النار ويقولون: ويحك يا فلان! ما لك؟ كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ فيقول: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه )، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ [الصف:2-3]، والمقت هو أشد أنواع الغضب والسخط.
إذاً: الأمر الأول الذي يحقق لنا إخلاص النية لربنا: أن نتعلم العلم لنعمل به، ومن أجل أن نزكي أنفسنا بهذه التزكية التي بعث الله بها نبينا صلى الله عليه وسلم: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [آل عمران:164]، فنترجم العلم العلمي النظري الخبري إلى سلوك عملي؛ لتكون هذه السنة التي تعلمناها بألسنتنا ورسخت في أذهاننا -وهي سنة نبينا عليه الصلاة والسلام- ظاهرة في جميع حركاتنا وسكناتنا، فكل فعل منا يدل على سنة نبينا عليه الصلاة والسلام، وهذا أكبر تقييد وضابط للعلم، فإذا أردت أن تعلم، وأن لا تنسى إذا علمت، فقيد علمك بالعمل، وأما إذا لم تعمل فستنسى، أما لو حفظت فهذا حجة عليك إذا لم تنسه ولم تعمل به.
والأمر الثاني الذي يحقق إخلاص النية لله جل وعلا في طلبنا للعلم: أن نتعلم العلم لنبلغ هذا الهدى إلى عباد الله جل وعلا، فهذه سنة نبينا عليه الصلاة والسلام أمانة في أعناقنا تعلمناها فوعيناها وعملنا بها، ثم بعد ذلك نشرناها بين الناس، فلا بد من تعليم الناس وتبليغهم سنة نبيهم عليه الصلاة والسلام، وهذا له أجر كبير عند الله الجليل، ففي المسند والصحيحين أيضاً من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـعلي عندما أرسله إلى خيبر: ( فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم )، أي: من الإبل والجمال بأسرها، وهذا أنفس مال عند العرب في ذلك الوقت، أي: خير لك من عرض الدنيا ومتاعها إذا هدى الله بك رجلاً واحداً، والحديث رواه الإمام أحمد عن أبي رافع بسند حسن، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـعلي : ( والله لأن يهدي الله على يديك رجلاً واحداً خير لك مما طلعت عليه الشمس وغربت )، فإذا اهتدى بك واحد، وبلغته سنة النبي عليه الصلاة والسلام وعمل بها وصار على هدى وبينة، فهذا خير لك من الدنيا وما فيها، أي: مما طلعت عليه الشمس وغربت، وهذا الكلام الذي وجهه نبينا عليه الصلاة والسلام إلى علي رضي الله عنه وأرضاه، قاله نبينا عليه الصلاة والسلام أيضاً لـمعاذ عندما أرسله إلى اليمن، والحديث وارد في مسند الإمام أحمد ورجال الحديث ثقات، لكن في إسناده انقطاع، كما بين هذا الإمام الهيثمي في المجمع في الجزء الخامس، صفحة أربعٍ وثلاثين وثلاثمائة: قال النبي عليه الصلاة والسلام لـمعاذ عندما أرسله إلى اليمن: ( يا
إذاً: نتعلم العلم لهذين الأمرين: لنتقرب به إلى الله جل وعلا عن طريق تزكية أنفسنا، وهداية غيرنا وتبليغهم شريعة نبينا عليه الصلاة والسلام.
ولذلك كان أئمتنا يستحضرون هذا المعنى، ألا وهو إخلاص النية لرب البرية، وكانوا يتفقدون أحوالهم، ويراقبون أعمالهم؛ لأنهم طلبوا العلم لله جل وعلا، وانظر إلى العبد الصالح عبد الرحمن بن مهدي وهو يقول لنا: من صنف كتاباً فليبدأ بحديث عمر ، فهل فعلت هذا؟ وهل كان هذا الحديث في نيتك؟
اسمع لهذه القصة التي رويت في ترجمته، وهي في سير أعلام النبلاء في الجزء التاسع صفحة: اثنتين وتسعين ومائة فما بعدها وفي غيره، وهو من رجال الكتب الستة، فحديثه في الصحيحين والسنن الأربعة، يقول هذا العبد الصالح: كنت أجلس يوم الجمعة للحديث والوعظ، فكنت إذا كثر الجمع فرحت وابتهجت نفسي، وإذا قل الجمع حزنت وانقبضت نفسي -فكان هذا خاطراً يخطر في بال هذا العبد الصالح- يقول: وكنت عرضت الأمر على شيخي بشر بن منصور -توفي سنة: ثمانين ومائة للهجرة، وقد أخرج حديثه الإمام مسلم في صحيحه وأبو داود والنسائي - فقلت له: عرفت هذا الخاطر من نفسي، وهو أني إذا كثر الجمع أفرح والنفس تبتهج، وإذا قل أحزن والنفس تنقبض، فقال له شيخه بشر : إياك إياك، هذا مجلس سوء فلا تقربه، ما دام هذا الخاطر في نفسك، فأنت من طلاب الدنيا ولست من طلاب الآخرة، تُحب كثرة الناس وتحزن إذا قلوا، ونفسك تبتهج لأنه حصل عندك جمع كثير!!
و بشر بن منصور يقول عنه أئمتنا: محدث رباني، كان يصلي في كل ليلة مائة وخمسين ركعة، فلما رآه بعض الناس يصلي ويطيل الصلاة، التفت إليه بشر وقال: إياك أن تغتر بكثرة صلاتي، فإبليس عبد الله مع الملائكة في السماء فترة من الزمان، فإياك أن تغتر، فالخاتمة مجهولة، ونسأل الله أن يحسن ختامنا، إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
فانظر كيف كانوا يفتشون عن نياتهم؟ وانظر كيف كان يحاسب نفسه ويقول لها: كيف إذا كثر الجمع فرحت، وإذا قل الجمع حزنت؟
إذاً: من زمان وأنا أعمل لنفسي ولحظي لا من أجل ربي.
وانظر لمراقبته لنفسه وإخلاصه لربه جل وعلا، وقد كان يقول: والله لولا أن تكون معصية لأحببت أن يغتابني كل أحد.
سبحان الله! تفرح إذا اغتابك الناس؟ نعم، فما يضرك أيها الإنسان! لن يضروك إذا تكلموا عليك، وقدحوا في عرضك، فقد تكلموا على رب العالمين جل وعلا، وفي الحديث: (إني والإنس والجن في نبأ عظيم، أخلق ويُعبد غيري، وأرزق ويشكر غيري)، هذا حال الله مع عباده، وليس أحد أصبر على أذى سمعه من الله جل وعلا، يجعلون له نداً وهو يرزقهم ويعافيهم ويعطيهم سبحانه وتعالى.
يقول هذا العبد الصالح: إياك أن تحزن من كلام الناس عليك، ومن عرف قدر نفسه لم يضره كلام الناس فيه ذماً أو مدحاً، فهو أعلم بنفسه، فإن قدحوا فيه فهو أعلم، وإن أثنوا عليه فهو أعلم بنفسه، فلا يتأثر بمدحهم ولا بذمهم، ولا يمكن للإنسان أن يخلص لله إلا إذا وصل إلى هذه الحالة، وهي أن يستوي عنده المادح والذام، ومن عرف قدر نفسه هان عليه كلام الناس مدحاً أو ذماً، ثم قال معللاً لذلك: وهل يوجد أهنأ من حسنات تكتب في صحيفتك ولم تعملها؟ الناس يغتابونك، وحسناتك تسطر لك في صحفك دون أن تعملها، هل يوجد أحسن من هذا؟!
حقيقة لا يصل إلى هذه الحالة إلا من أخلص لله جل وعلا، ولذلك فإن من علامات الإخلاص أن تطلب الثواب من الله، وأن تنسى العمل عندما تقوم به، فلا تضل ولا تفتخر ولا ترى نفسك، فيستوي عندك المدح والذم.
وقال العبد الصالح يحيى بن معاذ الرازي ، ونقل أيضاً عن ذي النون المصري عليهم رحمة الله: ثلاث من علامات الإخلاص: استواء المدح والذم من العامة، ونسيان رؤية الأعمال في الأعمال.
وهذا الإمام أبو سليمان الخطابي الذي توفي سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة للهجرة، وهو صاحب كتاب معالم السنن في شرح سنن أبي داود، وهو أول شرح للسنة وصلنا، وليس بين الخطابي وأبي داود إلا راوٍ واحد، يقول الخطابي: كان المتقدمون من شيوخنا يستحبون تقديم حديث عمر قبل كل قول وعمل.
فإذا أردت أن تصنف أو أن تتكلم في موضوع مهم أو في موعظة أو في شأن له مكانة، فقدم بين يدي كلامك حديث عمر ، من أجل أن تذكر نفسك والحاضرين بإخلاص النية لرب العالمين.
حقيقة ينبغي أن نعتني بهذا الأمر، وأن نخلص النية لربنا في بدء طلبنا ومدارستنا لحديث نبينا صلى الله عليه وسلم.
قد يقول قائل: إن إخلاص النية لله هو روح العمل كما قلت، وهو شرط أساسي للقبول لا بد منه للقيام بكل عمل، فإذا صلينا فينبغي أن نخلص النية لله، وإذا حججنا فكذلك، وإذا صمنا، وإذا جاهدنا، فإذاً: لماذا نذكر بالنية على سبيل الخصوص في بدء طلب العلم، وفي بدء مدارستنا لحديث نبينا عليه الصلاة والسلام؟
والجواب: أن النية وإن كانت ضرورية لكل عمل، إلا أنه ينبغي الاعتناء بها في طلب العلم والتذكير بها في بدء طلب العلم لأمرين معتبرين، وقد كان سلفنا يتواصون بإخلاص النية لله جل وعلا في بدء طلب العلم لهذين الأمرين:
الأول: أن العلم أشرف الطاعات، وأفضل القربات، وإذا كان كذلك فينبغي أن تبذل نحوه أفضل النيات وأخلصها لرب الأرض والسماوات، فإذا كنت تطلب العلم وتريد أن تكون خليفة ووارثاً للنبي عليه الصلاة والسلام، فينبغي أن تخلص كإخلاصه عليه صلوات الله وسلامه، وأن تتأسى به.
والأمر الثاني الذي ينبغي للإنسان أن يصله وكان السلف يوصون به: إخلاص النية لله في بدء طلب العلم، أما كثيراً من الناس فقد اعتادوا كسب الحطام وعرض الدنيا بالعلم الشرعي، فلذلك لا بد من تذكير طالب العلم ليحذر هذا المسلك، فقلة قليلة من الناس يتكسبون بصلاتهم أو صيامهم أو جهادهم أو حجهم، والأكثر يصوم لله وقد يرائي، ويصلي لله وقد يرائي، لكن الأصل في عبادة الصلاة أنها تفعل بدون عرض دنيوي، أما العلم فصار الأصل عند الناس أنه يطلب من أجل الدنيا، فلولا الدنيا لما طلب.
إذاً: هذا الذي هو أشرف الأعمال وأعلاها عند ذي العزة والجلال، وينبغي أن يبذل نحوه أشرف النيات صار يبذل نحوه أخس النيات، ويجعل هذا العلم الذي هو أفضل القربات سلماً لتحصيل عرض الدنيا وحطامها، وهذا حقيقة أمره عظيم وشأنه خطير، والإنسان إذا فسدت نيته في طلب العلم وأراد الدنيا بعلمه، فسيترتب على هذا شناعة أخرى، وهي ما تعيشه البشرية في هذه الأيام، عندما يطلب العلم للدنيا، ولا يمكن بعد ذلك أن ينال الدنيا بتحريف دين الله عن مواضعه، وتحليل ما حرم الله، وتحريم ما أحل الله، فلا يمكن أن ينال الدنيا إلا بهذا المسلك المنكر، وبما أنه طلب العلم للدنيا فإنه يسهل عليه أن يحرف دين الله، وأن يشتري بآيات الله ثمناً قليلاً، وأن يقول للحرام: حلال؛ لأنه طلب العلم من أجل غاية، فهو محصور فيما طلبه، فسيسهل عليه أن يتلاعب بدين الله، وقد خشي نبينا صلى الله عليه وسلم علينا من هؤلاء خشية زادت على خشيته علينا من الدجال، ففي صحيح مسلم وغيره من حديث النواس بن سمعان: أن النبي عليه الصلاة والسلام عندما ذكر الدجال ، قال في الحديث: ( غير
ولذلك في آخر الزمان يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل، قال الحسن البصري عليه رحمة الله: لقد رأيناهم والله، فراش نار وذبان طمع، يغدو أحدهم بدرهمين ويروح بدرهمين، يبيع دينه بثمن عنز.
إذا طلب أحدهم العلم من أجل عرض الدنيا فسيسهل عليهم التضحية بدين الله من أجل متاع الدنيا، وأما إذا طلب العلم تقرباً إلى الله جل وعلا، فإن جاءه شيء من عرض الدنيا دون أن يمس دينه، ودون أن يخدش مروءته وعرضه وكرامته، فيأخذه مطية له، وإذا لم يأته إلا بنقصان الدين والعرض تركه وقال: ما إياك أردت، ولا لك طلبت، بل طلبت العلم لله جل وعلا، وكفاني فخراً أن وفقني الله جل وعلا لخدمة شرعه، وتعلم وتعليم حديث نبيه عليه الصلاة والسلام.
إخوتي الكرام! إن طالب العلم إذا فسدت نيته فهو أخبث من الدجال ، ولن يشم ريح الجنة يوم القيامة، وقد ثبت هذا عن نبينا عليه الصلاة والسلام في مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود وابن ماجه، والحديث رواه ابن حبان والحاكم في المستدرك وإسناده صحيح، من رواية أبي هريرة رضي الله عنه، والحديث روي أيضاً عن جابر بن عبد الله وكعب بن مالك رضي الله عنهم أجمعين، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله، لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا، لم يجد عرف الجنة يوم القيامة )، يعني: ريحها، فمن طلب العلم من أجل عرض الدنيا، يكون بعد ذلك أضر على هذه الأمة من الدجال، ولن يجد عرف الجنة يوم القيامة.
وثبت في مسند الإمام أحمد وصحيح ابن حبان ومستدرك الحاكم وكتاب شعب الإيمان للإمام البيهقي من رواية أبي بن كعب رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( بشر هذه الأمة بالسناء والدين والرفعة والنصر والتمكين في الأرض، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا فليس له عند الله من نصيب ).
إذاً: لا بد أن نخلص النية لربنا في بدء طلبنا لحديث نبينا عليه الصلاة والسلام.
استمع المزيد من الشيخ عبد الرحيم الطحان - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
شرح الترمذي - باب الاستتار عند الحاجة، والاستنجاء باليمين، والاستنجاء بالحجارة [4] | 4045 استماع |
شرح الترمذي - باب ما جاء في فضل الطهور [6] | 3979 استماع |
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [9] | 3906 استماع |
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [46] | 3793 استماع |
شرح الترمذي - مقدمات [8] | 3787 استماع |
شرح الترمذي - باب مفتاح الصلاة الطهور [2] | 3771 استماع |
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [18] | 3570 استماع |
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [24] | 3486 استماع |
شرح الترمذي - باب ما يقول إذا خرج من الخلاء [10] | 3465 استماع |
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [59] | 3418 استماع |