خطب ومحاضرات
تفسير سورة لقمان - تابع تفسير الآية رقم [2]
الحلقة مفرغة
الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونؤمن به ونتوكل عليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.
الحمد لله رب العالمين، شرع لنا دينا قويماً، وهدانا صراطاً مستقيماً، وأسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة، وهو اللطيف الخبير.
اللهم لك الحمد كله، ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر كله، أنت رب الطيبين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولي الصالحين، وخالق الخلق أجمعين ورازقهم، وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [هود:6]. يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ [فاطر:3].
وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين، فشرح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبياً عن أمته، ورضي الله عن أصحابه الطيبين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
القول الثاني في بيان المراد باسم الإشارة: أن اسم الإشارة هنا (تلك) للبعيد، والمشار إليه بعيد، واختلف في تعيين ذلك البعيد كما قال القرطبي على عشرة أقوال، وتلك الأقوال ذكرها الإمام الرازي وزاد عليها، أنا سأجملها في تسعة، بحيث تصل على التفصيل أحد عشر قولاً إن شاء الله، في بيان المراد باسم الإشارة (تلك) على أن المشار إليه بعيد غائب، ليس بحاضر قريب.
يعني البحث عندما يكون في المفردات اللغوية قد يكون فيه شيء من الجفاف، ولذلك ندخل من حديث إلى حديث ونربط هذا ببحثنا، لأجل أن يصبح في البحث شيء من الطراوة.
على القول بأن المراد هنا إذاً مشار إليه غائب بعيد، فما المراد بذلك المشار؟ هو أن اسم الإشارة الآن على ظاهره، صيغة بعيدة مشار بها إلى بعيد، فلا تناوب، ولا تعاوض، ولا وضع، ولا نكتة، عندما عبر بالبعيد عن البعيد، ما هي هذه الأقوال؟
بيان أن المراد بالإشارة بـ(تلك) ما وعد به النبي من نزول كتاب عليه
ثبت في السنة ما يشير إلى هذا الوعد، ففي مسند الإمام أحمد وصحيح مسلم، وإذا ذكرت كما قلت -إخوتي الكرام- الحديث في الصحيحين أو في أحدهما فلا داعي أن نقول: إنه صحيح؛ لأن هذا مقطوع به، فكونوا على علم بذلك، إذا لم يكن الحديث في أحد الصحيحين أشير إلى درجته إن شاء الله.
وفي صحيح مسلم والمسند عن عياض بن حمار المجاشعي قال: قام فينا النبي صلى الله عليه وسلم خطيباً ذات يوم، فقال: (إن ربي أمرني أن أعلمكم ما علمني في يومي هذا مما جهلتم)، أي: أعلمكم في يومي هذا ما جهلتموه، مما علمني ربي وأنزل علي، (كل مال نحلته عبداً فهو حلال) هذا حديث قدسي، ولم يصرح النبي عليه صلوات الله وسلامه بإضافته إلى ربه، كأنه يقول: قال الله تعالى: كل مال نحلته عبداً فهو حلال، الله سخر لنا ما في السموات والأرض، والناس هم الذين أحلوا وحرموا كما فعل المشركون عندما جعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً، فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا، كما فعلوا بالوصيلة، والسائبة، والحامي، والبحيرة.. الشرائع الشيطانية التي كانوا يشرعونها.
إذاً: الأصل في الأشياء الحل، ولا يثبت التحريم إلا بنص، عندما يأكل الإنسان البندورة، لا يلزم أن يستدل على ذلك بنص جزئي في حل البندورة، كلوا البندورة فإنها حلال، عندما يأكلها يقول: كيف تأكل؟ قل: سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [لقمان:20]، بين لنا ما حرم علينا، وما سكت عنه فهو داخل في دائرة الإباحة، الأصل في الأشياء الإباحة والحل.
(كل مال نحلته عبداً فهو حلال) أي: يقول الله: (وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم على الإسلام وعلى الفطرة، فاجتالتهم الشياطين عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم ينزل به سلطاناً).
هذا الحديث القدسي: (وإن الله نظر إلى أهل الأرض، فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب)، والمقت: هو أشد الغضب وأعظم أنواع السخط، كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ [الصف:3]، ولذلك نكاح المقت هو: أن يتزوج الإنسان منكوحة أبيه، هذا ليس فاحشة، بل هذا مقت أيضاً، وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا [النساء:22]، بينما في الزنا: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا [الإسراء:32]، وأما هنا نكاح امرأة الأب، والمعتمد عند الحنابلة وهذا أظهر أقوال الإسلام: أن من وطئ إحدى محارمه من منكوحة أبيه أو غيرها ممن تحرم عليه على التأبيد يقتل كيفما كان حاله، سواء بعقد أو بعهر بغير عقد، إذا وطئ إحدى محارمه فحده القتل؛ لأنه فرج محرم قطعي التحريم، لا يباح بحال، ليس للإنسان في ذلك شبهة.
وقد ثبت في المستدرك وغيره، من حديث البراء بن عازب (أنه رأى عمه يحمل راية، فقال: إلى أين؟ قال: إلى ذاك الذي تزوج زوجة أبيه، فقد أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أضرب رقبته، وأن آخذ ماله)، أي: فيئاً لبيت المال، أي أنه يقتل ويؤخذ هذا المال بعد ذلك فيئاً.
إذاً: (إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب).
والسبب في المقت: الظلام الذي خيم على البشرية قبل بعثة خير البرية عليه صلوات الله وسلامه، إلا بقايا من أهل الكتاب الذين يتمسكون بالدين الحق، الذي كان عليه نبينا عيسى على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه.
(وقال الله: -أي للنبي عليه الصلاة والسلام-: إني بعثتك لأبتليك، وأبتلي بك، وأنزلت عليك كتاباً)، أي: سأنزل عليك كتاباً، وأخبر عنه بصيغة الماضي لتحقق نزوله (لا يغسله الماء، تقرؤه نائماً ويقظان)، إذاً: وعد الله نبيه عليه الصلاة والسلام عند بعثته بأن ينزل عليه كتاباً لا يغسله الماء، (أناجيلهم صدورهم)، ليست هذه الصحف بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ [العنكبوت:49]، ولو أحرقت المصاحف عن بكرة أبيها، فلا يحصل تغيير في هذا القرآن، والمصاحف التي في القلوب تساوي المصاحف التي في السطور، أناجيلهم صدورهم: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر:17].
وهذا محل الشاهد، لكن من باب استعراض كمال الحديث، للننظر إلى أحكامه، ولنخرج من هذا البحث الذي هو بحث لغوي محض في بدء هذه السورة، (وقال الله لي: حرق قريشاً -أي: قاتلهم وحرقهم- فقلت: ربى! إذاً يثلغوا رأسي حتى يدعوه خبزة) أي: يقطعوه ويشقوه كما يقطع الخبز ويشق، وقال لي ربي: حرق قريشاً، أي: قاتلهم واصدع بالحق فيهم ولا تبال، (فقلت ربي: إذاً يثلغوا رأسي حتى يدعوه خبزاً، فقال الله لي: استخرجهم كما استخرجوك، واغزهم نغزك -أي: نمكنك منهم ونعينك عليهم- وأنفق ينفق عليك، وابعث جيشاً نبعث خمسة مثله، وقاتل بمن أطاعك من عصاك، وأهل الجنة ثلاثة: إمام مقسط متصدق موفق)، إذا لم يكن الإمام من هذا الصنف فهو من أهل النار، أمير مقسط، يتصدق ويتفقد الرعية، ويواسي الفقراء والمحتاجين، ومجالسه يحضرها أهل الحاجة والمسكنة، لا أهل الكبرياء والغطرسة، (إمام مقسط متصدق موفق، ورجل رحيم القلب على كل ذي قربى ومسلم، وعفيف متعفف ذو عيال)، أي: عفيف في نفسه، عندما تعطيه يتعفف ويقول: أنا في نعمة وستر وعافية، وعنده عيال، هؤلاء من أهل الجنة.
(وأهل النار خمسة: الضعيف الذي لا زَبر له، الذين هم فيكم تبعاً، لا يتبعون أهلاً ولا مالاً)، الذي لا زبر له: أي: لا عقل له، ولا يقصد بالعقل هنا العقل الغريزي، أي: المجنون، إنما يقصد هنا به الأحمق السفيه الذي هو عالة على غيره، همه أن يأخذ من هذا وذاك، ولذلك ليس له زوجة، وليس له عمل، عاطل باطل، لا في دين ولا في دنيا، لا زبر له، لا يتبع شيئاً، ليس عنده أهل ولا مال، يحتال على هذا، وينصب على هذا، ويتطفل على هذا، يعيش عالة على الناس، كما هو الموجود في كثير من الناس عندما تصل بهم الدناءة والخسة إلى هذا.
انطباق وصف الضعيف الذي لا زبر له على قسس النصارى
ولذلك عندنا في بلاد الشام إذا أراد أن يخبر عن حقارة إنسان يقال: أكذب من الخوري والقسيس على الله يوم الأحد! عندما يجلس يوم الأحد يكذب على الله، اسمع من الكذب الذي إبليس ما سمع به، هذا قسيس!
إذاً: الدين ليس عنده عبادة، وأما الدنيا جالس فتراه مثل الثوب في جسمه، طيب! أنت في الأصل زاهد، اعتكفت في هذه الصومعة وفي هذه الكنيسة، ينبغي أنك تكون مثل العود، رقبته فقط أغلظ من رقبة الثور، يأكل حقيقة والله ما لا تأكله عشرة ثيران، ويحرم عليه النكاح، إذ لا يجوز أن يتزوج؛ لكن يجوز أن يزني، فالزواج حرام والزنا حلال، يزني في اليوم أحياناً بعشر نسوة، هذا قسيس! هذا هو الضعيف الذي لا زبر له.
(الذين هم فيكم تبعاً، لا يتبعون أهلاً ولا مالاً). وهذا حال القسس، وانظر للنصارى مع قسسهم، لو أن قسيساً لعيناً يقول في أمريكا سيجمع مائة ألف دولار، مليون دولار، عشرة ملاين دولار في يوم كذا قبل أن تشرق الشمس، لوضعت أمامه على الطاولة في الكنيسة قبل أن تشرق الشمس، هذا حاله!
وانظر بعد ذلك لعلماء هذه الأمة في هذه الأمة، إذا سلموا من أذى الناس فهم في نعمة، أما الإكرام فلا يخطر هذا على بال علماء الإسلام الصالحين ولا يريدونه من أحد.
رأى مرة بعض الناس رجلاً معه ثعلب قبض عليه، قيل: ماذا ستفعل بهذا الثعلب؟ قال: سأعذبه عذاباً شديداً، قال: ولمَ؟، قال: كل فترة يأتي ويأكل لي الدجاج، وأنا أطارده من جهة إلى جهة، وأمكنني الله منه، سآخذه الآن أمثل به تمثيلاً ما رآه مخلوق على وجه الأرض، قال: أتريد أن تعذبه؟ قال: نعم -والذي يكلمه طالب علم- قال: خذ هذه العمة وضعها على رأسه واتركه يعاني من هذه الأمة ما يعاني، لا يطارد في الحياة إلا علماء الإسلام، والله إن طالب العلم الصادق في هذه الأيام ما تمر عليه -لا أقول ليلة- لحظة إلا ويتوقع فيها إما القتل وإما الاعتقال، لمَ هذا؟ هل سمعتم عن قسيس في بلاد النصارى يعتقل؟ لا إله إلا الله!
انحطاط المسلمين وتضييع أقدار العلماء الربانيين
وأما ذاك يقال عنه بكل قلة حياء: هذا الشيخ في السجن زي الكلب، العلماء صاروا مثل الكلاب، هذا حالنا! على من يصب أليم العذاب في بلدان المسلمين؟ الزاني واللوطي والسكير والعربيد والمرابي كل هؤلاء كما يقال: يتمتعون بأقصى أنواع الحريات، في حالهم، في حال محاربة رب الأرض والسماء، وأما هذا فهل يوجد أحد يضيق عليه؟ أجهزة المخابرات في بلاد المسلمين هل تطارد الزناة؟ تطارد اللوطيين؟ تطارد البنوك؟ تطارد السينمات؟ من تطارد؟ تطارد الذين لا يصلون، أم تطارد من هم في المسجد وعلى الخصوص خطيب الجمعة فقط؟ خطيب الجمعة هذا هو الذي تسجل خطبته، وبعد ذلك يحقق معه.
وصل الانحطاط في بعض بلدان المسلمين، أن الخطيب قال: إن الزنا حرام، فاستدعي بعد الخطبة مباشرة، قيل له: لم تتدخل في الشئون الاجتماعية؟ قال: يا جماعة هذا مقرر في كتاب الله: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى [الإسراء:32]، قال: الدين شيء والحياة الحاضرة شيء آخر، مرة ثانية تقول الزنا حرام، أو السفور حرام، أو الخمر حرام، نقطع رقبتك لا لسانك، أنت فقط تقول للناس: اصدقوا الحديث، أدوا الأمانة، صلوا، صوموا، وما شاكل هذا، أما أن تعالج شئون الحياة، وتقول: الزنا حرام، وهذا زنا، فلا؛ مع أنه ما قال: ينبغي أن يجلد، وأن يرجم، والحكومة مقصرة، وإنما يحذرهم فقط من الزنا!
يقولون: أمور اجتماعية لا دخل لك فيها، هذا يعالجه القانون، هكذا وصل الانحطاط في بلدان المسلمين، لا يجوز أن يقال على المنبر إن الزنا حرام.
طيب، ماذا يوجد في الكنائس بعد ذلك؟ كل كذب وخيانة، وكل غدر ومكر بالمسلمين، وجدت في بعض الكنائس دبابات، توضع في القبو -في البدروم- لأجل ما يخططونه للمسلمين في المستقبل، وهذه كلها يستر عليها وتمشي بسلام، وإذا وجدوا معك أنت مسدساً فالله يعينك! أردت مرة أن أدخل إلى بعض الدوائر، فكان على الباب مسئول كأنه يعرفني، قبل رأسي، ثم قال: أنا عبد مأمور، قلت: ماذا تريد؟ قال: أريد أن أفتش، فقلت: فتش! ماذا عندك؟ أليس هذا من الذل إخوتي الكرام؟ مسلم في بلدان المسلمين، بغض النظر عن كونه عالماً أم لا، يفتش على الباب.
طيب، الذي يريد أن يغتال القاضي أو غيره، عندما يدخل لمحكمة شرعية، يعني: ألا يمكن أن يغتاله في الخارج؟ لمَ هذه السفاهة؟ يعني: لا دين ولا دنيا، مجرد حماقة وإذلال للعباد، قال: عبد مأمور، قلت: فتش!
مد يده إلى جيبي من الخارج، قال: إيش هذا يا شيخ، قلت: كما ترى سكين لأجل قطع يعني: أحياناً أمور في هذه الحياة إما من فاكهة إما من خيط أو كذا، قال: هذا ممنوع تدخل به في هذه الدائرة، قلت: ماذا تريد؟ قال: اتركه عندي، يعني: ما يريد أن يعمل معي تحقيقاً، لا ملف ولا تحويل للقضاء، اتركه عندي، عندما تخرج تأخذه.
قلت: طيب، لا إله إلا الله! فلما خرجت ذاك بتقدير الله، ذهب وجاء واحد آخر، لكن أعطى المسئول الذي كان يفتش هذه القطعة لذاك، فلما جئت قلت: أين المسئول الذي كان هنا، قال: ماذا تريد؟ قلت: أخذ مني حاجة وكذا، قال: أنت صاحب السكين؟ أنا لا أريد أن أقول سكيناً، قلت: يا عبد الله! يعني المسألة دعها الآن في ستر الله، قال: أنتم مطاوعة يا أخي، كيف تحمل السكاكين في جيبك؟!
أقول: المطاوعة لابد أن يحملوا السكاكين والرشاشات، من الذي يحملها؟ الله جل وعلا رخص لنا ترخيصاً فقط: وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ [النساء:102]، وإلا حمل السلاح حتى في الصلاة مشروع، لاسيما إذا كانت الأمة في أحوال يخشى منها، قال: لا يا شيخ، المطاوعة هؤلاء ما لازم يحملون السلاح، قلت: لازم المطاوعة يكونون مثل الأنعام، كل واحد يذبحه ويركب على ظهره، ما يقول له: ماذا تفعل؟ لا إله إلا الله!
انطباق وصف الضعيف الذي لا زبر له على بعض شيوخ الصوفية
مخرف صوفي يخلو بالنساء، ويأكل الأموال، وليس أي عمل، بطال، إنما هذا تنكة سمن، وهذا علبة لبن، وهذا فلوس، وهذا شاة، وهذا وهذا، (ضعيف لا زبر له، الذين هم فيكم تبعاً، لا يتبعون أهلاً ولا مالاً)، لا يقوم برعاية أهل وأسرة، ويكدح ويتعب ويعمل من أجلهم، وليس عنده مال ينميه، كما قلنا: لا دين، ولا دنيا، عالة على غيره.
(والخائن الذي لا يخفى له طمع وإن دق إلا خانه)، كلمة يخفى، بمعنى يظهر، وأخفى بمعنى: كتم وأسر، وقيل كل من الصيغتين يستعمل في الإظهار وفي الإخفاء، فهذا من الألفاظ المتضادة.
يقال: أخفى وخفى، أخفى بمعنى: أسر، أخفى بمعنى: أظهر، خفى الشيء بمعنى: أظهره، خفى الشيء بمعنى: كتمه، من الألفاظ المتضادة، فهذا مثل أسر: سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ [الرعد:10]، أسروا قولكم: هنا بمعنى أخفوه، وأسروا النجوى: أخفوها، والله جل وعلا يقول: وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ [يونس:54] يوم القيامة بمعنى: أظهروها وأعلنوها، فالإسرار بمعنى الإظهار وبمعنى الكتمان، ومثل الخوف، يأتي بمعنى الوجل وبمعنى الأمل، وهذا الذي ألف فيه كتب الأضداد في اللغة، وهنا الخائن الذي لا يخفى له طمع: معنى لا يخفى: أي: لا يظهر له طمع وإن دق إلا خانه، هذان صنفان من أهل النار.
والثالث: (رجل لا يصبح ولا يمسي إلا وهو يخادعك عن أهلك ومالك)، يريد أن يعتدي على عرضك، أو أن يأخذ منك المال، فهو خداع.
والصنف الرابع: (البخيل أو الكذاب)، شك الراوي.
والخامس: (هو الشنظير، قيل: وما الشنظير؟ قال: الفحاش) أي: سيئ الخلق.
القول الأول: قيل: إن الله وعد نبيه عليه صلوات الله وسلامه بأن ينزل عليه كتاباً عندما بعثه، فأشار ربنا جل وعلا في هذه الآية وفي نظائرها إلى الوفاء بذلك الوعد الذي وعده به عندما بعثه: تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ [يونس:1] أي: ذلك الكتاب الذي وعدناك بإنزاله، هذا هو، إذاً: (تلك) يشار إلى ذلك الوعد الغائب البعيد، هل الله وعد نبيه عليه صلوات الله وسلامه بأن ينزل عليه كتاباً؟ نعم، ورد هذا في الحديث وورد في القرآن، وهذان القولان اعتبرتهما واحد، والقرطبي جعلهما قولين، لذلك قلت: ستكون تسعة، لكن بعد ذلك أزيد قولاً من الرازي فتصبح أحد عشر قولاً.
ثبت في السنة ما يشير إلى هذا الوعد، ففي مسند الإمام أحمد وصحيح مسلم، وإذا ذكرت كما قلت -إخوتي الكرام- الحديث في الصحيحين أو في أحدهما فلا داعي أن نقول: إنه صحيح؛ لأن هذا مقطوع به، فكونوا على علم بذلك، إذا لم يكن الحديث في أحد الصحيحين أشير إلى درجته إن شاء الله.
وفي صحيح مسلم والمسند عن عياض بن حمار المجاشعي قال: قام فينا النبي صلى الله عليه وسلم خطيباً ذات يوم، فقال: (إن ربي أمرني أن أعلمكم ما علمني في يومي هذا مما جهلتم)، أي: أعلمكم في يومي هذا ما جهلتموه، مما علمني ربي وأنزل علي، (كل مال نحلته عبداً فهو حلال) هذا حديث قدسي، ولم يصرح النبي عليه صلوات الله وسلامه بإضافته إلى ربه، كأنه يقول: قال الله تعالى: كل مال نحلته عبداً فهو حلال، الله سخر لنا ما في السموات والأرض، والناس هم الذين أحلوا وحرموا كما فعل المشركون عندما جعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً، فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا، كما فعلوا بالوصيلة، والسائبة، والحامي، والبحيرة.. الشرائع الشيطانية التي كانوا يشرعونها.
إذاً: الأصل في الأشياء الحل، ولا يثبت التحريم إلا بنص، عندما يأكل الإنسان البندورة، لا يلزم أن يستدل على ذلك بنص جزئي في حل البندورة، كلوا البندورة فإنها حلال، عندما يأكلها يقول: كيف تأكل؟ قل: سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [لقمان:20]، بين لنا ما حرم علينا، وما سكت عنه فهو داخل في دائرة الإباحة، الأصل في الأشياء الإباحة والحل.
(كل مال نحلته عبداً فهو حلال) أي: يقول الله: (وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم على الإسلام وعلى الفطرة، فاجتالتهم الشياطين عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم ينزل به سلطاناً).
هذا الحديث القدسي: (وإن الله نظر إلى أهل الأرض، فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب)، والمقت: هو أشد الغضب وأعظم أنواع السخط، كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ [الصف:3]، ولذلك نكاح المقت هو: أن يتزوج الإنسان منكوحة أبيه، هذا ليس فاحشة، بل هذا مقت أيضاً، وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا [النساء:22]، بينما في الزنا: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا [الإسراء:32]، وأما هنا نكاح امرأة الأب، والمعتمد عند الحنابلة وهذا أظهر أقوال الإسلام: أن من وطئ إحدى محارمه من منكوحة أبيه أو غيرها ممن تحرم عليه على التأبيد يقتل كيفما كان حاله، سواء بعقد أو بعهر بغير عقد، إذا وطئ إحدى محارمه فحده القتل؛ لأنه فرج محرم قطعي التحريم، لا يباح بحال، ليس للإنسان في ذلك شبهة.
وقد ثبت في المستدرك وغيره، من حديث البراء بن عازب (أنه رأى عمه يحمل راية، فقال: إلى أين؟ قال: إلى ذاك الذي تزوج زوجة أبيه، فقد أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أضرب رقبته، وأن آخذ ماله)، أي: فيئاً لبيت المال، أي أنه يقتل ويؤخذ هذا المال بعد ذلك فيئاً.
إذاً: (إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب).
والسبب في المقت: الظلام الذي خيم على البشرية قبل بعثة خير البرية عليه صلوات الله وسلامه، إلا بقايا من أهل الكتاب الذين يتمسكون بالدين الحق، الذي كان عليه نبينا عيسى على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه.
(وقال الله: -أي للنبي عليه الصلاة والسلام-: إني بعثتك لأبتليك، وأبتلي بك، وأنزلت عليك كتاباً)، أي: سأنزل عليك كتاباً، وأخبر عنه بصيغة الماضي لتحقق نزوله (لا يغسله الماء، تقرؤه نائماً ويقظان)، إذاً: وعد الله نبيه عليه الصلاة والسلام عند بعثته بأن ينزل عليه كتاباً لا يغسله الماء، (أناجيلهم صدورهم)، ليست هذه الصحف بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ [العنكبوت:49]، ولو أحرقت المصاحف عن بكرة أبيها، فلا يحصل تغيير في هذا القرآن، والمصاحف التي في القلوب تساوي المصاحف التي في السطور، أناجيلهم صدورهم: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر:17].
وهذا محل الشاهد، لكن من باب استعراض كمال الحديث، للننظر إلى أحكامه، ولنخرج من هذا البحث الذي هو بحث لغوي محض في بدء هذه السورة، (وقال الله لي: حرق قريشاً -أي: قاتلهم وحرقهم- فقلت: ربى! إذاً يثلغوا رأسي حتى يدعوه خبزة) أي: يقطعوه ويشقوه كما يقطع الخبز ويشق، وقال لي ربي: حرق قريشاً، أي: قاتلهم واصدع بالحق فيهم ولا تبال، (فقلت ربي: إذاً يثلغوا رأسي حتى يدعوه خبزاً، فقال الله لي: استخرجهم كما استخرجوك، واغزهم نغزك -أي: نمكنك منهم ونعينك عليهم- وأنفق ينفق عليك، وابعث جيشاً نبعث خمسة مثله، وقاتل بمن أطاعك من عصاك، وأهل الجنة ثلاثة: إمام مقسط متصدق موفق)، إذا لم يكن الإمام من هذا الصنف فهو من أهل النار، أمير مقسط، يتصدق ويتفقد الرعية، ويواسي الفقراء والمحتاجين، ومجالسه يحضرها أهل الحاجة والمسكنة، لا أهل الكبرياء والغطرسة، (إمام مقسط متصدق موفق، ورجل رحيم القلب على كل ذي قربى ومسلم، وعفيف متعفف ذو عيال)، أي: عفيف في نفسه، عندما تعطيه يتعفف ويقول: أنا في نعمة وستر وعافية، وعنده عيال، هؤلاء من أهل الجنة.
(وأهل النار خمسة: الضعيف الذي لا زَبر له، الذين هم فيكم تبعاً، لا يتبعون أهلاً ولا مالاً)، الذي لا زبر له: أي: لا عقل له، ولا يقصد بالعقل هنا العقل الغريزي، أي: المجنون، إنما يقصد هنا به الأحمق السفيه الذي هو عالة على غيره، همه أن يأخذ من هذا وذاك، ولذلك ليس له زوجة، وليس له عمل، عاطل باطل، لا في دين ولا في دنيا، لا زبر له، لا يتبع شيئاً، ليس عنده أهل ولا مال، يحتال على هذا، وينصب على هذا، ويتطفل على هذا، يعيش عالة على الناس، كما هو الموجود في كثير من الناس عندما تصل بهم الدناءة والخسة إلى هذا.
قال بعض الكسالى معبراً عن هذا: والله ما فقرنا اضطرار، إنما فقرنا اختيار وأكلنا ما له عيار! فنحن جماعة كلنا كسالى، هذا هو الضعيف الذي لا زبر له، أو لا تدرون من هم؟ أول ما ينطبق هذا الوصف على قسس النصارى عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة، ليس له عمل لا في دين ولا في دنيا، أما في الدين فأكذب خلق الله، أكذب من الشيطان الرجيم، الشيطان إذا رأى القسيس يبتعد عنه خشية أن يزيده خبثاً وفساداً.
ولذلك عندنا في بلاد الشام إذا أراد أن يخبر عن حقارة إنسان يقال: أكذب من الخوري والقسيس على الله يوم الأحد! عندما يجلس يوم الأحد يكذب على الله، اسمع من الكذب الذي إبليس ما سمع به، هذا قسيس!
إذاً: الدين ليس عنده عبادة، وأما الدنيا جالس فتراه مثل الثوب في جسمه، طيب! أنت في الأصل زاهد، اعتكفت في هذه الصومعة وفي هذه الكنيسة، ينبغي أنك تكون مثل العود، رقبته فقط أغلظ من رقبة الثور، يأكل حقيقة والله ما لا تأكله عشرة ثيران، ويحرم عليه النكاح، إذ لا يجوز أن يتزوج؛ لكن يجوز أن يزني، فالزواج حرام والزنا حلال، يزني في اليوم أحياناً بعشر نسوة، هذا قسيس! هذا هو الضعيف الذي لا زبر له.
(الذين هم فيكم تبعاً، لا يتبعون أهلاً ولا مالاً). وهذا حال القسس، وانظر للنصارى مع قسسهم، لو أن قسيساً لعيناً يقول في أمريكا سيجمع مائة ألف دولار، مليون دولار، عشرة ملاين دولار في يوم كذا قبل أن تشرق الشمس، لوضعت أمامه على الطاولة في الكنيسة قبل أن تشرق الشمس، هذا حاله!
وانظر بعد ذلك لعلماء هذه الأمة في هذه الأمة، إذا سلموا من أذى الناس فهم في نعمة، أما الإكرام فلا يخطر هذا على بال علماء الإسلام الصالحين ولا يريدونه من أحد.
رأى مرة بعض الناس رجلاً معه ثعلب قبض عليه، قيل: ماذا ستفعل بهذا الثعلب؟ قال: سأعذبه عذاباً شديداً، قال: ولمَ؟، قال: كل فترة يأتي ويأكل لي الدجاج، وأنا أطارده من جهة إلى جهة، وأمكنني الله منه، سآخذه الآن أمثل به تمثيلاً ما رآه مخلوق على وجه الأرض، قال: أتريد أن تعذبه؟ قال: نعم -والذي يكلمه طالب علم- قال: خذ هذه العمة وضعها على رأسه واتركه يعاني من هذه الأمة ما يعاني، لا يطارد في الحياة إلا علماء الإسلام، والله إن طالب العلم الصادق في هذه الأيام ما تمر عليه -لا أقول ليلة- لحظة إلا ويتوقع فيها إما القتل وإما الاعتقال، لمَ هذا؟ هل سمعتم عن قسيس في بلاد النصارى يعتقل؟ لا إله إلا الله!
استمع المزيد من الشيخ عبد الرحيم الطحان - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
تفسير سورة لقمان - مقدمة في تفسير سورة لقمان [2] | 2910 استماع |
تفسير سورة لقمان - الحروف المقطعة في أوائل السور [6] | 2722 استماع |
تفسير سورة لقمان - الحروف المقطعة في أوائل السور [3] | 2686 استماع |
تفسير سورة لقمان - الحروف المقطعة في أوائل السور [1] | 2550 استماع |
تفسير سورة لقمان - الحروف المقطعة في أوائل السور [4] | 2372 استماع |
تفسير سورة لقمان - مقدمة في تفسير سورة لقمان [1] | 2323 استماع |
تفسير سورة لقمان - الحروف المقطعة في أوائل السور [5] | 2291 استماع |
تفسير سورة لقمان - مقدمة في تفسير سورة لقمان [3] | 2264 استماع |
تفسير سورة لقمان - الحروف المقطعة في أوائل السور [2] | 2133 استماع |
تفسير سورة لقمان - تفسير الآية رقم [2] | 1944 استماع |