تفسير سورة لقمان - الحروف المقطعة في أوائل السور [1]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونؤمن به ونتوكل عليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.

الحمد لله رب العالمين، شرع لنا ديناً قويماً، وهدانا صراطاً مستقيماً، وأسبغ علينا نعمة ظاهرة وباطنة وهو اللطيف الخبير، اللهم لك الحمد كله، ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر كله، أنت رب الطيبين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وخالق الخلق أجمعين ورازقهم، فما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها، ويعلم مستقرها ومستودعها، كل في كتاب مبين، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ [فاطر:3].

وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين، فشرح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعين عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبياً عن أمته، ورضي الله عن أصحابه الطيبين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

معشر الإخوة الكرام! وصلنا إلى بيان معنى الحروف المقطعة المذكورة في أوائل بعض سور القرآن، وقلت إن الحروف المقطعة الموجودة في أوائل بعض سور القرآن هي أربعة عشر حرفاً، يجمعها قول القائل: (نص حكيم له سر قاطع)، وهذه الحروف الأربعة عشر ذكرت في تسعٍ وعشرين سورة من سور القرآن، وبينت بعض ما يتعلق بهذه الحروف، وآخر شيء ذكرته فيها يتعلق بحكم مدها عند تلاوتها وقراءتها، فقلت: هذه الحروف الأربعة عشر تنقسم إلى ثلاثة أقسام: قسم لا يمد منها مطلقاً وأبداً، وهو الألف: (الم)، وقسم يمد بمقدار حركتين وله خمسة أحرف، وهي: (حي طهر) كالمد الطبيعي، (يس) ياء، (الر) راء، وبقية الأحرف وهي ثمانية يجمعها قول القائل: (نقص عسلكم) تمد بمقدار ست حركات، وتنقسم إلى قسمين أيضاً: مد لا زم حرفي مثقل، وضابط هذا أن يأتي بعد أحد هذه الأحرف حرف يدغم فيه الحرف المتقدم بالحرف المتأخر، فيحصل تشديد وتثقيل كاللام من (الم)، فاللام مد لازم حرفي مثقل، والميم مد لازم حرفي مخفف، وكل واحد منهما يمد بمقدار ست حركات، لكن ذاك اكتسب التشديد من أجل الإدغام، والثاني: بقي مخففاً ليس فيه تثقيل وتشديد، وكل منهما يمد بمقدار ست حركات.

من باب البيان فقط يوجد حرف من هذه الحروف الثمانية يجوز فيه الطول والتوسط والقصر، الإشباع والتوسط والقصر، وهو حرف واحد العين حم * عسق [الشورى:1-2]، فالعين يجوز أن تمدها ست حركات أو أربع حركات أو حركتين؛ لأنه ينطبق عليها ما ينطبق على مد اللين، ومد اللين (الواو، والياء) بشرط سكونهما وانفتاح ما قبلهما، وهنا كذلك (عين)، ياء ساكنة وقبلها فتح (عين) لأن حرف (ع) مركب من (ع، ي، ن)، فانطبق عليها ما ينطبق على مد اللين، كبيت وخوف، فلك أن تمد العين حركتين أو أربع حركات أو ست حركات.

وأما فيما يتعلق بتفسير هذه الأحرف المقطعة وبيان معناها، فعندنا محل متفق عليه فيها، ومحل مختلف عليه فيها.

الأدلة على أن الحروف المقطعة لها معنى

أما محل الاتفاق: فأجمع أهل الإسلام على أن هذه الحروف لها معنى وذكرت لحكمة، يقرر هذا ويوضحه ثلاثة أمور:

الأمر الأول: أمر الله لنا بتدبر كتابه وتفهمه دون استثناء، فدخلت الحروف المقطعة في هذا، فعندما أمرنا الله جل وعلا أن نتدبر معاني كتابه وأن نتفهم كتابه، دلّ على أنه لا يوجد في كتاب الله وكلامه شيء إلا وله معنى وذكر لحكمة، أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا [النساء:82]، أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24]، كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [ص:29]، أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأَوَّلِينَ [المؤمنون:68]، فإذاً: أمر الله لعباده بتدبر كتابه دليل على أن هذه الأحرف المقطعة في أوائل بعض سور القرآن لها معنى قطعاً وجزماً، وذكرت لحكمة.

والأمر الثاني الذي يقرر أن هذه الحروف لها معنى وذكرت لحكمة: تحدي الله لعباده من إنسهم وجنهم على أن يأتوا بسورة من مثل هذا القرآن، وقلت سابقاً إن أقل السور ثلاث آيات، أي: لا يمكن لمخلوق من إنس أو جن أن يأتي بمثل ثلاث آيات من كتاب الله في الفصاحة والبلاغة والإعجاز والإحكام، وتقدم معنا أن الأحرف المقطعة هي آية من كتاب الله جل وعلا في مصاحف الكوفة، وحم * عسق [الشورى:1-2] تقدم معنا أن هذه الأحرف آيتان، وعليه فلا يمكن للبشر أن يأتوا بآيتين فيهما حروف مقطعة، وآية أخرى بعد ذلك فيها كلام آخر، بحيث يكون ذلك الكلام في مستوى كلام الرحمن جل وعلا لفظاً ومعنى.

فتحدي الله لعباده بأن يأتوا بسورة من مثل كتابه دليل على أن هذه الأحرف لها معنى، وذكرت لحكمة، ولو كانت بمثابة الكلام المهمل الذي لا معنى له لقال العرب لنبينا عليه الصلاة والسلام: كيف يتحدانا ربك بسورة من سور القرآن، وفي هذا الكتاب ما لا نفهمه ولا نعقله ولا نعلمه؟ فيه كلام مهمل بمثابة مخاطبة العربي باللغة الأجنبية، وهو لا يفقه ذلك، وهنا الأمر كذلك!

الأمر الثالث الذي يقرر أن هذه الأحرف المقطعة في بعض سورة القرآن لها معنى وذكرت لحكمة: أن الله جل وعلا حكيم، وهذا كلامه، فهو كلام حكيم نزل من حكيم سبحانه وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:41-42].

فإذا كان قائل هذا القرآن حكيماً حميداً، فكيف يوجد في كلامه ما لا معنى له؟ ولم يذكر لحكمة، إنما هو بمثابة العبث، هذا يتنزه عنه كلام رب العالمين سبحانه وتعالى، ولذلك قال ربنا جل وعلا في سورة هود: الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [هود:1].

فهذه الأمور الثلاثة تقرر هذا الإجماع الذي قلت إن هذا هو محل الاتفاق، هذه الأحرف المقطعة في أوائل بعض سور القرآن لها معنى وذكرت لحكمة قطعاً، وليس في كلام الله جل وعلا ما لا معنى له ولم يذكر لحكمة، فالحكيم يتنزه عن هذا الوصف الذميم: كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [هود:1].

إدراك معاني الحروف المقطعة من القرآن

بعد هذا الاتفاق على هذا الأمر حصل الاختلاف في أمر ثانٍ وهو: هل هذه الأحرف المقطعة التي لها معنى وذكرت لحكمة يدرك معناها من جميع الوجوه، ونقف على الحكمة التي من أجلها ذكر الله جل وعلا هذه الأحرف المقطعة في أوائل بعض سور كتابه، هذا الذي حصل فيه الاختلاف، والاختلاف ينحصر في قولين اثنين:

القول الأول: أن هذه الأحرف لها معنى، وذكرت لحكمة، لكننا لا ندرك حقيقة المعنى ولا نقف على حقيقة الحكمة التي من أجلها ذكر الله جل وعلا هذه الأحرف المقطعة في أوائل بعض سور القرآن، إنما نقول: (الم) حروف من حروف الهجاء من لغة العرب، ذكرها الله جل وعلا في بعض سور القرآن، ما المراد منها؟ وما معناها؟ هذا مما اختص الله بعلمه فهو أعلم بمراده وهو أعلم بكلامه سبحانه وتعالى، لا ندخل عقولنا في تحديد معنى هذه الأحرف المقطعة، بل نعجز هنا؛ لأن لها معنى وذكرت لحكمة.

هذا القول مال إليه جمهور سلفنا الكرام، الخلفاء الراشدون الأربعة، والإمام الشعبي والثوري وجماعة من المحدثين، واختاره الإمام أبو حاتم ابن حبان السجستاني عليهم جميعاً رحمة الله ورضوانه، كما حكى ذلك عنهم الإمام القرطبي في أوائل تفسيره (1/154) في مطلع تفسير سورة البقرة.

وهذا القول هو الذي مال إليه الإمام السيوطي ورجحه وسار عليه في تفسير الجلالين، وقرره أيضاً في كتاب: الإتقان في علوم القرآن في (3/24) فنقل عن الإمام الشعبي عليه رحمة الله أنه قال: لكل كتاب سر، وسر القرآن الحروف المقطعة، فهي سر الله فلا تفشوه! وليس المراد أننا نعلمه ونهينا عن كتمانه؟ لا، أي: هذا سر الله واستأثر الله بعلمه فلا تتكلموا فيه، فإذا كان هذا مما استأثر الله بعلمه ولم يعلم أحد به فلا تفشوه لا تتحدثوا به، ولا تتكلموا حوله، فلن تقفوا على حقيقة المراد منه.

وعلى هذا القول نقول ما قلته آنفاً: حروف مقطعة من لغة العرب، ذكرت في أوائل بعض سور القرآن، الله أعلم بالمراد منها.

أما محل الاتفاق: فأجمع أهل الإسلام على أن هذه الحروف لها معنى وذكرت لحكمة، يقرر هذا ويوضحه ثلاثة أمور:

الأمر الأول: أمر الله لنا بتدبر كتابه وتفهمه دون استثناء، فدخلت الحروف المقطعة في هذا، فعندما أمرنا الله جل وعلا أن نتدبر معاني كتابه وأن نتفهم كتابه، دلّ على أنه لا يوجد في كتاب الله وكلامه شيء إلا وله معنى وذكر لحكمة، أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا [النساء:82]، أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24]، كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [ص:29]، أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأَوَّلِينَ [المؤمنون:68]، فإذاً: أمر الله لعباده بتدبر كتابه دليل على أن هذه الأحرف المقطعة في أوائل بعض سور القرآن لها معنى قطعاً وجزماً، وذكرت لحكمة.

والأمر الثاني الذي يقرر أن هذه الحروف لها معنى وذكرت لحكمة: تحدي الله لعباده من إنسهم وجنهم على أن يأتوا بسورة من مثل هذا القرآن، وقلت سابقاً إن أقل السور ثلاث آيات، أي: لا يمكن لمخلوق من إنس أو جن أن يأتي بمثل ثلاث آيات من كتاب الله في الفصاحة والبلاغة والإعجاز والإحكام، وتقدم معنا أن الأحرف المقطعة هي آية من كتاب الله جل وعلا في مصاحف الكوفة، وحم * عسق [الشورى:1-2] تقدم معنا أن هذه الأحرف آيتان، وعليه فلا يمكن للبشر أن يأتوا بآيتين فيهما حروف مقطعة، وآية أخرى بعد ذلك فيها كلام آخر، بحيث يكون ذلك الكلام في مستوى كلام الرحمن جل وعلا لفظاً ومعنى.

فتحدي الله لعباده بأن يأتوا بسورة من مثل كتابه دليل على أن هذه الأحرف لها معنى، وذكرت لحكمة، ولو كانت بمثابة الكلام المهمل الذي لا معنى له لقال العرب لنبينا عليه الصلاة والسلام: كيف يتحدانا ربك بسورة من سور القرآن، وفي هذا الكتاب ما لا نفهمه ولا نعقله ولا نعلمه؟ فيه كلام مهمل بمثابة مخاطبة العربي باللغة الأجنبية، وهو لا يفقه ذلك، وهنا الأمر كذلك!

الأمر الثالث الذي يقرر أن هذه الأحرف المقطعة في بعض سورة القرآن لها معنى وذكرت لحكمة: أن الله جل وعلا حكيم، وهذا كلامه، فهو كلام حكيم نزل من حكيم سبحانه وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:41-42].

فإذا كان قائل هذا القرآن حكيماً حميداً، فكيف يوجد في كلامه ما لا معنى له؟ ولم يذكر لحكمة، إنما هو بمثابة العبث، هذا يتنزه عنه كلام رب العالمين سبحانه وتعالى، ولذلك قال ربنا جل وعلا في سورة هود: الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [هود:1].

فهذه الأمور الثلاثة تقرر هذا الإجماع الذي قلت إن هذا هو محل الاتفاق، هذه الأحرف المقطعة في أوائل بعض سور القرآن لها معنى وذكرت لحكمة قطعاً، وليس في كلام الله جل وعلا ما لا معنى له ولم يذكر لحكمة، فالحكيم يتنزه عن هذا الوصف الذميم: كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [هود:1].

بعد هذا الاتفاق على هذا الأمر حصل الاختلاف في أمر ثانٍ وهو: هل هذه الأحرف المقطعة التي لها معنى وذكرت لحكمة يدرك معناها من جميع الوجوه، ونقف على الحكمة التي من أجلها ذكر الله جل وعلا هذه الأحرف المقطعة في أوائل بعض سور كتابه، هذا الذي حصل فيه الاختلاف، والاختلاف ينحصر في قولين اثنين:

القول الأول: أن هذه الأحرف لها معنى، وذكرت لحكمة، لكننا لا ندرك حقيقة المعنى ولا نقف على حقيقة الحكمة التي من أجلها ذكر الله جل وعلا هذه الأحرف المقطعة في أوائل بعض سور القرآن، إنما نقول: (الم) حروف من حروف الهجاء من لغة العرب، ذكرها الله جل وعلا في بعض سور القرآن، ما المراد منها؟ وما معناها؟ هذا مما اختص الله بعلمه فهو أعلم بمراده وهو أعلم بكلامه سبحانه وتعالى، لا ندخل عقولنا في تحديد معنى هذه الأحرف المقطعة، بل نعجز هنا؛ لأن لها معنى وذكرت لحكمة.

هذا القول مال إليه جمهور سلفنا الكرام، الخلفاء الراشدون الأربعة، والإمام الشعبي والثوري وجماعة من المحدثين، واختاره الإمام أبو حاتم ابن حبان السجستاني عليهم جميعاً رحمة الله ورضوانه، كما حكى ذلك عنهم الإمام القرطبي في أوائل تفسيره (1/154) في مطلع تفسير سورة البقرة.

وهذا القول هو الذي مال إليه الإمام السيوطي ورجحه وسار عليه في تفسير الجلالين، وقرره أيضاً في كتاب: الإتقان في علوم القرآن في (3/24) فنقل عن الإمام الشعبي عليه رحمة الله أنه قال: لكل كتاب سر، وسر القرآن الحروف المقطعة، فهي سر الله فلا تفشوه! وليس المراد أننا نعلمه ونهينا عن كتمانه؟ لا، أي: هذا سر الله واستأثر الله بعلمه فلا تتكلموا فيه، فإذا كان هذا مما استأثر الله بعلمه ولم يعلم أحد به فلا تفشوه لا تتحدثوا به، ولا تتكلموا حوله، فلن تقفوا على حقيقة المراد منه.

وعلى هذا القول نقول ما قلته آنفاً: حروف مقطعة من لغة العرب، ذكرت في أوائل بعض سور القرآن، الله أعلم بالمراد منها.

وقد ثبت في تفسير الطبري وتفسير عبد الرزاق عن حبر هذه الأمة وبحرها عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال: التفسير على أربعة أوجه: تفسير لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير يعرفه العرب من كلامهم، وتفسير يعرفه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله، ومن ادعى علمه سوى الله فهو كذاب.

معنى التفسير الذي لا يعذر أحد بجهالته

فقوله: (تفسير لا يعذر أحد بجهالته)، هذا الذي لا يعذر أحد بجهالته اختلف علماؤنا الكرام رضوان الله عليهم في بيان المراد منه، فذهب الإمام الزركشي في كتابه البرهان في علوم القرآن، وتبعه الإمام السيوطي في الإتقان، إلى أن المراد منه أنه واضح يستوي في إدراكه كل أحد، كقول الله جل وعلا مثلاً: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، وكقول الله جل وعلا: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ [محمد:19]، يدرك كل أحد معنى هذا الكلام، إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [نوح:1]، لا يعذر أحد بجهالة هذا، لأنه واضح.

والذي ذهب إليه الإمام الطبري قبل هذين العالمين عليهم جميعاً رحمة الله أن (ما لا يعذر أحد بجهالته) هو: أمور الحلال والحرام، وقال: هذا خبرٌ من ابن عباس رضي الله عنهما على أن من تفسير القرآن ومن تأويل القرآن قسم لا ينبغي لأحد أن يجهله، وينبغي أن يتعلمه، وهو ما يتعلق بحلال القرآن وحرامه.

وحقيقة لا عذر للإنسان في دار الإسلام، فينبغي أن يتعلم ما أوجبه عليه ربنا الرحمن جل وعلا، وإذا فعل ما يخالف القرآن ثم قال: أنا جاهل ومعذور، قال: لا يعذر أحد بجهالته.

ولعل ما أراده الإمام الطبري هو أقوى وأولى من تفسير الإمام الزركشي والسيوطي لكلام ابن عباس رضي الله عنهم أجمعين، لأنه ورد في بعض الروايات عن ابن عباس رضي الله عنهم أجمعين: لا يعذر أحد بجهالته من الحلال والحرام. هذا نوع يجب على كل أحد أن يتعلمه.

معنى التفسير الذي يعرفه العرب من كلامهم

وهناك نوع آخر من أنواع التفسير: يعرفه العرب من كلامهم تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [المسد:1]، قد يخفى معنى التبات على كثير من المؤمنين، لكن العرب بوصفهم مسلمين أولى، كل من ينطق باللغة العربية، ويقصد بالعرب من نزل عليهم القرآن ويتكلمون باللغة العربية، لا العرب في هذه الأيام الذين أفسدتهم العجمة، ولعل العرب يزيدون الآن في العجمة والعامية والجهل باللغة العربية على الأعاجم، العرب الأقحاح المتقدمون، سواء كانوا مسلمين أو لا، لو سألت أبا جهل ما معنى تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ [المسد:1]؟ يقول: تبت: هلكت وخسرت وشقيت، التباب: هو الهلاك والخسران، هذا تفسير يعرفه العرب من كلامهم، والقرآن نزل بلسان عربي مبين.

وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ [النمل:20]، يقول: الطير معروف، وهو الذي يطير بجناحين في الفضاء، الهدهد: حيوان معروف، هذا يقوله العرب، ولا داعي لأن يعلمهم الإنسان تفسير هذه الآية.

هذا الأمر الواضح الظاهر البين صار ملتبساً على كثير من المتحذلقين المتفلسفين في هذه الأيام، بعض الناس ويسكن الآن في المدينة المنورة على نبينا صلوات الله وسلامه، يقال له حيدر جوادي، أصله من بلاد العراق، وغالب ظني أنه شيعي إن لم أجزم بذلك، يقول في تفسير قول الله: وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ [النمل:20]، الطير يعني الجيش، والهدهد هو أمير الجيش، تفقد جيشه ثم قال: ما لي لا أرى قائد الجيش حاضراً، سبحان الله العظيم! سبحان الله العظيم!!

لو سألت نساء البادية اللاتي يعرفن لغة العرب، ما معنى الطير؟ تقول: الطير هذا مثل الحمار معروف، عندما يقول الله: كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا [الجمعة:5] معروف معناه، والهدهد معروف، فإذا جئت الآن لتقول: الطير بمعنى الجيش، والهدهد قائد الجيش، تكون قد أخرجت القرآن عن اللغة التي نزل بها، ولذلك قال أئمتنا: من ترجم القرآن للغة أخرى وقال هذا هو كلام الله فقد كفر، لأن الله يقول: بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشعراء:195]، لا مانع من أن يشرح كلام الله بأي لغة، أما أن يقال هذه الترجمة، بمعنى يجوز أن نقرأ الترجمة مكان كلام الله، وذاك يحل محله فلا ثم لا!

إذاً: تفسير يعرفه العرب من كلامهم.

معنى التفسير الذي يعلمه العلماء

وتفسير يعرفه العلماء: وهو يتعلق باختصاصهم من أمر العام والخاص، والمطلق والمقيد، والناسخ والمنسوخ، والمحكم والمتشابه وغير ذلك، هذا مما خص الله به العلماء.

والاصطلاحات الشرعية، فالصلاة مثلاً في لغة العرب الدعاء، لكن علماء الشريعة يعلمون معنى للصلاة لا يعلمه العرب الأقحاح، لأن هذا تفسير شرعي، (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) ليس المراد منها الدعاء، المراد منها أقوال وأفعال مفتتحة بالتكبير مختتمة بالتسليم، بشرائط مخصوصة يعرفها العلماء.

معنى التفسير الذي لا يعلمه إلا الله

وتفسير لا يعلمه إلا الله، ومن ادعى علمه سوى الله جل وعلا فهو كذاب.

إذاً: عندنا من أنواع التفسير تفسير استأثر الله بعلمه، يدخل فيه الحروف المقطعة، فهذا مما استأثر الله بعلمه، يدخل في هذا الذي استأثر الله بعلمه حقيقة صفات ربنا جل وعلا، وكيفية صفاته وكنه ذاته، هذا كله مما استأثر الله بعلمه، الاستواء معلوم والكيف مجهول، والحروف المقطعة معلومة (ا) ألف، (ل) لام، (م) ميم، فهذا تفسيرها، الألف معروف بلغة العرب، واللام معروفة، والميم معروفة.

ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ [القلم:1]، ما معنى (ن)؟ معناها: نون، حرف من حروف لغة العرب ذكره الله لحكمة وله معنى، ما هي الحكمة وما هي المعنى؟ الله أعلم بمراده من كلامه، كما يقول لنا: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، نقول: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، فإذاً: الأحرف المقطعة على هذا القول هي مما استأثر الله جل وعلا بعلمه.

فقوله: (تفسير لا يعذر أحد بجهالته)، هذا الذي لا يعذر أحد بجهالته اختلف علماؤنا الكرام رضوان الله عليهم في بيان المراد منه، فذهب الإمام الزركشي في كتابه البرهان في علوم القرآن، وتبعه الإمام السيوطي في الإتقان، إلى أن المراد منه أنه واضح يستوي في إدراكه كل أحد، كقول الله جل وعلا مثلاً: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، وكقول الله جل وعلا: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ [محمد:19]، يدرك كل أحد معنى هذا الكلام، إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [نوح:1]، لا يعذر أحد بجهالة هذا، لأنه واضح.

والذي ذهب إليه الإمام الطبري قبل هذين العالمين عليهم جميعاً رحمة الله أن (ما لا يعذر أحد بجهالته) هو: أمور الحلال والحرام، وقال: هذا خبرٌ من ابن عباس رضي الله عنهما على أن من تفسير القرآن ومن تأويل القرآن قسم لا ينبغي لأحد أن يجهله، وينبغي أن يتعلمه، وهو ما يتعلق بحلال القرآن وحرامه.

وحقيقة لا عذر للإنسان في دار الإسلام، فينبغي أن يتعلم ما أوجبه عليه ربنا الرحمن جل وعلا، وإذا فعل ما يخالف القرآن ثم قال: أنا جاهل ومعذور، قال: لا يعذر أحد بجهالته.

ولعل ما أراده الإمام الطبري هو أقوى وأولى من تفسير الإمام الزركشي والسيوطي لكلام ابن عباس رضي الله عنهم أجمعين، لأنه ورد في بعض الروايات عن ابن عباس رضي الله عنهم أجمعين: لا يعذر أحد بجهالته من الحلال والحرام. هذا نوع يجب على كل أحد أن يتعلمه.