رسالة الجاحظ
مدة
قراءة المادة :
9 دقائق
.
في مناقب الترك وعامة جند الخلافة
للأستاذ محمود عزت عرفة
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
مات الخليفة الواثق عام 232 هـ وتولى بعده أخوه جعفر المتوكل على الله؛ وكان النزاع الذي طال أمده قد احدث رد فعل في نفوس المصلحين ومحبي السلام، فبذلت جهودا جبارة للتوفيق بين المتنازعين، وإزالة روح الحسد والتنافس التي طغت على العلاقة بين طوائف الجند، ووشجت بنفوس الرؤساء من كل فريق. وكان على رأس هؤلاء المخلصين الداعين إلى الإصلاح نديم المتوكل وصاحبة الأثير: الفتح بن خاقان الذي تقدم إليه الجاحظ برسالته في مفاخر الترك بعد أن أضاف إليها مقدمة قصيرة ملائمة.
ولا شك أنه في هذه الفترة أيضاً زاد من عنوانها فجعله (في مناقب الترك وعامة جند الخلافة).
إذ الرسالة الأصلية - بعد حذف المقدمة التي توجه بالخطاب فيها إلى الفتح - مقصورة على ذكر مفاخر الأتراك والإشادة بفضلهم على سائر الأجناس، في حربهم وسياستهم وصناعتهم وأخلاقهم، وكل ما يكون موضع فخر ومحل تمايز وتفاضل. والفتح من الترك، فما يضيره أن يطنب الجاحظ في فضائل بني جنسه؛ ثم هو من دعاة الألفة والإصلاح فلا يضير الجاحظ أن يوطئ لرسالته بحديث في مزايا هذه الألفة يضمنه من فضائل تلك الطوائف جميعاً ما يجعل كلامه أقوى في التأثير وأدعى إلى القبول بذلك خرجت الرسالة في قسمين: مقدمة في فصل التآلف وضرورة اتفاق الكلمة مع حديث في مزايا كل طائفة من طوائف الأجناد سوى الترك؛ ثم فصل طويل في مناقب الترك خاصة، وهو الرسالة القديمة بعينها.
أما المقدمة المستحدثة فيبدأ الجاحظ فيها بالإشارة إلى ما يضطلع به الفتح بن خاقان من الدفاع عن الخلافة والترغيب في الالتفاف حولها، والسعي إلى توطيد التآلف بين أنصارها، وإقرار فضيلة الطاعة وبث روح الود والمناصحة فيهم؛ ثم يقول متوجها بالحديث إلى الفتح: (وذكرت أبقاك الله أنك جالست أخلاطاً من جند الخلافة، وجماعة من أبناء الدعوة، وشيوخاً من جلة الشيعة، وكهولا من أبناء رجال الدولة والمنسوبين إلى الطاعة والمناصحة الدينية دون محبة الرغبة والرهبة.
وأن رجلا من عرض تلك الجماعة ومن حاشية تلك الجملة ارتجل الكلام ارتجال مستبد، وتفرد به تفرد معجب.
وزعم أن جند الخلافة اليوم على خمسة أقسام: خراساني وتركي ومولى وبنوي.
وأنك اعترضت على هذا المتكلم المستبد وعلى هذا القائل المتكلف الذي قسم هذه الأقسام وخالف بين هذه الأركان).
ويورد الجاحظ عقب هذا بعض ما رد به الفتح على ذلك الخطيب الداعي إلى التفرقة، ويقول له: فزعت أن أنساب الجميع متقاربة غير متباعدة، وعلى حسب ذلك التقارب تكون الموازرة والمكانفة والطاعة والمناصحة والمحبة للخلفاء والأئمة).
ثم يشير الجاحظ إلى أن هذا الخطيب ذكر في معرض كلامه جملا من مفاخر هذه الأجناس وجمهرة من مناقبهم، وأنه أطنب في ذلك ما شاء له الإطناب ولكنه (ألغى ذكر الأتراك فلم يعرض لهم، وأضرب عنهم صفحاً فلم يخبر عنهم كما أخبر عن حجة كل جيل وبرهان كل صنف.
). ويذكر الجاحظ - على لسان الخطيب أيضاً - مفاخر هذه الأجناس الأربعة سوى الأتراك، فيطنب في مزايا الخراسانيين والعرب والموالى ثم الأبناء.
ويتخذ من آمال شأن الأتراك وسيلة إلى الحديث عنهم؛ أي إلى إبراز رسالته الأولى في مناقبهم وهو يسلك إلى ذلك ألطف المسالك فيقول: أن ذهبنا - حفظك الله - بعقب هذه الاحتجاجات، وعند منقطع هذه الاستدلالات، نستعمل المفاوضة بمناقب الأتراك والموازنة بين خصالهم وخصال كل صنف من هذه الأصناف، سلكنا في هذا الكتاب سبيل أهل الخصومات ففي كتبهم، وطريق أصحاب الأهواء في الاختلاف الذي بينهم.
وكتابنا هذا إنما تكلفناه لنؤلف بين قلوبهم أن كانت مختلفة، ولنزيد في الألفة أن كانت مؤتلفة، ولنخبر عن اتفاق أسبابهم لتجتمع كلمتهم ولتسلم صدورهم.
) ولا يخلص الجاحظ إلى رسالته الأولى في مناقب الترك حتى يعاود التمهيد لها والتمويه عن غرضه السابق مها فيقول: (وهم في معظم الأمر وكبر الشأن وعمود النسب متفقون، فالأتراك خراسانية وموالى الخلفاء فصرة، فقد صار التركي إلى الجميع راجعاً، وصار شرفه إلى شرفهم زائدا) وينتقل الجاحظ بعد هذا إلى رسالته الأصيلة؛ وبديهي أن سطورها الأولى مما كتبه قبل تقديمها إلى الفتح بن خاقان، لأنه يقول فيها بعد التسمية: (هذا كتاب كتبته أيام المعتصم بالله رضي الله تعالى عنه ونضر وجهه، فلم يصل إليه لأسباب يطول شرحها.
) ولا نستطيع بحالٍ ما ان نحدد مدى التحوير الذي أدخله في هذا الموضع، ولكنا نقول انه تحوير ألجأته إليه الضرورة، إذ لا أقل من أن يتوجه بالخطاب من المعتصم المتوفى إلى الفتح الذي تحولت إليه الرسالة. ويبدأ الجاحظ حديثه عن مناقب الترك بسرد قصة فحواها أن حميد بن عبد الحميد كان جالسا - مع جماعة أسماهم - في دار المأمون إذ خرج عليهم رسول من عنده فقال: يقول لكم أمير المؤمنين متفرقين ومجتمعين، ليكتب كل رجل منكم دعواه وحجته، وليقل إنما أحب إلي كل قائد منكم - إذا كان في عدته وصحبه وثقاته - أن يلقي مائة تركي أو مائة خارجي؟.
فأجمع القوم على أن لقاء الترك أهون من لقاء الشراة؛ إلا حميداً فإنه خالف هذا الرأي وبالغ في التهويل من شأن الترك والإشادة ببطولاتهم في حربهم.
وعقد من الموازنة بينهم وبين الخوارج ما التهى به إلى تصويب رأيه وتثبيت حجته. وبلغ الحديث المأمون فقال: ليس بالترك حاجة إلى حكم حاكم بعد حميد! فأن حميداً قد مارس الفريقين، وحميد خراساني وحميد عربي، فليس للتهمة عليه طريق.
ويمضي الجاحظ إلى غايته من إعلاء شأن الأتراك فيذكر من عجائبهم في حربهم ومن طرائف أقوال الرواة والمحدثين عنهم كل ما تطرب له النفس ويطول به العجب؛ وهو لا يستشهد في كلامه إلا بأقوال رجال من ثقات العرب والخراسانيين - سوى الأتراك - حتى يكون ذلك أبعد عن التهمة وأقوم بالحجة، وأدعى إلى الاقتناع.
فيحكى عن سعيد بن عقبة بن سلم الهنائي، ويختم ما ينقله عنه بقوله: (فهذا قول سعيد بن عقبة ورأيه وحديثه، وهو عربي خراساني).
ويروي بعض ما يقصه ثمامة بن أشرس ويعقب قائلاً (هذا ثمامة بن أشرس وهو عربي لا يتهم في الأخبار عنهم).
ويروي أيضاً عن يزيد بن مزيد الشيباني ما وصف به الموقعة التي قتل فيها دولبا التركي الوليد ابن طريف الخارجي.
ويقص عن قتيبة بن مسلم طرائف أخر.
ويرى الجاحظ خلال هذا بعض ما شاهده بنفسه فيقول: (وأنا أخبرك أني قد رأيت منهم شيئاً وأمراً عجيباً غريباً.
رأيت في بعض غزوات المأمون سماطي خيل على جنبتي الطريق بقرب المنزل: مائة فارس من الأتراك في الجانب الايمن، ومائة من سائر الناس في الجانب الأيسر، وإذا هم قد اصطفوا ينتظرون مجيءالمأمون وقد انتصف النهار واشتد الحر.
فورد عليهم وجميع الأتراك جلوس على ظهور خيولهم إلا ثلاثة أو أربعة! وجميع تلك الأخلاط من الجند قد رموا بنفوسهم إلى الأرض إلا ثلاثة أو أربعة! فقلت لصاحب لي: أنظر أي شيء اتفق لنا؛ أشهد أن المعتصم كان أعرف بهم حين جمعهم واصطنعهم. ولا يفرغ الجاحظ من حديثه في هذه الرسالة حتى يكرر النص على أنه إنما وضعها بغية التأليف بين القلوب وجمع الكلمة وتوحيد المقصد والغاية؛ وأنها ليست من كتب المناقضات أو إظهار التبحر في العلم والاتساع في المعرفة؛ لأنه لا يهدف إلى شيء من هذا، وإنما هو يرمي إلى التوفيق من أوجز طريق، ويرى (أن القليل الذي يجمع خير من الكثير الذي يفرق).
.
بهذا التصرف البديع تهيأ للجاحظ أن ينشر رسالته بعد أن يئس من إخراجها أو كاد، فازداد بها فضلاً إلى فضل، وارتفع معها مكانة فوق مكانة؛ وهو لم يحرم مع ذلك أن بعد من الذائدين عن الوحدة، الداعين إلى التآلف والوئام، المصلحين بين الطوائف المتدابرة والفرق المتنافرة؛ وتلك أعراض لا نستطيع الجزم بأن واحداً منها كان يجول بخاطره وهو يضع رسالته الأولى على عهد المعتصم. (جرجا) محمد عزت عرفة