تفسير سورة لقمان - مقدمة في تفسير سورة لقمان [2]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، شرع لنا دينا قويماً، وهدانا صراطاً مستقيماً، وأسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة، وهو اللطيف الخبير.

اللهم لك الحمد كله، ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر كله، أنت رب الطيبين.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وخالق الخلق أجمعين ورازقهم، فما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها، كل في كتاب مبين.

أما بعد:

الأمر الأول الذي دار حوله القرآن المكي، وهو بيان ما يتعلق بربنا الرحمن، وبيان لحال الإنسان، وما يحيط به في هذا الكون، فالله جل وعلا رب العالمين يتصف بكل كمال يتنزه عن كل نقصان، يجب أن يعبد وحده لا شريك له، وأنت أيها الإنسان مخلوق لهذا الخالق لا تستطيع أن تخرج عن إرادته الكونية، فالتزم بأمره الشرعي، وحذار حذار أن تخرج عن ذلك طرفة عين!

ولذلك فالقضية المقررة مما تقدم: أنه إذا كان الأمر كذلك فلا أسعد ولا أحسن حالاً ممن أفرد ربه بالعبادة، وهذا ما أشارت إليه هذه السورة في قول الله: هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [لقمان:3-5]، ولا أتعس ولا أشقى ولا أخبث ولا أنكد معيشة في هذه الحياة، وهلاكاً بعد الممات ممن أعرض عن عبادة الله، وانحرف عن شرع الله، كما قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ * وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [لقمان:6-7].

ثم بين مآل الصنف الأول فقال: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ * خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [لقمان:8-9].

إذاً: هذا الأمر الأول الذي دار حوله القرآن المكي، وهو بناء القلوب لتتصل بعلام الغيوب، عن طريق بيان الصلة بين الخالق والمخلوق.

أما الأمر الثاني الذي دار حوله القرآن المكي: التحدث عن أمهات الفضائل التي يطالب بها العباد بوصفهم عباداً لله في جميع العصور، وعلى مر الأيام والدهور، وهذه الفضائل لا يدخلها النسخ كما يقول علماء الأصول في كتب الأصول، ومنها: بر الوالدين، الإحسان إلى المحسن، الأمر بالفضيلة والتحذير من الرذيلة، فهذه أمهات فضائل وأخلاق عالية يستوي في معرفة حسنها جميع الناس، بغض النظر عن كونهم مؤمنين أو كافرين.

ولذلك يقول ربنا جل وعلا في سورة لقمان: وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ [لقمان:14]، هذه من أمهات الأخلاق، ولا يتصور أن تنسخ شريعة من الشرائع هذا الحكم، ولهذا أمر به المسلمون وأمر به الناس بوصفهم عباداً لله من عهد أبينا آدم إلى نبينا محمد عليه وعلى جميع الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه.

وهكذا يقول الله جل وعلا في هذه السورة مخبراً عن وصية لقمان الحكيم لابنه الكريم: يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ [لقمان:17]، ثم يقول: وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ [لقمان:17]، وهذه فضيلة ينبغي أن توجد في جميع العصور، ثم يحضه على خلق الصبر: وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [لقمان:17].

ثم يحذره من الأخلاق الرذيلة الدنيئة ومن سفاسف الأمور: وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ [لقمان:18]، كل عاقل بوصفه بشراً، يقر بحسن هذه الوصية، وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ [لقمان:19].

فتقرر أن القرآن المكي توجد فيه الإشارة إلى أمهات الأخلاق والفضائل.

ولذلك ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير الطبري أنه قال: جمع الله أحكام التوراة من أولها إلى آخرها في خمس عشرة آية من سورة الإسراء، أولها قول الله جل وعلا: لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا * وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الإسراء:22-23]، إلى آخر الآيات الخمس عشرة، أي أن جميع أحكام التوراة في هذه الآيات وهي من القرآن المكي.

والتوراة امتازت بذكر الأحكام بخلاف الإنجيل، فالإنجيل كان فيه المواعظ وترقيق القلوب، وهي تكمل ما في التوراة، فنبي الله عيسى على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه يرجع إلى التوراة وأحكام التوراة جمعها الله لهذه الأمة في خمس عشرة آية من سورة الإسراء: لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا * وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الإسراء:22-23]، ثم انتقل إلى بقية الخصال في النهي عن قتل الأولاد، وعن الزنا، وعن التطفيف في الكيل والميزان، إلى غير ذلك من الخصال الحسان التي لا يتصور فيها نسخ.

الأمر الثالث الذي وعنى به القرآن المكي بكثرة: القصص، والإشارة إلى أحوال الأمم السابقة؛ لأن القصص في الحقيقة يقرر الأمرين المتقدمين، والثاني فرع عن الأول، فإذا طهرت القلوب وأفردت علام الغيوب بالعبادة، ينبغي بعد ذلك أن تأمر بكل فضيلة، وأن تبتعد عن كل رذيلة؛ لأجل تقرير هذين المعنيين ذكر الله القصص وما جرى للأمم السابقة، للإشارة إلى أن تلك الأمم أمروا بعبادة الله كما أمرنا، وبهذه الأخلاق الكريمة كما أمرنا، فكانت النتيجة أن من أعرض عن شريعة الله شقي في الدنيا، وما له من العذاب بعد موته أكبر وأفظع، وهنا ذكر الله في هذه السورة المكية شأناً من القصص فيما يتعلق بالعبد الصالح لقمان: وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ [لقمان:12].

من فوائد القصص المكي التنبيه على وحدة الأديان

وفائدة القصص سيأتينا الكلام عليها إن شاء الله على وجه التفصيل عند قصة لقمان، وأذكر الفوائد العشر من مجيء القصة في القرآن، وأنواع القصة في القرآن، لكنني الآن أشير إلى ثلاثة أمور تتعلق بموضوعنا فيما يتعلق بطبيعة القرآن المكي.

القصة أشارت إلى وحدة الأديان، فالله جل وعلا أرسل رسله بدءاً من نبي الله أبينا آدم، وانتهاء بنبينا محمد عليه وعلى جميع الأنبياء صلوات الله وسلامه بأمر واحد: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف:59]، وحدة الأديان، هذه يستنبطها الإنسان من القصص.

وفي ذلك حكمة عظيمة، وهي أن الثلة الطيبة في مكة عندما تريد أن تؤمن ستكون معزولة غريبة عن أهل الأرض، فالشرك خيم في أرجاء المعمورة، والظلام دامس، والضلال منتشر، والذي سيؤمن سيشعر بالغربة، فالله جل وعلا سيسليه بذكر القصص، فيقول له: انتبه يا عبدي! أنت لا تنتسب إلى شيء غريب، أنت نسبك عريق قديم، تنضم إلى قافلة عظيمة أول من ركبها أبوك آدم، ثم أنبياء الله الذين جاءوا بعده والموحدون، فأنت لست بمنقطع النسب، وما أتيت بشيء محدث ولا مبتدع، إنما هؤلاء الضالون هم الذين يسيرون في بنيات الطريق، وفي المتاهات والضلالات، وأما أنت فعلى هدى، وإذا كنت على هدى وتنتمي إلى نسب عريق شريف أصيل فلا يضيرك بعد ذلك من عاداك، ومن غمزك، ومن آذاك، ومن احتقرك واستهزأ بك.

فالقصص في العهد المكي بمثابة تثبيت قلوب المؤمنين على الحق، ولذلك يقول الله جل وعلا لنبيه عليه الصلاة والسلام آمراً: قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف:9]، أي ما أتيتكم بشيء مبتدع، وليس مجيئي ببدعة وحادث ما سبق له نظير ولا مثيل، بل هذا الكون منذ أن أسس أسس على توحيد الله جل وعلا، وعبادته وحده لا شريك له، قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ [الأحقاف:9]، شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [الشورى:13]، إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19].

ولذلك يقول الله جل وعلا في سورة الأنبياء وفي سورة المؤمنون: إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:92]، وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ [المؤمنون:52]، ذكر الله جل وعلا هذه الآية في هاتين السورتين، والأمة هنا بمعنى الملة، أ دينكم واحد وهو الإسلام، الحنيفية، عبادة الله وحده لا شريك له، كل نبي كان يقول هذا لقومه: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف:65]، قال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36]، إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:92].

ذكر الله هذه الآية في هاتين السورتين لإشارة بليغة تظهر لي، وهي أن من آمن بالله جل وعلا فقد آمن بجميع الرسل واتبع جميع الرسل، وانعقد بينه وبين المؤمنين الأخيار أخوة في الله جل وعلا، سواء من سبقه ومن سيأتي بعده ممن يلحقه: إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:92]، ومن انحرف عن هذا فكفر برسول من رسل الله فقد كفر بجميع الرسل، ومن تبرأ من الأخوة الإيمانية فقد برئ منه المؤمنون وانفصل من هذه الرابطة الإسلامية، فالإيمان برسول إيمان بجميع الرسل، والكفر برسول كفر بجميع الرسل، ولذلك قال تعالى: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ [الشعراء:105].

كيف كذبوا رسل الله وهم ما أدركوا إلا نبيهم؟ لأن ما أمر به نوح هو ما أمر به آدم، وهو ما أمر به محمد عليه وعلى جميع الأنبياء صلوات الله وسلامه، فتكذيب نوح يعني تكذيب الأنبياء أجمعين عليهم صلوات الله وسلامه، والإيمان بنوح يعني الإيمان بجميع الأنبياء والمرسلين عليهم صلوات الله وسلامه، فمن آمن بنبي آمن بالأنبياء، وانعقد بينه وبين المؤمنين ولاء وإخاء، إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:92].

ومن كفر بنبي كفر بالأنبياء، وصار بينه وبين المؤمنين عداء وبغضاء، فمن كفر بنبي فليس بمؤمن وليس بمتبع لنبي من الأنبياء، ومن آمن بنبي آمن بالأنبياء وهو من عداد المؤمنين، ذكر الله هذا في هاتين السورتين، فالمؤمنون يؤمنون بالأنبياء جميعاً، وبينهم وبين المؤمنين ولاية من تقدمهم ومن يلحقهم، هؤلاء أهل التوحيد، ينتسبون إلى حزب الله المجيد، أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [المجادلة:22]، فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ [المائدة:56]، ومن كفر بنبي من الأنبياء فقد ابتعد عن هذه الخصلة الحميدة وعن هذه الصفة السديدة، فهو كافر بالأنبياء، وليس بينه وبين المؤمنين محبة وولاء.

إذاً: القصة تشير إلى وحدة الأديان، ولا بد إذاً من ذكر هذا في العهد المكي ليحصل هناك تقوية للقلوب التي ستكون غريبة في ذلك الزمان، فالمؤمن عندما يعلم أن الطريق الذي يسير فيه سار فيه أنبياء الله المطهرون، وسار فيه المؤمنون المباركون، يكون لي فيهم أسوة، وكون الناس ضلوا بعد ذلك ما له ولهم! فإذاً هذا تثبيت وتقوية لقلب المؤمن.

من فوائد القصص المكي تثبيت المؤمنين

الأمر الثاني: ليشير الله في القصص إلى أن قضية الكفر والضلال والانحراف والضياع والتيه موجودة على مر العصور، فمنذ أن وجدت البشرية كان يوجد من ينحرف ويضل، فإذا وجد ضال فلا ينبغي أن نتأثر به، ولا يحزننا ذلك بحيث نتخاذل ونجبن أمامه، مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ [الروم:44]، وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ [لقمان:23-24].

فإذاً: لا يضيرنا ولا نتأثر بكفره، ولا يعني أننا نهادنه أو نصالحه أو نحبه أو نوده، أو نطلب معونة ونصرة منه، ولكن إذا كفر وقمنا نحوه بما يجب في العصر المكي فلا حرج علينا من كفره، كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ [المدثر:38]، فهذه القضية موجودة.

ولذلك لا ينبغي أن يتأثر المؤمن في العصر المكي بكفر من حوله، ولا يبالي بهم، يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون [يس:30]، كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ * فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ * وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [الذاريات:52-55]، ولذلك يقول الله: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ * وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ [ق:12-14].

من فوائد القصص المكي: الإشارة إلى أن عاقبة النصر للمؤمنين

الحكمة الثالثة من ذكر القصص في السور المكية: أن في ذكر القصة في القرآن المكي إشارة إلى حتمية تاريخية دينية، وسنة اجتماعية مطردة، تشبه اطراد سنن الله الكونية في الآفاق وفي الأنفس، ففي السنن الكونية ليل يتبعه نهار، شمس وقمر، وهذا مطرد لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [يس:40]، القصة تشير إلى سنة من سنن الله الدينية، وهي أن الله سيؤيد الحق وينصر أهله، وسيخذل الباطل ويمحق أهله، فالله عندما كان يقص على المسلمين في مكة أخبار المتقدمين، إذاً في ذلك تبشير لهم أن دولتهم عما قريب ستقوم على أركان متينة، لكن لابد من الصبر والمصابرة لِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ [آل عمران:141].

يقول الله جل وعلا: فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [العنكبوت:40].

لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا * سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا [الأحزاب:60-62].

وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [النحل:112].

وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ [النحل:113].

فإذاً: ينبغي أن يعتبر هؤلاء بالقصص الذي ذكر في مكة: لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ [سبأ:15]، كيف عاقبهم الله جل وعلا عندما عتوا وبغوا واستكبروا وانحرفوا عن شرع الله؟

قال عن عاد عندما عتوا: فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ [فصلت:15-16].

وقال عن ثمود: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [فصلت:17-18].

القصص يشير إلى هذه السنة الدينية والحتمية الشرعية التي لا تتبدل، أن الله سينصر الحق وأهله، ويعز الموحدين، وسيخذل الباطل وأهله، وسيذل الكافرين، كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [المجادلة:21]، وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ [الصافات:171-173].

وفائدة القصص سيأتينا الكلام عليها إن شاء الله على وجه التفصيل عند قصة لقمان، وأذكر الفوائد العشر من مجيء القصة في القرآن، وأنواع القصة في القرآن، لكنني الآن أشير إلى ثلاثة أمور تتعلق بموضوعنا فيما يتعلق بطبيعة القرآن المكي.

القصة أشارت إلى وحدة الأديان، فالله جل وعلا أرسل رسله بدءاً من نبي الله أبينا آدم، وانتهاء بنبينا محمد عليه وعلى جميع الأنبياء صلوات الله وسلامه بأمر واحد: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف:59]، وحدة الأديان، هذه يستنبطها الإنسان من القصص.

وفي ذلك حكمة عظيمة، وهي أن الثلة الطيبة في مكة عندما تريد أن تؤمن ستكون معزولة غريبة عن أهل الأرض، فالشرك خيم في أرجاء المعمورة، والظلام دامس، والضلال منتشر، والذي سيؤمن سيشعر بالغربة، فالله جل وعلا سيسليه بذكر القصص، فيقول له: انتبه يا عبدي! أنت لا تنتسب إلى شيء غريب، أنت نسبك عريق قديم، تنضم إلى قافلة عظيمة أول من ركبها أبوك آدم، ثم أنبياء الله الذين جاءوا بعده والموحدون، فأنت لست بمنقطع النسب، وما أتيت بشيء محدث ولا مبتدع، إنما هؤلاء الضالون هم الذين يسيرون في بنيات الطريق، وفي المتاهات والضلالات، وأما أنت فعلى هدى، وإذا كنت على هدى وتنتمي إلى نسب عريق شريف أصيل فلا يضيرك بعد ذلك من عاداك، ومن غمزك، ومن آذاك، ومن احتقرك واستهزأ بك.

فالقصص في العهد المكي بمثابة تثبيت قلوب المؤمنين على الحق، ولذلك يقول الله جل وعلا لنبيه عليه الصلاة والسلام آمراً: قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف:9]، أي ما أتيتكم بشيء مبتدع، وليس مجيئي ببدعة وحادث ما سبق له نظير ولا مثيل، بل هذا الكون منذ أن أسس أسس على توحيد الله جل وعلا، وعبادته وحده لا شريك له، قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ [الأحقاف:9]، شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [الشورى:13]، إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19].

ولذلك يقول الله جل وعلا في سورة الأنبياء وفي سورة المؤمنون: إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:92]، وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ [المؤمنون:52]، ذكر الله جل وعلا هذه الآية في هاتين السورتين، والأمة هنا بمعنى الملة، أ دينكم واحد وهو الإسلام، الحنيفية، عبادة الله وحده لا شريك له، كل نبي كان يقول هذا لقومه: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف:65]، قال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36]، إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:92].

ذكر الله هذه الآية في هاتين السورتين لإشارة بليغة تظهر لي، وهي أن من آمن بالله جل وعلا فقد آمن بجميع الرسل واتبع جميع الرسل، وانعقد بينه وبين المؤمنين الأخيار أخوة في الله جل وعلا، سواء من سبقه ومن سيأتي بعده ممن يلحقه: إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:92]، ومن انحرف عن هذا فكفر برسول من رسل الله فقد كفر بجميع الرسل، ومن تبرأ من الأخوة الإيمانية فقد برئ منه المؤمنون وانفصل من هذه الرابطة الإسلامية، فالإيمان برسول إيمان بجميع الرسل، والكفر برسول كفر بجميع الرسل، ولذلك قال تعالى: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ [الشعراء:105].

كيف كذبوا رسل الله وهم ما أدركوا إلا نبيهم؟ لأن ما أمر به نوح هو ما أمر به آدم، وهو ما أمر به محمد عليه وعلى جميع الأنبياء صلوات الله وسلامه، فتكذيب نوح يعني تكذيب الأنبياء أجمعين عليهم صلوات الله وسلامه، والإيمان بنوح يعني الإيمان بجميع الأنبياء والمرسلين عليهم صلوات الله وسلامه، فمن آمن بنبي آمن بالأنبياء، وانعقد بينه وبين المؤمنين ولاء وإخاء، إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:92].

ومن كفر بنبي كفر بالأنبياء، وصار بينه وبين المؤمنين عداء وبغضاء، فمن كفر بنبي فليس بمؤمن وليس بمتبع لنبي من الأنبياء، ومن آمن بنبي آمن بالأنبياء وهو من عداد المؤمنين، ذكر الله هذا في هاتين السورتين، فالمؤمنون يؤمنون بالأنبياء جميعاً، وبينهم وبين المؤمنين ولاية من تقدمهم ومن يلحقهم، هؤلاء أهل التوحيد، ينتسبون إلى حزب الله المجيد، أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [المجادلة:22]، فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ [المائدة:56]، ومن كفر بنبي من الأنبياء فقد ابتعد عن هذه الخصلة الحميدة وعن هذه الصفة السديدة، فهو كافر بالأنبياء، وليس بينه وبين المؤمنين محبة وولاء.

إذاً: القصة تشير إلى وحدة الأديان، ولا بد إذاً من ذكر هذا في العهد المكي ليحصل هناك تقوية للقلوب التي ستكون غريبة في ذلك الزمان، فالمؤمن عندما يعلم أن الطريق الذي يسير فيه سار فيه أنبياء الله المطهرون، وسار فيه المؤمنون المباركون، يكون لي فيهم أسوة، وكون الناس ضلوا بعد ذلك ما له ولهم! فإذاً هذا تثبيت وتقوية لقلب المؤمن.