تفسير سورة لقمان - مقدمة في تفسير سورة لقمان [3]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، شرع لنا دينا قويماً، وهدانا صراطاً مستقيماً، وأسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة، وهو اللطيف الخبير.

اللهم لك الحمد كله، ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر كله، أنت رب الطيبين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولي الصالحين، وخالق الخلق أجمعين ورازقهم، فما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها، ويعلم مستقرها ومستودعها، كل في كتاب مبين.

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ [فاطر:3].

وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين، فشرح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبياً عن أمته، ورضي الله عن أصحابه الطيبين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

كنا نتدارس في الدرس الماضي الأسباب التي دعتنا لاختيار تفسير سورة لقمان قبل غيرها، وذكرت أن الذي دعاني لذلك ثلاثة أسباب، والسبب الثالث هو أن هذه السورة مكية، وإذا كانت مكية فينبغي أن نبحث في طبيعة القرآن الكريم؛ لأن حال الناس في هذه الأيام يشبه حال الناس في الجاهلية قبل بعثة خير البرية عليه صلوات الله وسلامه، فالقرآن المكي نقلهم من السفاهة والضلالة إلى الهدى والرشاد، فلعلنا نحذو حذوهم عندما نتعرف على طبيعة القرآن المكي، وكيف ربى الله عباده في العصر الأول.

وتقدم أن القرآن المكي دار محور حديثه على ثلاثة أمور:

الأمر الأول: ربط القلوب بعلام الغيوب عن طريقين اثنين: الأول: بيان ما لله جل وعلا من صفات، فهو رب العالمين، له الأسماء الحسنى يتصف بكل كمال ويتنزه عن كل نقصان، ينبغي أن نفرده بالعبادة وحده لا شريك له، فهذا حقه علينا، سنؤول إليه بعد ذلك ليحاسبنا على أعمالنا: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة:7-8].

الطريق الثاني: بناء القلوب، فكانت الإشارة إلى حال هذا الإنسان، فهو ضعيف فقير قسراً واضطراراً، فينبغي أن يتذلل لربه جل وعلا طوعاً واختياراً، بهذين الأمرين تبنى القلوب، ويحصل فيها الخشية من علام الغيوب.

والأمر الثاني الذي تحدث عنه القرآن المكي: الإشارة إلى أمهات الفضائل ومكارم الأخلاق، وقلت: لا نسخ فيها بين الشرائع، فهذه الأخلاق الفاضلة وصى بها الله النبيين ليبلغوها إلى أممهم -على نبينا وعلى جميع الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه- ولا تختلف من شريعة إلى شريعة.

والأمر الثالث: القصص، والإشارة إلى أحوال الأمم الغابرة، والقرون البائدة، وذكرت العبر من ذلك.

ووعدت بمزيد من التفصيل عند مدارسة قصة العبد الصالح لقمان عليه رضوان الله ورحمته وعلى جميع المؤمنين والمؤمنات في جميع العصور والدهور.

لهذه الأمور الثلاثة غير الله جل وعلا فكر الإنسان في العصر المكي، وغير طريقة التفكير عند الإنسان.

أما الفكر فقلت: كان الإنسان يلهث وراء الشهوة والمنفعة العاجلة، فجعله الإسلام بهذه القيم والموازين الثابتة يطلب رضوان الله جل وعلا، فصار مقياس عمله والذي يحركه ويسكنه رضوان الله فيفعله، أو سخط الله وغضبه فيتركه، أي: حلال يفعله، حرام فيتركه، إذاً هذا صار مقياس عمل الإنسان في العصر المكي عند المؤمنين بالله جل وعلا، وهذا ينبغي أن يكون هو المقياس عند المؤمنين في جميع العصور، فيكون الدافع لأفعالنا ولحركاتنا وسكناتنا وحبنا وبغضنا رضوان الله جل وعلا وسخطه، فما يرضيه نفعله، وما يغضبه نتركه، ولا نبحث بعد ذلك في شيء آخر على الإطلاق.

فالصحابة الكرام رضوان الله عليهم عكفوا على هذا حتى صار وصفاً لهم، ولذلك بعدما رسخ هذا الأمر في أذهانهم وقلوبهم نزلت آيات الأحكام والحلال والحرام، فنهوا عن الزنا، وعن شرب الخمر، وعن الربا بعد أن تطهرت القلوب، ولو نهوا عن هذه القاذورات من أول الأمر لما فعلوا، كما قالت أمنا عائشة رضي الله عنها: (لو قيل لهم في أول الأمر: لا تشربوا الخمر لقالوا: لا ندع الخمر أبداً، ولو قيل لهم: لا تزنوا لقالوا: لا نترك الزنا أبداً، أنزل على النبي عليه الصلاة والسلام وأنا جارية ألعب: بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ [القمر:46]، من سورة القمر، وما نزلت عليه البقرة والنساء إلا وأنا عنده في المدينة)، رضوان الله عليها وصلوات الله وسلامه على نبينا وعلى آله وصحبه أجمعين، والحديث في صحيح البخاري.

فإذاً: لابد من غرس هذه الأمور في قلوب الناس.

قلنا: والشريعة الإسلامية وما نزل من قرآن في مكة عن طريق تلك الأمور، أزال العقدة الكبرى عند الإنسان، فأخبره بمن أوجده ولم وجد؟ وإلى أي شيء سيصير؟ ولذلك عندما وعى المسلمون هذه المعاني أقبلوا على كتاب الله جل وعلا، وعلى شريعته المطهرة، فكانوا يتلونه ويحفظونه ويفهمونه، ويعملون بما فيه، ويحترسون من خصال الجاهلية، كما تقدم معنا في أول درس عند أحوال الصحابة الكرام وأثر القرآن فيهم.

فتغيرت أفكار الناس، حيث كانوا يبحثون عن دريهمات وعن متاع زائل، فبدءوا يبحثون عن رضوان الله جل وعلا، فطهر القلب فاستقامت بعد ذلك سائر الجوارح.

كما تغيرت طريقة التفكير في العصر المكي، فالقرآن ما نزل جملة واحدة، إنما نزل شيء منه في أول الأمر بذكر الجنة والنار، وربط القلوب بعلام الغيوب، ثم بعد ذلك نزل الحلال والحرام.

طريقة التفكير تغيرت، إذ ليس من الحكمة أن تنزل آيات ومعلومات كثيرة ليطبقها الناس بعد عشر سنين، فهذا ليس بكتاب ثقافة، ولا ترف فكري، إنما هذه عقيدة، وهذا منهاج حياة، ينبغي أن يبنى هذا الدين في الجماعة، وينبغي أن تقوم الجماعة بهذا الدين، ولذلك كان يأخذ الله جل وعلا بأيدي المؤمنين في العصر المكي رويداً رويداً، ليؤسس الإيمان في قلوبهم، حتى إذا أمروا بعد ذلك بأمر أو نهوا عن شيء يستجيبون.

أما أن تنزل الأوامر والنواهي وليس في الإمكان تطبيقها في أول الأمر، لا على أنفسهم، ولا على مجتمعهم، فهذا بعيد من الحكمة، فطريقة التفكير أيضاً تغيرت، ما يلزمهم في ذلك الوقت كان الوحي ينزل على نبينا صلى الله عليه وسلم به، فيتدارسونه ويفهمونه ويعملون به، هم عباد والله جل وعلا ربهم، إذاً ينبغي أن يطيعوه وأن يفردوه بالعبادة، وأن يخلعوا عبادة ما دونه، هذا ينبغي أن تؤسس عليه القلوب في العصر الأول، فهذا الدين دين الأمة ليس بدين فردي، إذاً: ينبغي أن يبنى الدين في الجماعة، وأن تقوم الجماعة على الدين، وهذا الذي حصل في العصر المكي.

ثبت في المستدرك (1/35)، بسند صحيح على شرط الشيخين أقره عليه الذهبي ، والإمام العراقي في تخريج أحاديث الإحياء ذكر أن الحديث صحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (عشنا برهة من دهرنا، وإن أحدنا يؤتى الإيمان قبل القرآن)، بنيت القلوب على علام الغيوب، وما نزل قرآن كثير ليعملوا به في المستقبل، (وكانت السورة تنزل على النبي عليه الصلاة والسلام فنتعلم حلالها وحرامها، وما ينبغي أن يوقف عندها، كما تتعلمون أنتم القرآن)، أي: نحن رسخ الإيمان في قلوبنا، فعندما تنزل السورة نتعلم ماذا يريد الله منا بهذه السورة، فنتعلم حلالها وحرامها، وما ينبغي أن يوقف عندها، كما تتعلمون أنتم القرآن، (ولقد رأيت رجالاً بعد أن انتشر الإسلام وتوسع، يؤتى أحدهم القرآن فيقرؤه من فاتحته إلى خاتمته، لا يدري أمره ولا زجره، ولا ما ينبغي أن يوقف عنده، ينثره نثر الدقل) أي: رديء التمر، فالله جل وعلا غير تفكير الناس في مكة، وغير طريقة التفكير.

إخوتي الكرام! يقول كثير من عتاة هذا العصر في هذا الوقت من شياطين الإنس: ماذا عندكم في دينكم من حلول لهذه البنوك؟ وماذا عندكم من حلول لمشاكل الناس؟ كأنهم آمنوا بالله جل وعلا، ودانوا له بالعبودية وعبدوه حقاً، وما بقي عندهم في الحياة إلا مشكلة البنوك لتزال وتحل، أو المشاكل الاقتصادية.

إن مجاراة هؤلاء في البحث في هذه الأمور سفاهة، وخروج عن الطريق المستقيم، أنت قبل أن تبحث في الأمور الاقتصادية، وفي مشاكل الإنسانية في هذا الوقت، هل أحكمت أصل الأصول (لا إله إلا الله محمد رسول الله عليه الصلاة والسلام)؟ وأنت عبد له ينبغي أن تفرده بالعبادة حسبما جاء عنده، إذا كان هذا في دينك وهو مسلم، فالحلول يسيرة وهي بين أيدينا؛ لكن إذا ضيعت هذا، وفرطت في الواضحات الجليات، ثم جئت لتلبس الأمر على المؤمنين والمؤمنات بقولك: ماذا عندكم من حلول؟ لتشغل المسلمين عن الأمر الحقيقي الذي ينبغي أن يصرفوا أذهانهم وجهدهم إليه، وهو تعبيد الخلق لخالقهم، وأن يكون الدين كله لله وحده لا شريك له، المشاكل الاقتصادية، والمشاكل الاجتماعية، كلها تزول عندما يعلم الإنسان أنه عبد لله جل وعلا، وأن الله جل وعلا له عليه حق الطاعة والعبادة في جميع شئون حياته.

لكن إذا كان الإنسان على ربه ظهيراً، ويظاهر الشيطان في العداوة، ثم يريد أن يجرنا بعد ذلك إلى بنيات الطريق: ماذا عندكم من حلول في أمور الاقتصاد، أو في مسائل الاجتماع؟ نحن أعلى من أن نخوض معك في هذه الطرق المعوجة، لا بد من إحكام أصل الأصول، وهو أنك عبد لخالق، فإن كنت تقر بهذا، وأن شريعته ينبغي أن تحكم في شئون الحياة، فالحلول سهلة يسيرة موجودة في متناول أيدينا، لكن إذا كنت تضيع هذا فكل حل بعد ذلك لن تأخذ به ولن ترضاه.

إذاً: كانوا يؤتون الإيمان قبل القرآن، فإذا نزلت السورة تعلموا حلالها وحرامها، كما يتعلم من بعدهم القرآن، ثم ما الذي حصل؟ لما دخل في الإسلام من لم يدرك العصر المكي، صار يقرأ القرآن من فاتحته إلى خاتمته لا يعرف أمره، ولا زجره، ولا ما ينبغي أن يوقف عنده، ينثره نثر الدقل، أي: رديء التمر.

وثبت في سنن ابن ماجة بسند صحيح، عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه، قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن فتيان حزاور)، جمع حزور وهو الشباب الممتلئ شباباً وقوة ونشاطاً، (فتعلمنا الإيمان قبل القرآن، ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيماناً).

ففي القرآن المكي في أول الأمر نزلت الآيات لتربط القلوب بعلام الغيوب، فإذا ربطت ينزل القرآن بعد ذلك فيقول: افعلوا واتركوا واجتنبوا، يتعلمون هذا، فيزدادون إيماناً، لكن الأصل إذا ضاع من القلوب، وإذا ذكرت حكماً للناس يؤلهون أنفسهم ويعترضون عليه بعقولهم، فإذاً ليس من الحكمة أن تذكر لهم الأحكام، لا بد من أن يبحث معهم في القضية الأولى وهي: لا إله إلا الله محمد رسول الله عليه صلوات الله وسلامه، وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36].

إخوتي الكرام! العصر المكي قام على هذه المعاني، الإنسان عبد خلقه الله، ينبغي أن يسعى لإرضائه في هذه الحياة، لينال رضوانه بعد الممات، هذه غايتنا وما أشرفها من غاية! وإذا لم تكن هذه الغاية غاية الإنسان، والله إن الانتحار أهنأ له في هذه الحياة من أن يعيش عيشة العجماوات.

ولذلك ثبت في تفسير ابن جرير وطبقات الإمام ابن سعد عن كعب القرظي رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما بايع الأنصار بيعة العقبة على أن يهاجر إلى المدينة المنورة، وحضر العباس رضي الله عنه -وكان لا زال على شركه- مع نبينا عليه الصلاة والسلام ليستوثق لابن أخيه، وتسلل الأنصار من مضاجعهم في ثلث الليل وفي وسط الليل إلى المكان الذي وعدوا فيه النبي عليه الصلاة والسلام، ثم تم الاتفاق بعد ذلك على أن يهاجر النبي عليه الصلاة والسلام إلى المدينة؛ ليقيم دولة الإسلام في طيبة، فقال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اشترط لنفسك ولربك، ماذا تريد من حقوق لك ولله، لنلتزم بالوفاء بها، قال: (أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأهليكم وأولادكم)، لا تخذلوني، وأنا سأكون غريباً بينكم، فإذا جئت إليكم تنصروني، ولا يصل الأعداء إلي، وأما الله فله عليكم حق العبادة والطاعة، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، فقال عبد الله بن رواحة: فما لنا إذا وفينا؟ أي: عبدنا الله وحده لا شريك له، ونصرناك، ومنعنا ما وصل إليك مكروه، فما لنا؟ قال: (الجنة)، والجنة ليست عاجلة، ليست في الدنيا، هذه بعد الموت.

ما لكم على هذا إلا رضوان الله! والجنة رحمة يرحم بها الله من يشاء، فقالوا: ربح البيع، لا نقيل ولا نستقيل.

هذه غاية عظيمة: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:111]، الجنة فقط!

وقد كان نبينا عليه الصلاة والسلام عندما يلقى الأذى من قومه يعرض نفسه على القبائل لينصروه، فكان كثير من القبائل تعرض نفسها على النبي عليه الصلاة والسلام، ويقولون: ننصرك ونمكن لك، وتقوم دولة الإسلام، لكن بشرط واحد، وهو أن يكون لنا الأمر من بعدك، فيقول: لا، الأمر لله يضعه حيث يشاء، فما لنا إذاً؟ آمنا بك ونصرناك، وعرضنا أموالنا، ودماءنا، وأولادنا للبلاء والعناء، فما لنا؟ يقول: الجنة، ما لكم على هذا إلا رضوان الله جل وعلا، أما أن يكون بيني وبينكم شرط على تحصيل مغنم دنيوي فلا.

وهذا الطريق حقيقة شاق ومكلف لكن عاقبته هنيئة مريئة؛ لأنه لا يدخل معك في هذا الطريق إلا من كان صادقاً يريد الله والدار الآخرة، وأما إذا أعلنتها وطنية فسيتجمع حولك الوطنيون، ثم سرعان ما يتفرقون، وإذا أعلتنها قومية فسيجتمع إليك أهل العرق ثم سرعان ما يتفرقون، إذا أعلنتها دعوة للإصلاح ولمطالبة حقوق المستضعفين والفقراء، فسينضمون إليك؛ لكن الدعوة بعد ذلك سيقضى عليها كما هو حال الدعوات الهدامة التي قامت قبل بعثة نبينا عليه الصلاة والسلام، وبعد بعثته، دعوات هدامة كثيرة كانت تقوم حول وطنية مزيفة، وقومية منتنة، وحول إصلاحية جزئية، كلها تتلاشى ولا يبقى لها خبر، والحق بعد ذلك ثابت، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون.

فهذا الطريق شاق، لكن عاقبته هنيئة مريئة مثمرة نافعة، الأمر لله يضعه حيث يشاء، وما أظن أنه كان يخطر ببال أحد أنه سيلي أمر المؤمنين بعد نبينا الأمين عليه الصلاة والسلام رجل من بني تيم، وبعده رجل من بني عدي، وبعده رجل من بني عبد شمس، وبعده رجل من آل النبي عليه الصلاة والسلام ( علي )، ما أظن هذا كان يخطر ببال أحد من المسلمين، الأمر لله يضعه حيث يشاء.

إخوتي الكرام! فلابد من ربط القلوب بعلام الغيوب، في سورة لقمان التي سنتدارسها أنزل الله فيها في العصر المكي تحريم الغناء قبل أن ينزل تحريم الخمر سبحان الله! الغناء حرم في مكة قبل الخمر؟! نعم؛ لأن ضرر الغناء أعظم من ضرر الخمر، فالغناء قرآن الشيطان، وإذا عشعش في القلب وفسد هذا القلب فلن يدخله نور القرآن بعد ذلك، فلا يجتمع قرآن الرحمن وقرآن الشيطان في قلب أبداً، القلب لا بد من أن يطهر من الساعة الأولى، كما لو أردت أن تزرع أرضاً لا بد من تنقيتها من الشوك، ومن الحجارة، والبلاء، ثم بعد ذلك تبذر فيها البذر ليؤتي ثماره وأكله.

الغناء محرم في العصر المكي، والخمر متى حرمت؟ حرمت بعد فتح مكة في العام الثامن، أي: بعد بعثة نبينا عليه الصلاة والسلام بواحدة وعشرين سنة، ثم نزل التحريم قبل وفاته بسنتين عليه صلوات الله وسلامه، فلما نزل قول الله: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ [المائدة:91] قالوا: انتهينا، ولا تردد في ذلك على الإطلاق، القلوب طاهرة.

فالغناء في العصر المكي يحرم؛ لأنه يفسد القلب، وهو أعظم سوقاً إلى الفواحش والمنكرات من الخمر، أما الخمر فذاك داؤه عارض عندما يشرب يفقد عقله، وإذا فقد عقله غاب عن وعيه، فإذا رجع إلى صحوه صار بعد ذلك في حال الكمال والرشد، بخلاف الغناء، متى عشعش في القلب فسد القلب، فصار الإنسان شيطاناً مريداً.

ورضي الله عن عمر بن عبد العزيز عندما يقول لمؤدب أولاده ومعلمهم: ليكن أول ما يعتقدون من أدبك بغض الغناء، الذي بدايته من الشيطان ومآله إلى سخط الرحمن!

أول شيء تغرسه في قلوب النشء عندما تعلمهم، علمهم بغض الغناء والنفور منه، بدايته من الشيطان، ومآله سخط الرحمن.

وحقيقة إذا ألف القلب الغناء والموسيقى فقد ضرب الران عليه، فلا يعي بعد ذلك كلام الله ولا ينتفع به، وعندما يقرؤه ينثره نثر الدقل، كما هو حال المسلمين في هذا الحين، وصل الانحطاط والبلاء والضلال أن مادة الموسيقى تقرر على أولاد المسلمين في السنة الأولى الابتدائية فما بعدها، سبحان الله!

وقد أجمع الفقهاء عن بكرة أبيهم أنه لا يجوز استئجار المغني، ولا يجوز أن يعطى أجرة ليعلم النشء الغناء والموسيقى فهذا حرام، وسيأتينا البحث في أمر الغناء عند قول الله جل وعلا: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ [لقمان:6]، إذا اشترى لهو الحديث وعكف على الغناء ماذا يكون حاله؟ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [لقمان:7].

وهذا الحال ليس هو حال النضر بن الحارث الذي كان يعكف على الغناء، ويحضر المغنيات ليغنين، هذا حال الدعاة الذين يستمعون الغناء في هذه الأيام، كم من رقيع يحسب على الأمة الإسلامية أنه من الدعاة، وأنه من المصلحين المجددين، يقول بكل وقاحة وبذاءة: إنه يسمع الموسيقى؛ لكن الموسيقى الهادئة! سبحان الله العظيم! قرآن الشيطان وسخط الرحمن فيه هدوء، الموسيقى الهادئة، ماذا كان أثر السلوك فيه؟ إن أردت أن ترى قول الله جل وعلا جلياً واضحاً فانظر إليه: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا [لقمان:7]، تراه يتلبس بخصلة من خصال الجاهلية، هو من الدعاة الكبار، تقول له: يا عبد الله! لم لا تعفي لحيتك؟ يقول: دعنا من القشور، الأمة الإسلامية في مشاكل، والرقاب تضرب، وأنت لا زلت تبحث في هذا، وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [لقمان:7].

حجب نساءك وبناتك، فيقول: العبرة بالقلب لا بالظاهر، سبحان الله! كأن قلوبكم أطهر من قلوب الصحابة حتى أبحتم لأنفسكم التحلل الظاهري بحجة أن قلوبكم طاهرة، هذا يقوله الداعي، فليست خاصة في النضر، عموم لفظها يشمل كل من عرض عليه أمر من أمور الشرع فأعرض عنه بحجة أن قلبه طاهر، وذاك: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [لقمان:7].

وماذا يرتجى من إنسان لا يعرف في حياته إلا الغناء وقلة الحياء؟ حقيقة لا يتوقع منه إلا هذه الأجوبة الفارغة، والاعتراض على دين الله جل وعلا.

إذاً: الغناء يحرم في العصر المكي، والخمر لا تحرم إلا قبل وفاة نبينا عليه الصلاة والسلام بسنتين، ثماني سنين والصحابة يشربون الخمر في المدينة، وحمزة أسد الله وأسد رسوله عليه صلوات الله وسلامه، ومعه كبار الصحابة يستشهدون في أحد والخمر في بطونهم، ولا يضيرهم ذلك ولا يضرهم عند الله جل وعلا، فكانت في حكم الإباحة، وما نزل تحريمها، ولو شهدوا قول الله: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ [المائدة:91] لقالوا: انتهينا، أما أنه يوجد عكوف على غناء وبذاء، بحيث تتربى القلوب على الخنا والفحش، ويصبح فيها ظلماً، فلا ثم لا.

إذاً: القرآن المكي كان يدور على هذا المحور، هذا الخالق رب العالمين، وهذا المخلوق، هذا مخلوق ضعيف فقير، وذاك إله قوي كريم جليل، ينبغي لهذا الفقير أن يلتجئ إلى هذا الغني، وينبغي لهذا الضعيف أن يعبد ذلك القوي، وأن يفرده بالعبادة وحده لا شريك له، وأن يحكم شرعه في جميع شؤون حياته.

القرآن المكي كان كله يدور حول هذا، فالعبد سيؤول إلى ربه بعد ذلك ليحاسبه على أعماله.

عباد الله! القرآن المكي كله دار حول هذا، إعلام الناس بحقيقة أنفسهم، وإخبارهم بصفات ربهم جل وعلا، ومن عرف نفسه عرف ربه، ومن عرف ربه عرف نفسه، وإذا التبس الأمر على الإنسان فجهل نفسه فهو لربه أجهل، وإذا جهل ربه فهو أيضاً جاهل في أمر نفسه: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [الحشر:19].

وهذه الحكمة: من عرف نفسه عرف ربه، ليست من كلام نبينا عليه الصلاة والسلام، إنما هي من الحكم المأثورة عن العلماء الصالحين، وقد نص الإمام النووي في فتاويه (ص:173) أن هذه اللفظة لا تعرف عن نبينا عليه الصلاة والسلام، وهكذا الإمام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (16/349) والإمام الزركشي في الدرر المنثرة في الأحاديث المشتهرة، نعم هذا من كلام يحيى الرازي كما قال الإمام الزركشي، وورد الأثر في الحلية (10/208) من كلام سهل بن عبد الله التستري، كان يقول: من عرف نفسه لربه، عرف ربه لنفسه، من عرف نفسه لربه وأنه مخلوق لله، عرف ربه لنفسه! أي أن الله ربه ورب كل شيء سبحانه وتعالى!

والإمام ابن القيم عليه رحمة الله في كتابه مدارج السالكين (1/427) بحث في هذه الجملة بحثاً طيباً، بعد أن أخبر أنها ليست من كلام النبي عليه الصلاة والسلام، وقال: تروى أيضاً في الكتب السابقة، أن الله يقول لابن آدم: اعرف نفسك تعرف ربك، وبحث الإمام ابن القيم عليه رحمة الله في معنى هذه الجملة، وقال: معناها صحيح، وتحمل على ثلاثة أمور: إما أن تكون من باب الضدية، أو الأولوية، أو من باب النفي.

فإذا كان من باب الضدية: فأنت فقير، يقابل هذا ويضاده غنى الرب الجليل: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [فاطر:15]، أنت جاهل والله عالم، أنت عاجز ضعيف والله جل وعلا قوي قدير، إذاً بالضدية صفات النقص يقابلها صفات الكمال في الله جل وعلا، من عرف نفسه بأنه فقير ضعيف عاجز سيموت، عرف الله بضد ذلك.

والمعنى الثاني لهذه الجملة المباركة يقول: معناها بالأولوية، من عرف نفسه عرف ربه، أي: إذا كنت ترى أنك قابل لصفات الكمال، وتتصف بالعلم، والرحمة، والحكمة، والقدرة، والغنى على حسب ما يناسبك وما يليق بك، فالله أولى بالاتصاف بهذه الأمور منك على حسب ما يناسبه ويليق به سبحانه وتعالى، فإذا كان العلم كمالاً فيك، فالله جل وعلا يتصف بهذه الصفة من باب الأولى، وله المثل الأعلى في السموات والأرض سبحانه وتعالى.

وإذا كان الغنى كمالاً فيك، فالغنى في الله جل وعلا كمال، ويتصف به من باب أولى، وهكذا القوة، أي: من باب الأولوية ما ثبت لك من كمال فالخالق أولى به.

والثالث: أن معنى هذه الجملة محمول على النفي: (من عرف نفسه عرف ربه) أي: أنت لا يمكن أن تعرف نفسك وما فيك من أسرار وعجائب لا يمكن أن تقف عليها، والروح التي فيك أنت وأهل الأرض وجميع المخلوقات عاجزة عن إدراك كنهها وحقيقتها: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء:85]، فإذا كنت عن معرفة نفسك، وعن إدراك نفسك، وعن إدراك الأسرار التي فيك عاجزاً، فأنت أعجز وأعجز عن إدراك حقيقة الذات الإلهية، وحقيقة صفات رب البرية: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11].

وقد ألف الإمام السيوطي عليه رحمة الله حول هذه الجملة كتاباً سماه: القول الأشبه في بيان من عرف نفسه عرف ربه، والرسالة مطبوعة في ضمن الحاوي للفتاوى للإمام السيوطي (2/238).

إذاً: القرآن المكي كان يعرف الناس بحقيقة أنفسهم، كما يخبرهم بما يتصف به ربهم جل وعلا، وهذه الجملة من عرف نفسه عرف ربه، لا تثبت عن نبينا عليه الصلاة والسلام، لكن منقولة عن يحيى بن معاذ الرازي وعن سهل بن عبد الله التستري، وسهل من أئمة هذه الأمة الصالحين، توفي سنة (283هـ)، قال الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء في ترجمته (13/370): شيخ العارفين، له كلمات نافعة، ومواعظ حسنة، ومن مواعظه وكلماته النافعة أنه كان يقول: أمس مات، وغداً لم يولد، واليوم في النزع، هذا حال الدنيا، أمسي ما هو قبل اليوم وهو يوم السبت مات، وغداً الإثنين لم يولد، وهل تدركه أم لا؟ العلم عند الله، واليوم في النزع يلفظ أنفاسه دقيقة بعد دقيقة، وثانية بعد ثانية، ليخرج هذا اليوم كما خرج أمس:

ما مضى فات والمؤمل غيب ولك الساعة التي أنت فيها

ومن تواضعه وإجلاله لحديث النبي عليه الصلاة والسلام، أنه ذهب إلى الإمام أبي داود صاحب السنن وقال: أريد أن تخرج لسانك الذي تحدث به عن النبي عليه الصلاة والسلام، قال: وعلام؟ قال: حتى أقبله، فأخرج له أبو داود لسانه، فقبله إجلالاً لحديث النبي عليه الصلاة والسلام.

سهل بن عبد الله التستري كان يقول للمسلمين: إذا استطعتم أن تلقوا الله بالمحابر -أي: في طلب الحديث- فافعلوا، هذه الأقلام لا تفارقوها حتى تلقوا الله وهي معكم، لا تفارقوا هذه المحابر.

وكان يقول: لا معين إلا الله، ودليل إلا رسول الله عليه الصلاة والسلام، لا إله إلا الله محمد رسول الله عليه صلوات الله وسلامه.

ومن جميل حكمه كان يقول: أمور البر يفعلها الصالح والطالح، لكن المعاصي لا يتركها إلا صديق، (وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم)، فالنهي ينبغي أن يترك، يصلي الإنسان في جماعة ثم يذهب إلى الغناء، فماذا استفاد من صلاته؟ إذا لم تنهه عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعداً.

وكان يقول: من سره أن ينظر إلى مجالس الأنبياء، فلينظر إلى مجالس العلماء.

ومن كلامه: أول الحجاب الدعوى، فإذا أخذوا في الدعوى هلكوا، أي: أن يدعي الإنسان أنه وأنه وأنه وأنه، أول الحجاب الدعوى، فإذا أخذوا الدعوى هلكوا، هذا العبد الصالح هو الذي يقول: من عرف نفسه لربه، عرف ربه لنفسه.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.