مباحث النبوة - إخراج المشركين من جزيرة العرب


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فننتقل إلى ما وعدت أن أتكلم عليه ألا وهو إخراج المشركين، إخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب، وكما قلت: إن الأحاديث بذلك صحيحة، وتقدمت معنا عند وصية النبي عليه الصلاة والسلام في حديث الصحيحين وغيرهما من رواية عبد الله بن عباس ، وستأتينا، قال: أوصى عليه الصلاة والسلام قبل موته بثلاث في مرض موته: ( أخرجوا اليهود والنصارى، أخرجوا المشركين من جزيرة العرب )، هذه أولها كما تقدم معنا، والوصية الثانية: ( أجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم به )، ولوصية الثالثة سكت عنها من قبل الرواة، وتحتمل أربعة أمور ذكرتها، ثم ذكرت غيرها من الوصايا فيما تقدم في وصية النبي عليه الصلاة والسلام، وقلت: هذه الرواية متواترة ووردت من طرق كثيرة عن صحابة كثيرين رضوان الله عليهم أجمعين، لابد من سردها وبيانها لمعرفة هذا الحكم الشرعي الذي جهله كثير من الناس في هذا الوقت، وتغيرت الأوضاع، ونسأل الله أن يفرج عن المسلمين والمسلمات إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.

إخوتي الكرام! أمر نبينا عليه الصلاة والسلام بإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب، وجزيرة العرب سوف يأتي حدها وبيانها إن شاء الله، فهي تبدأ من عدن أبين، وهي آخر حجر في بلاد اليمن، من عدن إلى حدود العراق طولاً، ومن ساحل جدة إلى بلاد الشام عرضاً، هذه كلها جزيرة العرب، فما ينبغي أن يكون فيها مشرك يهودي ولا نصراني ولا وثني من باب أولى، وقد ذكر أئمتنا هذا التعريف، وهذا لا خلاف فيه في ضبط جزيرة العرب وتحديدها في المذاهب الأربعة المتبعة.

يذكر الحنفية ضبط جزيرة العرب في ثلاثة أبيات من الشعر كما في رد المحتار على الدر المختار للإمام محمد بن عابدين عليه وعلى جميع المسلمين رحمات رب العالمين، انظروا كلامه في الجزء الرابع في صفحة ثلاث ومائتين، وفي صفحة ثمان ومائتين، يقول عليه رحمة الله:

جزيرة هذه الأعراب حدت لحد علمه للحشر باقي

أي: هذا العلم يبقى ثابتاً إلى قيام الساعة.

فأما الطول عند محققيه فمن عدن إلى ربو العراق

إلى بلاد العراق المرتفعة، هذا في الطول.

وساحل جُدة إن سرت عرضاً إلى أرض الشآم بالاتفاق

وجدة تقال كما قال علماء اللغة: بضم الجيم جُدة، أما جَدة وجِدة فهذا خلاف الضبط اللغوي لها في كتب اللغة.

خلاف الأئمة في المراد بجزيرة العرب التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإخراج المشركين منها

إذاً: طولاً من عدن إلى العراق، وعرضاً من ساحل جدة إلى بلاد الشام، هذه جزيرة العرب، فما ينبغي أن يبقى فيها مشرك من يهودي أو نصراني أو وثني من باب أولى، ولا ينبغي أن يقيم فيها أحد من هؤلاء ولا أن يستوطن، وإلى ذلك ذهب الإمام مالك فقال: أرى أن يُجلوا من جزيرة العرب كلها، وسنذكر الأدلة، وهو قول أبي حنيفة أيضاً، وذهب الإمامان المباركان الشافعي وأحمد إلى أن المراد بجزيرة العرب هنا خصوص الحجاز، كما ورد ذلك في بعض الروايات، فيحمل المطلق على المقيد، فالمراد من جزيرة العرب عندهم خصوص الحجاز، التي حجزت بين تهامة ونجد، وهي مكة المكرمة، والمدينة المنورة، ومخاليف هذين البلدين، وعليه يدخل ينبع في المدينة المنورة، لأنها تابعة لها، وتدخل فدك وخيبر، أما تيماء فلا تدخل على هذا التعريف لأنها بعيدة.

إذاً: على القول الثاني جزيرة العرب خصوص الحجاز، واسمعوا الروايات التي تدل على القولين، ثم بعد ذلك أبين أن المراد من جزيرة العرب الإطلاق والعموم، وليس المراد خصوص الحجاز، ولا ينفي هذا عدم إخراجهم من اليمن؛ لأن إخراجهم يكون مرحلة مرحلة، فكونهم لم يخرجوا في زمن عمر مثلاً من اليمن لا يدل على أنهم لا يخرجون إلا من بلاد الحجاز فقط، فقد أخرجوا من نجران، والنبي عليه الصلاة والسلام أمر بإخراجهم من نجران.

إذاً: ليس هذا خاصاً بمكة والمدينة المنورة ومخاليف وقرى هاتين البلدتين المباركتين، وإن ذهب إلى ذلك إمامان جليلان الشافعي وأحمد عليهم جميعاً رحمة الله، وأما الإمام مالك فقال: أرى أن يُجلوا من جزيرة العرب كلها بالتحديد الذي تقدم معنا، وهو قول الإمام أبي حنيفة .

اتفاق الأئمة على منع المشركين من استيطان جزيرة العرب أكثر من ثلاثة أيام إلا لمصلحة شرعية

فمنع الأئمة قاطبة من توطن واستيطان مشرك في جزيرة العرب على الخلاف بينهم في تحديد المراد بجزيرة العرب، فعند الشافعي وأحمد بلاد الحجاز لا يجوز أن يستوطن بها مشرك، ومدة الإقامة ثلاثة أيام فقط، وبعد ذلك ينبغي أن يرحل منها رغم أنفه، ويأتي لمصلحة شرعية من تجارة أو لرسالة أو لزيارة، هذا إذا كان من أهل الذمة، فيأتي لأجل أن يبلغ أمراً أو أن يحصل مصلحة أو أن ينتفع المسلمون منه بتجارة، لكن لا يمكن أكثر من ثلاثة أيام، قال أئمتنا: إلا إذا مرض، وللمصلحة تمدد له الإقامة، وإقامة من يرافقه من أجل علاجه.

عدم جواز دخول المشركين مكة المكرمة مطلقاً

وأما فيما يتعلق بخصوص مكة فعند الجمهور ولم يخالف في هذا إلا الحنفية: أنه لا يمكن المشركون من دخولها مطلقاً؛ لقول الله جل وعلا: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا [التوبة:28]، ولو جاء رسول منهم لأداء رسالة فلا يسمح له بدخول الحرم، إنما يرسل الأمير نائباً يفاوض ذلك الرسول ويتكلم معه، فإذا قال: لا أقابل إلا الأمير، خرج الأمير من الحرم لمقابلته، ولا يمكن من دخول الحرم لنجاسته، وإذا جاء لتجارة فيرد هو وتجارته ولا يسمح له بدخول مكة مطلقاً، وأما حرم المدنية فللإمام أحمد قولان: قال: هو كحرم مكة، وله رواية: أن حكمه كحكم بلاد الحجاز الأخرى، فيدخل لثلاثة أيام فقط ولا يمكن أكثر من ذلك.

والأحاديث التي سأسردها عليكم، وكما قلت هي متواترة، وسأسرد عشرة أحاديث، وذلك يصدق عليها وصف التواتر قطعاً وجزماً، تقرر أنه يجب أن يخرج المشركون من يهود ونصارى وغيرهم من جزيرة العرب، ومن بلاد الحجاز، وتخصيص الحجاز لا يعني تخصيص ذلك العموم، إنما هذا مما يدخل في ذلك العموم، والعلم عند الحي القيوم.

الحكمة من منع المشركين من دخول جزيرة العرب والأمر بإخراجهم منها

فإن قيل: لم اختصت جزيرة العرب بذلك؟ نقول: لأنها مهد الإسلام، والبلد الذي شع فيه نور الإسلام، وهو بلد النبي عليه الصلاة والسلام، فما ينبغي أن يكون فيها ملتان ولا دينان ولا قبلتان، أما البلاد الأخرى التي فتحها المسلمون من بلاد الأعاجم، فلا مانع أن توجد فيها ديانات أخرى بالشرط الذي ذكره الله جل وعلا: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [التوبة:29]، أما في بلاد العرب في جزيرة العرب فما ينبغي أن يكون هناك إلا دين واحد، وهو الدين الذي بعث به نبينا العربي على نبينا وأنبياء الله جميعاً صلوات الله وسلامه، فلا يمكن مشرك من الاستيطان في جزيرة العرب أكثر من ثلاثة أيام لمصلحة شرعية، وأما في مكة فلا يمكن ولا لحظة، ولا يمكن من دخول الحرم، قال أئمتنا: ولو قدر أنه دخل ومات ودفن فينبش قبره ويرمى خارج الحرم، أما أن يدفن مشرك يهودي أو نصراني أو وثني في مكة فلا يمكن أبداً، قال تعالى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا [التوبة:28]، وهذه النجاسة نجاسة معنوية، وهي أشنع من النجاسة الحسية الذاتية، على أن بعض أئمة السلف كـالحسن البصري ذهب إلى أن هذه النجاسة أيضاً نجاسة حسية ذاتية، وأوجب الوضوء من مسّ المشرك، هذا مروي في تفسير الطبري وفي تفسير أبي الشيخ عن الحسن البصري ، ونقله سائر المفسرين، وانظروه في تفسير هذه الآية، يقول: من صافح مشركاً فليتوضأ.

وقد قرر أهل المذاهب الأربعة المتبعة أنه يكره مصافحة المشركين؛ لوصف الله لهم بالنجاسة، لكن لا يجب الوضوء من ذلك، لأنه نجس بنص القرآن: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ [التوبة:28]، فكيف يصافح؟ فـالحسن البصري يقول: إذا صافحت مشركاً يجب عليك أن تتوضأ، فحاله أشنع من الخنزير، فلو مسك الخنزير لا يجب عليه أن يتوضأ، والحسن البصري يوجب الوضوء من مسّ المشرك في حال مصافحته، وأئمتنا كما قلت: كرهوا مصافحة المشرك ولم يقولوا: إن ذلك ناقض للوضوء، أو يجب غسل اليد عند مصافحته.

وحقيقة النفس تتقزز منه بعد إخبار الله عنه بأنه نجس، وانتبهوا لهذه البلاغة القرآنية، وهذه الدلالة الربانية، فقوله: (إنما المشركون نجس) مبتدأ وخبر، إنما: كافة ومكفوفة لا عمل لها، المشركون: مبتدأ، نجس: خبر، فقد حصر المشركين في النجاسة، أي أنهم عين النجس، هم حقيقة النجس، لا وصف لهم إلا هذا، (إنما المشركون نجس)، فإذا كانوا كذلك فكيف تطيب نفس الإنسان أن يصافح نجساً؟! وكيف تطيب نفس الإنسان أن يدخل هذا النجس إلى البلدة التي طهرها نبينا عليه الصلاة والسلام، وشع فيها نور الإسلام؟! هذا فيه منقصة لها، فلا يمكن إذن ليهودي ولا لنصراني أن يدخل جزيرة العرب إلا لمصلحة لا تزيد على ثلاثة أيام، وإذا انتهت يقال له: فارقها إلى مِصر آخر وإن كان في جزيرة العرب؛ لئلا تطول مدتك في مِصر واحد ثلاثة أيام، وعليه فلو قدر أنه جاء لمصلحة شرعية إلى بلد في جزيرة العرب وانتهت الأيام الثلاثة فنقول له: انتقل لبلد أخرى، والمفاوضة تكون هناك، أما هذه البلدة فلا يمكن أن تقيم فيها أكثر من ثلاثة أيام؛ لئلا لا تستوطن ونحن قد أمرنا بإخراجك، وهذا الذي نفذ في وقت النبي عليه الصلاة والسلام، وتمم التنفيذ عمر بن الخطاب بعد وفاة نبينا عليه الصلاة والسلام عليه وعلى آله وصحبه صلوات الله وسلامه.

إذاً: طولاً من عدن إلى العراق، وعرضاً من ساحل جدة إلى بلاد الشام، هذه جزيرة العرب، فما ينبغي أن يبقى فيها مشرك من يهودي أو نصراني أو وثني من باب أولى، ولا ينبغي أن يقيم فيها أحد من هؤلاء ولا أن يستوطن، وإلى ذلك ذهب الإمام مالك فقال: أرى أن يُجلوا من جزيرة العرب كلها، وسنذكر الأدلة، وهو قول أبي حنيفة أيضاً، وذهب الإمامان المباركان الشافعي وأحمد إلى أن المراد بجزيرة العرب هنا خصوص الحجاز، كما ورد ذلك في بعض الروايات، فيحمل المطلق على المقيد، فالمراد من جزيرة العرب عندهم خصوص الحجاز، التي حجزت بين تهامة ونجد، وهي مكة المكرمة، والمدينة المنورة، ومخاليف هذين البلدين، وعليه يدخل ينبع في المدينة المنورة، لأنها تابعة لها، وتدخل فدك وخيبر، أما تيماء فلا تدخل على هذا التعريف لأنها بعيدة.

إذاً: على القول الثاني جزيرة العرب خصوص الحجاز، واسمعوا الروايات التي تدل على القولين، ثم بعد ذلك أبين أن المراد من جزيرة العرب الإطلاق والعموم، وليس المراد خصوص الحجاز، ولا ينفي هذا عدم إخراجهم من اليمن؛ لأن إخراجهم يكون مرحلة مرحلة، فكونهم لم يخرجوا في زمن عمر مثلاً من اليمن لا يدل على أنهم لا يخرجون إلا من بلاد الحجاز فقط، فقد أخرجوا من نجران، والنبي عليه الصلاة والسلام أمر بإخراجهم من نجران.

إذاً: ليس هذا خاصاً بمكة والمدينة المنورة ومخاليف وقرى هاتين البلدتين المباركتين، وإن ذهب إلى ذلك إمامان جليلان الشافعي وأحمد عليهم جميعاً رحمة الله، وأما الإمام مالك فقال: أرى أن يُجلوا من جزيرة العرب كلها بالتحديد الذي تقدم معنا، وهو قول الإمام أبي حنيفة .