مقدمة في الفقه - فقه الإمام أبي حنيفة [2]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الصادقين المفلحين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحَزْن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، يا أرحم الراحمين. اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً، بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك.

اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

إخوتي الكرام! شرعنا في مدارسة ترجمة موجزة لأئمتنا الفقهاء الأربعة الكرام أئمة الإسلام، وبدأت بأولهم بسيدنا أبي حنيفة النعمان رضي الله عنه وعن سائر أهل الإسلام.

إخوتي الكرام! مر معنا ما يتعلق بنسبه وطلبه العلم، ومر معنا ما يتعلق بثناء العلماء الكرام عليه، وبيان منزلته العلمية والدينية، وقد أحرز الإمامة فيهما، فهو المقرئ، الفقيه، المحدث، الزاهد، العابد، الولي لله القوي سبحانه وتعالى، وشرعنا في مدارسة الأمر الثالث من الأمور الأربعة التي سنتدارسها في ترجمته، ألا وهو في بيان فقهه وطريقته في التفقه في الدين، عليه وعلى أئمتنا رضوان رب العالمين.

إخوتي الكرام! كما قدمت سابقاً منزلته في الدين منزلة عظيمة، وقد جمع الله له الكمالات، وفضله ببعض الخيرات التي لم تحصل لغيره من أئمتنا الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.

فتقدم معنا: أنه تابعي، وله في ذلك أجر عظيم، وهو ومدرسته الفقهية أول من وضعوا هذا الترتيب المحكم المتقن للفقه، وعلى ذلك سارت بعد ذلك سائر كتب الفقه من سائر المذاهب التي جاءت بعد هذا الإمام الأعظم المبارك رضي الله عنه وأرضاه.

وخصه الله أيضاً بأن جعله أكثر علماء هذه الأمة تابعاً، كما جعل الله نبينا أكثر الأنبياء تابعاً، على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، وإمامته -كما تقدم معنا- مُسلم بها عند أئمتنا رضوان الله عليهم أجمعين.

وقبل أن أشرع في تكميل ما بدأنا في مدارسته في طريقة تفقهه في دين رب العالمين، استمعوا إلى هذا الثناء العظيم من أحد العلماء الجهابذة الكرام المحدثين من أولياء الله المباركين، وهو الإمام الصالح: أبو بكر بن عياش ، والمعتمد أن اسمه كنيته، فـأبو بكر اسمه وكنيته، وقيل: إن اسمه غير كنيته، وأورد أئمتنا في ذلك عشرة أقوال: استمعوا إليها من باب العد على سبيل الاختصار، قيل: اسمه محمد، عبد الله، سالم، شعبة، رقبة، مسلم، خداج، مُطرِّف، حماد، حبيب, فهذه عشرة أسماء لـأبي بكر بن عياش ، والمعتمد: أن كنيته اسمه رضي الله عنه وأرضاه، وهو عبد صالح قانت، تُوفي سنة أربع وتسعين بعد المائة، وقيل: ثلاث وتسعين بعد المائة، أي: بعد ثلاث أو أربع وأربعين سنة من وفاة سيدنا أبي حنيفة رضي الله عنهم وأرضاهم، وحديثه في الكتب الستة كما قال الحافظ في التقريب، وهو ثقة عابد، وساء حفظه لما كبر، وكتابه صحيح، رضي الله عنه وأرضاه.

وقول الحافظ : حديثه في الكتب الستة، في ذلك شيء من التساهل وضحه في تهذيب التهذيب، فهناك رمز بأنه روى له البخاري وأهل السنن الأربعة، ومق، (مق) إشارة إلى أنه خرَّج له مسلم، لكن في المقدمة، ولذلك لا ينطبق عليه أنه من رجال مسلم في الصحيح، وهذا هو التمييز الدقيق لرواية هذا العبد الصالح، فما روى له مسلم في صحيحه، إنما روى له في مقدمة الصحيح، ولذلك من روى له في المقدمة فإن الذهبي يسقط الإشارة إليه ولا يعتبره من رجال مسلم في السير، أو في الكاشف، أو في غير ذلك، ولذلك رمز له في السير بأنه من رجال البخاري والسنن الأربعة؛ لأن شرط مسلم في المقدمة لا ينطبق عليه شرط الصحيح، وليس هو من رجال مسلم في صحيحه، رضي الله عنهم وأرضاهم.

إذاً: هو من رجال البخاري والسنن الأربعة، وروى له الإمام مسلم في مقدمة صحيحه، وهو من العلماء الصالحين الربانيين رضي الله عنه وأرضاه, عندما احتُضر، كما في الحلية في ترجمته، في الجزء الثامن صفحة ثلاث وثلاثمائة، بكت عليه أخته، فقال: لا تجزعي، فلقد ختمت القرآن في هذه الزاوية ثمانية عشر ألف مرة، فأرجو أن يرحمني الله، فأنا سأقدم على رحمان رحيم، على رب العالمين سبحانه وتعالى، وقد ختمت القرآن في هذه الزاوية ثمانية عشر ألف مرة، وكان يختم كل ليلة رضي الله عنه وأرضاه.

ويحكي لنفسه كرامة أكرمه الله بها، وهذه الكرامة هي آخر شيء في ترجمته في تهذيب التهذيب، في الجزء الثاني عشر صفحة أربع وثلاثين، ذكر أنه ذهب مرة إلى بئر زمزم واستقى منها، فكان يخرج له العسل واللبن, دلو عسل ودلو لبن، من بئر زمزم، والله على كل شيء قدير, عندما يستقي يخرج له الدلو مرة ممتلئاً عسلاً، ومرة ممتلئاً لبناً، مع ماء زمزم.

ومن كلامه المحكم -كما في السير، في الجزء الثامن صفحة خمس وتسعين وأربعمائة- أنه قال: الخلق أربعة أقسام: معذور، ومخبور، ومجبور، ومثبور، أما المعذور فهي البهائم رُفع عنها القلم، وأما المخبور فنحن معشر المكلفين اختبرنا رب العالمين لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [هود:7]، وأما المجبور فهم ملائكة الله الكرام، لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6] وأما المثبور: فهو الشيطان الغرور وجنده. نسأل الله أن يجنبنا صفات أهل الثبور، إنه عزيز غفور.

قال عنه الذهبي : هو المقرئ، الفقيه، المحدث، شيخ الإسلام وبقية الأعلام.

وإنما ذكرت هذه النعوت في ترجمته لنرى وزن كلامه الذي سيقوله في فقيه هذه الملة، في فقيه هذه الأمة المباركة المرحومة، فقد كان يقول: كان أبو حنيفة النعمان أفقه أهل زمانه. هذا كلام أبي بكر بن عياش : أبو حنيفة النعمان أفقه أهل زمانه.

إخوتي الكرام! هذا -كما قلت- كان مسلماً به عند أئمتنا، من فقهاء، ومحدثين، وزهاد، وعباد رضي الله عنهم وأرضاهم، أن أبا حنيفة أفقه أهل زمانه. وتقدم معنا كلام العبد الصالح زهير بن معاوية حينما قال للرجل الذي أخبره أنه كان في مجلس أبي حنيفة : ذهابك إلى مجلس أبي حنيفة رضي الله عنه وأرضاه في يوم من الأيام في مجلس من المجالس خير من أن تحضر عندي شهراً كاملاً.

كان أئمتنا يقرون به، ويذكرونه من باب بيان قدر هذا الإمام المبارك، سيدنا أبي حنيفة رضي الله عنه وأرضاه.

يروي الذهبي في الجزء الذي ألفه في مناقب سيدنا أبي حنيفة وصحابيه أبي يوسف ومحمد بن الحسن رضي الله عنهم وأرضاهم، في صفحة تسع وعشرين، ينقل عن العبد الصالح جرير بن عبد الحميد ، وهو من بلاد الكوفة من بلد سيدنا أبي حنيفة، ونزل الري، وصار قاضياً فيها، ثقة، حديثه مخرج في الكتب الستة، توفي سنة ثمان وثمانين ومائة، يعني: بعد سيدنا أبي حنيفة بثمان وثلاثين سنة، هؤلاء كلهم عاصروه وأدركوه ورأوه وجلسوا في مجلسه، يقول جرير بن عبد الحميد الذي صار قاضي الري: قال لي مغيرة بن مقسم ، وهو أيضاً كوفي مغيرة بن مقسم الأعمى رضي الله عنه وأرضاه، كان يقول: ما سمعت شيئاً إلا حفظته، وما حفظت شيئاً فنسيته، قال الذهبي في ترجمته في السير في الجزء السادس صفحة عشر: والله هذا هو الحفظ، ما وقع في مسامعه شيء ما سمع شيئاً إلا حفظه، وإذا حفظ شيئاً لا ينساه، ونحن نقرأ الكتاب مرات ومرات فيصعب علينا حفظه، وما حفظناه ننساه، ونفوض أمرنا إلى ربنا، وهو ثقة متقن، حديثه في الكتب الستة، كما قال الحافظ في التقريب.

فاستمع لهذا الحافظ، واستمع لهذه الشهادة من هذا الإمام لسيدنا أبي حنيفة النعمان رضي الله عنهم وأرضاهم، هذا العبد الصالح توفي قبل سيدنا أبي حنيفة بأربع عشرة سنة، فقد توفي سنة ست وثلاثين ومائة للهجرة، قال جرير بن عبد الحميد : قال لي مغيرة بن مقسم : جَالِسْ أبا حنيفة رضي الله عنه وأرضاه تفقه -أي: تصبح فقيهاً- فوالله لو أن إبراهيم النخعي حضر زمانه لجالسه واستفاد منه.

وإبراهيم النخعي هو إبراهيم بن يزيد النخعي الذي توفي سنة ست وتسعين، وحديثه في الكتب الستة، وانظروا ترجمته الطيبة في الجزء الرابع صفحة عشرين وخمسمائة، وهو يروي عن سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه بواسطة جم غفير، وإذا ما سمى الرواة فهذا أعلى مما لو سماهم كما تقدم معنا، ولذلك مراسيله في أعلى المراسيل؛ لأنه عندما لا يسمي أئمة ثقات أثبات كثيرون يحذفهم، ويضيف الأثر إلى الصحابي رضي الله عنهم وأرضاهم.

يقول: لو كان إبراهيم النخعي حياً لجالس أبا حنيفة واستفاد منه! هذا ثناء أئمتنا على فقيه ملتنا، رضي الله عنه وأرضاه، وقد ختم الحافظ ابن حجر في التهذيب ترجمة سيدنا أبي حنيفة رضي الله عنه وأرضاه، في الجزء العاشر صفحة اثنتين وخمسين وأربعمائة، ختم ترجمته بهذه المقولة، أسأل الله أن يبيض وجهه، ووجهكم، ووجوه المسلمين يوم الدين، استمع لهذه الكلمة المباركة في سيدنا أبي حنيفة ، قال بعد أن أورد ثناء العلماء عليه فيما يزيد على صفحتين: ومناقب الإمام أبي حنيفة النعمان كثيرة جداً، فرضي الله عنه، وأسكنه الفردوس، آمين.

هذا كله كلام سيد المحدثين سيدنا الحافظ ابن حجر رضي الله عنه وأرضاه, وأسكنه الفردوس، آمين. وأسأل الله أن يجمعنا معه ومع أئمتنا مع حضرة نبينا عليه الصلاة والسلام، بجوار ربنا ذي الجلال والإكرام، إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.

إخوتي الكرام! كما قلت: هذه منزلة سيدنا أبي حنيفة رضي الله عنه وأرضاه، وأما فقهه فتقدم معنا أنه يُعول على كلام الله عز وجل، وعلى كلام الرسول عليه الصلاة والسلام، وما جاء عن نبينا عليه الصلاة والسلام فعلى العينين والرأس، ثم بعد لا يخرج عن أقوال الصحابة، وإذا اختلفوا يتخير، وإذا صار الأمر إلى التابعين فيجتهد كما اجتهدوا رضوان الله عليهم أجمعين. وقلت: هذه الطريقة هي التي سار عليها أئمة الإسلام رضوان الله عليهم أجمعين.

إخوتي الكرام! لابد من وعي هذا، أن سيدنا أبا حنيفة رضي الله عنه وأرضاه في فقهه ما خرج عن النصوص الشرعية، وتقدم معنا: أن الفقه هو العلم بالأحكام الشرعية التي طريقها الاجتهاد من أدلتها التفصيلية، فالفقيه يكون فقيهاً عندما يعلم الأحكام الشرعية، التي طريقها الاجتهاد من أدلتها التفصيلية، يأتي للنصوص الشرعية ويستنبط منها الأحكام الشرعية، هذا هو عمل الفقيه، وأما إذا كان سيستنبط أحكاماً عن طريق عقول ردية فما صارت أحكاماً شرعية، هذه الأحكام أخذت من النصوص الشرعية، من الآيات القرآنية، ومن أحاديث نبينا خبر البرية، على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه.

ولذلك المجتهد لا يكون مجتهداً إلا إذا بذل ما في وسعه للوصول إلى مراد ربه على طريق القطع أو اليقين من النصوص الشرعية الواردة في الدين، نصوص شرعية أراد بعد ذلك أن يستنبط منها الحكم، لا بد له من اجتهاد من استنباط، فهنا يبذل ما في وسعه، وقد يصل إلى الحكم عن طريق القطع، أو عن طريق غلبة الظن، لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286].

وتقدم معنا أنه من زيادة ورعه، واحتياطه، واتباعه، لا يتقيد بالنصوص الشرعية فقط من الكتاب والسنة، بل يتقيد بفهم خير طبقات هذه الأمة، وهم الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، فإذا اجتهدوا فلا يخرج عن اجتهادهم، وهو مُلزَم بأقوالهم، لكن إذا اختلفوا لابد من أن يُعمِل المجتهد اجتهاده ليصل إلى حكمه، فيختار مثلاً هذا القول أو هذا القول في المسألة الشرعية، عندما تتعدد أقوال الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.

وهكذا إخوتي الكرام! تقدم معنا أن الحديث المرسل يستدل به، وهكذا الحديث الضعيف، فالحديث الضعيف يُقدم على الرأي، ويقدم على القياس والاستنباط، إلحاق ما لم ينص عليه بمنصوص, مادام وُجد نص ضعيف يقدم على الاجتهاد وإعمال الرأي، فلا نلتمس لهذا الأمر حكماً من نصوص أخرى إذا كان عندنا حديث ضعيف فلا نجاوزه، هذا مذهب سيدنا أبي حنيفة رضي الله عنه وأرضاه، وهذا متفق عليه عند الحنفية.

يقول الإمام ابن حزم كما في عقود الجمان، صفحة سبع وسبعين ومائة، والخيرات الحسان صفحة اثنتين وأربعين، ومناقب سيدنا أبي حنيفة وصاحبيه الذهبي ، صفحة أربع وثلاثين، قال الإمام ابن حزم : أجمع أصحاب أبي حنيفة رضي الله عنهم وأرضاهم على أن ضعيف الحديث أولى عنده -أي عند أبي حنيفة - وعندهم -أي: عند أتباعه وأصحابه في المذهب- من القياس. ضعيف الحديث أولى عنده وعندهم من القياس، وهذا مجمع عليه.

إذا كان الأمر كذلك -إخوتي الكرام- فهنا أمر دقيق، لابد من أن نقف عنده، ولا أريد أن أتعرض له في تراجم الأئمة الآخرين رضوان الله عليهم أجمعين، فانتبهوا له: قد يقع إشكال في أذهان الأغرار، فيقولون: إذا كنتم تزعمون أن جميع الأئمة يأخذون بكتاب الله وبسنة الرسول عليه الصلاة والسلام، وبالإجماع، وبالقياس، وهو إلحاق ما لم ينص عليه بما هو منصوص، فعلامَ وقع الاختلاف بينهم؟

وكثير من أهل السفاهة والطياشة والحماقة، من أتباع الشيطان الرجيم في هذا الحين يقولون: لو كانت المذاهب على حق لما حصل اختلاف فيها، فدل على أنها على باطل, فإن الأصول إذا كانت واحدة فعلامَ يختلفون؟ ووالله إنه شيطان من يقول هذا لكن بصورة إنسان، شيطان من شياطين الإنس، نعوذ بالله منه ومن أمثاله، ولا يجد الشيطان سلاحاً أمضى من هذه الشبه في الطعن في الإسلام، فانتبهوا لذلك إخوتي الكرام! قد يستشكل بعض الناس، ويقول: إذا كنتم تقولون: إن الأئمة اتفقوا على هذه الأصول وأخذوا الأحكام منها، فعلامَ اختلفوا؟

والجواب عن هذا: يدور على أمرين اثنين لابد من وعيهما، وهما أبرز أسباب الاختلاف في استنباط الأحكام:

السبب الأول: تعدد دلالات النصوص الشرعية

السبب الأول: النصوص الشرعية دِلالاتها متعددة، تحتمل عدة معانٍ، هذا سبب أول من أسباب الاختلاف في الأحكام والاستنباط، وهو تعدد الدلالات، نص شرعي ثابت، لكنه يحتمل عدة معانٍ، هذا بعد ثبوت النص والاحتجاج به، فهو نص ثابت وسنحتج به، وقد يكون بعد ذلك خلاف حول النص، هذا لا أريد أن أتعرض له، وهو هل النص ثبت أم لا؟ وهل يحتج به أم لا؟ إذا كان مرسل يحتج به بعض الأئمة ولا يحتج به آخرون، أو ضعيف يحتج به بعض الأئمة ولا يحتج به آخرون، الآن سنفرض إذا كان من المتفق عليه، حديث صحيح ثابت، ويحتج به باتفاق، لكنه يحتمل عدة معانٍ، ولنفرض أن هذا الحديث سمعه الصحابة مباشرة من نبينا على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، لكنه احتمل عدة معانٍ، وعليه سيكون له عدة دلالات، كل مَن يفهم دلالة معتبرة دل عليها النص فهذا حكم شرعي، وله أجر عند الله القوي، بمجرد ما يفهم حكماً شرعياً دل عليه هذا النص وهذا الفهم على حسب لغة العرب، وعلى حسب سياق الكلام، يتفق مع مراد المتكلم، فهذا حكم شرعي، أنت خالفت ورأيت رأياً آخر، فأنا أتعبد حسبما فهمت من هذا النص، وأنت تتعبد حسبما فهمت، وطريق الجنة ما أوسعه، كلنا نسير إلى رب العالمين ورحمة الله واسعة، فأنا على هدى وأنت على هدى، ورحمة الله واسعة.

السبب الثاني: اختلاف فهم الأئمة للنص

السبب الثاني: تتفاوت الفهوم وتتغاير، فهوم الناس ليست في مستوى واحد، ما يظهر لي قد لا يظهر لك، وما يستبين لك قد يخفى عليَّ، وما جعل الله أحداً من الخلق حجة على غيره إلا النبي على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، فهو حجة علينا، فليس من حقك أن تقول: إن فهمي هو المعتبر وفهمك منكر، وإذا قلت هذا فقد جعلت العصمة لنفسك، وحقرت غيرك، إنما أنت تقول كما قال سيدنا أبو حنيفة رضي الله عنه وأرضاه: هذا رأيي، قلنا به وأخذناه من نصوص شرعية، وهو أحسن ما عندنا، فأما من كان عنده أحسن منه فليأتنا به. هذا الذي عندنا، هذا استنباطنا، هذا فهمنا، بعد ذلك قد نصيب وقد نخطئ, هذا علمه عند الله جل وعلا, نحن أخذنا هذه الأحكام من نصوص الشرع الحسان، فإن وضحت لكم كما وضحت لنا فالحمد لله، وإن خالفتم فأنتم وما يظهر لكم، وسنئول إلى ربنا، فهذا أحسن ما عندنا من الفهم.

إذاً: إخوتي الكرام! النصوص حمّالة، تحتمل أكثر من معنى، وهذا قد وقع في زمن نبينا عليه الصلاة والسلام وأقره، وسأمثل له بمسألتين فقهيتين، مسألة من المعاملات، ومسألة من العبادات، من مسائل لا تحصى ولا أريد الاستقصاء إنما من باب المثال، وأن هؤلاء ما خرجوا عن دين الله، وهؤلاء ما خرجوا عن دين الله، وإذا أنصف الإنسان حقيقة لا يستطيع أن يرجح بين القولين، وكل من الأقوال حتى المذكورة في هذه المسألة معتبرة ودلت عليها نصوص الشريعة المطهرة، هذا عنده نص وهذا نص، وهذا احتمله هذا النص وهذا احتمله نفس النص.

إذاً: المصادر واحدة، لكن دلالات النصوص تتعدد، وكذلك الفهوم تتغاير وتختلف.

قال الخطيب البغدادي في الفقيه والمتفقه، ونِعْم ما قال، في الجزء الثاني صفحة إحدى وسبعين، قال: أهل العلم في حفظه متقاربون، وفي استنباط فقهه متباينون. يعني: بالإمكان أن أحفظ صحيح مسلم وأن تحفظه، ونتقارب في الحفظ، لكن نأتي بعد ذلك للفهم، أنا في جهة وأنت في جهة، والنصوص احتملت، فأهل العلم في حفظ العلم متقاربون، الإمام الشافعي قريب من الإمام مالك ، والإمام مالك قريب من أبي حنيفة ، وهؤلاء الأئمة أيضاً قريبون من الإمام أحمد رضي الله عنهم وأرضاهم، فهم في الحفظ متقاربون، يحفظون كلام الله جل وعلا، ويحفظون حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام، لكنهم في الفهم وفي استنباط الفقه متباينون، فهذا فهم من هذا الحديث شيئاً، وذاك فهم منه شيئاً آخر.

لكن: هل جعل الله أبا حنيفة حجة على الإمام مالك؟ لا، وأيضاً ما جعل الله الإمام مالك حجة على الحنفية، وما جعل الله الإمام الشافعي حجة على الإمام أحمد رضي الله عنهم وأرضاهم، هو من أهل الاجتهاد، وعنده نص الشريعة المطهرة، فأعمل ما في وسعه، أعمل عقله حسبما في وسعه، واستنبط الحكم، فما استنبطه يعتبر حكماً شرعياً كيفما كان حاله، سواء حكمت عليه بالصواب أو بالخطأ، فإذا حكمت عليه بالصواب فهو صواب عندك وعندهم، وإذا حكمت عليه بالخطأ فهو خطأ عندك وعنده صواب، ولا يجوز لك أن تقول له: هذا خطأ عندك وأنت تتعبد على بدعة، ولو قلت ذلك لكنت أنت المبتدع؛ لأنك ستنصب نفسك مشرعاً حكماً معصوماً، وما جعل الله ذلك لك، فقف عند حدك.

هاتان الدلالتان لابد من وعيهما: النصوص تحتمل، والفهوم تختلف، أهل العلم في حفظ العلم متقاربون، وفي استنباط فقهه متباينون.

اختلاف الصحابة في فهم حديث: (لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة)

والأمثلة لذلك كثيرة، وكما قلت: لا أريد الاستقصاء, انظروا إلى مثال واحد مما وقع في زمن نبينا عليه الصلاة والسلام، وإلى مثالين مما وقع بين الفقهاء الأربعة رضي الله عنهم وأرضاهم في معاملات وفي عبادات، لتعلموا بعد ذلك أنها أحكام شرعية مأخوذة من النصوص الشرعية، فمن عارض في ذلك فعليه غضب رب البرية، ومن جاء وقال: هذا الاختلاف يدل على أنه ليس من شرع الله جل وعلا، فعليه غضب الله وسخطه، هذا لابد -إخوتي الكرام- من وعيه.

المثال الأول: مثال وقع في زمن نبينا على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، ورد في الصحيحين، ورواه البيهقي في السنن الكبرى، في الجزء العاشر صفحة تسع عشرة ومائة، في كتاب القضاء، باب في اجتهاد القاضي وما يسوغ للقاضي فيه أن يجتهد, ورواه البيهقي في دلائل النبوة، في الجزء الرابع صفحة ست، وانظروا الحديث مع الكلام عليه في البداية والنهاية، في الجزء الرابع صفحة سبع عشرة ومائة، ولفظ الحديث: عن سيدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة ).

وكان هذا بعد موقعة الخندق، موقعة الأحزاب، وكفى الله المؤمنين القتال، وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا [الأحزاب:25]، فلما عاد النبي عليه الصلاة والسلام إلى بيته، جاءه جبريل -كما في رواية الطبراني على نبينا وأولياء الله وملائكته صلوات الله وسلامه- وقال له: وضعتم السلاح، وضعت اللأمة، إنا في السماء لم نضع سلاحنا، لا زلنا في استنفار، قال: ماذا تأمرني؟ قال: توجهوا إلى بني قريظة، هؤلاء اليهود الذين نقضوا معك العهد وهم أهل جحود ونكث، صفوا الحساب معهم، فأرسل النبي عليه الصلاة والسلام منادياً ينادي: ( لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة )، أسرعوا إلى بني قريظة وحاصروهم، لنحاسبهم على خيانتهم.

فخرج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين إلى بني قريظة، قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهم أجمعين: فأدرك بعضهم العصر في الطريق، بعضهم أدرك صلاة العصر في الطريق، فانقسم هؤلاء إلى قسمين، وهم الذين أدركوا العصر في الطريق، فقال بعضهم: لا نصلي حتى نصل إلى بني قريظة، كما أمرنا نبينا عليه الصلاة والسلام بقوله: ( لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة )، وقال بعضهم: نصلي هنا؛ لأنه لم يُرِدْ منا ذلك، فلم يرد النبي عليه الصلاة والسلام تأخير الصلاة إلى بني قريظة، إنما أراد الإسراع والعجلة، فصلى قسم في الطريق وقسم أخر الصلاة حتى وصل إلى بني قريظة.

وقطعاً وجزماً أنهم ما وصلوا إليها إلا بعد غروب الشمس، وما صلوا العصر إلا بعد أن غربت الشمس، ودخل وقت المغرب، كما ستسمعون في رواية الطبراني ، فقد خرج عليهم وقت العصر، وليتهم أخروها إلى آخر وقتها بحيث خرج الوقت المستحب ودخل وقت الكراهة, بل خرج الوقت، ودخل وقت صلاة المغرب، وصلوها بعد غروب الشمس.

فذُكر ذلك للنبي على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، فلم يعنف أحداً، لا قال لهؤلاء أخطأتم ولا لهؤلاء أخطأتم، وبالمقابل ما قال لهؤلاء أصبتم ولا لهؤلاء أصبتم.

ولذلك ذهب بعض أئمتنا: إلى أن كل مجتهد مصيب، قالوا: لأنه لو كان أحد المجتهدَين هنا على خطأ لبين النبي عليه الصلاة والسلام ذلك؛ لأنه لا يُقر على خطأ، لابد من أن يقول لأحدهم: لا لوم عليك لكنك أخطأت، وكان الأولى أن تفعل كذا، فسكوته يدل على صواب الفريقين والعلم عند الله جل وعلا.

على كل حال: هذا الحديث -كما قلت- في الصحيحين وغيرهما من وراية سيدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهم، ورُوي الحديث عن صحابيين آخرين، روي عن أمنا الصديقة المباركة سيدتنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها في كتاب دلائل النبوة للبيهقي في المكان المتقدم، وروي الحديث في دلائل النبوة للبيهقي في المكان المتقدم، ومعجم الطبراني الأوسط في الجزء السادس، صفحة أربعين ومائة، عن كعب بن مالك رضي الله عنهم أجمعين.

وفي رواية كعب، قال: ( جاء جبريل إلى نبينا الجليل على نبينا وأنبياء الله وملائكته صلوات الله وسلامه، وقال: يا محمد! وضعت اللأمة؟ -وهي: لباس الحرب- فقال: نعم، قال: لكنا في السماء ما وضعنا سلاحنا، لا زلنا في استنفار، فوثب النبي عليه الصلاة والسلام فزعاً، فعزم على الناس ألا يصلوا العصر إلا في بني قريظة، قال كعب بن مالك : فلبسوا السلاح وانطلقوا إلى بني قريظة، فلم يأتوا بني قريظة حتى غربت الشمس، فقال بعضهم وهم في الطريق: صلوا، لم يرد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تتركوا الصلاة، وقال بعضهم: عزم علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا نصلي العصر إلا في بني قريظة، وإنما نحن في عزيمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فليس علينا إثم.

قال كعب بن مالك رضي الله عنهم أجمعين: فصلت طائفة العصر في الطريق إيماناً واحتساباً )، لا جحوداً وعناداً ومخالفة للنص، مؤمنين برب العالمين، ويطلبون الأجر عنده، وقالوا: هذا الحديث معناه كذا، لم نقصد مخالفة لنبينا على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، قالوا: لم يُرد رسول الله عليه الصلاة والسلام أن تتركوا الصلاة، إنما أراد السرعة، فصلوا في الطريق إيماناً واحتساباً، هذا الفريق الأول.

قال: ( وطائفة لم يصلوا حتى نزلوا بني قريظة بعدما غربت الشمس، فصلوها بعد غروب الشمس إيماناً واحتساباً ) على حسب النص، التزموا أيضاً به، وطلبوا الأجر عند الله جل وعلا، قال: ( فذكر ذلك للنبي عليه الصلاة والسلام فلم يعنف واحدة من الطائفتين ).

قال الإمام الهيثمي في المجمع: رجال الطبراني رجال الصحيح غير ابن أبي الهذيل ، وهو ثقة، وابن أبي الهذيل هو عبد الله بن أبي الهذيل ، روى له الإمام مسلم في صحيحه، والترمذي في سننه، وهكذا النسائي، فعلامَ قال الهيثمي : رجاله رجال الصحيح غير ابن أبي الهذيل ، وهو من رجال مسلم ، روى له مسلم في صحيحه.

وعليه فرجاله رجال الصحيح من أولهم إلى آخرهم، فهو ثقة كما حكم عليه بذلك الحافظ في التقريب، وانظروا ترجمته الطيبة في السير، في الجزء الرابع صفحة سبعين ومائة، وقال: إنه ثقة عابد، وله كلام محكم، كما في حلية الأولياء، في الجزء الرابع صفحة ثمان وخمسين وثلاثمائة، ينقل عن السلف الكرام الطيبين، وهو تابعي روى عن سيدنا علي ، وعن سيدنا عمار ، وعن سيدنا أبي بن كعب ، وعن سيدنا عبد الله بن مسعود ، وعن سيدنا خباب ، وعن سيدنا أبي هريرة ، وغيرهم رضي الله عنهم وأرضاهم، يقول: أدركنا أقواماً، وإن أحدهم ليستحي من الله في سواد الليل. يعني: أن يضع ثيابه، وأن يتعرى في سواد الليل، في ظلامه، فهم أهل حياء واستحياء من رب الأرض والسموات، وهذا حال من يراقب الله جل وعلا.

مع أن هذا من التعري المباح، فكيف بمن ينظر إلى المنكرات التي يُحارب بها رب الأرض والسموات، كما اعتاد المخلوقات في هذه الأوقات من النظر إلى شاشة التلفاز، التي هي أشنع معصية عُملت للعباد في هذه الأيام.

يا إخوتي الكرام! يستحي من الله أحدهم أن يتعرى في ظلام الليل، ومع أهله يستحي، ولا يفعل هذا إلا بخلوة يستر نفسه عندما يريد أن يقضي حاجته، وعندما يتعرى يستحي، ونحن على وضح الأنوار نجلس ونبارز الله في ظلام الليل بالمعاصي، نفوض أمرنا إلى ربنا، إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.

إخوتي الكرام! انتبهوا لهذه الحادثة، النص هنا واحد، لكن دلالاته مختلفة متعددة، يحتمل أكثر من معنى، ولذلك فإن الفهوم متنوعة، فهو يحتمل لا تصلوا إلا في بني قريظة حقيقة، وأخروا الصلاة عن وقتها، ويحتمل لا تصلوا إلا في بني قريظة طلباً للسرعة، ولا يراد تأخير الصلاة، فالنص يحتمل هذا ويحتمل هذا، يحتمل المعنيين، والفهوم تختلف، فما اتفقت على أحد المعنيين، فما قالوا: النص يحتمل ويحتمل لكن نحن اتفقنا على أن الاحتمال الثاني هو المراد من الحديث، وهو تأخير الصلاة إلى بني قريظة، لو اتفقوا على ذلك لصار إجماعاً، ولا مخالف في القضية، لكن الصحابة تنوعت فهومهم أيضاً.

الحكمة من تعدد الدلالات واختلاف الفهوم للنصوص الشرعية

يا رب! أنت لا تكلف نفساً إلا وسعها، أنت أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين، وأنت الحكم العدل، لو أردت من أصحاب نبيك على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، لو أردت منهم كيفية واحدة لألهمت النبي عليه الصلاة والسلام زيادة إيضاح من أجل أن يرتفع اللبس عن الصحابة الأكياس رضوان الله عليهم أجمعين، ولكان قال: إن أدركتكم في الطريق فلا تصلوا، أخروها إلى هناك، ولو أدرككم العصر في الطريق، ولو كان سيخرج وقتها، فأخروها إلى هناك, كان بإمكانه أن يقول هذا نبينا عليه صلوات الله وسلامه، والله يعلم وهو علام الغيوب أن الصحابة سيختلفون في فهم هذا الحديث، فترك نبيه عليه الصلاة والسلام أن يقول هذه الجملة التي تحتمل وتحتمل، وأوحى بها إليه من أجل أن يشرع لنا أحكاماً شرعية بعد ذلك، وهي: أن ما احتملته نصوص الشرع وقال به أئمتنا فهذا حكم شرعي، من خالف فيه فهو ضال، فلا يأتي بعد ذلك إنسان ويقول: من أين جاء هذا الخلاف؟ فهو شرع واحد، فلماذا تأتي وتقول في الصلاة: على المأموم أن يقرأ الفاتحة على قول، والقول الآخر لا يقرأ؟

يا عبد الله! النصوص تحتمل، وهذا وارد عن نبينا عليه الصلاة والسلام، فليتسع صدرك، وما استبان لك أنه أتقى لله وأحوط فافعله ولا حظر عليك، بشرط أن يكون هذا ضمن ما قرره أئمتنا رضي الله عنهم وأرضاهم، وأما أن تأتي بفهم جديد في هذا العصر البعيد، فهذا ضلال بعيد، إنما ما احتملته النصوص وقال به أئمتنا فأنت نحوه في سعة، والحمد لله الذي لم يضيق علينا.

هذا الآن يقع في زمن نبينا عليه الصلاة والسلام، نص واحد تلقوه بآذانهم من نبيهم على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، ثم اختلفوا في العمل به، وزيادة على ذلك نبينا عليه صلوات الله وسلامه أقر الطائفتين، وما قال للطائفة التي صلت: خالفت الأمر، ولا للطائفة التي أخرت: ارتكبتم كبيرة وأخرتم العصر عن وقتها، ومن فاتته صلاة العصر حبط عمله، وأنتم كيف فعلتم هذا؟ هذا لا يوجد مجال لذكره؛ لأن كل طائفة فعلت ذلك إيماناً واحتساباً.

وتقدم معنا أن إجماع أئمتنا حجة قاطعة، واختلافهم رحمة واسعة، وهذا الكلام قرره شيخ الإسلام الإمام ابن قدامة في المغني، في الجزء الأول صفحة ثلاث في بدايته، ونقله عنه أئمتنا ومنهم الإمام ابن تيمية في مجموع الفتاوى، في الجزء الثلاثين صفحة ثمانين، فلا يغيبن عنكم ذلك، وكلام الإمام ابن تيمية مأخوذ من كلام الإمام ابن قدامة ، أن إجماعهم حجة قاطعة، واختلافهم رحمة واسعة.

فإذا احتملت النصوص الأقوال المنقولة فالحمد لله كلها أحكام شرعية، قال الله جل وعلا: لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ [الحج:37]، وهي النيات الخالصة، الذين صلوا في الطريق ماذا أرادوا بذلك؟ أرادوا تعظيم الله، والذين أخروا الصلاة أرادوا تعظيم الله، لكن هؤلاء فهموا وهؤلاء فهموا، فلا داعي للنزاع، أنتم رأيتم أن الصلاة في الطريق أتقى لله صلوا، لكن دعونا نحن سنصلي هناك، لا تنكروا علينا ولا ننكر عليكم، رحمة الله واسعة، ونحن رأينا أن الصلاة في بني قريظة أتقى لله فاتركونا، ولا تعترضوا علينا، وهذا الذي حصل من الصحابة، ما عاب أحد على أحد، وما عنف النبي عليه الصلاة والسلام أحداً، وهؤلاء هم الأكياس، وهؤلاء هم خير الناس الذين رُبوا على يدي نبينا على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه.

هذا مثال -إخوتي الكرام- جرى في زمن نبينا على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، نص يحتمل معنيين، ففهم الصحابة منه هذين المعنيين، وما اتفقوا على معنى من هذين المعنيين، أقر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة على ذلك.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.