خطب ومحاضرات
تفسير سورة لقمان - تفسير الآية رقم [2]
الحلقة مفرغة
الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونؤمن به ونتوكل عليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.
الحمد لله رب العالمين، شرع لنا دينا قويماً، وهدانا صراطاً مستقيماً، وأسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة، وهو اللطيف الخبير.
اللهم لك الحمد كله، ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر كله، أنت رب الطيبين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولي الصالحين، وخالق الخلق أجمعين ورازقهم، وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [هود:6].
وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين، فشرح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبياً عن أمته، ورضي الله عن أصحابه الطيبين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
معشر الإخوة الكرام! انتهينا من مدارسة وبيان معاني الحروف المقطعة المذكورة في أوائل بعض سور القرآن الكريم، ونحن نتدارس في الأصل تفسير سورة لقمان رضي الله عنه وعن سائر الصالحين والصالحات، فبدايتها الم * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ * هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ [لقمان:1-3].
وذكرت أن الحروف المقطعة الموجودة في أوائل بعض سور القرآن الكريم أجمع أئمتنا الكرام على أن لها معنى وذكرت لحكمة.. لأمرين معتبرين، ثم بينت بعد ذلك هذا المعنى الذي من أجله ذُكرت الحروف المقطعة، وتلك الحكمة التي من أجلها وردت الحروف المقطعة في أوائل بعض سور القرآن الكريم.
وهل يدرس ذلك المعنى، ويوقف على تلك الحكمة من جميع الوجوه، أو من وجه دون وجه؟
فقلت: هذا محل الخلاف بين أئمتنا الكرام على قولين:
القول الأول: لا يمكن أن ندرس الحكمة من جميع الوجوه، ولا أن نقف على المعنى على وجه التمام والكمال، فغاية ما نعلمه من الأحرف المقطعة: أنها من حروف الهجاء، ومن لغة العرب، افتتح الله بها بعض السور من كتابه جل وعلا، فهي حروف من حروف اللغة العربية.
لكن ماذا يقصد بها؟ وما الحكمة التي من أجلها ذكرت هذه الأحرف في أوائل بعض السور؟ هذا ما نقف عنده ولا نتكلم فيه.
القول الثاني: أنه يمكن الوقوف على ذلك المعنى وإدراك تلك الحكمة. وقلت: تنوعت وتعددت أقوال القائلين بهذا القول إلى ما يزيد على ثلاثين قولاً، ذكرت منها عشرة أقوال، سبعة من الممكن أن تقبل، وهي متفاوتة في درجات القبول، وثلاثة مردودة، ثم ختمت الكلام على الأحرف المقطعة بها في آخر موعظتي المتقدمة.
وأما الآن فنشرع في مدارسة الآيات بعد الأحرف المقطعة في أول سورة لقمان الم * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ [لقمان:1-2] نتدارس إن شاء الله تفسير الآية الثانية من سورة لقمان وهي: تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ [لقمان:2] المؤلفة من أربع كلمات.
إخوتي الكرام! تقدم معنا أن الحروف المقطعة الموجودة في بعض سور القرآن الكريم تعتبر آية في مصاحف الكوفة، ونحن نسير على هذا الاصطلاح في مصاحفنا، وقراءتنا في الأصل تنتمي إلى حفص عن عاصم أي إلى بلاد الكوفة، وعاصم كان هناك، وفي مصاحفنا الم [لقمان:1] تعتبر آية، وقلت: ما عد الحروف المقطعة في أوائل السور آية إلا الكوفيون في مصاحف الكوفة، وهذا ثابت عن نبينا عليه الصلاة والسلام.
وما بدؤه حرف التهجي فآية لكوفٍ سوى ذي را وطس والوِتْر
وقوله: (سوى ذي را). أي: ما فيه راء من الأحرف المقطعة، مثل (الر) هذا لا يعتبر آية في مصاحف الكوفة، و(طس)، وهكذا (الوتر) أي: التي ابتدأت بحرف واحد مثل (ن) و(ق). وقالوا: هذه لا تعتبر الفواتح فيها آية في مصاحف الكوفة.
إذاً: الم [لقمان:1] الآية الأولى، والآية الثانية التي نتدارسها الآن: تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ [لقمان:2].
تلك: اسم إشارة، والآيات: جمع آية، والكتاب: الذي نُعت بعد ذلك بالحكمة آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ [لقمان:2]؛ هذه الكلمات الأربع سنتدارسها، ونسأل الله العظيم بفضله ورحمته أن يلهمنا رشدنا، وأن يبصرنا بعواقب أمورنا، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
إخوتي الكرام! أما الكلمة الأولى واللفظة الأولى فهي: (تِلْكَ)، وهي اسم إشارة، ووضع هذا الاسم في اللغة العربية للإشارة به إلى بعيد غائب إذا كان مؤنثاً، كما أن (ذلك) يشار به إلى البعيد الغائب إذا كان مذكراً، بعكس (هذا وهذه) فـ(هذه) يشار بها إلى القريب الحاضر إذا كان مؤنثاً، و(هذا) يشار به إلى الحاضر القريب إذا كان مذكراً، وعليه فـ(تلك) يشار بها إلى الشيء البعيد، وإلى الشيء الغائب إذا كان مؤنثاً.
لكن أسماء الإشارة تتناوب، فيعبر أحياناً في لغة العرب عن الحاضر القريب الموجود المشاهد باسم الإشارة البعيد، كما يُعبر عن البعيد الغائب باسم الإشارة القريب، فما المراد هنا من اسم الإشارة (تلك)؟ هل يُراد شيء حاضر قريب، أُشير إليه باسم الإشارة الذي وُضع للبعيد، أو أن المراد باسم الإشارة هذا شيء غائب بعيد؟
القول الأول: أن المراد من اسم الإشارة هنا شيء حاضر قريب، وليس بشيء غائب بعيد.
فنقول إذن: معنى (تلك) أي: (هذه)؛ لأننا قلنا إن معناها شيء حاضر قريب، تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ [لقمان:2] أي: (هذه آيات الكتاب الحكيم) فـ(تلك) بمعنى (هذه)، والذين قالوا بهذا اختلفوا أيضاً فيما بينهم في توجيه هذا القول وتعليله إلى ثلاثة أقوال:
التعليل الأول: أن أسماء الإشارة تتناوب
ولذلك يقول البخاري عليه رحمة الله في صحيحه عندما ينقل قول أبي عبيدة معمر بن المثنى: (الم) مجازها مجاز أوائل السور.
ما معنى مجازها؟ أي: تفسيرها والقول فيها كما يقال في أوائل السور، وتقدم معنا الإشارة إلى هذا.
وهنا أبو عبيدة معمر بن المثنى عليه رحمة الله في الجزء الأول (ص:28) عند مطلع ومفتتح وبداية سورة البقرة الم * ذَلِكَ [البقرة:1-2] يقول: اسم إشارة للبعيد لكنه بصيغة المذكر ذَلِكَ الْكِتَابُ [البقرة:2]، وهنا اسم إشارة للبعيد (تلك)، لكن المراد آيات، وهي مؤنثة، والصيغتان للبعيد الغائب، يقول أبو عبيدة: (ذلك الكتاب)، هذا الكتاب، والعرب قد تخاطب الشاهد، أي: الحاضر القريب، فتظهر له مخاطبة الغائب.
والإمام ابن كثير في تفسيره عليه رحمة الله عندما فسر (تلك) بـ(هذه) قال عليه رحمة الله (1/39): العرب تعاوض بين اسمي الإشارة، أي: تجعل واحداً عوضاً عن الآخر، فهما يتعاقبان، فأحياناً تستعمل صيغة اسم الإشارة التي هي للبعيد وتقصد بها القريب الحاضر، وأحياناً تستعمل صيغة اسم الإشارة التي هي للقريب الحاضر وتريد بها مشاراً إليه غائباً بعيداً، تعاوض بين اسمي الإشارة، قال معمر بن المثنى: والشاهد على هذا ما ورد في كلام العرب، يقول خُفاف بن نُدبة من شعراء العرب:
أقول له والرمح يأطر متنه
يأطر متنه: أي يقطع متنه وظهره، ويفصله عن بعضه.
تأمل خفافاً إنني أنا ذلك
إنني أنا ذلك: ما الأصل أن يقول؟ إنني أنا هذا، أي: أنا حاضر بين يديك، أنا خفاف الذي أضربك هذه الضربة التي تقطع ظهرك.
أقول له والرمح يأطر متنه تأمل خفافاً إنني أنا ذلك
أشار إليه باسم الإشارة الذي هو للبعيد وهو حاضر موجود.
لكن الإمام الألوسي في روح المعاني (1/105) قال: وليس هذا بنص صريح على أن المراد من قول خفاف بن ندبة: إنني أنا ذلك، أنا هذا، أي: أشار باسم الإشارة الذي هو للبعيد إلى حاضر قريب، لاحتمال أن يريد خفاف : إنني أنا ذلك الرجل الذي كنت تسمع به وتحدث عنه، فهو إذاً غائب بعيد، كان يسمع به هذا المضروب. فكأن الإمام الألوسي عليه رحمة الله يقول: صيغة اسم الإشارة هنا التي هي للبعيد على بابها وعلى حقيقتها، يقصد منها ما هو بعيد غائب ليس بحاضر شاهد؛ إنني أنا ذلك، أي ذلك الرجل الذي كنت تسمع به وتحدث عنه، خذ هذه الضربة منه، التي تأطر متنك وتقطع ظهرك.
أقول: لكن ما قاله الإمام ابن كثير عليه رحمات ربي الجليل، وهكذا قبله معمر بن مثنى على علماء الإسلام جميعاً رحمة الله ورضوانه، إن ما قاله هذان وغيرهما له شواهد كثيرة في كتاب الله جل وعلا، وقد جاءت صيغة اسم الإشارة للبعيد ويراد منها الحاضر المشاهد القريب، فمن ذلك:
قول الله جل وعلا في سورة الأنعام: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [الأنعام:83]، قال هذا بعد ذكر الحجة التي منحها الله ووهبها لخليله إبراهيم على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه، فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ * وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:76-82].
ماذا قال بعد ذلك؟
قال: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [الأنعام:83].
(تلك): بعيدة غائبة أو حاضرة قريبة أشير إليها؟ الأصل: و(هذه حجتنا)، أي التي منحها الله لخليله إبراهيم على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه، فالأصل أن يقول: وهذه حجتنا التي تقدم ذكرها وسردها، واستمعتم إليها، وبينت بياناً شافياً وافياً، هذه الحجة آتيناها لخليلنا إبراهيم على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه، فعبر عنها باسم الإشارة الذي هو للبعيد، لكن المشار إليه حاضر مشاهد قريب، ليس بغائب بعيد.
(وتلك حجتنا) معناها: هذه حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه، نرفع درجات من نشاء.
وهكذا في سورة السجدة آية الم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ * اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ * يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [السجدة:1-5]، ماذا قال بعد ذلك؟
قال: ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [السجدة:6]، (ذلك): اسم إشارة يشار به للغائب البعيد، والأصل هنا أن يقال: هذا المتحدث عنه تَنزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ [السجدة:2]، اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ [السجدة:4] هذا المتحدث عنه، والأصل أن يقول: (هذا عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم) الذي ذكرت أوصافه ونعوته سبحانه وتعالى، وما قام به من أعمال وأفعال وخلق وتدبير، فعبر عنه بـ(ذلك)، وكما تقدم معنا: فالعرب يعاوضون بين أسماء الإشارة فيجعلون اسم الإشارة الذي هو للبعيد للحاضر القريب المشاهد.
ومثل هذا قول الله جل وعلا في سورة الممتحنة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنفَقُوا وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا [الممتحنة:10]، ماذا قال بعد ذلك؟
قال: ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ [الممتحنة:10]، والأصل أن يقول: (هذا حكم الله يحكم بينكم)، هذا هو الذي تقدم ذكره، وهو أننا نمتحن المؤمنات إذا جئن مهاجرات، لأنها هاجرت رغبة في الله ورسوله خالصة صادقة، ما هاجرت لزوج، ولا رغبة في أرض أو في التزوج من غير زوجها، إنما هاجرت مؤمنة بالله ورسوله عليه صلوات الله وسلامه، فإذا استبان لنا هذا فلا يجوز أن نعيدها إلى الكفار، ولا يجوز أن نمسك أيضاً بعصم الكوافر.. ثم بعد ذلك نعطي مهور النساء اللاتي هاجرن إلينا وهن مؤمنات للكفار.
فالأصل أن يقول: (هذا حكم الله يحكم بينكم)، أشير إليه وذكر ووضح وهو حاضر، فقال: ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [الممتحنة:10].
ومثل هذا الكثير الكثير، وإن أردت أن تتحقق من هذا فانظر إلى هذا الأمر الذي يوضح هذه القضية غاية الإيضاح، كيف أشار ربنا جل وعلا إلى الحاضر القريب بصيغة اسم الإشارة التي هي للبعيد، ثم بين أن المراد من تلك الصيغة التي هي للبعيد: الحاضر الموجود القريب، يقول الله جل وعلا: ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ [آل عمران:58]، بعد أن قص قصة عبده عيسى على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه، والأصل: (هذا نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم)، إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ * فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ * إِنَّ هَذَا [آل عمران:59-62]، مع أنه قال في أول الآيات ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ [آل عمران:58]، وهنا قال: إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ [آل عمران:62]، ذلك هو هذا، وهذا هو ذلك، فذكر اسم الإشارة الذي هو للبعيد في أول الأمر، ثم بين المراد منه وأنه حاضر أشير إليه وهو قريب موجود مشاهد بيننا ليس بغائب عنا.
إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ [آل عمران:62]، أي: إن ذلك الذي تلوناه عليك، وأخبرناك عنه بصيغة اسم الإشارة التي وضعت للبعيد، يراد منها ما هو حاضر موجود بين يديك: إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران:62].
هذا القول الأول: أن أسماء الإشارة تتعاقب، ويحل بعضها محل بعض، وينوب بعضها عن بعض، لكن هذا القول مع سلامته وظهور الأدلة عليه يبقى في نفسي نحوه شيء، فهو كما يقال: جاف جاف، فما عندنا شك في أن صيغة اسم الإشارة التي هي للبعيد يعبر بها عن الحاضر القريب المشاهد المحسوس، لكن نقول: هل لذلك نكتة؟ لمَ عبر عن الأمر القريب باسم إشارة وضع للبعيد؟
التعليل الثاني: لملاحظة علو الرتبة
يقول: تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ [لقمان:2]، (تلك) بمعنى (هذه)، لكن أشير باسم الإشارة الذي هو للبعيد إلى حاضر قريب تنزيلاً للبعد الرتبي منزلة البعد الحقيقي.
وحقيقة هذا القول تطرب له الآذان، وتبتهج به النفوس، وتنشرح القلوب لقبوله.
يقول: هذه الآيات آيات جليلة لها شأن عظيم، فإذاً ليست هي من حيث تلاوتها .. من حيث رسمها بعيدة أو قريبة، بل من حيث منزلتها، من حيث رتبتها، من حيث مكانتها، من حيث رفعة قدرها.
هل منزلتها قريبة حاضرة سهلة أم عالية عالية عالية؟
فضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على سائر الخلق، وهذا الكلام يعلو ولا يعلى، ويحكم ما دونه، أعلاه مثمر وأسفله مغدق، وما هو من كلام البشر.
إذا كان الأمر كذلك فقد تبين أن البعد ينقسم إلى قسمين:
بعد حسي: يشار إليه باسم الإشارة الذي هو للبعيد: تلك.
وبعد معنوي: وهو الذي عبر عنه السكاكي ببعد الرتبة والمنزلة، فإذاً: نزل البعد المعنوي في الرتبة والمنزلة منزلة البعد الحسي، فعبر عنه بـ(تلك)، إذاً: تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ [لقمان:2] ، هذه آيات الكتاب الحكيم تتلى عليكم، وذكر اسم الإشارة الذي هو للبعيد للغائب تنزيلاً لهذه الآيات في رتبتها وعلو شأنها ورفعة قدرها بمنزلة البعد الحسي، فبعد الرتبة كالبعد الحسي، فلذلك هنا يشار إلى بعدها في الرتبة والمنزلة وجلالة القدر، لا في البعد الحسي، وحقيقة هذا القول أوجه وألطف من القول الأول.
ولذلك قال الإمام الألوسي عليه رحمة الله في روح المعاني: هذا هو تعليل البعد في اسم الإشارة. أي: البعد في الرتبة والمنزلة، ونور القرب يلوح عليه. يعني: هذا القول هو القريب للصواب، وهو المقبول أننا نقول هنا: (تلك) بمعنى (هذه) أشير إلى ما هو حاضر قريب باسم إشارة لبعيد غائب تنزلة للبعد الرتبي منزلة البعد الحسي الحقيقي.
هل لهذا شاهد؟
نعم، يقول الله جل وعلا في سورة يوسف مخبراً عن امرأة العزيز : وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ * قَالَتْ فَذَلِكُنَّ [يوسف:30-32]، الأصل أن يقول؟ (فهذا)؛ لأنه حاضر الآن بينهن، أي: (فهذا الذي لمتنني فيه).
(فذلكن) المراد هنا البعد الحسي الحقيقي أو بعد المنزلة والرتبة؟ المنزلة والرتبة.
ما الدليل؟ في الآية قرينة واضحة أوضح من الشمس في رابعة النهار وهي قوله: فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ [يوسف:31].
إذاً: هن اعترفن برفعة قدره، وعلو شأنه، وبعد منزلته، وأنه ليس على غرار البشر. إذاً: منزلته عالية، ولذلك: (فذلكن)، أي: هذا الحاضر بيننا منزلته عالية جليلة رفيعة بعيدة بعيدة.
فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ [يوسف:32]، فهنا اسم الإشارة جاء بصيغة البعد والمراد منه القرب، لكن لمَ عبر عن هذا القريب باسم إشارة لبعيد؟ لبعد رتبته ومنزلته وقدره وشأنه، كما قلنا، وفي الآيات قرينة قوية على هذا، (فلما رأينه أكبرنه) أي: عظمنه وبجلنه، ورأين له شأناً عظيماً، وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ [يوسف:31].
قَالَتْ فَذَلِكُنَّ [يوسف:32]، الأصل: (قالت فهذا) (الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ[يوسف:32]، ولو جاء التعبير بهذا لما كان في الكلام توصيفاً لنبي الله يوسف على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه بما يليق به من القدر والمقدار، وهذه إشارات العزيز القهار سبحانه وتعالى.
إخوتي الكرام! وأسرار القرآن لا يقف الإنسان عليها إلا إذا تذوق لغة العرب وأحاط بها والأصل أن يقول: (فهذا)، هذا لحن في كلام الله، لأن هذا حاضر موجود، ينبغي أن يقول: فهذا، وإلا فقلبك ملحون وقلبك مأفون، ولو كان عندك طهارة وإدراك لهذا القرآن.. هذه عندما يسمعها العربي الذي يدرك ترتيب الكلام وبلاغة الكلام وحلاوة الكلام يهز رأسه طرباً، يقول: منزل هذا الكلام هو ذو الجلال والإكرام.
(فذلكن)؛ لأنه لو قال: (فهذا الذي لمتنني فيه) يقول: إذاً: أين رفعة القدر التي ذُكرت لهذا النبي في الآيات السابقة؟ ما عبر عنها بما يدل على مكانته وعلو شأنه، فهنا ليس المراد منه البعد الحسي بالاتفاق فهو حاضر.
إذاً: المراد من البعد في اسم الإشارة (فذلكن) للرتبة التي اتفق عليها النسوة، أكبرنه، وقلن: حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ * قالت فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ [يوسف:31-32].
إذاً: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا [الأنعام:83]، أي: هذه حجتنا، نقول فيها ما نقوله الآن في القول الثاني، نقول: هذه حجتنا، عبر عنها بالإشارة التي هي للبعيد؛ لأنها حجة محكمة فخيمة صحيحة بليغة أخرست الخصم وأسكتته، وهذه يقال لها: (تلك)، ولا يقال: (هذه) للإشارة إلى بعدها في الرتبة والمنزلة والقدر، لا في البعد الحسي الحقيقي، وهكذا في سائر الأمور: ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ [السجدة:6]، لو قال (هذا) لكان في الكلام شيء من التعبير الذي لا يتناسب مع جلال ذي الجلال والإكرام، لذلك أراد أن يشير إلى عظيم منزلة هذا الرب، وأنه إله جليل عظيم ليس كأحد من المخلوقات، ذلك الإله الجليل العظيم الذي له كل كمال، ويتنزه عن كل نقصان، ذلك الذي فعل ما تقدم عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [السجدة:6].
فنقول إذاً: اسم الإشارة الذي هو للبعيد يعبر به عن القريب، لكن ينبغي أن يكون لذلك التعبير سبب ونكتة وحكمة، وهو أنه يراعي البعد الرتبي .. أي الرتبة والمنزلة في المعنى وفي القدر، وفي الشأن، وننزل هذا منزلة البعد الحسي الحقيقي، وهذا القول حقيقة -كما قلت- إنه أقوى وأوجه من القول الأول.
التعليل الثالث: لدلالة اسم الإشارة على القريب والبعيد مطلقاً
يقول الإمام الرازي في قوله تعالى: تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ [لقمان:2] وقوله سبحانه: ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:2]. يقول: اسم الإشارة (ذا، ذه) موضوع للقريب وللبعيد في الوضع اللغوي، اسم الإشارة يشار به إلى حاضر وإلى غائب.. إلى موجود وإلى بعيد، لكن في الاستعمال خص الناس إدخال الهاء على القريب، فيقولون: هذه وهذا، وإدخال اللام على البعيد فيقولون: ذلك وتلك.
إذاً: فالوضع -وضع اللغة- لا يختلف، فاسم الإشارة يعبر به عن البعيد وعن القريب، لكن الاختلاف في استعمال الناس، إذا أرادوا أن يشيروا إلى قريب يدخلون على اسم الإشارة (ذا) الهاء، فيقولون: (هذا)، وإذا أرادوا أن يشيروا به إلى بعيد يقولون: (ذلك).
إذاً: اسم الإشارة هو هو، لكن الناس هنا أدخلوا اللام، وهنا أدخلوا الهاء: (ذلك)، (هذا)، عندما يريدون أن يشيروا به إلى بعيد ليؤكد الإشارة يأتون باللام، وعندما يريدون أن يشيروا إلى قريب يدخلون عليه الهاء.
وعليه فـ(تلك) هذه خالفت عرف استعمال الناس، لكنها في اللغة موضوعة أصالة -كما قلنا- ليعبر بها عن مشار إليه قريب أو بعيد، وعليه فلا إشكال، (تلك) بمعنى (هذه)؛ لأن اسم الإشارة واحد، وعرف الناس فقط هو الذي خص (تلك) بأنها للبعيد و(هذه) للقريب.
يقول: هذا مثل لفظ: الدابة، فالدابة موضوعة في اللغة لكل ما يدب ويمشي على وجه الأرض من إنسان وغيره، وكون العرف الاستعمالي عند الناس خصها بالبهائم فيقولون: الدواب، ولا يطلقون على الإنسان لفظ دابة، فهذا عرف اصطلاحي، لكن لو جاء وأطلق متكلم على الإنسان لفظ الدابة فصحيح، قال تعالى: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا [هود:6]، وَكَأَيِّن مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [العنكبوت:60] سبحانه وتعالى.
إذاً: قوله: (تلك)، المراد من اسم الإشارة (هذه)، يقول: لا إشكال في ذلك من ناحية الوضع، وأصل الاستعمال في اللغة (تلك) و(هذه) سواء، لكن في اصطلاح الناس يفرقون بين (تلك) وبين (هذه)، كما يفرقون بين (هذا) و(ذلك).
إذاً: هذا اصطلاح للناس لكن الوضع اللغوي ليس كذلك.
قال الإمام الألوسي عليه رحمة الله معلقاً على كلام الإمام الرازي: هذا كلام مخالف لما قرره علماء اللغة وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ [يوسف:76]. أي: أن صيغة اسم الإشارة (هذا) بمعنى (ذلك)، و(هذه) بمعنى (تلك)، وهذه يشار بها إلى قريب وبعيد، وهذه إلى قريب وبعيد، والصيغة واحدة في الوضع اللغوي، يقول: ليس كذلك، فعلماء اللغة يخالفون في هذا وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ [يوسف:76].
تلخيص أقوال المفسرين في تعليل نكتة الإشارة بـ(تلك) للآيات
القول الأول: أن اسم الإشارة (تلك) المراد منه هنا شيء قريب حاضر: تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ [لقمان:2] فهي بمعنى (هذه)، لكن اختلف أئمتنا في تعليل هذا القول على ثلاثة أقوال:
القول الأول: ذهب إليه ابن كثير وأبو عبيدة معمر بن المثنى ، وغيرهما من أئمة الإسلام: ذهبوا إلى أن أسماء الإشارة تتناوب وتتعاوض، ويؤتى بهذه بدل تلك، فلا حرج في ذلك، مع أن تلك موضوعة للبعيد وهذه موضوعة للقريب.
القول الثاني: نعم تتناوب لكن لنكتة وحكمة، وهي: في الحاضر القريب عندما يعبر عنه باسم الإشارة الموضوعة للبعيد يلاحظ بعد الرتبة والمنزلة والقدر، وننزل البعد الرتبي منزلة البعد الحسي الحقيقي.
القول الثالث: قول الرازي ، وهو أن كلاً من صيغ أسماء الإشارة موضوعة في الأصل ليشار بها إلى قريب أو إلى بعيد في أصل الوضع؛ لكن الاستعمال خص إدخال الهاء على اسم الإشارة إذا كان قريباً ليشار به إلى قريب، وإدخال اللام على اسم الإشارة ليشار به إلى بعيد. هذا عرف الناس واستعمالهم، أما في الوضع اللغوي فالأمر ليس كذلك.
شواهد من الحديث تؤيد التعليل الثاني
وكما تقدم معنا أمثلة للإشارة باسم الإشارة لبعيد إلى قريب لنكتة لطيفة على القول الثاني، فيأتي أيضاً اسم الإشارة الذي هو للقريب ويشار به إلى بعيد أيضاً لنكتة لطيفة، لا لمجرد التناوب والتعاوض، ولا لأن كلاً من الصيغتين موضوعة ليشار بها إلى قريب أو بعيد كما يقول الرازي، إنما لنكتة: يشار باسم الإشارة الذي هو للقريب إلى البعيد، كما يشار باسم الإشارة الذي هو للبعيد إلى قريب.
مثال هذا: ما ثبت في الصحيحين وسنن الترمذي والنسائي ومسند الإمام أحمد وموطأ الإمام مالك، وإذا كان الحديث في الصحيحين فهو في أعلى درجات الصحة:
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يذهب إلى قباء، فكان يزور
قال يقيل بمعنى: سكن. وقال يقيل بمعنى: نام. الماضي فيهما واحد، لكن في المضارع يختلف.
وقال يقول إذا تكلم ونطق.
وأقال يُقيل إذا رد سلعته وأعطى الثمن للمشترى، فإذا رد البائع السلعة أقال فهو مقيل.
إذاً: (قال يقيل نام) (قال يقول يتكلم) ثلاثة قبيل ثلاثة.. القيلولة يَقيل، والإقالة يُقيل، والقول يقول، هذا يظهر في المضارع، أما في الماضي فصيغة قال يقول وقال يقيل واحدة.
قال: (فكانت بعد أن تطعمه _ أي:
(يركبون كبد هذا البحر ملوكاً على الأسِّرة، أو كملوك على الأسِّرة، فقالت: ادع الله أن يجعلني منهم)؛ ولذلك بوب الإمام البخاري عليه رحمة الله في كتابه الجهاد على الحديث في باب آخر فقال: (باب الجهاد للرجال والنساء، وطلب الرجال والنساء الشهادة في سبيل الله) فهنا قالت: ادع الله أن يجعلني منهم. أم حرام بنت ملحان، فدعا لها النبي صلى الله عليه وسلم، وفي رواية قال: (أنت منهم).
وورد في رواية أبي داود أن أم حرام بنت ملحان كانت تغسل رأسها، فاستيقظ النبي عليه الصلاة والسلام وهو يضحك فقالت: (أتضحك من رأسي يا رسول الله؟ قال: لا. ناس من أمتي عرضوا عليّ يركبون ثبج هذا البحر ملوكاً على الأسرة، أو كالملوك على الأسرة. فقالت: ادع الله أن يجعلني منهم، فدعا لها وقال: أنت منهم، ثم نام عليه الصلاة والسلام مرة أخرى، فاستيقظ وهو يضحك عليه صلوات الله وسلامه مرة أخرى، فقالت: ما الذي يضحكك بأبي أنت وأمي يا رسول الله؟ فقال: ناس من أمتي عرضوا علي يركبون ثبج هذا البحر ملوكاً على الأسرة أو كملوك على الأسرة، قالت: ادع الله أن يجعلني منهم، قال: أنت من الأولين).
ولا مانع أن أم حرام بنت ملحان ظنت وخطر ببالها ذلك فليس عندها يقين أنها ستموت مع الدفعة الأولى، فظنت أنه ستمتد بها الحياة، فهي تريد الغزوتين، الغزوة الأولى والثانية، لكنها استشهدت وماتت رضي الله عنها في الغزوة الأولى سنة (28ه).
والغزوة في البحر لها عشرة أضعاف الغزوة في البر، كما ثبت هذا في المستدرك بسند صحيح أقره عليه الذهبي عن نبينا عليه الصلاة والسلام: (أن غزوة في البحر تعدل عشر غزوات في البر، ومن أجاز البحر فكأنما قطع الأودية كلها)، أي: عندما يقطع البحر له أجر من قطع أودية الأرض بكاملها، والمائد فيه عندما يركب من أجل الغزو والجهاد في سبيل الله، لا من أجل العربدة والفسوق كما يفعل في هذه الأيام (والمائد فيه كالمتشحط بدمه في سبيل الله) أي: عندما يركب البحر ليغزو ويعتريه الميدان والصداع ودوار الرأس، له كأجر من يموت في البر وينغمس بدمه ويتلطخ بذلك الدم، والحديث كما قلت إخوتي الكرام في المستدرك بسند صحيح.
أم حرام بنت ملحان خرجت في عهد عثمان رضي الله عنه وعن سائر الصحابة الكرام، وهي أول غزوة غزاها المسلمون في البحر سنة (28ه) في عهد معاوية، عندما فتحت قبرص، فكان معاوية أميراً على بلاد الشام من قبل عمر بن الخطاب رضي الله عنهم أجمعين، وكان يستأذنه مراراً في أن يركب البحر من أجل الغزو في سبيل الله، فكان عمر يمتنع ويقول: راكب البحر كدود على عود، فإذا انكسر العود هلك الدود، فلا أريد أن أجر أمة محمد عليه الصلاة والسلام إلى مخاطر، نغزو الآن من البر وفضل الله واسع.
فلما جاء عثمان استأذن معاوية رضي الله عنهم أجمعين عثمان بن عفان رضي الله عنه وعن سائر الصحابة الكرام في الغزو فأذن له، فأول غزوة انطلقت في البحر في سبيل الله سنة ثمان وعشرين، وفي تلك السنة فتحت قبرص، فكانت تحقيقاً لهذه البشارة النبوية لـأم حرام بنت ملحان في تلك الغزوة، فركبت البحر، ونزلت في قبرص، وركبت دابتها بعد ذلك فسقطت عنها وماتت، ويقال عن قبرها في قبرص (قبر الشهيدة)، قبر المرأة الصالحة أم حرام بنت ملحان.
القول الأول: ذهب إليه الإمام ابن كثير عليه رحمة الله، وعدد من أئمة اللغة كـمعمر بن المثنى أبي عبيدة في كتابه: (مجاز القرآن)، ويقصد بالمجاز: تفسير القرآن، ولا يقصد بالمجاز المعنى الاصطلاحي عند المتأخرين، وهو الذي يقابل الحقيقة، بل المجاز بمعنى التفسير.
ولذلك يقول البخاري عليه رحمة الله في صحيحه عندما ينقل قول أبي عبيدة معمر بن المثنى: (الم) مجازها مجاز أوائل السور.
ما معنى مجازها؟ أي: تفسيرها والقول فيها كما يقال في أوائل السور، وتقدم معنا الإشارة إلى هذا.
وهنا أبو عبيدة معمر بن المثنى عليه رحمة الله في الجزء الأول (ص:28) عند مطلع ومفتتح وبداية سورة البقرة الم * ذَلِكَ [البقرة:1-2] يقول: اسم إشارة للبعيد لكنه بصيغة المذكر ذَلِكَ الْكِتَابُ [البقرة:2]، وهنا اسم إشارة للبعيد (تلك)، لكن المراد آيات، وهي مؤنثة، والصيغتان للبعيد الغائب، يقول أبو عبيدة: (ذلك الكتاب)، هذا الكتاب، والعرب قد تخاطب الشاهد، أي: الحاضر القريب، فتظهر له مخاطبة الغائب.
والإمام ابن كثير في تفسيره عليه رحمة الله عندما فسر (تلك) بـ(هذه) قال عليه رحمة الله (1/39): العرب تعاوض بين اسمي الإشارة، أي: تجعل واحداً عوضاً عن الآخر، فهما يتعاقبان، فأحياناً تستعمل صيغة اسم الإشارة التي هي للبعيد وتقصد بها القريب الحاضر، وأحياناً تستعمل صيغة اسم الإشارة التي هي للقريب الحاضر وتريد بها مشاراً إليه غائباً بعيداً، تعاوض بين اسمي الإشارة، قال معمر بن المثنى: والشاهد على هذا ما ورد في كلام العرب، يقول خُفاف بن نُدبة من شعراء العرب:
أقول له والرمح يأطر متنه
يأطر متنه: أي يقطع متنه وظهره، ويفصله عن بعضه.
تأمل خفافاً إنني أنا ذلك
إنني أنا ذلك: ما الأصل أن يقول؟ إنني أنا هذا، أي: أنا حاضر بين يديك، أنا خفاف الذي أضربك هذه الضربة التي تقطع ظهرك.
أقول له والرمح يأطر متنه تأمل خفافاً إنني أنا ذلك
أشار إليه باسم الإشارة الذي هو للبعيد وهو حاضر موجود.
لكن الإمام الألوسي في روح المعاني (1/105) قال: وليس هذا بنص صريح على أن المراد من قول خفاف بن ندبة: إنني أنا ذلك، أنا هذا، أي: أشار باسم الإشارة الذي هو للبعيد إلى حاضر قريب، لاحتمال أن يريد خفاف : إنني أنا ذلك الرجل الذي كنت تسمع به وتحدث عنه، فهو إذاً غائب بعيد، كان يسمع به هذا المضروب. فكأن الإمام الألوسي عليه رحمة الله يقول: صيغة اسم الإشارة هنا التي هي للبعيد على بابها وعلى حقيقتها، يقصد منها ما هو بعيد غائب ليس بحاضر شاهد؛ إنني أنا ذلك، أي ذلك الرجل الذي كنت تسمع به وتحدث عنه، خذ هذه الضربة منه، التي تأطر متنك وتقطع ظهرك.
أقول: لكن ما قاله الإمام ابن كثير عليه رحمات ربي الجليل، وهكذا قبله معمر بن مثنى على علماء الإسلام جميعاً رحمة الله ورضوانه، إن ما قاله هذان وغيرهما له شواهد كثيرة في كتاب الله جل وعلا، وقد جاءت صيغة اسم الإشارة للبعيد ويراد منها الحاضر المشاهد القريب، فمن ذلك:
قول الله جل وعلا في سورة الأنعام: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [الأنعام:83]، قال هذا بعد ذكر الحجة التي منحها الله ووهبها لخليله إبراهيم على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه، فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ * وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:76-82].
ماذا قال بعد ذلك؟
قال: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [الأنعام:83].
(تلك): بعيدة غائبة أو حاضرة قريبة أشير إليها؟ الأصل: و(هذه حجتنا)، أي التي منحها الله لخليله إبراهيم على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه، فالأصل أن يقول: وهذه حجتنا التي تقدم ذكرها وسردها، واستمعتم إليها، وبينت بياناً شافياً وافياً، هذه الحجة آتيناها لخليلنا إبراهيم على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه، فعبر عنها باسم الإشارة الذي هو للبعيد، لكن المشار إليه حاضر مشاهد قريب، ليس بغائب بعيد.
(وتلك حجتنا) معناها: هذه حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه، نرفع درجات من نشاء.
وهكذا في سورة السجدة آية الم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ * اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ * يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [السجدة:1-5]، ماذا قال بعد ذلك؟
قال: ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [السجدة:6]، (ذلك): اسم إشارة يشار به للغائب البعيد، والأصل هنا أن يقال: هذا المتحدث عنه تَنزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ [السجدة:2]، اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ [السجدة:4] هذا المتحدث عنه، والأصل أن يقول: (هذا عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم) الذي ذكرت أوصافه ونعوته سبحانه وتعالى، وما قام به من أعمال وأفعال وخلق وتدبير، فعبر عنه بـ(ذلك)، وكما تقدم معنا: فالعرب يعاوضون بين أسماء الإشارة فيجعلون اسم الإشارة الذي هو للبعيد للحاضر القريب المشاهد.
ومثل هذا قول الله جل وعلا في سورة الممتحنة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنفَقُوا وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا [الممتحنة:10]، ماذا قال بعد ذلك؟
قال: ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ [الممتحنة:10]، والأصل أن يقول: (هذا حكم الله يحكم بينكم)، هذا هو الذي تقدم ذكره، وهو أننا نمتحن المؤمنات إذا جئن مهاجرات، لأنها هاجرت رغبة في الله ورسوله خالصة صادقة، ما هاجرت لزوج، ولا رغبة في أرض أو في التزوج من غير زوجها، إنما هاجرت مؤمنة بالله ورسوله عليه صلوات الله وسلامه، فإذا استبان لنا هذا فلا يجوز أن نعيدها إلى الكفار، ولا يجوز أن نمسك أيضاً بعصم الكوافر.. ثم بعد ذلك نعطي مهور النساء اللاتي هاجرن إلينا وهن مؤمنات للكفار.
فالأصل أن يقول: (هذا حكم الله يحكم بينكم)، أشير إليه وذكر ووضح وهو حاضر، فقال: ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [الممتحنة:10].
ومثل هذا الكثير الكثير، وإن أردت أن تتحقق من هذا فانظر إلى هذا الأمر الذي يوضح هذه القضية غاية الإيضاح، كيف أشار ربنا جل وعلا إلى الحاضر القريب بصيغة اسم الإشارة التي هي للبعيد، ثم بين أن المراد من تلك الصيغة التي هي للبعيد: الحاضر الموجود القريب، يقول الله جل وعلا: ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ [آل عمران:58]، بعد أن قص قصة عبده عيسى على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه، والأصل: (هذا نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم)، إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ * فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ * إِنَّ هَذَا [آل عمران:59-62]، مع أنه قال في أول الآيات ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ [آل عمران:58]، وهنا قال: إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ [آل عمران:62]، ذلك هو هذا، وهذا هو ذلك، فذكر اسم الإشارة الذي هو للبعيد في أول الأمر، ثم بين المراد منه وأنه حاضر أشير إليه وهو قريب موجود مشاهد بيننا ليس بغائب عنا.
إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ [آل عمران:62]، أي: إن ذلك الذي تلوناه عليك، وأخبرناك عنه بصيغة اسم الإشارة التي وضعت للبعيد، يراد منها ما هو حاضر موجود بين يديك: إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران:62].
هذا القول الأول: أن أسماء الإشارة تتعاقب، ويحل بعضها محل بعض، وينوب بعضها عن بعض، لكن هذا القول مع سلامته وظهور الأدلة عليه يبقى في نفسي نحوه شيء، فهو كما يقال: جاف جاف، فما عندنا شك في أن صيغة اسم الإشارة التي هي للبعيد يعبر بها عن الحاضر القريب المشاهد المحسوس، لكن نقول: هل لذلك نكتة؟ لمَ عبر عن الأمر القريب باسم إشارة وضع للبعيد؟
حقيقة القول الثاني الذي قال به كثير من أئمة اللغة العربية وارتضاه جمهور المفسرين هو أظهر وأقوى من القول الأول، الذي ذكره الإمام السكاكي في مفتاح العلوم، وقد توفي سنة (626ه) عليه رحمة الله.
يقول: تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ [لقمان:2]، (تلك) بمعنى (هذه)، لكن أشير باسم الإشارة الذي هو للبعيد إلى حاضر قريب تنزيلاً للبعد الرتبي منزلة البعد الحقيقي.
وحقيقة هذا القول تطرب له الآذان، وتبتهج به النفوس، وتنشرح القلوب لقبوله.
يقول: هذه الآيات آيات جليلة لها شأن عظيم، فإذاً ليست هي من حيث تلاوتها .. من حيث رسمها بعيدة أو قريبة، بل من حيث منزلتها، من حيث رتبتها، من حيث مكانتها، من حيث رفعة قدرها.
هل منزلتها قريبة حاضرة سهلة أم عالية عالية عالية؟
فضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على سائر الخلق، وهذا الكلام يعلو ولا يعلى، ويحكم ما دونه، أعلاه مثمر وأسفله مغدق، وما هو من كلام البشر.
إذا كان الأمر كذلك فقد تبين أن البعد ينقسم إلى قسمين:
بعد حسي: يشار إليه باسم الإشارة الذي هو للبعيد: تلك.
وبعد معنوي: وهو الذي عبر عنه السكاكي ببعد الرتبة والمنزلة، فإذاً: نزل البعد المعنوي في الرتبة والمنزلة منزلة البعد الحسي، فعبر عنه بـ(تلك)، إذاً: تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ [لقمان:2] ، هذه آيات الكتاب الحكيم تتلى عليكم، وذكر اسم الإشارة الذي هو للبعيد للغائب تنزيلاً لهذه الآيات في رتبتها وعلو شأنها ورفعة قدرها بمنزلة البعد الحسي، فبعد الرتبة كالبعد الحسي، فلذلك هنا يشار إلى بعدها في الرتبة والمنزلة وجلالة القدر، لا في البعد الحسي، وحقيقة هذا القول أوجه وألطف من القول الأول.
ولذلك قال الإمام الألوسي عليه رحمة الله في روح المعاني: هذا هو تعليل البعد في اسم الإشارة. أي: البعد في الرتبة والمنزلة، ونور القرب يلوح عليه. يعني: هذا القول هو القريب للصواب، وهو المقبول أننا نقول هنا: (تلك) بمعنى (هذه) أشير إلى ما هو حاضر قريب باسم إشارة لبعيد غائب تنزلة للبعد الرتبي منزلة البعد الحسي الحقيقي.
هل لهذا شاهد؟
نعم، يقول الله جل وعلا في سورة يوسف مخبراً عن امرأة العزيز : وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ * قَالَتْ فَذَلِكُنَّ [يوسف:30-32]، الأصل أن يقول؟ (فهذا)؛ لأنه حاضر الآن بينهن، أي: (فهذا الذي لمتنني فيه).
(فذلكن) المراد هنا البعد الحسي الحقيقي أو بعد المنزلة والرتبة؟ المنزلة والرتبة.
ما الدليل؟ في الآية قرينة واضحة أوضح من الشمس في رابعة النهار وهي قوله: فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ [يوسف:31].
إذاً: هن اعترفن برفعة قدره، وعلو شأنه، وبعد منزلته، وأنه ليس على غرار البشر. إذاً: منزلته عالية، ولذلك: (فذلكن)، أي: هذا الحاضر بيننا منزلته عالية جليلة رفيعة بعيدة بعيدة.
فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ [يوسف:32]، فهنا اسم الإشارة جاء بصيغة البعد والمراد منه القرب، لكن لمَ عبر عن هذا القريب باسم إشارة لبعيد؟ لبعد رتبته ومنزلته وقدره وشأنه، كما قلنا، وفي الآيات قرينة قوية على هذا، (فلما رأينه أكبرنه) أي: عظمنه وبجلنه، ورأين له شأناً عظيماً، وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ [يوسف:31].
قَالَتْ فَذَلِكُنَّ [يوسف:32]، الأصل: (قالت فهذا) (الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ[يوسف:32]، ولو جاء التعبير بهذا لما كان في الكلام توصيفاً لنبي الله يوسف على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه بما يليق به من القدر والمقدار، وهذه إشارات العزيز القهار سبحانه وتعالى.
إخوتي الكرام! وأسرار القرآن لا يقف الإنسان عليها إلا إذا تذوق لغة العرب وأحاط بها والأصل أن يقول: (فهذا)، هذا لحن في كلام الله، لأن هذا حاضر موجود، ينبغي أن يقول: فهذا، وإلا فقلبك ملحون وقلبك مأفون، ولو كان عندك طهارة وإدراك لهذا القرآن.. هذه عندما يسمعها العربي الذي يدرك ترتيب الكلام وبلاغة الكلام وحلاوة الكلام يهز رأسه طرباً، يقول: منزل هذا الكلام هو ذو الجلال والإكرام.
(فذلكن)؛ لأنه لو قال: (فهذا الذي لمتنني فيه) يقول: إذاً: أين رفعة القدر التي ذُكرت لهذا النبي في الآيات السابقة؟ ما عبر عنها بما يدل على مكانته وعلو شأنه، فهنا ليس المراد منه البعد الحسي بالاتفاق فهو حاضر.
إذاً: المراد من البعد في اسم الإشارة (فذلكن) للرتبة التي اتفق عليها النسوة، أكبرنه، وقلن: حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ * قالت فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ [يوسف:31-32].
إذاً: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا [الأنعام:83]، أي: هذه حجتنا، نقول فيها ما نقوله الآن في القول الثاني، نقول: هذه حجتنا، عبر عنها بالإشارة التي هي للبعيد؛ لأنها حجة محكمة فخيمة صحيحة بليغة أخرست الخصم وأسكتته، وهذه يقال لها: (تلك)، ولا يقال: (هذه) للإشارة إلى بعدها في الرتبة والمنزلة والقدر، لا في البعد الحسي الحقيقي، وهكذا في سائر الأمور: ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ [السجدة:6]، لو قال (هذا) لكان في الكلام شيء من التعبير الذي لا يتناسب مع جلال ذي الجلال والإكرام، لذلك أراد أن يشير إلى عظيم منزلة هذا الرب، وأنه إله جليل عظيم ليس كأحد من المخلوقات، ذلك الإله الجليل العظيم الذي له كل كمال، ويتنزه عن كل نقصان، ذلك الذي فعل ما تقدم عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [السجدة:6].
فنقول إذاً: اسم الإشارة الذي هو للبعيد يعبر به عن القريب، لكن ينبغي أن يكون لذلك التعبير سبب ونكتة وحكمة، وهو أنه يراعي البعد الرتبي .. أي الرتبة والمنزلة في المعنى وفي القدر، وفي الشأن، وننزل هذا منزلة البعد الحسي الحقيقي، وهذا القول حقيقة -كما قلت- إنه أقوى وأوجه من القول الأول.
استمع المزيد من الشيخ عبد الرحيم الطحان - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
تفسير سورة لقمان - مقدمة في تفسير سورة لقمان [2] | 2910 استماع |
تفسير سورة لقمان - الحروف المقطعة في أوائل السور [6] | 2722 استماع |
تفسير سورة لقمان - الحروف المقطعة في أوائل السور [3] | 2686 استماع |
تفسير سورة لقمان - الحروف المقطعة في أوائل السور [1] | 2549 استماع |
تفسير سورة لقمان - تابع تفسير الآية رقم [2] | 2514 استماع |
تفسير سورة لقمان - الحروف المقطعة في أوائل السور [4] | 2372 استماع |
تفسير سورة لقمان - مقدمة في تفسير سورة لقمان [1] | 2323 استماع |
تفسير سورة لقمان - الحروف المقطعة في أوائل السور [5] | 2290 استماع |
تفسير سورة لقمان - مقدمة في تفسير سورة لقمان [3] | 2264 استماع |
تفسير سورة لقمان - الحروف المقطعة في أوائل السور [2] | 2133 استماع |