مباحث النبوة - غذاء الرسول صلى الله عليه وسلم [2]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا وعلمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

إخوتي الكرام! كنا نتدارس العلامة الأولى من العلامات التي يعرف بها صدق النبي وأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا العلامة الأولى تقدم معنا الكلام على شيء منها، وهي النظر إلى حال النبي صلى الله عليه وسلم في نفسه في خَلقه وخُلقه، وقد تقدم الكلام على ما يتعلق بالقسم الأول من هذين القسمين، فيما يتعلق بخلق النبي صلى الله عليه وسلم، ثم شرعنا نتدارس ما يتعلق بالقسم الثاني في خلق النبي صلى الله عليه وسلم.

وقلت -إخوتي الكرام-: إن الله منح أنبياءه ورسله الكمال في الأمرين: في الخَلق وفي الخُلق، فأعطاهم الجمال والجلال على نبينا وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه، وتقدم معنا ما يتعلق بالقسم الثاني من هذين القسمين، أعني خلق النبي صلى الله عليه وسلم، وقلت: لا يمكن لإنسان أن يحيط على وجه التمام بخلق نبينا عليه الصلاة والسلام، فخلقه القرآن عليه صلوات الله وسلامه، وليس في وسع إنسان أن يقف على معاني القرآن على وجه التمام، إنما نبحث في معاني القرآن وهكذا عن خلق نبينا عليه الصلاة والسلام حسب ما في وسعنا، وحسب استطاعتنا، ولا يمكن أن نحيط بخلق نبينا عليه صلوات الله وسلامه.

ولذلك قلت -إخوتي الكرام-: إذا أردنا أن نقف على صورة مختصرة لخلق نبينا عليه الصلاة والسلام لنستنتج بعد ذلك من هذا الصورة المختصرة أنه رسول الله عليه الصلاة والسلام حقاً وصدقا، فينبغي أن نبحث في سبعة أمور من أخلاق نبينا عليه الصلاة والسلام:

أولها: خلقه عليه الصلاة والسلام مع أهله وأسرته، وثانيها: خلقه عليه الصلاة والسلام مع أصحابه وأمته، وثالثها: خلقه عليه الصلاة والسلام مع الملائكة الكرام على نبينا وعليهم الصلاة والسلام، ورابعها: خلق النبي عليه الصلاة والسلام مع أعدائه من شياطين الإنس. وخامسها: خلق النبي عليه الصلاة والسلام مع أعدائه من شياطين الجن، وسادسها: خلق النبي عليه الصلاة والسلام مع الحيوانات العجماوات، وسابعها: وهي آخر الأمور: خلق النبي عليه الصلاة والسلام مع الجمادات الصامتات.

وكنا نتدارس الأمر الأول من هذه الأمور السبعة ألا وهو خلق النبي عليه الصلاة والسلام مع أهله وأسرته عليه وعلى آله وصحبه صلوات الله وسلامه، وقلت: هذا الجانب أيضاً ينبغي أن نتدارسه ضمن أربع مراحل، مضى الكلام على ثلاث منها: فيما يتعلق بمسكن نبينا عليه الصلاة والسلام، وفيما يتعلق بأثاث نبينا عليه الصلاة والسلام في ذلك المسكن وفي تلك الحجر الشريفة المباركة المتواضعة، وثالثها: ما كان يقدم في تلك الحجر من طعام وغذاء يأكله خير الأنبياء مع آله عليه وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه.

هذه الأمور الثلاثة تقدم الكلام عليها، وبقي أن نتدارس معاملة نبينا عليه الصلاة والسلام لأهله في تلك الحجر، بعد أن عرفنا المسكن والأثاث والطعام، وقبل أن ندخل في الأمر الرابع الذي هو محل الشاهد والعلامة: خلق نبينا عليه الصلاة والسلام ومعاملته لأهله الكرام، قبل هذا وعدتكم -إخوتي الكرام- أن أتكلم على ما يتعلق بالأمور الثلاثة المتقدمة وعلى وجه الخصوص فيما ذكرته آخراً من الأمور الثلاثة وهو غذاء النبي عليه الصلاة والسلام وطعامه، وسيكون موضوع هذه الموعظة هو ما يتعلق بما تقدم من هذه الأمور الثلاثة وعلى وجه الخصوص الأمر الثالث، لأني على يقين أنه حصل في الذهن استفسارات وأسئلة متعددة حول ما تقدم، لذلك لابد من بيان ذلك إن شاء الله.

وأما ما يتعلق بمعاملة نبينا عليه الصلاة والسلام لنسائه وأهل بيته فسيأتي الكلام على ذلك في الموعظة الآتية إن أحيانا الله.

إخوتي الكرام! تقدم معنا أن سكن نبينا عليه الصلاة والسلام وأثاثه وطعامه كان يقوم على الأمر الضروري بمقدار البلغة، فالسكن بمقدار الحاجة، وهكذا الأثاث والطعام معنا، وما كان يترفه عليه الصلاة والسلام ولا يتوسع لا في السكن ولا في الأثاث ولا في الطعام عليه صلوات الله وسلامه، فغالب أيامه فيما يتعلق بالأمر الثالث جوع، وعندما يشبع يشبع من خشن الطعام، وقد خرج من هذه الحياة الفانية إلى دار الآخرة الباقية وما شبع من خبز الشعير فداه أنفسنا وآباؤنا وأمهاتنا عليه صلوات الله وسلامه.

إخوتي الكرام! هذا الخلق الذي كان عليه نبينا عليه الصلاة والسلام حقيقة هو خلقه عليه الصلاة والسلام، وهو خلق أحبابه وأصحابه غالباً، أنهم كانوا في هذه الحياة يقتصرون على الضروري ويجوعون أكثر مما يشبعون، وقد ورد ما يدل على هذا ويؤيده من كلام نبينا عليه الصلاة والسلام، وهذا ما سأذكره إن شاء الله، ثم أعقب عليه بمعالم ينبغي أن ترسخ في الذهن نحو هذا الموضوع الجليل العظيم.

حديث كعب بن عجرة: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فرأيته متغيراً...)

ثبت في معجم الطبراني الأوسط بسند جيد كما في مجمع الزوائد للإمام الهيثمي في الجزء العاشر صفحة ثلاث عشرة وثلاثمائة، من حديث كعب بن عجرة ، وهو من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، قال: ( أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فرأيته متغيراً ) عليه علامة ذبول عليه صلوات الله وسلامه ويظهر عليه شيء من الإعياء والتعب، ( فقلت: بأبي أنت وأمي ما لي أراك متغيراً يا رسول الله عليه صلوات الله وسلامه؟ ) والإنسان إذا جاع وبقي عدة أيام يظهر عليه الذبول، فقال عليه الصلاة والسلام: ( ما دخل جوفي ما يدخل جوف ذات كبد منذ ثلاث )، أي: ما ذقت طعاماً منذ ثلاثة أيام، ولذلك ترى عليّ علامة التغير والذبول على نبينا صلوات الله وسلامه، قال كعب بن عجرة : ( فذهبت فإذا يهودي يسقي إبلاً له، فسقيت له على كل دلو بتمرة )، سقى الإبل لليهودي على أن يأخذ مقابل كل دلو تمرة ليجمع تمرات ويأتي بها إلى خير البريات عليه صلوات الله وسلامه، ليدخل جوفه شيئاً مما يأكله ذو كبد، قال: ( فجمعت تمراً فأتيت به النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا كعب ! من أين لك هذا؟ فأخبرته )، قلت له: سقيت ليهودي إبله على كل دلو بتمرة ثم أتيتك بهذه التمرات على نبينا صلوات الله وسلامه، فقال النبي عليه الصلاة والسلام لـكعب بن عجرة: ( أتحبني يا كعب ؟ )، وكيف لا يحبه، إنما يريد النبي عليه الصلاة والسلام أن يبني على هذه المحبة حكماً وهي التي ذكرتها في أول الموعظة، أن هذا خلقه وحاله وحال أصحابه وأحبابه غالباً عليه صلوات الله وسلامه: ( أتحبني يا كعب ؟ قلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله عليه الصلاة والسلام )، أنت تقدم على النفس فمن دونها، فكيف لا تحب؟ فقال عليه الصلاة والسلام: ( إن الفقر أسرع إلى من يحبني من السيل إلى معادنه )، إلى مجراه الذي يجري فيه، السيل عندما ينزل المطر ويجتمع من قلل الجبال من هنا وهناك تراه ينصب بسرعة حتى يمشي في معادنه وفي مجراه الطبيعي: ( إن الفقر أسرع إلى من يحبني من السيل إلى معادنه، وإنه سيصيبك بلاء )، ما دمت تحبني فهذه الدنيا دار بلاء للأولياء: ( وإنه سيصيبك بلاء فأعد له تِجفافاً )، بكسر التاء المثناة من فوق (تِجفافا)، جمعها: تجافيف، وهي كلمة كما قال أئمتنا: تطلق على الدرع وعلى الجنة التي يقي بها الإنسان نفسه، وعلى الكساء الذي يوضع على الفرس من أجل أن يكون أمنع للفرس في القتال لو جاءه شيء من ضربات الرماح فتمنعها من الدخول في بطن الفرس أو ظهره، هذه يقال لها: تِجفاف، يلبسها الإنسان ويضعها على فرسه وخيله، لما فيها من الصلابة والقوة والمتانة.

حال كعب بن عجرة وتخففه من الدنيا

إذاً: هذا هو خلقه عليه صلوات الله وسلامه، وهذه حالته وحالة أحبابه غالباً، ولذلك فقد فقد النبي صلى الله عليه وسلم كعب بن عجرة وأصيب بشيء من البلاء حسبما أخبر خاتم الأنبياء عليه صلوات الله وسلامه، ( فسأل: أين كعب؟ فقيل: إنه مريض يا رسول الله عليه الصلاة والسلام، فذهب النبي عليه الصلاة والسلام لزيارته، فلما دخل عليه قال له: أبشر يا كعب ! )، أن هذا الذي أصابك علامة حب من الله لك، ولذلك قال أئمتنا: وكل البلاء بالولاء لئلا يدعيه أحد، أي: بالولاية لئلا يدعيها أحد، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: ( أبشر يا كعب )، هذه علامة خير إن شاء الله، وما حل بك علامة صلاح فيك، والدنيا كلها دار امتحان وعناء وبلاء، وهي سجن المؤمن وجنة الكافر، ( فقالت أم كعب : هنيئاً لك الجنة )، وإنما قالت هذا بعدما سمعت من النبي عليه الصلاة والسلام لفظ: ( أبشر يا كعب )، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ( من هذه المتألية على الله؟ فقال كعب : إنها أمي يا رسول الله عليه الصلاة والسلام، تقول: هنيئاً لك الجنة، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: وما يدريك يا أم كعب ؟ )، وما يدريك أنه من أهل الجنة؟ لم تتألين على الله جل وعلا؟ ( وما يدريك يا أم كعب ؟ لعل كعباً قال ما لا يعنيه أو منع ما لا يغنيه )، لعل كعباً قال ما لا يعنيه: لعله كان يتكلم فيما لا يعنيه، نحن لا نعلم، أما أن يجزم بالجنة لهذا أو ذاك فهذا لا يعلمه إلا صاحب الجنة الذي يعلم السر وأخفى. (أو منع ما لا يغنيه) يعني: الشيء القليل كان يمنعه ولا يجود به، فلعله كان يمنع هذا أو يتكلم فيما لا يعنيه.

لكن كعباً رضي الله عنه وأرضاه لم يمت في ذلك المرض فكتب الله له العافية والشفاء، وامتدت حياته بعد نبينا عليه الصلاة والسلام فتوفي سنة إحدى وخمسين، وقيل: سنة اثنتين وخمسين، وقيل: ثلاث وخمسين للهجرة عن عمر بلغ سبعة وسبعين سنة أو خمسة وسبعين سنة حسب الخلاف في تاريخ وفاته رضي الله عنه وأرضاه.

إذاً: قوله: ( إن الفقر أسرع إلى من يحبني من السيل إلى معادنه، وإنه سيصيبك بلاء فأعد له تِجفافاً )، أي: إذا كنت تحبني فاستعد للبلاء وللفاقة وللشدة وللعناء، فهذا هو حال خاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام، وهو حال أحبابه غالباً.

وهذا الحديث -إخوتي الكرام- يخلع القلب، وإسناده -كما قلت- جيد كما نص على ذلك شيخ الإسلام الإمام الهيثمي، فـكعب يحب النبي عليه الصلاة والسلام وهو من الصحابة الكرام، والنبي عليه الصلاة والسلام جعل له أمارة على حبه -وقد حصلت فيه- أنه سيصيبك بلاء فأعد له تِجفافاً، فنزل به البلاء مباشرة فقد أصيب بالمرض، ومع ذلك لما قالت أمه: هنيئاً لك الجنة، قال صلى الله عليه وسلم: ( من المتألية على الله؟ وما يدريك لعله قال ما لا يعنيه أو منع ما لا يغنيه )، سبحان ربي العظيم! معنى ذلك أن الإنسان إذا تكلم فيما لا يعنيه سيحجب عن الجنة لا شك، وأكثر ما يكب الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم حصائد ألسنتهم، الثرثرة والقيل والقال، والهذيان الذي لا يسمن ولا يغني من جوع، فكيف لو تكلم الإنسان بالغيبة والنميمة والقذف والفحش وغير ذلك!

ثبت في معجم الطبراني الأوسط بسند جيد كما في مجمع الزوائد للإمام الهيثمي في الجزء العاشر صفحة ثلاث عشرة وثلاثمائة، من حديث كعب بن عجرة ، وهو من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، قال: ( أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فرأيته متغيراً ) عليه علامة ذبول عليه صلوات الله وسلامه ويظهر عليه شيء من الإعياء والتعب، ( فقلت: بأبي أنت وأمي ما لي أراك متغيراً يا رسول الله عليه صلوات الله وسلامه؟ ) والإنسان إذا جاع وبقي عدة أيام يظهر عليه الذبول، فقال عليه الصلاة والسلام: ( ما دخل جوفي ما يدخل جوف ذات كبد منذ ثلاث )، أي: ما ذقت طعاماً منذ ثلاثة أيام، ولذلك ترى عليّ علامة التغير والذبول على نبينا صلوات الله وسلامه، قال كعب بن عجرة : ( فذهبت فإذا يهودي يسقي إبلاً له، فسقيت له على كل دلو بتمرة )، سقى الإبل لليهودي على أن يأخذ مقابل كل دلو تمرة ليجمع تمرات ويأتي بها إلى خير البريات عليه صلوات الله وسلامه، ليدخل جوفه شيئاً مما يأكله ذو كبد، قال: ( فجمعت تمراً فأتيت به النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا كعب ! من أين لك هذا؟ فأخبرته )، قلت له: سقيت ليهودي إبله على كل دلو بتمرة ثم أتيتك بهذه التمرات على نبينا صلوات الله وسلامه، فقال النبي عليه الصلاة والسلام لـكعب بن عجرة: ( أتحبني يا كعب ؟ )، وكيف لا يحبه، إنما يريد النبي عليه الصلاة والسلام أن يبني على هذه المحبة حكماً وهي التي ذكرتها في أول الموعظة، أن هذا خلقه وحاله وحال أصحابه وأحبابه غالباً عليه صلوات الله وسلامه: ( أتحبني يا كعب ؟ قلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله عليه الصلاة والسلام )، أنت تقدم على النفس فمن دونها، فكيف لا تحب؟ فقال عليه الصلاة والسلام: ( إن الفقر أسرع إلى من يحبني من السيل إلى معادنه )، إلى مجراه الذي يجري فيه، السيل عندما ينزل المطر ويجتمع من قلل الجبال من هنا وهناك تراه ينصب بسرعة حتى يمشي في معادنه وفي مجراه الطبيعي: ( إن الفقر أسرع إلى من يحبني من السيل إلى معادنه، وإنه سيصيبك بلاء )، ما دمت تحبني فهذه الدنيا دار بلاء للأولياء: ( وإنه سيصيبك بلاء فأعد له تِجفافاً )، بكسر التاء المثناة من فوق (تِجفافا)، جمعها: تجافيف، وهي كلمة كما قال أئمتنا: تطلق على الدرع وعلى الجنة التي يقي بها الإنسان نفسه، وعلى الكساء الذي يوضع على الفرس من أجل أن يكون أمنع للفرس في القتال لو جاءه شيء من ضربات الرماح فتمنعها من الدخول في بطن الفرس أو ظهره، هذه يقال لها: تِجفاف، يلبسها الإنسان ويضعها على فرسه وخيله، لما فيها من الصلابة والقوة والمتانة.

إذاً: هذا هو خلقه عليه صلوات الله وسلامه، وهذه حالته وحالة أحبابه غالباً، ولذلك فقد فقد النبي صلى الله عليه وسلم كعب بن عجرة وأصيب بشيء من البلاء حسبما أخبر خاتم الأنبياء عليه صلوات الله وسلامه، ( فسأل: أين كعب؟ فقيل: إنه مريض يا رسول الله عليه الصلاة والسلام، فذهب النبي عليه الصلاة والسلام لزيارته، فلما دخل عليه قال له: أبشر يا كعب ! )، أن هذا الذي أصابك علامة حب من الله لك، ولذلك قال أئمتنا: وكل البلاء بالولاء لئلا يدعيه أحد، أي: بالولاية لئلا يدعيها أحد، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: ( أبشر يا كعب )، هذه علامة خير إن شاء الله، وما حل بك علامة صلاح فيك، والدنيا كلها دار امتحان وعناء وبلاء، وهي سجن المؤمن وجنة الكافر، ( فقالت أم كعب : هنيئاً لك الجنة )، وإنما قالت هذا بعدما سمعت من النبي عليه الصلاة والسلام لفظ: ( أبشر يا كعب )، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ( من هذه المتألية على الله؟ فقال كعب : إنها أمي يا رسول الله عليه الصلاة والسلام، تقول: هنيئاً لك الجنة، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: وما يدريك يا أم كعب ؟ )، وما يدريك أنه من أهل الجنة؟ لم تتألين على الله جل وعلا؟ ( وما يدريك يا أم كعب ؟ لعل كعباً قال ما لا يعنيه أو منع ما لا يغنيه )، لعل كعباً قال ما لا يعنيه: لعله كان يتكلم فيما لا يعنيه، نحن لا نعلم، أما أن يجزم بالجنة لهذا أو ذاك فهذا لا يعلمه إلا صاحب الجنة الذي يعلم السر وأخفى. (أو منع ما لا يغنيه) يعني: الشيء القليل كان يمنعه ولا يجود به، فلعله كان يمنع هذا أو يتكلم فيما لا يعنيه.

لكن كعباً رضي الله عنه وأرضاه لم يمت في ذلك المرض فكتب الله له العافية والشفاء، وامتدت حياته بعد نبينا عليه الصلاة والسلام فتوفي سنة إحدى وخمسين، وقيل: سنة اثنتين وخمسين، وقيل: ثلاث وخمسين للهجرة عن عمر بلغ سبعة وسبعين سنة أو خمسة وسبعين سنة حسب الخلاف في تاريخ وفاته رضي الله عنه وأرضاه.

إذاً: قوله: ( إن الفقر أسرع إلى من يحبني من السيل إلى معادنه، وإنه سيصيبك بلاء فأعد له تِجفافاً )، أي: إذا كنت تحبني فاستعد للبلاء وللفاقة وللشدة وللعناء، فهذا هو حال خاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام، وهو حال أحبابه غالباً.

وهذا الحديث -إخوتي الكرام- يخلع القلب، وإسناده -كما قلت- جيد كما نص على ذلك شيخ الإسلام الإمام الهيثمي، فـكعب يحب النبي عليه الصلاة والسلام وهو من الصحابة الكرام، والنبي عليه الصلاة والسلام جعل له أمارة على حبه -وقد حصلت فيه- أنه سيصيبك بلاء فأعد له تِجفافاً، فنزل به البلاء مباشرة فقد أصيب بالمرض، ومع ذلك لما قالت أمه: هنيئاً لك الجنة، قال صلى الله عليه وسلم: ( من المتألية على الله؟ وما يدريك لعله قال ما لا يعنيه أو منع ما لا يغنيه )، سبحان ربي العظيم! معنى ذلك أن الإنسان إذا تكلم فيما لا يعنيه سيحجب عن الجنة لا شك، وأكثر ما يكب الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم حصائد ألسنتهم، الثرثرة والقيل والقال، والهذيان الذي لا يسمن ولا يغني من جوع، فكيف لو تكلم الإنسان بالغيبة والنميمة والقذف والفحش وغير ذلك!

هذه الجملة الأخيرة -إخوتي الكرام- وهي قوله: (لعله قال ما لا يعنيه) ورد نظيرها في عدة أحاديث وإن كانت لا ترتبط ببحثنا ارتباطاً وثيقاً، لكن من باب ضبط هذا اللسان الذي هو أخطر الأعضاء على الإنسان، ولذلك كان أئمتنا يقولون: إنه صغير حجمه لكنه كبير جرمه، ذنبه كبير وحجمه صغير، لعله لا يصل طوله عشرة إلى عشرين سنتي مهما طال، لكنه يتناول الحي والميت والحاضر والغائب والمخلوق والخالق، حتى الخالق ما سلم من أذى اللسان سبحانه وتعالى، فإذا كان الإنسان يتكلم فيما لا يعنيه أو يمنع ويبخل بما لا يغنيه فيحول هذان الوصفان بينه وبين الجنة، فكيف إذا كان يتصف بما هو أشنع من ذلك! نسأل الله السلامة والعافية وحسن الخاتمة.

إخوتي الكرام! الجملة الأخيرة في الحديث -كما قلت- وردت من عدة طرق عن عدة من الصحابة الكرام رضوان الله عليه أجمعين، رواه الإمام ابن أبي الدنيا في كتاب الصمت، وألف كتاباً كاملاً في حدود ثلاثمائة صفحة كله في الصمت من أوله إلى آخره، الصمت وحفظ اللسان، والإمام ابن أبي الدنيا من أئمة أهل السنة والخير والصلاح والفلاح، له كتاب الصمت، ورحم الله امرأً قال خيراً فغنم أو سكت عن شر فسلم، وإذا وجدت في الكلام فائدة فتكلم وإلا فاسكت، والسكوت غنيمة.

رواه ابن أبي الدنيا في كتاب الصمت، وفيه: أن النبي عليه الصلاة والسلام زار كعب بن عجرة ، لكن ليس فيه صدر الحديث وبدايته وهو أنه رأى النبي عليه الصلاة والسلام متغير اللون وذهب وسقى ليهودي وأتى بتمرات إلى النبي عليه الصلاة والسلام، إنما فيه: ( أن النبي عليه الصلاة والسلام جاء إلى كعب يزوره، فقالت له أم كعب : هنيئاً لك الجنة، فقال: أين المتألية على الله جل وعلا؟ وما يدريك لعل كعباً قال ما لا يعنيه أو منع ما لا يغنيه ).

والحديث رواه الترمذي أيضاً، وابن أبي الدنيا في كتاب الصمت عن أنس بن مالك رضي الله عنه في حادثة أخرى وقعت مع غير كعب بن عجرة ، وقال النبي عليه الصلاة والسلام نفس هذه المقولة، ورد أن ذاك صحابي قيلت له تلك المقولة في مرضه وصحابي آخر قيلت له تلك المقولة بعد استشهاده في موقعة أحد، فمع أنه شهيد قال النبي عليه الصلاة والسلام فيه كما سيأتينا في رواية الحديث: ( لعله كان يتكلم بما لا يعنيه أو يبخل ويمنع ما لا يغنيه ).

والرواية رواها أيضاً أبو يعلى في مسنده كما في مجمع الزوائد في الجزء العاشر صفحة ثلاث وثلاثمائة، فرواية الترمذي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ( توفي رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ) وهو غير كعب قطعاً لأن كعباً تقدم معنا أن حياته امتدت بعد موت النبي عليه الصلاة والسلام، ( فقال رجل: أبشر بالجنة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو لا تدري، فلعله تكلم فيما لا يعنيه أو بخل بما لا يُنقصه )، يعني شيء لا ينقصه بخل به.

وأما رواية أبي يعلى ورواية ابن أبي الدنيا في كتاب الصمت عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: استشهد غلام منا يوم أُحد وهو من الأنصار الأبرار، فوجد على بطنه صخرة مربوطة من الجوع، وتقدم معنا أن هذا الوصف كان ديدن النبي عليه الصلاة والسلام والصحابة الكرام، لكن إذا ربطوا حجراً كان يربط على بطنه الشريف حجرين فداه أنفسنا وآباؤنا وأمهاتنا عليه صلوات الله وسلامه، قال: استشهد غلام منا يوم أُحد فوجد على بطنه صخرة مربوطة من الجوع، فمسحت أمه التراب عن وجه، وقالت: هنيئاً لك يا بني الجنة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( وما يدريك، لعله كان يتكلم فيما لا يعنيه، ويمنع ما لا يضره ) يعني يمنع ما لا يضره إنفاقه، لو أنفقه ما ضره، وادخره عند الله جل وعلا.

أما رواية ابن أبي الدنيا في كتاب الصمت ورواية الإمام أبي يعلى في مسنده، ففي إسناد الحديث يحيى بن يعلى الأسلمي وهو ضعيف كما قال الهيثمي، وبذلك حكم عليه الإمام ابن حجر أيضاً في التقريب، وأشار إلى أن حديثه في سنن الترمذي ، أي: أنه من رجال الترمذي ، وأخرج له البخاري في الأدب المفرد، لكنه ضعيف، وهو الراوي عن أنس ، يحيى بن يعلى الأسلمي وهو من التابعين لكن في روايته ضعف، أما رواية الترمذي فهي من غير طريق يحيى بن يعلى الأسلمي ، فهي تشهد له، والحديث حسن إن شاء الله، رواه الإمام الترمذي من طريق عمر بن حفص بن غياث الكوفي عن أبيه حفص بن غياث عن أنس بن مالك ، وتلك الرواية عن يحيى بن يعلى الأسلمي عن سليمان بن مهران الأعمش عن أنس ، وهنا عن عمر بن حفص بن غياث عن أبيه حفص بن غياث عن سليمان بن مهران الأعمش عن أنس ، فـيحيى بن يعلى روى الحديث عن الأعمش عن أنس ، وقلت: هو ضعيف، وهنا روي من غير طريقه فهذه متابعة له تشهد لحديثه.

أما عمر بن حفص فهو ثقة كما قال أئمتنا، وحديثه مخرج في الكتب الستة إلا سنن ابن ماجه ، وأما ولده حفص بن غياث فهو ثقة فقيه كما قال الحافظ ابن حجر ، وحديث مخرج في الكتب الستة، توفي سنة اثنتين وعشرين ومائتين، ووالده حفص بن غياث توفي سنة خمس وتسعين ومائة للهجرة، رحمة الله ورضوانه عليهم أجمعين، والحديث من رواية الأعمش عن أنس ، والأعمش هو سيد المسلمين، ولذلك نعته الحافظ بأنه: ثقة حافظ عارف بالقراءات ورع حديثه مخرج في الكتب الستة، وقد روى عن أنس وغيره، لكن الحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب في الجزء الرابع صفحة اثنتين وعشرين ومائتين قال: روى عن أنس ولم يسمع منه، وعليه فالحديث منقطع، وعلى جميع الأحوال يشهد له ما تقدم: حديث كعب بن عجرة وتعدد طرقه، وحديث يحيى بن يعلى الأسلمي عن الأعمش ، ومن طريق عمر بن حفص بن غياث عن الأعمش عن أنس ، وهناك طريق آخر من رواية كعب بن عجرة كما في معجم الطبراني الأوسط كما تقدم معنا، ولذلك نص أئمتنا على أن هذا الحديث في درجة الحسن والعلم عند الله جل وعلا.

وقد ورد حديث ثالث بمعنى حديث كعب وحديث أنس رضي الله عنهم أجمعين، من رواية أبي هريرة رضي الله عنه، وفي إسناده شيء من الضعف لكنه يتقوى بالروايات المتقدمة، والحديث رواه أبو يعلى في مسنده ورواه الإمام البيهقي في شعب الإيمان، كما في مجمع الزوائد في الجزء العاشر صفحة ثمانين وثلاثمائة، وانظروا الحديث أيضاً في الترغيب والترهيب في الجزء الثالث صفحة إحدى وأربعين وخمسمائة، عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: ( قتل رجل على عهد النبي صلى الله عليه وسلم شهيداً، فبكت عليه باكية فقالت: وا شهيداه! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وما يدريك أنه شهيد؟ لعله كان يتكلم فيما لا يعنيه أو يبخل بما لا ينقصه ).

قال الهيثمي في المجمع: في إسناده عصام بن طليق الطفاوي بفتح الطاء (طَليق) وهو ضعيف من السابعة، وقد نص الإمام ابن حجر في التقريب على أنه لم يخرج حديثه في الكتب الستة، إنما روى له الإمام أبو داود في كتاب فضائل الأنصار، ولذلك ترجمه الحافظ ابن حجر في تقريب التهذيب: عصام بن طليق الطفاوي ضعيف من السابعة، لكن الحديث -كما قلت- يشهد له ما تقدم والعلم عند الله جل وعلا.

هذا من باب التعليق والتنبيه على ضبط اللسان، فهذا يستشهد، وذاك صحابي يحب النبي عليه الصلاة والسلام وعندما يزوره نبينا عليه الصلاة والسلام يقول له: (أبشر)، فأمه تتحرك همتها فتقول: هنيئاً لك الجنة، فيقول لها: قفي عند حدك، فهو يبشره بالخير، أما أن يجزم له بذلك فلا ندري: ( لعله كان يتكلم فيما لا يعنيه أو يمنع ما لا يغنيه )، كما تقدم معنا الحديث برواياته المختلفة.

ومثل هذا كثير سأختمه بأثر واحد وأرجع بعد ذلك إلى بحثنا إن شاء الله، هذا الأثر رواه الإمام البيهقي أيضاً كما في الترغيب والترهيب في المكان المتقدم، من رواية أبي سلمة بن عبد الرحمن : أن امرأة كانت تدخل على أم المؤمنين أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها، ومعها نسوة، فقالت امرأة منهن وهن عند أمنا عائشة رضي الله عنهم أجمعين: والله لأدخلن الجنة، فقد أسلمت وما سرقت ولا زنيت. فما أنكر عليها أحد من الحاضرات، وذهبت ونامت، فرأت في نومها قائلاً يقول لها: أنت المتألية على الله لتدخلن الجنة، كيف وأنت تبخلين بما لا يغنيك وتتكلمين فيما لا يعنيك؟ أنتِ فيك هذان الوصفان ثم تقولين ستدخلين الجنة! فاستيقظت رضي الله عنها وأرضاها وهي في غاية الروع، فذهبت إلى أمنا عائشة رضي الله عنها فأخبرتها فقالت: اجمعي النسوة اللاتي كنّ حاضرات، من أجل أن يعلمن ما حصل لك في الرؤيا، فجمعتهن وحدثتهن بما رأت في منامها.




استمع المزيد من الشيخ عبد الرحيم الطحان - عنوان الحلقة اسٌتمع
مباحث النبوة - الرضاعة حق للطفل 3292 استماع
مباحث النبوة - أزواج المؤمنين في جنات النعيم 3249 استماع
مباحث النبوة - النكاح مفتاح الغنى [1] 3227 استماع
مباحث النبوة - الآفات الردية في الشهوة الجنسية [1] 3203 استماع
مباحث النبوة - النكاح مفتاح الغنى [3] 3160 استماع
مباحث النبوة - صفات النبي صلى الله عليه وسلم خلقاً وخلُقاً 3149 استماع
مباحث النبوة - الآفات الردية في الشهوة الجنسية [2] 3119 استماع
مباحث النبوة - كرم النبي صلى الله عليه وسلم وجوده 3086 استماع
مباحث النبوة - قوت النبي صلى الله عليه وسلم [1] 3002 استماع
مباحث النبوة - ضرب المرأة بين المنع والإباحة 2946 استماع