أرشيف المقالات

رحلة الخلود

مدة قراءة المادة : 12 دقائق .
رحلة الخلود

هي رحلة فرد واحد، من بلدٍ نشأ فيه وتَرعرع، وكان مَرتعَ صباه، ومكان نَجواه، وموضع تأمُّله، ومَهبط إلهامه، رحلةٌ ليست استكشافًا، ولا رغبة في إضافة معلومات إلى العقل، أو اتِّساع آفاقٍ لدى الفكر، ولكنها رحلة الفرار من الظلم، والنجاة بالعقيدة، والابتعاد عن الطغاة والجبَّارين.
 
أَقدَم عليها وهو يعلم خطرها، ومبلغ تعرُّضه للموت إن هو لم يَنجح فيها، ولكنه كان رجلاً ليس ككل الرجال، خُلِق من طينة الناس، وشبَّ كما يشب جميع الناس، غير أنه أُعِدَّ إعدادًا خاصًّا، ورُبِّي تربية خاصة، ربَّاه ربُّه، وعلَّمه معلِّم الكون الأكبر - تبارَكت أسماؤه، وتجلَّت صفاته - ربَّاه ليَنشر في الآفاق نورًا، ويَملأ القلوب المظلمةَ هداية وعِرفانًا، ووضَعه في موضع الامتحان الذي تَسقط عنده أكبر النفوس، وأعظم الناس، إلا مَن اصطفى الله ووفَّق.
 
نشأ بين قوم أحبوه صغيرًا، ونعَتوه بجميل الصفات وعظيم الأخلاق شابًّا يافعًا، لم تظهر عليه آثار النبوَّة، ولا آيات الرسالة، فلمَّا اصطفاه مولاه، وأرسله لهداية العالمين، تنكَّر له أقرب الناس، وأكثرُهم حَدَبًا عليه، وآذَوه وطارَدوه، وبالَغوا في التنكيل به وبأصحابه الذين اتَّبعوه، وكان له عم هو سيِّد قريش وزعيمها، منَعه طيلة حياته من أذى القوم وطُغيانهم، فلما أن قبَضه الله، بالَغ القوم في عنادهم، وتفنَّنوا في إبلاغ الأذى والألم إلى صاحب الرسالة الأعظم - صلوات الله تعالى عليه وسلامه - وهو يُقابل هذا الأذى بصبرِ أُولي العزم وحِلم ذوي الحلم، ويَرفع يده إلى بارئه ومُصوِّرِه، لا ليَدعوه أن يُخلي الأرض منهم، وألاَّ يَذَر منهم ديَّارًا، ولكن ليَطلب لهم الهداية والتَّبصِرة، ويتوسَّل إليه أن يَهديهم من أمرهم رشدًا، غير أن أصحابه والمؤمنين به احتَملوا كثيرًا، وقاسوا طويلاً، وليس كل واحد منهم محمدًا فيَحتمل، ولا رسولاً مُلهمًا فيَصبِر أكثر مما صبَر.
 
والدين الجديد قد كسب أنصارًا كثيرة في مدينة يثرب، وأصبَحت تلك المدينة صالحة لنشر الدعوة، وإبلاغها إلى مختلف الأمصار، ووصولها إلى شتَّى البقاع، فليَرحل صحبُ محمد زَرافاتٍ ووُحْدانًا إلى إخوان لهم ينتظرونهم، ويستعدون للقائهم والتَّرحاب بهم، ولينتظر محمدٌ أمْرَ ربه، والطريق التي يرسمها له عالِمُ السرِّ والنجوى.
 
وشِيعَ نبأُ فرار صحْب محمد إلى المدينة، ويتحدث الناس في كل مكان عن انتشار الإسلام، ويَحدِس القوم: إن محمدًا لا بدَّ لاحِقٌ بأصحابه، أو في الأقل القليل على صلة بهم؛ يُراسلهم، ويَرسُم لهم الخُطط، ويشير عليهم بما يفعلون، ويخشون على سلطانهم أن يَزول، وعلى دين الآباء والأجداد أن يُصبح في طي النسيان، فيجتمع جمعهم، ويشير أصحاب الرأي فيهم، وتنتهي المشورة إلى إعداد العدة لقتل ذلك الداعية الخطر، والتخلص من الرجل الذي سفَّه الأحلام، وعاب الأصنام، وابتدَع في مكة بدعة لم يَسمع بها العرب ولا غير العرب من قبلُ، وليكن اجتماعًا صاخبًا، تُتبادَل فيه الآراء، ويُدلي كلٌّ بدَلوه في الدِّلاء، وتختلف الآراء، وتتشعَّب الاقتراحات، ويَحسِم الأمرَ العدوُّ الأزلي لكل خيرٍ، والصديق الأبدي لكل شرٍّ، ويتقدَّم إبليس الرجيم في صورة شيخ وقورٍ، ويقترح عليهم أن يَجمعوا من كل قبيلة فتًى جَلْدًا، ويقف هؤلاء الفِتيان على باب دار محمدٍ، يَنظرونه وهو خارج لصلاة الغَسَق، فيَهجمون عليه ويَضربونه ضربة رجلٍ واحد، فيتفرَّق دمه بَددًا بين القبائل، فلا يستطيع بنو هاشم أن يطالبوا بدمه أحدًا، ويُصفِّق شيخ الكفر - أبو جهل - لهذا الرأي، ويتحمَّس له، ويقوم من فوره ليُرتبه ويُعِدَّه، والقوم جميعًا فرِحون مُغتبطون بما أحرَزوا من توفيق، وما نجحوا فيه من تدبيرٍ؛ ﴿ وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾ [آل عمران: 54].
 
ويَعرف محمد من أمر القوم كلَّ ما دبَّروا وما رتَّبوا، فيرسُم خطته اليسيرة السهلة، ينام عَلِيٌّ في فراشه، وينتظره صاحبه أبو بكر براحلتين خارج مكة، ويقوم في موعده المضروب، ويخرج من بين الرَّصَد - وهم وقوفٌ ينظرون - يَتلو قول العزيز الحكيم: ﴿ فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ ﴾ [يس: 9].
 
فلا يراه أحد، ولا يُحِس بخروجه أحد، ويظلون وقوفًا يتربَّصون ومحمد بارح الدار، بل البلد كله، وفتى قريش وفارسها ينام في فراشه، يتغطَّى ببُرده، لا يخشى موتًا ولا يَهاب سيفًا، وتَضطرب مكة، ويسقط في أيدي القوم، ويُرسلون وراءه القصاصين والتعقُّبيين، ولكن أنَّى لهم، والله هو الحارس؟! وكيف يَظفرون به والذي اختاره لرسالته هو الذي عصَمه من خصومه ونَجَّاه من شانئيه؟!
 
تلك كانت أخطر رحلة في الوجود، بل هي الأولى والأخيرة التي لم يُتَح لرحلة سواها أن تُكتَب في سجل الخلود، فإن الناس قد ألِفوا منذ قديم الزمان، أن يَرحَل الإنسان للعلم أو المعرفة، أو للاستشفاء والعلاج، أو للنُّزهة والترويح، ولكن رحلة الهجرة الشريفة حُفَّت بالمخاطر، واكتنَفتها المصاعب، وتبِعتها المطاردة.
 
كل هذا لَم يكن في سبيل الفرار من قوم رانَ عليهم الظلام، وامتلأَت نفوسهم بالعَسْف والطغيان فحسب، ولكن في سبيل تأصُّل دعوة، ونشْر عقيدة، وإتمام رسالة لم تَصل إلى نهايتها، تلك رحلة لم تُعرف، وهجرة لم يكن للناس بها عهد من قبلُ، ولولا هذا لَما خرج محمد من دارٍ ألِفها، وقوم نشَأ بين ظهرانيهم، إلى بلدٍ لم يعرفها، ولم يعرف عن أهلها شيئًا، ولم يكن محمد - صلى الله عليه وسلم - يخشى مواجهة القوم، فلطالما واجههم، بل جابَههم، وحاجَّهم، وسفَّه أحلامهم، ولم يكن بالذي لا يؤمن بالموت فيَخشاه، ولكن كان يرمي إلى أعظم من هذا وأخطر.
 
كان يعرف أن حياته لو انتهَت في هذه الآونة، انتهى بانتهائها الدينُ الذي جاء به، والعقيدة التي بشَّر بها، وأن الناس - وهم حديثو عهد بالرسالة لم تتأصَّل في نفوسهم - حين يرون محمدًا يُصرع بيد البغي والباغين، سيَرتدُّون على أعقابهم، وحينئذٍ تظَل الإنسانية في الظلام سادرةً، ويظل الناس في الهمجيَّة حائرين، ويُكتَب لبني الإنسان أن يَحيَوا حياة البهائم، ويعيشوا عيشة العبيد المُستذَلِّين.
 
إذًا فليَخرج، وليترك مكة لا إلى وداعٍ، ولكن إلى لقاء، لقاء تكون فيه شوكته قد قوِيَت، وعقيدته انتشَرت، ودينه قد أقبل عليه الناسُ من كل صَوب وحَدَبٍ، وعندئذٍ فليدخل البلد الذي فارَقه تحت ستار الليل، لا يُرافقه إلا صديقه الصِّدِّيق، ويتوازَيان من القوم في غارٍ فيه الهوام والسوام، حتى يصلا إلى المدينة التي يَجدان فيها المأمن لنشْر الدعوة وسَريان العقيدة.
 
أجل، ليَخرج محمد مطاردًا، ثم يعود غازيًا فاتحًا، تحفُّ به الجنود واللأمات، وتَهابه الأفراد والجماعات، ويدخل إلى مكة في وضَح النهار؛ مرفوع الهامَة، موفور الكرامة، يُحطِّم أدوات الشرك، ويُطهِّر البيت الحرام من الرجس، ويُحِس في أعماقه أنه أدَّى الرسالة حقَّ الأداء، ونشَر الدينَ كما أراد وأراد الله، فتَطمئن نفسه، ويَهدَأ قلبه، ويَفرح بنصر ربِّه الذي وعده، ويعرف من اعتنقوا هذا الدين أن له ربًّا يَحفظه، وإلهًا يَحميه، وناشرًا ينشره بين الآفاق، فلا يخشى أحد منهم بعد اليوم بطْشَ باطشٍ، ولا جبروت متكبِّرٍ، ولا يخاف رأي مخالف، أو دسيسة عدوٍّ؛ فقد مكَّن الله للإسلام؛ حتى تخطَّى كلَّ ما اعترَض طريقه من عَقبات، وما وقف في سبيله من صعاب.
 
وليَترك محمد - صلى الله عليه وسلم وملائكتُه أفضل صلاة، وصلى عليه جميع خلْق الله - ليَترك هذه الدنيا لا كما دخلها ظلامًا وشركًا، ولكن ليَتركها نورًا ساطعًا يَملأ الآفاق، وأناسي عرَفوا قيمة الإنسان، وأدركوا حكمة خلْقه، وسبب مجيئه إلى الدنيا، ليَتركها مُشرقة وضَّاءة بالخير والخلق الكريم، وليَستقر في روضته - روضةِ النعيم - تُشرِف رُوحه الشريفة من آفاقها السامية على هذا العالم الذي يتطوَّر ويتبلوَر، ويتغيَّر ويتبدَّل، وعقيدة ابن عبدالله - عليه صلوات الله وسلام الله - لا يستطيع أن يَنزعها من القلوب نازعٌ، ولا أن يَجْتَثَّ أصولَها من النفوس مُجتثٌّ، ولئن ضعُفت في نفوس بعض المسلمين، أو توارَت فترة من الوقت، فهي لا تلْبَث أن تعود أنضرَ ما تكون شبابًا، وأعظم ما تكون فُتوَّة وقوَّة.
 
وإذا قدَّر الله - لحكمةٍ لا يعلمها إلا هو - لجماعة من مُعتنقيها أن يتركوا تعاليمها الصالحة؛ جريًا وراء سراب خادعٍ، أو زُخرف زائل، فإن الله هو الحفيظ للتراث، الحارس للدين الذي اختاره للناس، وهو - تعالَى من جبَّارٍ - إذا أمهَل هؤلاء "فترة من الزمن"، وأملَى لهم، فإن أخذه أليمٌ شديد، وإنَّ ضربته قاصمة حاسمة، فليَرقُب اللهَ أولئك المسلمون الذين نَسُوا أن دينهم دين خيرٍ ومحبة، وأن رسولهم رسول سلام ورحمة، وليتدبَّروا وليُفكِّروا فيما مضى من أسلافهم، وليُوقنوا أن عزَّتهم كانت لأنهم زهِدوا فيما في أيدي الناس، فأحبَّهم الناس، وزهِدوا في الدنيا، فأحبَّهم الله، وعرَفوا أن الجاه والمنصب والغنى والرِّياش، كلها أعراض زائلة، وأن العمل الصالح، والجهد النافع للجماعة والمصلحة العامة لا للفرد ولا مصلحة الفرد - هو الباقي على الزمان، أولئك هم الذين رضِي الله عنهم في الدنيا؛ فكانوا هُداةً صالحين، وفي الآخرة؛ فكانوا عنده من المُقرَّبين.
 
تلك الناحية من نواحي الهجرة الشريفة، أو رحلة الخلود الباقية، ولها غير ذلك نواحٍ متعددة، وأنماط من التضحية والإيثار والشجاعة التي اشترَك فيها الجنسان: المرأة والرجل، لا عدَّ لها ولا حصْرَ، ولا يمكن لهذه الكلمة أن تُحيط بها، أو تتَّسع لسرْدها، وحسْبُنا إشارة عابرة إلى الدور الذي قامت به أسرة واحدة، أو بالأحرى فردان من أسرة واحدة.
 
أما الأسرة، فهي أسرة أبي بكر الصديق - رضي الله عنه وأرضاه - وأما الفردان، فهما محمد ابنه وأسماء ابنته، فقد قاما بدور كان له أكبر الأثر وأجَل الخطر في نجاح هذه الرحلة، حتى وصل محمد وصاحبُه إلى المدينة، يحفُّ بهما جلالُ الله، وتَحرُسهما عناية الله.
 
وحديث محمد بن أبي بكر وكيف كان يَبيت الليل بمكة؛ يتسقَّط أخبار القوم، ويستمع إلى خُطتهم، ثم يُصبح، فإذا هو عند غار ثَوْر يُحيط النبي وصاحبه بالأنباء، ويُلقي إليهما آخر الخُطط.
 
وحديث أسماء ذات النطاقين وهي تَحمل لهما الطعام والزاد كلَّ يوم، وما قاسَت في سبيل ذلك، وقصتها مع جدِّها أبي قحافة حين قال لها: قد فتَن محمد أباك وأخرَجه معه، ثم ترَككم بعد أن أضاع ماله، وأخذ ما بقِي معه، تركَكم لا تجدون ما تعيشون منه، فقالت له: لا يا أبتِ، إن أبي قد ترَك لنا كلَّ المال، ثم عمدت إلى صُرَّة مَلأتْها بحجارة سوَّتْها على شكل النقود، ولفَّتها لفًّا مُحكمًا، وقالت لجدها الضرير: تحسَّسْ هذا؛ لتَطمئنَّ علينا، فلما تحسَّسه قال: الآن ليَفعل أبوك ما شاء.
 
حديث محمد وأسماء، وتفصيل ما قاما به في حادث الهجرة يطول سرْده، وقد امتلأت به بطون كتب السيرة الشريفة وفصَّلته تفصيلاً.
 
أما بعد:
فلقد مضى على هجرة محمد - صلى الله عليه وسلم - أكثر من أربعة عشر قرنًا، وفي كلِّ عام من مثل هذه الأيام يتحدَّث الناس عن الهجرة، ويتغنَّون في استخراج العِبر والعِظات منها، فهل استطاع الكتَّاب المُجيدون، والباحثون المُنقِّبون، والمحدِّثون اللَّبِقون - أن يَسبُروا أغوار هذا الحادث، أو يُحيطوا بحقيقته ومَرماه؟
 
لا، لم يستطع ولن يستطيع أحد أن يصلَ إلى عُمق مَداه، وستظل الأعوام تمرُّ، والشهور والأيام تَكر، والناس يتحدثون ويكتبون وينشرون، ويعيدون ويُكرِّرون، ويُجدِّدون ويبتكرون، ولن يصلوا في هذه الحياة مهما طالت إلى هذا السر الرباني الذي أودَعه الله في هذا الحادث، ولن يُدركوا حِكمة المولى القدير، ولا ترتيبه الذي اكتنَف الهجرة، فإن صُنعَه - جلَّ من صانعٍ - أدقُّ من أن يظهر للمخلوق مهما كان مبلغه من العلم، ومقدار عبقريَّته، فلنَكتفِ بأن نحوم حول ما نحسُّ به كلما ذكرنا يوم الهجرة وليلتها، وحسبنا أننا نحاول قدر المستطاع أن نَنشر على الناس حكمته، ولنتَّجه بقلوبنا ونفوسنا في هذه المناسبة الكريمة إلى صاحب الهجرة الخالدة، مُصلِّين عليه ومُسَلِّمين، ضارعين إلى الذي حفِظه من كيد الكائدين وتدبير الآثمين، أن يَحفظ لنا ديننا، ويَنزع الغلَّ والبغضاء من قلوبنا، ويُهيِّئ للمسلمين قادة صالحين، ورُعاة صادقين، يقولون الحق، وينطقون بالصدق، ولئن استجاب الله هذا الدعاء، وحقَّق هذا الرجاء، تجدَّد الأمر في أن تعود للإسلام جِدَّته، وللدين نَضارته، ولأهله العزة والمَنعة والمكان الكريم.

شارك الخبر

المرئيات-١