أرشيف المقالات

دعوى حجر القرآن على العقل

مدة قراءة المادة : 9 دقائق .
دعوى حجر القرآن على العقل


1- ادِّعاء المغرِضين أن القرآن حاجر على العقل:
كثيرة هي دعاوى المغرِضين الحاقدين على دين رب العالَمين، ومن أقبح هذه الدعاوى - وإن كانت كلها بالغةً في القبح غايتَه -: أن القرآن يحجر على العقل ويكبِّله، فلا يدع له مجالًا للعمل والإبداع إلا منعه، ولا بابًا للنظر والاستدلال إلا أغلقه، وممَّن حمل راية هذه الفِرية المستشرقون، الذين أجلبوا بخَيْلهم ورَجْلهم لهدم الإسلام ونسف حضارته، وكذا طابور العلمانيين المستغربين، الذين هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا ويدَّعون النصح، لكن كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في وصفهم: ((دعاة على أبواب جهنم، مَن أجابهم إليها قذفوه فيها))[1]، فكل هؤلاء غاظهم ما رأَوا من نهضة المسلمين واكتساح الإسلام لمعظم البلدان بشكلٍ قضَّ مضاجعهم، وعلِموا أن مفتاح هذه النهضة وسرَّ هذا الاكتساح هو القرآن الكريم، الذي نزل على قلب أفضل المرسلين صلى الله عليه وسلم، فخطَّطوا الخطط وحاكوا المؤامرات لضرب هذا القرآن في مقتل، ونزعِ هيبته من قلوب المسلمين.
 
ومن هذه المؤامرات ما ادَّعوه من حجرِ القرآن على العقل وإعاقته عن النظر والتفكير، وقد بلغ المكرُ بهؤلاء الحاقدين وتلبيسهم أن ربَطوا بين القرآن الكريم كدستور إلهي نزل لنهضة الإنسان، وبين واقع المسلمين اليوم، وهذا الربط ليس مِن الإنصاف في شيء، فإن المسلمين لَمَّا تمسكوا بكتاب ربهم وعمِلوا بتعاليمه، سادوا الأمم وحققوا تقدمًا عظيمًا في كل المجالات، باعتراف الغرب نفسه، وحينما جعَلوه وراءهم ظِهريًّا، واستبدلوا به قوانين غربية، صاروا - وللأسف الشديد - في ذيل الأمم، وفي تخلُّفٍ بعد تقدُّم.
وما أجملَ كلمةَ الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (نحن قوم أعزَّنا الله بهذا الدين، ومهما ابتغينا العزة - في غير طريقه - أذلَّنا الله).
 
وإن الناظر في آيات القرآن الكريم وما تحويه من عناية بالعقل الإنساني، وحث على إعماله، وترغيب كبير في استثماره، يعلم علم اليقين أن هذا القرآن لا يمكن أن يحجر على العقل، وأن يكون هذا الحَجْرُ المزعوم من أسباب تخلف المسلمين وانحطاط حضارتهم، فهذه مجرَّد دعوى، وصدَق مَن قال: "والدعاوى ما لم تقيموا عليها بيِّناتٍ أبناؤها أدعياء".
 
2- بيان أن القرآن لا يحجر على العقل:
إذا أردنا نسفَ دعوى الحاقدين أن القرآن يحجر على العقل ويمنعه من النظر والتفكير، وتتبَّعنا آياته البينات، وأقوال أهل العلم في ذلك، فيلزم صفحات وصفحات، لكن كما يقال: "العاقل تكفيه الإشارة، ولا يحتاج إلى تطويل العبارة"، "وطالب الحق المنصِف تكفيه الإشارة، والمكابر المتعسف لا ينتفع ولو بألف عبارة".
أ- القرآن دستور دين يقتضيه العقل:
قال تعالى: ﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [الروم: 30]، "والمراد به دين الإسلام؛ لأن الله خلق الخلق عليه؛ إذ هو الذي تقتضيه عقولهم السليمة، وإنما كفَر مَن كفر لعارضٍ أخرجه عن أصل فطرته، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يُهوِّدانِه، أو يُنصِّرانه))[2] [3]، فالإسلام دينٌ"أصوله مَبْنية على الفطرة بمعنى، ألا تكون ناظرة إلا إلى ما فيه الصلاح في حكم العقل السليم، غيرَ مأسورٍ للعوائد ولا للمذاهب...، ويدخل في الفطرة الآداب العتيقة التي اصطلح عليها كافَّة عقلاء البشر"[4]، فكيف إذًا يحجر القرآن على العقل، وهو دستور دين تقتضيه العقول، وكتاب شريعة تقبلها الألباب؟!
 
ب: القرآن يخاطب العقول:
كثيرًا ما نجد القرآن الكريم يُوجِّه خطاباته لأُولي الألباب والعقول، سواء في باب العقائد والأحكام، أو في باب القصص والأمثال، "فالله تبارك وتعالى خاطَب العقولَ، ولذا نَعَى على العرب أنهم لا يُعمِلون عقولهم في رسالة محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وفيما جاء به رسول الله عليه الصلاة والسلام"[5].
قال الله تعالى: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [يوسف: 2].
وقال عز وجل: ﴿ لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [الأنبياء: 10].
وقال جل في علاه: ﴿ قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [يونس: 16].
وقال عز شأنه: ﴿ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [الأنعام: 32].
فلو كان القرآن الكريم يحجرُ على العقل ويسلبُه حريَّته، فهل سيَنْعَى على مَن لم يُعمِل عقله في فَهم خطاباته سبحانه، وهل سيُوجِّه كثيرًا منها لأهل العقول والنُّهى؟ أم سيجعلهم في منأًى عن حواراته وخطاباته وتوجيهاته، ولا يقيم لهم وزنًا، ولا يعتبر لهم اعتبارًا؛ لأنهم أصحاب شيء يضاده القرآن ويناقضه ويعارضه؟
 
ج: فتح القرآن لباب الاستنباط والاجتهاد:
لَمَّا كانت المستجدَّات والنوازل التي تحتاج إلى بيان الحكم الشرعي غيرَ متناهية، ونصوصُ الوحي متناهية، ولا يمكن أن يوفي المتناهي بحاجيَّات اللا متناهي - فقد فتح القرآن الكريم أمام العقل بابًا عظيمًا من أبواب التشريع، ألا وهو باب الاجتهاد والاستنباط، وقد عدَّ العلامة ابن عاشور رحمه الله تعالى مِن مظاهر الفطرة التي فطر الناس عليها مظهرًا يتعلق بذلك، فقال:
المظهر الخامس: الإقلال من التفريع في الأحكام، بل تأتي بأصولها، ويُترك التفريع لاستنباط المجتهدين، وقد بيَّن ذلك أبو إسحاق الشاطبي في تفسير قوله تعالى: ﴿ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ﴾ [الأنعام: 38]، لتكون الأحكام صالحةً لكلِّ زمان"[6].
 
ح: ترغيب القرآن في العمل العقلي:
كثيرة هي الآيات القرآنية[7] التي تدعو العقل للنظر والتفكر في كتاب الله المنظور، وتحثُّه على التذكر والاعتبار، فلو كان القرآن "ضد العقل ضاغطًا له، محجرًا عليه، ما أمكن أن يعطيه هذه الحرية الواسعة في الملكوت"[8]، ولنكتَفِ بإيراد مثالين:
1- قال تعالى: ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴾ [العلق: 1]، فهذه الآية - وهي أول ما نزل من القرآن - لا تقتصر على الأمر بالقراءة البصرية، بل تتعدَّاها إلى ما هو أهم منها، وهي القراءة العقلية التأملية، فالله سبحانه وتعالى يريد أن يُبيِّن في أول آية خاطبتِ الإنسانَ أن يَلفِت نظرَنا إلى القراءة العقلية، فهذا أمر للإنسان بأن يُعمِل عقله في المخلوقات، لكن بشرط أن تكون هذه القراءة بسم الله، فكأن القرآن يَلفِت نظرنا في أول آية أن نقرأ الكون وما فيه، وأن تكون قراءتنا للكون الهدف منها ربط المخلوق بالخالق سبحانه.
 
2- وقال تعالى: ﴿ أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ ﴾ [الغاشية: 17 - 20]، فهذه كلها أسئلة عقلية؛ لأن النظر المطلوب فيها ليس فقط نظرًا بصريًّا، بل عقليًّا، فالسؤال ليس عن وجودِ هذه الأشياء من إبل، وسماء، وأرض، وجبال؛ وإنما السؤال عن كيفية وجودها، ومعرفة الكيفية إنما هي من وظائف العقل.
فهل بعد هذا كله يصحُّ لحاقد مارقٍ أن يدَّعي أن القرآن الكريم يحجرُ على العقل، أو يعوقه عن عمله؟
إنها مجرَّد نفثات الحقد والكراهية لهذا الدين ولكتاب ربنا العظيم.



[1] جزء من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الفتن، بَاب كَيْفَ الْأَمْرُ إِذَا لَمْ تَكُنْ جَمَاعَةٌ، 9/ 51 رقم 7084.


[2] أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجنائز، باب: ما قيل في أولاد المشركين،2/ 100، رقم 1385.


[3] ابن جزي، التسهيل لعلوم التنزيل، ط1، 2/ 167 - 168.


[4] ابن عاشور، التحرير والتنوير، 3/ 194.


[5] السحيم، أعظم إنسان في القرآن والسنة، ص 7.


[6] ابن عاشور، التحرير والتنوير، 3/ 195، وقد سبق الكلام بشيء من التفصيل عن هذه المسألة في مبحث سابق.


[7] وقد سبقت الإشارة إلى نماذج منها في مبحث سابق.


[8] الحجوي، التعاضد المتين بين العقل والعلم والدين، ط1، ص 43.

شارك الخبر

المرئيات-١