محبة الرسول ونصرته [2]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

فإن الله سبحانه وتعالى شرط على المؤمنين في الإيمان محبة رسوله صلى الله عليه وسلم حباً شديداً، وجعل ذلك أصلاً من أصول عقائد المسلمين؛ فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين من حديث أنس بن مالك وأبي هريرة رضي الله عنهما أنه قال: ( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده )، وفي أحد الحديثين زيادة: ( والناس أجمعين )، وكذلك في حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ( يا رسول الله، أنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي التي بين جنبي، فقال: لا، حتى أكون أحب إليك من نفسك التي بين جنبيك ).

وشرط رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك في الإيمان به محبة أنصاره؛ فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( حب الأنصار من الإيمان )، وكذلك شرط محبة أصحابه؛ فقد صح عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في المسند والمستدرك وغيرهما أنه قال: ( والذي فطر النسمة وبرأ الحبة لقد عهد إلي النبي الأمي ألا يحبني إلا مؤمن، وألا يبغضني إلا منافق ).

ومحبة النبي صلى الله عليه وسلم إذا كانت ركناً من أركان الدين وشرطاً من شروط الإيمان فيجب على كل إنسان أن يتعاهدها في نفسه، وأن يعرفها، وأن يعرف ضوابطها وحدودها، فإن هذا النبي الأمي صلى الله عليه وسلم شرفه الله سبحانه وتعالى بأنواع التشريف؛ فقد اختاره من خلائقه، فهو أفضل ما خلق الله من الخلائق، وقد اختاره اختياراً بشرياً كذلك، كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في السنن بإسناد صحيح أنه قال: ( إن الله اصطفى من ولد آدم إبراهيم، واصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل، واصطفى من ولد إسماعيل بني كنانة، واصطفى من كنانة قريشاً، واصطفى من قريش بني هاشم، وجعلني من بني هاشم في المحل الأسنى؛ فأنا خيار من خيار من خيار، ولا فخر )، وهذا الحديث يقتضي اصطفاءه واختياره من البشر كذلك، وتنقيته من الكدر؛ فلذلك يشمل هذا الاختيار التنقية الجسدية والتنقية القلبية والتنقية الخلقية، فقد نقاه الله سبحانه وتعالى من كل ما يكرهه ومن كل ما لا يرتضيه.

كذلك فإن اختيار الله سبحانه وتعالى له مقتض على كل من أحب الله سبحانه وتعالى أن يحب من اختاره الله سبحانه وتعالى وشرفه بهذه المكانة.

وكذلك فإن من دواعي المحبة الإنعام والإحسان، ولا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم أكثر الناس إحساناً إلى الناس؛ فهو الذي يدخل في شفاعته يوم القيامة آدم ومن دونه إلى نهاية البشرية؛ فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إذا حشر الناس في الساهرة أتي بجهنم تقاد بسبعين ألف زمام، في كل زمام سبعون ألف ملك، فتحيط بهم من كل جانب، وتدنو الشمس حتى تكون كالميل فوق رءوسهم، ويشتد العرق فمنهم من يصل إلى حقويه، ومنهم من يصل إلى ثدييه، ومنهم من يصل إلى ترقوتيه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً، ويطول بهم الموقف فيلجئون إلى العلماء، فيقول العلماء: ليس اليوم لنا، إنما هو للأنبياء، فيأتون آدم فيقولون: يا آدم، أنت أبو البشر، خلقك الله بيمينه، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، وجعلك خليفته في الأرض؛ فاشفع لنا إلى ربنا إما إلى جنة وإما إلى نار، فيقول آدم: نفسي نفسي، رب لا أسألك إلا نفسي، إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وإني عصيت الله فأكلت من الشجرة، ولكن اذهبوا إلى نوح، فيأتونه فيقولون: يا نوح، أنت أبو البشر بعد آدم، وأول الرسل إلى أهل الأرض؛ فاشفع لنا إلى ربنا، إما إلى جنة وإما إلى نار، فيقول نوح: نفسي نفسي، رب لا أسألك إلا نفسي، إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وإني سألت الله ما لم يأذن لي به، ولكن اذهبوا إلى إبراهيم، فيأتون إبراهيم، فيقولون: يا إبراهيم، قد اصطفاك الله لخلته من بين خلقه؛ فاشفع لنا إلى ربنا، إما إلى جنة وإما إلى نار، فيقول إبراهيم: نفسي نفسي، رب لا أسألك إلا نفسي، إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وإني كذبت ثلاث كذبات، ولكن اذهبوا إلى موسى، فيأتونه فيقولون: يا موسى، قد اصطفاك الله برسالاته وبكلامه؛ فاشفع لنا إلى ربنا، إما إلى جنة وإما إلى نار، فيقول موسى: نفسي نفسي، رب لا أسألك إلا نفسي، إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وإني قتلت نفساً لم يؤذن لي بها، ولكن اذهبوا إلى عيسى، فيأتونه فيقولون: يا عيسى، أنت كلمة الله ألقاها إلى مريم وروح منه؛ فاشفع لنا إلى ربنا إما إلى جنة وإما إلى نار، فيقول عيسى: نفسي نفسي، رب لا أسألك إلا نفسي، إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني عبدت من دون الله - لا يجد أمراً يأثره إلا هذا- ولكن اذهبوا إلى محمد، فيذهبون إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فيقولون: يا محمد، أنت آخر الرسل إلى أهل الأرض، وأنت إمامهم؛ فاشفع لنا إلى ربنا، إما إلى جنة وإما إلى نار، فيقول محمد صلى الله عليه وسلم: أنا لها، فيخر ساجداً تحت العرش.. )، وفي رواية: ( راكعاً تحت العرش، فيلهمه الله الثناء عليه بمحامد لا يحسنها ولا يحسنها أحد من أهل الدنيا، فيناديه فيقول: يا محمد، ارفع رأسك، واشفع تشفع، واسأل تعطه )، فيشفع في الناس جميعاً، في مؤمنهم وكافرهم، فيدخل في شفاعته الأنبياء جميعاً وأتباعهم، وهذا هو المقام المحمود الذي وعده الله إياه في قوله: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا * وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا [الإسراء:78-79]، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه ذكر الدرجة الرفيعة المدخرة عند الله سبحانه وتعالى التي اختص الله بها عبداً من عباده قال: ( وأرجو أن أكون أنا هو )، فحقق الله رجاءه، فمن كان هكذا يدخل في شفاعته الأولون والآخرون جميعاً فهو أهل لأن يحب.

كذلك هذه الأمة بالخصوص، فليس لها خير إلا من طريق هذا الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فهو دليلها إلى الله سبحانه وتعالى، وهو معلمها الخير كله، وقد صح عنه في صحيح البخاري أنه قال: ( ما يكن عندي من خير فلن أدخره عنكم )، فلم يبق من خير إلا دلنا عليه، ولا من شر إلا حذرنا منه، فهو أهل لأن يحب من أجل إحسانه إلينا.

كذلك الشفاعات الأخرى التي دون هذه، وأنتم تعلمون أن الشفاعات ثمان، أعظمها الشفاعة الكبرى وهي التي ذكرناها في الخلائق جميعاً من المحشر، وبعدها العرض على الله سبحانه وتعالى.

الشفاعة الصغرى

ثم الشفاعة الصغرى وهي أصغر الشفاعات، وهي الشفاعة في كافر مات على الكفر ليخفف الله عنه عذابه فيوضع في ضحضاح من نار، أو أخمصاه على جمرتين من نار يغلي منهما دماغه، وهذا أخف أهل النار عذاباً يوم القيامة، وهذه الشفاعة كذلك مختصة بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده؛ فلا يحل لأحد أن يشفع في كافر مات لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر إلا هذا الرجل وحده يشفع فيه النبي صلى الله عليه وسلم، وجمهور أهل السنة على أن هذا الرجل هو أبو طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم.

الشفاعة الخاصة بإخراج أهل الإيمان من النار

الشفاعة الثالثة: الشفاعة في إخراج أهل الإيمان من النار بعد أن نالوا حظهم منها، فإن الفساق يدخلون النار بفجورهم ويخرجون منها بإيمانهم؛ كما صح في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( يخرج من النار أقوام قد اسودوا وامتحشوا فيلقون في نهر الحياء.. )، أو: ( الحياة ) -شك مالك- ( فتنبت أجسامهم كما تنبت الحبة في حميل السيل )، وهذه الشفاعة ليست مختصة بالنبي صلى الله عليه وسلم، بل هي للأنبياء والملائكة والصالحين، وهي إكرام من الله تعالى لهم؛ لأن الله سبحانه وتعالى كتب على هؤلاء حظهم من عذابه وعقوبته، وأراد تكريم أولئك بأن يشفعوا فيهم، ولا تمكن الشفاعة حينئذ إلا لمن أذن له، كما قال سبحانه وتعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة:255]، وكما قال تعالى: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ [الأنبياء:28]، وقال تعالى: وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى [النجم:26]، فهذه الشفاعة لا تنفع إلا من أذن الله في الشفاعة له.

الشفاعة الخاصة ببعض العصاة

النوع الرابع من الشفاعات: الشفاعة في بعض العصاة حتى لا يدخلوا النار وهم يستحقونها بسيئاتهم، فبعض العصاة يستحقون دخول النار بسيئاتهم ولكن الله يشفع فيهم الشافعين، فتنفعهم شفاعة الشافعين، فتحول بينهم وبين النار بعد أن شاهدوا مقاعدهم منها، نسأل الله السلامة والعافية، وهذه الشفاعة كذلك لا تختص بالنبي صلى الله عليه وسلم، بل هي للأنبياء والملائكة والصالحين يشفعهم الله في أقوامهم، بل قد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن من هذه الأمة أقواماً يشفعون في مثل القبيلتين العظيمتين: ربيعة، ومضر.

الشفاعة في المجازاة

الشفاعة الخامسة: الشفاعة في المجازاة، وهي أن أقواما يأتون يوم القيامة فتستحق حسناتهم بسبب إجرامهم وإسرافهم على أنفسهم، وذلك أن الذنوب ثلاثة أقسام:

ذنب لا يغفر وهو الشرك بالله، وذنب في المشيئة، إن شاء الله عذب به وإن شاء عفا عنه، وهو حقوق الله المتمحضة، وذنب لا يترك، وهو حقوق العباد، حتى لو غفر الله سبحانه وتعالى جانب المعصية في الذنب يبقى حق العبد لا بد من استيفائه عند الحكم العدل الذي لا يظلم عنده أحد.

وهذه الحقوق هي التي تمحل بالعباد؛ فيأتي الرجل ومعه من الحسنات أمثال الجبال، ولكنه قد استغرقت ذمته باعتدائه على الناس؛ ولذلك صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأصحابه: ( أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، قال: بل المفلس من يأتي يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال، ويأتي وقد ضرب هذا وشتم هذا وأكل مال هذا.. )، وفي رواية: ( وقتل هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، حتى إذا نفدت حسناته ألقي عليه من سيئاتهم، ثم ألقي هو في النار )، هؤلاء المفلسون تنفع بعضهم شفاعة الشافعين يوم القيامة، فيشفعون في المجازاة عنهم، فيجازي الله خصومهم، فيدعو العبد فيقول: لك يا عبدي على فلان كذا وكذا، هل يرضيك عنه أن أتجاوز عن سيئاتك؟ هل يرضيك عنه أن أدخلك الجنة؟ فيرضي الله سبحانه وتعالى أقواماً عن هذه الحقوق فتقع المسامحة.

وذلك الوقت لابد فيه من أداء الحقوق كلها، حتى يقتاد للشاة الجماء من الشاة القرناء، الشياه، الغنم غير المكلفة يؤتى بها في مثل ذلك الموقف حتى يقتاد للشاة الجماء - أي: التي لا قرن لها - من الشاة القرناء التي نطحتها في الدنيا، فضلاً عن البشر المكلفين.

الشفاعة في دخول الجنة

الشفاعة السادسة: الشفاعة في دخول الجنة، فإن الناس إذا وضعت الموازين بالقسط ليوم القيامة توزن أعمالهم بمقاييس الذر، وبعد ذلك يعطى أهل الإيمان كتبهم بأيمانهم تلقاء وجوههم، ويبيض الله وجوههم، ويعطى أهل السيئات كتبهم بشمائلهم تلقاء ظهورهم، ويسود الله وجوههم، ويضرب بين الطائفتين بسور له باب، باطنه فيه الرحمة، وظاهره من قبله العذاب، ويعرف بعض أهل السيئات بعض أهل الإيمان، كانوا يجاورونهم في الدنيا ويخالطونهم ويعرفونهم بأسمائهم وأنسابهم، فينادونهم: أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللهِ وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ [الحديد:14]، ولاحظوا الأعذار التي قالوها، قالوا: بلى قد كنتم معنا في الدنيا، قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ [الحديد:14]، وفتنة النفس إنما تكون باتباع الهوى واتباع الشهوات، وَتَرَبَّصْتُمْ [الحديد:14]؛أي: بأهل الإيمان، فكنتم تكيدون لهم وتتمنون لهم المصائب؛ فلذلك قال: وَتَرَبَّصْتُمْ [الحديد:14]، ثم قال: وَارْتَبْتُمْ [الحديد:14]؛ أي: شككتم في موعود الله الذي لابد أن يتحقق، وهذه أخرت لأنها قاصمة الظهر، وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ [الحديد:14]، فكثير من أصحاب الذنوب ينسون ذنوبهم ويظنون أنها قد غفرت، فهم يودون أن يعطوا صحفاً منشرة فيها الحسنات، وأن يمحى عنهم السيئات، ولكن الواقع أن هذا مثل تمني اليهود الذين قالوا: إن لديهم عهداً من الله ألا يعذبهم إلا أياماً معدودات، والله تعالى كذب هذا العهد في سورة آل عمران، وبين أنه من أباطيلهم التي لا طائل من ورائها: وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة:80]؛ فلذلك قال في هؤلاء: وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللهِ [الحديد:14]، وهو الموت، وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ [الحديد:14]، وهو الشيطان، فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ المَصِيرُ [الحديد:15].

بعد هذا إذا نصب الصراط على متن جهنم يمر الناس عليه، ويتفاوتون بحسب أعمالهم؛ فمنهم من يمر كالبرق الخاطف، ومنهم من يمر كالريح المرسلة، ومنهم من يمر كأجاويد الخيل والإبل، ومنهم من يمر كالرجل يشتد عدواً، ومنهم من يزحف على مقعدته، فناج مسلم، ومخدوش مرسل، ومكردس على وجهه في نار جهنم، فإذا نجا الناجون على الصراط ووصلوا إلى باب الجنة فأول من يكسى من حرير الجنة إبراهيم عليه السلام، يكسى من الديباج الأبيض، وأول من يحرك حلقة الباب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فيشفع لأهل الجنة في دخول الجنة، فإذا شفع شفعه الله، ففتحت أبواب الجنة الثمانية، وينادى من كل باب أصحابه، فباب الصلاة ينادى منه أهل الصلاة، وباب الصدقة ينادى منه أهل الزكاة والصدقات، وباب اسمه (الريان) لا يدخل منه إلا الصائمون، فإذا دخلوا منه أغلق فلم يدخل منه أحد، وباب الجهاد يدخل منه أهل الجهاد، وباب البر والصلة يدخل منه أهلهما، وهكذا حتى تنتهي أبواب الجنة، ومن الناس من يدعى من جميع أبواب الجنة، ينادى باسمه من جميع أبواب الجنة الثمانية فيخير من أي باب شاء دخل، فهذه الشفاعة في دخول الجنة مختصة بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

الشفاعة في رفع منزلة بعض أهل الجنة

ثم الشفاعة السابعة: هي الشفاعة في رفع منزلة بعض أهل الجنة؛ لأن أهل الجنة إذا دخلوها منهم من يستحق أن يكون من أصحاب اليمين، ومنهم من يستحق أن يكون من المقربين، فالمقربون في الفردوس الأعلى من الجنة التي سقفها عرش الرحمن؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس الأعلى من الجنة )، وهي منزلة الأنبياء والشهداء والصديقين والصالحين؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لـأم حارثة حين سألته عن ولدها قالت: ( أفي الجنة هو فأصبر أم في غير ذلك فترى ما أصنع؟ فقال: أوَ جنة هي؟! إنما هي جنان، وابنك في الفردوس الأعلى منها )، فأولئك الذين لا يستحقون الفردوس الأعلى من الجنة ولا يستحقون الدرجات العالية في الجنة تنفعهم شفاعة الشافعين، فتعلى منزلتهم وترفع حتى يصلوا إلى المستوى الذي يرغبون فيه، وأهل الجنة يتراءون الغرف كما يتراءى أهل الأرض الكوكب الدري في السماء، من تباعد المنازل فيما بينهم.

شفاعة جمع الذرية في الجنة

الشفاعة الثامنة: الشفاعة بجمع الشمل للذين دخلوا الجنة من أهل الإيمان واستحق بعض ذرياتهم - سواء كانوا من الآباء أو الأبناء- دخول النار، ولكنهم مع ذلك أهل إيمان، فيشفعون فيهم حتى يجتمع شملهم، وهذا من تنعيم الله لهم؛ فقد قال الله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ [الطور:21]، والذرية تطلق على الآباء والأبناء؛ فمن إطلاقها على الآباء قول الله تعالى في سفينة نوح عليه السلام: وَآيَةٌ لَهمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ المَشْحُونِ * وَخَلَقْنَا لَهمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ [يس:41-42]،فالذريات التي حملت في سفينة نوح ليست بالذراري -أي: الأولاد- وإنما هي الآباء، وإطلاق الذرية كذلك على من دون هذا مثل قول الله تعالى: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ [الأنعام:84]، هؤلاء من ذرية إبراهيم؛ أي: من أولاده، فقوله: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ [الطور:21]هذا يشمل الآباء والأبناء، والذرية مشتقة من (الذر) وهو صغار النمل، والمقصود بذلك الصورة التي أخرج الله عليها ذرية آدم من ظهره حين مسحه ببطن نعمان فأخرج منه ذرية فقال: ( أي رب، من هؤلاء؟ قال: خلق من ذريتك خلقتهم للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسحه فأخرج منه ذرية أخرى، فقال: أي رب، من هؤلاء؟ قال: خلق من ذريتك خلقتهم للنار وبعمل أهل النار يعملون )، فالصورة التي أخرجوا عليها إذ ذاك شبهت بالذر - وهو النمل- فسمي ذلك العالم عالم الذر، وتعارفت فيه الأرواح كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين أنه قال: ( الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف )، والمقصود بالتعارف - كما قال أهل العلم- ما كان في عالم الذر؛ أي: في ذلك الوقت، وقت إخراج ذرية آدم من ظهره.

هذه الشفاعة لا تختص بالنبي صلى الله عليه وسلم، بل هي لأهل الجنة عموماً، فيشفعون في ذراريهم وأقاربهم؛ حتى يجتمع شملهم، ويلحق بهم من يعرفون من ذرياتهم وأقاربهم.

إن من يشفع هذه الشفاعات العظيمة لمستحق للمحبة.

وكذلك فإن من أسس المحبة كمال الإنسان في ذاته حتى لو لم يحسن إليك، والنبي صلى الله عليه وسلم هو أكمل البشر في خلقه وخلقه - كما سيتبين بعد قليل إن شاء الله من ذكر شمائله- فإذا كان كذلك، فهو مستحق لأن يحب.

ثم الشفاعة الصغرى وهي أصغر الشفاعات، وهي الشفاعة في كافر مات على الكفر ليخفف الله عنه عذابه فيوضع في ضحضاح من نار، أو أخمصاه على جمرتين من نار يغلي منهما دماغه، وهذا أخف أهل النار عذاباً يوم القيامة، وهذه الشفاعة كذلك مختصة بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده؛ فلا يحل لأحد أن يشفع في كافر مات لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر إلا هذا الرجل وحده يشفع فيه النبي صلى الله عليه وسلم، وجمهور أهل السنة على أن هذا الرجل هو أبو طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم.

الشفاعة الثالثة: الشفاعة في إخراج أهل الإيمان من النار بعد أن نالوا حظهم منها، فإن الفساق يدخلون النار بفجورهم ويخرجون منها بإيمانهم؛ كما صح في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( يخرج من النار أقوام قد اسودوا وامتحشوا فيلقون في نهر الحياء.. )، أو: ( الحياة ) -شك مالك- ( فتنبت أجسامهم كما تنبت الحبة في حميل السيل )، وهذه الشفاعة ليست مختصة بالنبي صلى الله عليه وسلم، بل هي للأنبياء والملائكة والصالحين، وهي إكرام من الله تعالى لهم؛ لأن الله سبحانه وتعالى كتب على هؤلاء حظهم من عذابه وعقوبته، وأراد تكريم أولئك بأن يشفعوا فيهم، ولا تمكن الشفاعة حينئذ إلا لمن أذن له، كما قال سبحانه وتعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة:255]، وكما قال تعالى: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ [الأنبياء:28]، وقال تعالى: وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى [النجم:26]، فهذه الشفاعة لا تنفع إلا من أذن الله في الشفاعة له.

النوع الرابع من الشفاعات: الشفاعة في بعض العصاة حتى لا يدخلوا النار وهم يستحقونها بسيئاتهم، فبعض العصاة يستحقون دخول النار بسيئاتهم ولكن الله يشفع فيهم الشافعين، فتنفعهم شفاعة الشافعين، فتحول بينهم وبين النار بعد أن شاهدوا مقاعدهم منها، نسأل الله السلامة والعافية، وهذه الشفاعة كذلك لا تختص بالنبي صلى الله عليه وسلم، بل هي للأنبياء والملائكة والصالحين يشفعهم الله في أقوامهم، بل قد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن من هذه الأمة أقواماً يشفعون في مثل القبيلتين العظيمتين: ربيعة، ومضر.

الشفاعة الخامسة: الشفاعة في المجازاة، وهي أن أقواما يأتون يوم القيامة فتستحق حسناتهم بسبب إجرامهم وإسرافهم على أنفسهم، وذلك أن الذنوب ثلاثة أقسام:

ذنب لا يغفر وهو الشرك بالله، وذنب في المشيئة، إن شاء الله عذب به وإن شاء عفا عنه، وهو حقوق الله المتمحضة، وذنب لا يترك، وهو حقوق العباد، حتى لو غفر الله سبحانه وتعالى جانب المعصية في الذنب يبقى حق العبد لا بد من استيفائه عند الحكم العدل الذي لا يظلم عنده أحد.

وهذه الحقوق هي التي تمحل بالعباد؛ فيأتي الرجل ومعه من الحسنات أمثال الجبال، ولكنه قد استغرقت ذمته باعتدائه على الناس؛ ولذلك صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأصحابه: ( أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، قال: بل المفلس من يأتي يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال، ويأتي وقد ضرب هذا وشتم هذا وأكل مال هذا.. )، وفي رواية: ( وقتل هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، حتى إذا نفدت حسناته ألقي عليه من سيئاتهم، ثم ألقي هو في النار )، هؤلاء المفلسون تنفع بعضهم شفاعة الشافعين يوم القيامة، فيشفعون في المجازاة عنهم، فيجازي الله خصومهم، فيدعو العبد فيقول: لك يا عبدي على فلان كذا وكذا، هل يرضيك عنه أن أتجاوز عن سيئاتك؟ هل يرضيك عنه أن أدخلك الجنة؟ فيرضي الله سبحانه وتعالى أقواماً عن هذه الحقوق فتقع المسامحة.

وذلك الوقت لابد فيه من أداء الحقوق كلها، حتى يقتاد للشاة الجماء من الشاة القرناء، الشياه، الغنم غير المكلفة يؤتى بها في مثل ذلك الموقف حتى يقتاد للشاة الجماء - أي: التي لا قرن لها - من الشاة القرناء التي نطحتها في الدنيا، فضلاً عن البشر المكلفين.

الشفاعة السادسة: الشفاعة في دخول الجنة، فإن الناس إذا وضعت الموازين بالقسط ليوم القيامة توزن أعمالهم بمقاييس الذر، وبعد ذلك يعطى أهل الإيمان كتبهم بأيمانهم تلقاء وجوههم، ويبيض الله وجوههم، ويعطى أهل السيئات كتبهم بشمائلهم تلقاء ظهورهم، ويسود الله وجوههم، ويضرب بين الطائفتين بسور له باب، باطنه فيه الرحمة، وظاهره من قبله العذاب، ويعرف بعض أهل السيئات بعض أهل الإيمان، كانوا يجاورونهم في الدنيا ويخالطونهم ويعرفونهم بأسمائهم وأنسابهم، فينادونهم: أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللهِ وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ [الحديد:14]، ولاحظوا الأعذار التي قالوها، قالوا: بلى قد كنتم معنا في الدنيا، قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ [الحديد:14]، وفتنة النفس إنما تكون باتباع الهوى واتباع الشهوات، وَتَرَبَّصْتُمْ [الحديد:14]؛أي: بأهل الإيمان، فكنتم تكيدون لهم وتتمنون لهم المصائب؛ فلذلك قال: وَتَرَبَّصْتُمْ [الحديد:14]، ثم قال: وَارْتَبْتُمْ [الحديد:14]؛ أي: شككتم في موعود الله الذي لابد أن يتحقق، وهذه أخرت لأنها قاصمة الظهر، وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ [الحديد:14]، فكثير من أصحاب الذنوب ينسون ذنوبهم ويظنون أنها قد غفرت، فهم يودون أن يعطوا صحفاً منشرة فيها الحسنات، وأن يمحى عنهم السيئات، ولكن الواقع أن هذا مثل تمني اليهود الذين قالوا: إن لديهم عهداً من الله ألا يعذبهم إلا أياماً معدودات، والله تعالى كذب هذا العهد في سورة آل عمران، وبين أنه من أباطيلهم التي لا طائل من ورائها: وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة:80]؛ فلذلك قال في هؤلاء: وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللهِ [الحديد:14]، وهو الموت، وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ [الحديد:14]، وهو الشيطان، فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ المَصِيرُ [الحديد:15].

بعد هذا إذا نصب الصراط على متن جهنم يمر الناس عليه، ويتفاوتون بحسب أعمالهم؛ فمنهم من يمر كالبرق الخاطف، ومنهم من يمر كالريح المرسلة، ومنهم من يمر كأجاويد الخيل والإبل، ومنهم من يمر كالرجل يشتد عدواً، ومنهم من يزحف على مقعدته، فناج مسلم، ومخدوش مرسل، ومكردس على وجهه في نار جهنم، فإذا نجا الناجون على الصراط ووصلوا إلى باب الجنة فأول من يكسى من حرير الجنة إبراهيم عليه السلام، يكسى من الديباج الأبيض، وأول من يحرك حلقة الباب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فيشفع لأهل الجنة في دخول الجنة، فإذا شفع شفعه الله، ففتحت أبواب الجنة الثمانية، وينادى من كل باب أصحابه، فباب الصلاة ينادى منه أهل الصلاة، وباب الصدقة ينادى منه أهل الزكاة والصدقات، وباب اسمه (الريان) لا يدخل منه إلا الصائمون، فإذا دخلوا منه أغلق فلم يدخل منه أحد، وباب الجهاد يدخل منه أهل الجهاد، وباب البر والصلة يدخل منه أهلهما، وهكذا حتى تنتهي أبواب الجنة، ومن الناس من يدعى من جميع أبواب الجنة، ينادى باسمه من جميع أبواب الجنة الثمانية فيخير من أي باب شاء دخل، فهذه الشفاعة في دخول الجنة مختصة بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

ثم الشفاعة السابعة: هي الشفاعة في رفع منزلة بعض أهل الجنة؛ لأن أهل الجنة إذا دخلوها منهم من يستحق أن يكون من أصحاب اليمين، ومنهم من يستحق أن يكون من المقربين، فالمقربون في الفردوس الأعلى من الجنة التي سقفها عرش الرحمن؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس الأعلى من الجنة )، وهي منزلة الأنبياء والشهداء والصديقين والصالحين؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لـأم حارثة حين سألته عن ولدها قالت: ( أفي الجنة هو فأصبر أم في غير ذلك فترى ما أصنع؟ فقال: أوَ جنة هي؟! إنما هي جنان، وابنك في الفردوس الأعلى منها )، فأولئك الذين لا يستحقون الفردوس الأعلى من الجنة ولا يستحقون الدرجات العالية في الجنة تنفعهم شفاعة الشافعين، فتعلى منزلتهم وترفع حتى يصلوا إلى المستوى الذي يرغبون فيه، وأهل الجنة يتراءون الغرف كما يتراءى أهل الأرض الكوكب الدري في السماء، من تباعد المنازل فيما بينهم.