الأخبار والآراء
مدة
قراءة المادة :
11 دقائق
.
(رأي في الصيام والسياسة)
ينقسم المسلمون إلى قسمين: فمنهم مسلمون صادقون وهم العارفون بالإسلام
المذعنون له، وهم الذين يحافظون على الفرائض ويجتنبون كبائر الإثم والفواحش
إلا اللمم، وإذا مسهم طائف من الشيطان فتركوا فرضًا أو أصابوا ذنبًا ذكروا الله
فاستغفروا لذنبهم، وأنابوا إلى ربهم. ومسلمون جنسيون أو جغرافيون وهم أصناف، نخص بالذكر منهم الذين لا يعرفون حقيقة الإسلام، ولا يذعنون لما عرفوه منه، فهم لا يصلون ولا يزكون ولا يصومون ولا يجتنبون ما يأمر به الهوى من المعاصي ولكنهم يتعصبون للإسلام بالكلام فيمدحونه ويدافعون عنه بالحق وبالباطل، لا يدخرون في ذلك وسعًا، لا سيما إذا كانوا من أهل الخوض في السياسة والحظوة عند الحكام، وقد يبلغ التحمس بالرجل منهم حتى يظن السامعون أو القارئون لكلامه أنه من أقوى الناس إيمانًا وأصدقهم إسلامًا، وهؤلاء جديرون بأن يسموا بالمسلمين السياسيين، وإليهم نوجه الكلام فنقول: إذا كنتم لا تتركون الإسلام من حيث هو دين شرع لتطهير النفوس وترقية الأرواح وإعدادها بالتهذيب في الدنيا لسعادة الآخرة، ورأيتم أنه لا بد من المحافظة عليه من حيث هو جنسية لاستبقاء الأمة التي هي قوام سياستكم - أفترون أن هذه المحافظة تتفق مع ذلك الترك الذي عم العقائد الخفية والآداب الاجتماعية والشعائر الملية؟ ألا تعلمون أن المحافظة على الشعائر الظاهرة هي آخر ما يزول من مقومات الأمم وحوافظ وجودها؟ فإذا كنتم تهدمون الشعائر الظاهرة حتى الصيام فتفطرون في رمضان جهرًا تدخنون في النهار، بل تُنصب لكم الموائد بعد الظهر فتأكلون عليها مع أهلكم وأولادكم، فماذا أبقيتم من المقومات لهذه الجنسية السياسية؟ إن كنتم تظنون أن وضع (الفقي) في حجرة الخدم لتلاوة القرآن في الليل كافيًا لحفظ هذه الجنسية، فإننا نقطع بأن هذا الظن من الإثم، وأنكم لستم فيه على بينة ولا علم، فعليكم أن تفكروا في هذا المذهب في الجنسية، هل هو مؤد إلى غايتكم السياسية، فإن رأيتم بعد التفكر - ولا بد أن تروا - أنه غير مؤد إلى هذه الغاية فارجعوا عنه إلى ما يتبين لكم أنه خير منه. هذا الفريق من المسلمين السياسيين يتبعون في جنسيتهم الدينية ملوكهم وأمراءهم , ولكن الملوك والأمراء لا يتركون الشعائر الملية المعلومة من الدين بالضرورة جهارًا بل يؤدونها ويزيدون عليها شعائر أخرى ليست من الدين، كالاحتفال بليالي المولد والمعراج ونصف شعبان.
ومن كان منهم لا يصوم رمضان يُسِر فطره ويرائي بالصيام، فهذه المجاهرة بالفطر في نهار رمضان ممن لهم مكانة في الأمة إفساد في الدين والدنيا , وإفساد في السياسة والاجتماع، فإن هذه الأمة لا جنسية لها في غير دينها، فإذا أفسده هؤلاء على العامة تعذر عليهم وعلى غيرهم من الخاصة استبدال رابطة جنسية أخرى به في زمن قريب، وهل تمهلها الأمم القوية لتجد هذه الرابطة - إذا أمكن - في زمن بعيد؟ أما الذين لا يصومون من الغوغاء الذين لا رأي لهم ولا فكر في أمر الاجتماع فلا كلام لنا معهم؛ لأنهم لا يقرءون , وإذا قرءوا لا يفهمون , وإذا فهموا لا يعتبرون {أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الغَافِلُونَ} (الأعراف: 179) . لا تقل: إن المنار مازال ينكر كون الإسلام جنسية ويقول: إن اتخاذه جنسية لا ينجي صاحبه عند الله تعالى، فما باله اليوم يرضى بهذه الجنسية ويأمر المسلمين - سياسة - أن يراءوا بالمحافظة على الشعائر في الظاهر وإن كفروا بها في الباطن.
إنك إن تقل هذا أجبك: إن الإسلام قد شُرِعَ للناس ليكون وسيلة إلى سعادة الدنيا والآخرة معًا، وإنما يكون كذلك إذا أقيم على أساسه الصحيح، ومن فوائد المحافظة على شعائره الظاهرة في الدنيا تقوية الروابط الاجتماعية، فمن أقام الدين ظاهرًا وباطنًا فقد سلك سبيل السعادتين، ومن تركه ظاهرًا وباطنًا كان بهدمه لركني السعادة بلاء على غيره بما يعطيه للضعفاء والأحداث من سوء القدوة ويجرئهم على ترك الشريعة، فشره يتعدى إلى الأمة ولا يكون قاصرًا عليه.
وإياه نعظ بأن لا يكون فتنة لغيره وأقل ما تنتفي به فتنته أن يحافظ على الشعائر في الظاهر فلا يكون من الهادمين لركني الشريعة والدين وإلا فليخرج منه بالمرة وهذا قسم ثالث. وبقي من القسمة العقلية أن يقيم الدين في الباطن دون الظاهر بأن يوقن بعقائده ويَتَخَلَّق بأخلاقه وآدابه، ولكن يهمل الأعمال الظاهرة والشعائر العامة كالجمعة والجماعة وصيام رمضان والحج مع الاستطاعة، وهذا ما يدعيه أناس من أهل العصر، ويدعون أن من الدليل على صحة إسلامهم غيرتهم على الدين وأهله ويقولون: إنهم أقاموا الركن المعنوي من الإسلام وهو الأشرف والأنفع , وأهل الأزهر ومن على شاكلتهم أقاموا الركن الصوري كالصلاة والصيام وهو الأدنى والأقل فائدة بل الذي لا فائدة له في نفسه، هذا ما يقولونه، والعقل لا يسلم بأن أحدًا يوقن بعقائد الدين ويتأدب بآدابه، ثم يترك أعماله وشعائره، فإن الإنسان قد طبع على أن تكون أعماله أثرًا لاعتقاده ووجدانه، فلو أيقنوا بعقائد الدين واصطبغ وجدانهم بصبغته لعملوا به، أما هذه الغيرة التي يدعونها فهي غير صحيحة وأكثرهم غير صادق في دعْوَاه بها، ومن عساه يكون صادقًا فهو لا يغار على الدين ولا أهله من حيث هم أهله، وإنما يغار على مصالحهم السياسية والاجتماعية؛ لأنه من رؤسائهم أو من الراجين للزعامة فيهم، فهو لا يطلب إلا الرياسة فقط؛ ولهذا حاولنا أن نقيم عليه الحجة بأن غرضه السياسي من الأمة لا يتم له مع هدم شعائرها ومقوماتها الملية والاجتماعية. وأما الذين يقيمون الشعائر الظاهرة دون الباطنة كآداب النفس والغيرة الصحيحة التي تبعث على الدفاع عن الحقيقة، وعلى جمع الكلمة وإحياء مجد الأمة، فلا ننكر أن إسلامهم تقليدي لا ينفعهم في الآخرة إذا لم يكن له أثر في أرواحهم يحملهم على ما أشرنا إليه.
وفائدته في الدنيا قليلة؛ لأنها لا تتجاوز العامة. فإننا نرى الخاصة - المتدين منهم وغير المتدين - في حَنَق شديد على رجال الدين الذين ليس لهم منه إلا التقاليد البدنية الجافة التي لا أثر لها في ترقية الأمة، وهم لا يقولون: إن صلاتهم وإن لم تنه عن الفحشاء والمنكر وصيامهم إن لم يعدهم للتقوى مما يضر الأمة من حيث إنه صلاة وصيام، بل يقولون: إنهم بذلك حالوا بين الأمة وبين الترقي في العلوم والآداب والاجتماع. هكذا تفرقت الأمة أيدي سبأ، فنالت الأمم الأخرى منها كل ما تريد , والسبب في ذلك أنه لا يوجد فيها زعماء أقاموا ركني الدين الصوري والمعنوي أو الجسدي والروحي، وهي لا تنهض بغير هؤلاء الرجال، وقد كان الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى منهم، ولكن لم تكد الأمة تعرف له ذلك حتى توفاه الله إليه، ولو طالت حياته لرجي - وقد عرف قدره - أن ينهض بها نهضة عظيمة. * * * (الصيام والنساء والعامة) لا خلاف بين العقلاء المتدينين وغير المتدينين أن المرأة أحوج إلى التربية الدينية من الرجال، ومن يقول من الماديين: إن العلم البشري يغني عن الأدب الديني، وأن العلم الكامل مستغن عن الدين لا يقول: إن الجاهل يستغني أيضًا عن الدين، فجميع العقلاء متفقون على أن ترك العامة والنساء للدين من أعظم البلاء والمصائب على البشر؛ ولذلك ترى أهل أوربا يعنون بتربية النساء تربية دينية وإن علموهن العلوم العالية، كما يعنون بحفظ الدين على العامة، وقد علمنا من كثيرين أن عبيد الشهوات في هذه البلاد قد حملوا نساءهم على ترك الصيام وهو آخر ما يحافظ عليه النساء من أركان الدين وشعائره، كما أنهم صاروا قدوة سيئة في ذلك للعامة، ولم يفطن الذين يدعون الفهم والرأي منهم إلى عاقبة ترك النساء وغوغاء العامة للدين مع فقد العلم والتربية العقلية، وإن ظهرت بوادر ذلك في تهتك النساء وإسرافهن، وفي خيانة الخدم والعمال والصُنَّاع وغشهم وفسادهم.
ألا يوشك أن تكون هذه الفوضى الدينية الأدبية في هذه البلاد شرًّا عليها من كل ما يعده المتحذلقون شرًّا اجتماعيًّا أو سياسيًّا، ولكن من يتدارك ذلك والأمة ليس لها زعماء؟ وحكامها ليسوا منها ليعنوا بتربيتها وتعليمها ويلزموها بما يرفع شأنها إلزامًا؟ * * * (المدرسة الكلية أو الجامعة المصرية) لم يمت مشروع المدرسة الكلية بموت المنشاوي بل ولا بموت الأستاذ الإمام الذي كان عازمًا على إنشائها في الشتاء الماضي، بل كان يتمخض في الخفاء وتعد له عدته ليظهر في مظهر كامل، ولكن مصطفى كامل بك الغمراوي فاجأنا بفتح باب الاكتتاب للعمل من حيث لا يدري بأن هناك سعيًا يرجى وينتظر. أرسل إلينا هذا الأريحي الفاضل - كما أرسل إلى جميع الصحف العربية - رسالة يذكر فيها وجه الحاجة إلى إنشاء المدرسة الجامعة وتوقفها على بذل المال، وأنه (بادر إلى الاكتتاب بخمسمائة جنيه أفرنكي لمشروع إنشاء جامعة مصرية عامة) بثلاثة شروط: (أحدها) أن لا تختص بجنس أو دين. (ثانيها) أن تكون إدارتها في السنين الأولى في أيدي جماعة يصلحون لذلك. (ثالثها) أن يكتتب الأهالي بمبلغ لا يقل عن مائة جنيه. وما قرأنا هذه الرسالة إلا اعترانا - مع الشكر لأريحية صاحبها - وجوم وامتعاض شديد خوفًا من الفشل بإظهار المشروع قبل أن تعد له عدته وزاد هذا الامتعاض نشر الجرائد لاكتتابات كبيرة كذَّبَها ثانيًا من عُزِيَتْ إليهم أولاً، ثم لم نلبث أن انشرحنا صدرًا لما حضن المشروع سعد بك زغلول الرجل الحازم القدير، وتجدد لنا أمل بالنجاح نسأل الله أن يحققه، وسنعود إلى الكلام في ذلك. * * * (الأزهر ومشيخته) كثر الخوض منذ سنة في الأزهر ومشيخته ومجلس إدارته، وكتب في الجرائد بعض ما يتحدث به الناس من الخلل في الإدارة، والمحاباة في الامتحان، وشهادة العالمية، وبيع الشهادات بالدراهم , وما بين شيخ الجامع ومفتي الديار المصرية من المغاضبة والمناصبة، ومما أشيع أن المفتي شكا شيخ الجامع إلى رئيس النظار وإلى السيد البدوي، وقد بلغنا أن شيخ الجامع ضاق صدره فاستقال، وأنه سيقال بعد أن يعين الشيخ شاكر وكيلاً للأزهر تمهيدًا بجعله أصيلاً بعد استشارة الأمير لحكومته في ذلك، وسنعود إلى ما نراه نافعًا من الكلام عن الأزهر في الجزء الآتي. *** تنبيه ضاق هذا الجزء عن تتمة التفسير وعن الرد على الشيخ بخيت وعلى الدكتور مرجليوث. غرة رمضان - 1324هـ 23 أكتوبر - 1906م