خطب ومحاضرات
/home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
/audio/122"> الشيخ عبد الرحيم الطحان . /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
/audio/122?sub=8327"> تفسير سورة لقمان
Warning: Undefined array key "Rowslist" in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
تفسير سورة لقمان - الحروف المقطعة في أوائل السور [6]
الحلقة مفرغة
الحمد لله رب العالمين، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونؤمن به، ونتوكل عليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهدي الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.
الحمد لله رب العالمين، شرع لنا ديناً قويماً، وهدانا صراطاً مستقيماً، وأسبغ علينا نعمه ظاهرةً وباطنةً وهو اللطيف الخبير.
اللهم لك الحمد كله، ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر كله، وأنت رب الطيبين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولي الصالحين، وخالق الخلق أجمعين ورازقهم، وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [هود:6]، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ [فاطر:3].
وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمةً للعالمين، فشرح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبياً عن أمته، ورضي الله عن أصحابه الطيبين، وعمن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
أمور الكمال مردها لثلاثة أمور: علم: فيكاشف بما يخفى على غيره، قدرة: يمكن مما يعجز عنه غيره، غنى: يستغني عما يحتاج إليه غيره، ولإيضاح هذا أوضح كل نوع بمثال.
مثال لما يكون فيه خارق العادة في جنس العلم
لهذا نظائر مثبتة عند أئمتنا في كتب التوحيد لا ينكرها إلاّ مكابر، عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يخطب على منبر مسجد نبينا عليه الصلاة والسلام، وقد أرسل جيشه ليقاتل في بلاد الفرس في نهاوند، وأمر عليهم سارية، فبينما هو يخطب كشف الله له عن بصيرته، وهذه هي المكاشفة: أن يعلم ما يخفى على غيره، يلقى في قلبه شيء من أمور الغيب التي تخفى على الحاضرين.
فكشف الله له عن حال الواقعة، فـسارية في أصل الجبل ومعه جيشه، والعدو يتسلق من الناحية الثانية ليرقى الجبل، وبالتالي سيهزم جيش الإسلام والتوحيد ويقتلون عندما يكون الجيش الكفري فوقهم، فنادى عمر بأعلى صوته وهو على المنبر: يا سارية الجبل الجبل! أي: اصعد الجبل. ينادي من المدينة إلى بلاد نهاوند، يرى الحادثة ثم ينادي، فسمع سارية صوت عمر، ورقى بجيشه الجبل، ونصرهم الله جلّ وعلا على الفرس.
وهذه القصة كما قال الإمام السخاوي في المقاصد الحسنة: قال شيخنا -يعني الحافظ ابن حجر - إسنادها حسن، وقد ألف الحافظ الحلبي جزءاً في تصحيحها وتعداد طرقها، وقد نقلها أئمتنا في كتب التوحيد، وذكرها الإمام ابن تيمية في كتابه: الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان (ص:47)، وهي مذكورة في شرح الطحاوية، ورواها الإمام ابن القيم في مدارج السالكين (ص:228).
جاء المعلق على كتاب مدارج السالكين، فذكر تعليقاً يضحك الثكلى، وحقيقة هذا التعليق مما ينبغي ألاّ يقول به عاقل، يقول: إن عمر بن الخطاب عندما كان يخطب على المنبر أخذته سِنة، فنام وهو على المنبر، فصاح في نومه لما رأى سارية وجيشه: يا سارية الجبل الجبل! سبحان الله! عمر ينام على المنبر، أنا أقول: إذا نام عمر على المنبر، فلو تغوط الخطباء بعده لكان قليلاً.. عمر الذي إذا رآه الشيطان سالكاً فجاً سلك فجاً غير فجه، عمر هذا الوقور المهيب ينام على المنبر، سبحان ربى العظيم! وهو يخطب!
قضى عمر مرة نسكه فقام المزين -الحلاق- يحلق رأسه فتنحنح، فأحدث المزين في سراويله من أثر تنحنح عمر... عمر ينام على المنبر؟! هذه الهيبة، وبلغه عن امرأة ريبة، فاستدعاها، فجاءها الرسول وقال: أجيبي أمير المؤمنين، فولولت وصاحت قالت: ما لي ولـعمر؟ كيف سأقابله؟ ففي الطريق أسقطت وهي حامل، ثم بعد أن حصل منها ما حصل، قال عمر للصحابة: ما تقولون في دية الجنين؟ فقالوا: أنت مؤدب يا أمير المؤمنين وليس عليك شيء، فقال علي: عليك ديتها، ولابد من دفع دية، ولكن اختلف علماؤنا هل تدفع الدية من بيت المال، أو على عاقلة الخليفة أو القاضي إذا استدعى امرأة ومن هيبته سقط الجنين الذي في بطنها!
عمر ينام على المنبر؟! ثم سلمنا لك أنه نام، ورأى تلك الموقعة وصاح في نومه.. سلمنا، كيف سمع سارية ذلك الكلام؟ هل أيضاً سارية نام وسمع صوت عمر في النوم؟
يا إخوتي الكرام! لا يجوز أن نخرج الكرامة عن واقعها وظاهرها وحالها، هي كرامة، أمر خارق للعادة، كالمعجزة، لكن تلك تقع على يد الرسول، وهذه على يد العبد الصالح الولي القانت لله جلّ وعلا، تلك على يد نبي، وهذه على يد ولي فقط، فهي خارق ما جرت العادة بمثله، ولو كانت على حسب المعروف المألوف لما كانت كرامة، ولما كانت معجزة إذا وقعت على يد نبي.
وقد ثبت في مسند الإمام أحمد والصحيحين، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قد كان في الأمم قبلكم محدثون من غير أن يكونوا أنبياء، فإن يكن في أمتي أحد منهم فـ
فإذا كان هذا الأمر في الأمم السابقة فهو في هذه الأمة من باب الأولى، كما تقول لهذا العبد الصالح، إن يكن لي صديق فأنت! وأنت لا تشك في صداقته، ولا تريد نفي الصداقة أيضاً عن غيره، إنما تريد أن تجزم بأنه صديق لك من غير تردد، فإذاً أورد مورد التحقيق لا مورد التشكيك والترديد.
وهناك قول ثان لكنه ضعيف، أن الحديث أورد مورد الترديد، والسبب أن الأمم السابقة كانت تحتاج إلى ما يثبت إيمانها ما بين الحين والحين بواسطة الكرامات، وأما هذه الأمة ففيها هذا القرآن الذي تكفل الله بحفظه، وفيه تبيان كل شيء، وهو معجز، فهذا بمثابة معجزة تتكرر كل لحظة، ولذلك لا داعي لأن يوجد فيهم مكاشفون محدثون ملهمون، كما كان في الأمم السابقة، فيوجد لكن بقلة، لكن في الأمم السابقة يوجد بكثرة، وعلى التعليل الأول وهو الأقوى: يوجد في هذه الأمة أكثر مما وجد في الأمم السابقة، فهي أكرم على الله من الأمم السابقة.
إذاً: ما جرى لا إشكال فيه، وليس هذا عن طريق الحروف المقطعة، ولا عن طريق النظر في النجوم، واستنباط سعود ونحوس، ولا عن طريق حساب الجُمّل، بل أكرمه الله بهذا، وأوقع الله ذلك كما أخبر، وهو على كل شيء قدير.
وللإمام ابن تيمية عليه رحمة الله رسالة عظيمة هي قاعدة في المعجزات والكرامات، وهي غير رسالته: الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، وهذه القاعدة التي في المعجزات والكرامات موجودة ضمن مجموع الفتاوى (11/311)، قاعدة في المعجزات والكرامات، وطبعت أيضاً هذه الرسالة مستقلة، إذاً: هذا علم يخفى على غيره.. يا سارية الجبل الجبل، وهنا الأمر كذلك.
مثال لما يكون فيه خارق العادة في جنس القدرة
هل بإمكان أحد منا أن يحول التراب إلى ذهب؟ لا، لكن قد يُقدر الله بعض الصالحين، على أن يمسك قطعة التراب ويضغط عليها وتصبح ذهباً خالصاً، وهذا قد وقع، ولا ينكر هذا إلاّ من هو ضال مخرّف، متى وقع هذا؟
يقول الحافظ ابن كثير في تفسيره (3/399) عند تفسير قول الله جل وعلا في سورة القصص، حكاية عن العبد المخذول قارون: قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي [القصص:78]، يقول: قال بعض الناس، (عَلَى عِلْمٍ عِندِي) أي بصنعة الكيمياء، أي: أنه يحول التراب والخشب إلى ذهب، يقول الإمام ابن تيمية: وصنعة الكيمياء زغل وتلبيس وغش وتدليس وليست بحقيقة، ولا يمكن أن يقلب المعادن إلى غير ماهيتها، فالخشب خشب، والحديد حديد، والذهب ذهب، ولا يمكن أن نقلب النحاس إلى ذهب على الإطلاق، لكن بإمكاننا أن ندلس ونغش، أي نطليه بذهب ونقول: هذا ذهب، لكن إذا أخذه الصائغ يكشفه، ويقول: هذا نحاس مطلي بذهب، أما أن نقلبه الحقيقة والعين، وأن التركيب بدل أن تكون ذرات نحاس تصبح ذرات ذهب؛ هذا مستحيل.
قال الإمام ابن كثير : وأما قلب الأعيان عن طريق الكرامة فهذا جائز وواقع؛ لأن ليس بقدرة المخلوقات، إنما بمشيئة رب الأرض والسموات، كما جرى لـحيوة بن شريح المصري، إمام الديار المصرية في زمنه عليه رحمة الله، ورضي الله عن حيوة بن شريح المصري، توفي سنة (158هـ)، وحديثه مخرج في الكتب الستة، وهو ثقة وفوق الثقة، ترجمه الإمام الذهبي في تذكرة الحفاظ (1/185)، وترجمه في الكاشف فقال: له أحوال وكرامات، وهذا في تفسير ابن كثير، وهو في تذكرة الحفاظ.
من كراماته: أن سائلاً سأله، ولم يكن عند حيوة بن شريح ما يعطيه، وعلم صدق السائل وحاجته، فأخذ مدرة من الأرض -قطعة طين يابسة متجمدة- فأجالها في يده، وألقاها في يد السائل، فقلبها الله ذهباً خالصاً.
وفي تذكرة الحفاظ قصة أخرى، وهي: أن رجلاً دخل عليه ورأى فقره وحاجته، فقال: أما يسأل حيوة بن شريح ربه، يعني ليغنيه، يقول: فنظر إليّ فأخذ حصاة فرماني بها وإذا هي ذهب خالص، فقلت: ما أفعل بها؟ قال: أنفقها على نفسك، وأما بعد ذلك تريد أنت أنني أسأل ربي أن يكفيني، فأنا في نعمة وستر وعافية، خذ هذه الحصاة، ولا تظن أنني فقير لهواني على الله، انظر الحصاة أرميها إليك فتصبح ذهباً، وأما أنا ففي ستر وعافية.
وكان إذا أخذ عطاءه -كما في تذكرة الحفاظ، وتهذيب التهذيب في ترجمته- وكان عطاؤه ستين ديناراً، كان يفرقه قبل أن يصل إلى بيته، فإذا دخل إلى البيت ونام وجده تحت فراشه، ستون ديناراً، فعلم ابن عم له بذلك، فأخذ عطاءه فوزعه، فذهب إلى بيته فنام، ثم قلب الفراش فما رأى شيئاً، ونظر تحت الفراش بحيث كاد أن يحفر الأرض فما حصّل شيئاً، فجاء لـحيوة بن شريح، وقال: أفسدت عليّ مالي وضيعته، قال: وما ذاك؟ قال: أنت تعطي عطاءك للمحتاجين، فإذا رجعت إلى بيتك وجدته، ففعلت مثل فعلك فلم أجد شيئاً، فقال: أنا أعطيت ثقة، وأنت أعطيت تجربة، أي: أنا أعطيت واثقاً بالله جلّ وعلا، وأما أنت فتريد أن تجرب رب العالمين سبحانه وتعالى، فخذلك وأوكلك إلى نفسك: وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سبأ:39].
حقيقة قدر على ما يعجِز عنه أهل الأرض قاطبة، لا أقول إن الجهد البشرى الطبيعي الاعتيادي يعجز عن هذا، التكنولوجيا المتطورة في هذه الحياة هل بوسعها أن تحول الحديد إلى ذهب؟ نحن لا ننكر على الإطلاق، لكن بمشيئة رب الأرض والسموات: إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النحل:40].
وحقيقة الأمر كما قال الله: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا [الطلاق:2-3]، كيف هذا؟
يا عبد الله! كل العالم بما فيه من عرشه إلى فرشه، من جنود الله وطوع أمره، فإذا كنت في بيتك واحتجت، وقال الله للوسادة التي تتوسدها: كوني ذهباً، فأي شيء يعجزه؟ تحتاج إلى ربط القلب بالله حلّ وعلا، ولو أخذ الناس بهذه الآية لوسعتهم: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا [الطلاق:2-3].
يقول الإمام ابن تيمية عليه رحمه الله في الرسالة المشار إليها: إذا صح الإيمان علماً وعملاً، واحتاج صاحبه إلى كرامة وخارق عادة فلا بد أن تخرق له العادة، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا [الطلاق:2]، إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا [الأنفال:29].
إذاً: هذا خارق العادة فيما يتعلق بجانب القدرة، وهو من أمور الكمال.
مثال لما يكون فيه خارق العادة في جنس الغنى
ذكر الإمام الذهبي في ترجمة العبد الصالح إبراهيم التيمي، والقصة في تذكرة الحفاظ (1/73)، توفي إبراهيم التيمي وما أكمل أربعين سنة عليه رحمة الله، وكان يقول: كم بينكم وبين القوم، أقبلت عليهم الدنيا فهربوا منها، وأدبرت عنكم فتبعتموها.
وكان يقول: إذا رأيت الرجل يتهاون بتكبيرة الإحرام فاغسل يدك منه.
وبلغ من شهامته ومروءته أن شرطة الحجاج العبد المخذول عامله الله بما يستحق، وقد أفضى إلى ما قدم، ولا أحد يتعصب لأهل الباطل، فيقول: ما فائدة التجريح؟ فالحب والبغض أوثق عرى الإيمان، يقول الذهبي عليه رحمة الله، عندما ترجم الحجاج (4/343) الذي قصمه الله سنة (95هـ)، بعد أن ترجمه يقول:
نسبه ولا نحبه، ونُبغِضُهُ في الله، فإن الحب في الله والبغض فيه أوثق عرى الإيمان، له حسنات مغمورة في بحر ذنوبه، فإذاً نحب من أطاع الله ونُبغِض من عصى الله، ليس موضوع تجريح.
أرسل الحجاج شرطته في طلب إبراهيم النخعي وكان شيخاً كبيراً طاعناً في السن، فطلبت الشرطة إبراهيم النخعي، فقيل: في المسجد، فقام إبراهيم التيمي ليقدم نفسه فداءً لـإبراهيم النخعي، وما خرج النخعي بعد ذلك حتى مات الحجاج متوارياً منه، فقال: أنا إبراهيم، فأخذه الحجاج وحبسه في الشمس حتى تغير وذبل، فجاءت أمه تزوره فما عرفته من تغير حالته حتى كلمها، إبراهيم التيمي صاحب الكرامات، حديثه في الكتب الستة رضي الله عنه وأرضاه.
ثم مات فرأى الحجاج في نومه قائلاً يقول له: مات في سجنك رجل من أهل الجنة، أما تتوب وتستحي من الله، فلما استيقظ سأل: من الذي توفي في السجن هذه الليلة؟ فقالوا: إبراهيم التيمي، قال: حُلمٌ من الشيطان، ألقوه على مزبلة، هذا الحجاج العبد المخذول، انظر لهذه المروءة وهذه الشهامة عند هذا العبد إبراهيم التيمي.
يقول الذهبي في ترجمته: كان يمكث شهرين لا يأكل ولا يشرب.
ليس في وسع الإنسان هذا، وهو محتاج إلى الطعام والشراب، فهذا خارق للعادة، وهو كرامة في جنس الغنى، يستغني عما يحتاج إليه العباد.
وترجمه في سير أعلام النبلاء أيضاً، فقال: دخل عليه بعض قرابته فقذف له حبة عنب، فقال: منذ (40) يوماً لم أطعم، ثم أخذ هذه الحبة فلاكها في فيه ثم لفظها!
هذه كرامة، وكون الإنسان يمكث شهرين لا يأكل ولا يشرب، هذا خارق للعادة، لكن كما قلنا: هذه كرامة.
أما النوع الأول: وهو أنه يعلم ما يخفى على غيره، فهذا كما قلت سابقاً من جملته هذه القصة، أنه سيتم فتح بيت المقدس سنة (582ه)، فهذا عن طريق الكرامة، أكرمه الله بهذا وأطلعه على أمر مغيب سيقع وقد وقع، أي حرج في ذلك؟ وهل لهذا نظائر؟
لهذا نظائر مثبتة عند أئمتنا في كتب التوحيد لا ينكرها إلاّ مكابر، عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يخطب على منبر مسجد نبينا عليه الصلاة والسلام، وقد أرسل جيشه ليقاتل في بلاد الفرس في نهاوند، وأمر عليهم سارية، فبينما هو يخطب كشف الله له عن بصيرته، وهذه هي المكاشفة: أن يعلم ما يخفى على غيره، يلقى في قلبه شيء من أمور الغيب التي تخفى على الحاضرين.
فكشف الله له عن حال الواقعة، فـسارية في أصل الجبل ومعه جيشه، والعدو يتسلق من الناحية الثانية ليرقى الجبل، وبالتالي سيهزم جيش الإسلام والتوحيد ويقتلون عندما يكون الجيش الكفري فوقهم، فنادى عمر بأعلى صوته وهو على المنبر: يا سارية الجبل الجبل! أي: اصعد الجبل. ينادي من المدينة إلى بلاد نهاوند، يرى الحادثة ثم ينادي، فسمع سارية صوت عمر، ورقى بجيشه الجبل، ونصرهم الله جلّ وعلا على الفرس.
وهذه القصة كما قال الإمام السخاوي في المقاصد الحسنة: قال شيخنا -يعني الحافظ ابن حجر - إسنادها حسن، وقد ألف الحافظ الحلبي جزءاً في تصحيحها وتعداد طرقها، وقد نقلها أئمتنا في كتب التوحيد، وذكرها الإمام ابن تيمية في كتابه: الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان (ص:47)، وهي مذكورة في شرح الطحاوية، ورواها الإمام ابن القيم في مدارج السالكين (ص:228).
جاء المعلق على كتاب مدارج السالكين، فذكر تعليقاً يضحك الثكلى، وحقيقة هذا التعليق مما ينبغي ألاّ يقول به عاقل، يقول: إن عمر بن الخطاب عندما كان يخطب على المنبر أخذته سِنة، فنام وهو على المنبر، فصاح في نومه لما رأى سارية وجيشه: يا سارية الجبل الجبل! سبحان الله! عمر ينام على المنبر، أنا أقول: إذا نام عمر على المنبر، فلو تغوط الخطباء بعده لكان قليلاً.. عمر الذي إذا رآه الشيطان سالكاً فجاً سلك فجاً غير فجه، عمر هذا الوقور المهيب ينام على المنبر، سبحان ربى العظيم! وهو يخطب!
قضى عمر مرة نسكه فقام المزين -الحلاق- يحلق رأسه فتنحنح، فأحدث المزين في سراويله من أثر تنحنح عمر... عمر ينام على المنبر؟! هذه الهيبة، وبلغه عن امرأة ريبة، فاستدعاها، فجاءها الرسول وقال: أجيبي أمير المؤمنين، فولولت وصاحت قالت: ما لي ولـعمر؟ كيف سأقابله؟ ففي الطريق أسقطت وهي حامل، ثم بعد أن حصل منها ما حصل، قال عمر للصحابة: ما تقولون في دية الجنين؟ فقالوا: أنت مؤدب يا أمير المؤمنين وليس عليك شيء، فقال علي: عليك ديتها، ولابد من دفع دية، ولكن اختلف علماؤنا هل تدفع الدية من بيت المال، أو على عاقلة الخليفة أو القاضي إذا استدعى امرأة ومن هيبته سقط الجنين الذي في بطنها!
عمر ينام على المنبر؟! ثم سلمنا لك أنه نام، ورأى تلك الموقعة وصاح في نومه.. سلمنا، كيف سمع سارية ذلك الكلام؟ هل أيضاً سارية نام وسمع صوت عمر في النوم؟
يا إخوتي الكرام! لا يجوز أن نخرج الكرامة عن واقعها وظاهرها وحالها، هي كرامة، أمر خارق للعادة، كالمعجزة، لكن تلك تقع على يد الرسول، وهذه على يد العبد الصالح الولي القانت لله جلّ وعلا، تلك على يد نبي، وهذه على يد ولي فقط، فهي خارق ما جرت العادة بمثله، ولو كانت على حسب المعروف المألوف لما كانت كرامة، ولما كانت معجزة إذا وقعت على يد نبي.
وقد ثبت في مسند الإمام أحمد والصحيحين، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قد كان في الأمم قبلكم محدثون من غير أن يكونوا أنبياء، فإن يكن في أمتي أحد منهم فـ
فإذا كان هذا الأمر في الأمم السابقة فهو في هذه الأمة من باب الأولى، كما تقول لهذا العبد الصالح، إن يكن لي صديق فأنت! وأنت لا تشك في صداقته، ولا تريد نفي الصداقة أيضاً عن غيره، إنما تريد أن تجزم بأنه صديق لك من غير تردد، فإذاً أورد مورد التحقيق لا مورد التشكيك والترديد.
وهناك قول ثان لكنه ضعيف، أن الحديث أورد مورد الترديد، والسبب أن الأمم السابقة كانت تحتاج إلى ما يثبت إيمانها ما بين الحين والحين بواسطة الكرامات، وأما هذه الأمة ففيها هذا القرآن الذي تكفل الله بحفظه، وفيه تبيان كل شيء، وهو معجز، فهذا بمثابة معجزة تتكرر كل لحظة، ولذلك لا داعي لأن يوجد فيهم مكاشفون محدثون ملهمون، كما كان في الأمم السابقة، فيوجد لكن بقلة، لكن في الأمم السابقة يوجد بكثرة، وعلى التعليل الأول وهو الأقوى: يوجد في هذه الأمة أكثر مما وجد في الأمم السابقة، فهي أكرم على الله من الأمم السابقة.
إذاً: ما جرى لا إشكال فيه، وليس هذا عن طريق الحروف المقطعة، ولا عن طريق النظر في النجوم، واستنباط سعود ونحوس، ولا عن طريق حساب الجُمّل، بل أكرمه الله بهذا، وأوقع الله ذلك كما أخبر، وهو على كل شيء قدير.
وللإمام ابن تيمية عليه رحمة الله رسالة عظيمة هي قاعدة في المعجزات والكرامات، وهي غير رسالته: الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، وهذه القاعدة التي في المعجزات والكرامات موجودة ضمن مجموع الفتاوى (11/311)، قاعدة في المعجزات والكرامات، وطبعت أيضاً هذه الرسالة مستقلة، إذاً: هذا علم يخفى على غيره.. يا سارية الجبل الجبل، وهنا الأمر كذلك.
مثال لما يكون فيه خارق العادة في جنس القدرة، أي يقدر على ما يعجز عنه غيره:
هل بإمكان أحد منا أن يحول التراب إلى ذهب؟ لا، لكن قد يُقدر الله بعض الصالحين، على أن يمسك قطعة التراب ويضغط عليها وتصبح ذهباً خالصاً، وهذا قد وقع، ولا ينكر هذا إلاّ من هو ضال مخرّف، متى وقع هذا؟
يقول الحافظ ابن كثير في تفسيره (3/399) عند تفسير قول الله جل وعلا في سورة القصص، حكاية عن العبد المخذول قارون: قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي [القصص:78]، يقول: قال بعض الناس، (عَلَى عِلْمٍ عِندِي) أي بصنعة الكيمياء، أي: أنه يحول التراب والخشب إلى ذهب، يقول الإمام ابن تيمية: وصنعة الكيمياء زغل وتلبيس وغش وتدليس وليست بحقيقة، ولا يمكن أن يقلب المعادن إلى غير ماهيتها، فالخشب خشب، والحديد حديد، والذهب ذهب، ولا يمكن أن نقلب النحاس إلى ذهب على الإطلاق، لكن بإمكاننا أن ندلس ونغش، أي نطليه بذهب ونقول: هذا ذهب، لكن إذا أخذه الصائغ يكشفه، ويقول: هذا نحاس مطلي بذهب، أما أن نقلبه الحقيقة والعين، وأن التركيب بدل أن تكون ذرات نحاس تصبح ذرات ذهب؛ هذا مستحيل.
قال الإمام ابن كثير : وأما قلب الأعيان عن طريق الكرامة فهذا جائز وواقع؛ لأن ليس بقدرة المخلوقات، إنما بمشيئة رب الأرض والسموات، كما جرى لـحيوة بن شريح المصري، إمام الديار المصرية في زمنه عليه رحمة الله، ورضي الله عن حيوة بن شريح المصري، توفي سنة (158هـ)، وحديثه مخرج في الكتب الستة، وهو ثقة وفوق الثقة، ترجمه الإمام الذهبي في تذكرة الحفاظ (1/185)، وترجمه في الكاشف فقال: له أحوال وكرامات، وهذا في تفسير ابن كثير، وهو في تذكرة الحفاظ.
من كراماته: أن سائلاً سأله، ولم يكن عند حيوة بن شريح ما يعطيه، وعلم صدق السائل وحاجته، فأخذ مدرة من الأرض -قطعة طين يابسة متجمدة- فأجالها في يده، وألقاها في يد السائل، فقلبها الله ذهباً خالصاً.
وفي تذكرة الحفاظ قصة أخرى، وهي: أن رجلاً دخل عليه ورأى فقره وحاجته، فقال: أما يسأل حيوة بن شريح ربه، يعني ليغنيه، يقول: فنظر إليّ فأخذ حصاة فرماني بها وإذا هي ذهب خالص، فقلت: ما أفعل بها؟ قال: أنفقها على نفسك، وأما بعد ذلك تريد أنت أنني أسأل ربي أن يكفيني، فأنا في نعمة وستر وعافية، خذ هذه الحصاة، ولا تظن أنني فقير لهواني على الله، انظر الحصاة أرميها إليك فتصبح ذهباً، وأما أنا ففي ستر وعافية.
وكان إذا أخذ عطاءه -كما في تذكرة الحفاظ، وتهذيب التهذيب في ترجمته- وكان عطاؤه ستين ديناراً، كان يفرقه قبل أن يصل إلى بيته، فإذا دخل إلى البيت ونام وجده تحت فراشه، ستون ديناراً، فعلم ابن عم له بذلك، فأخذ عطاءه فوزعه، فذهب إلى بيته فنام، ثم قلب الفراش فما رأى شيئاً، ونظر تحت الفراش بحيث كاد أن يحفر الأرض فما حصّل شيئاً، فجاء لـحيوة بن شريح، وقال: أفسدت عليّ مالي وضيعته، قال: وما ذاك؟ قال: أنت تعطي عطاءك للمحتاجين، فإذا رجعت إلى بيتك وجدته، ففعلت مثل فعلك فلم أجد شيئاً، فقال: أنا أعطيت ثقة، وأنت أعطيت تجربة، أي: أنا أعطيت واثقاً بالله جلّ وعلا، وأما أنت فتريد أن تجرب رب العالمين سبحانه وتعالى، فخذلك وأوكلك إلى نفسك: وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سبأ:39].
حقيقة قدر على ما يعجِز عنه أهل الأرض قاطبة، لا أقول إن الجهد البشرى الطبيعي الاعتيادي يعجز عن هذا، التكنولوجيا المتطورة في هذه الحياة هل بوسعها أن تحول الحديد إلى ذهب؟ نحن لا ننكر على الإطلاق، لكن بمشيئة رب الأرض والسموات: إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النحل:40].
وحقيقة الأمر كما قال الله: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا [الطلاق:2-3]، كيف هذا؟
يا عبد الله! كل العالم بما فيه من عرشه إلى فرشه، من جنود الله وطوع أمره، فإذا كنت في بيتك واحتجت، وقال الله للوسادة التي تتوسدها: كوني ذهباً، فأي شيء يعجزه؟ تحتاج إلى ربط القلب بالله حلّ وعلا، ولو أخذ الناس بهذه الآية لوسعتهم: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا [الطلاق:2-3].
يقول الإمام ابن تيمية عليه رحمه الله في الرسالة المشار إليها: إذا صح الإيمان علماً وعملاً، واحتاج صاحبه إلى كرامة وخارق عادة فلا بد أن تخرق له العادة، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا [الطلاق:2]، إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا [الأنفال:29].
إذاً: هذا خارق العادة فيما يتعلق بجانب القدرة، وهو من أمور الكمال.