الأدب والفن في أسبوع
مدة
قراءة المادة :
12 دقائق
.
للأستاذ عباس خضر
في مؤتمر المجمع اللغوي
احتفل مجمع فؤاد الأول للغة العربية يوم الثلاثاء الماضي بافتتاح مؤتمره السنوي، وهو الذي يحضره الأعضاء الأجانب وستمر نحو شهرين، واحتفى في هذا الحفل باستقبال عضوين جديدين هما الأستاذ محمد رضا الشبيبي والأستاذ خليل السكاكيني.
افتتح الاجتماع معالي الأستاذ أحمد لطفي السيد باشا رئيس المجمع بكلمة حي فيها الأعضاء ورحب بالزميلين الجديدين، ومما قاله أن المجمع يعالج مشكلات اللغة وقضاياها باعتباره هيئة علمية بحتة ليس من شأنها أن تنفذ قراراتها إلا ما يكون من عرضها على الهيئات العلمية ونشرها في المطبوعات والمعجمات، وأبدى معاليه السرور بما يلاحظ في المجتمع العربي من الدلائل على الرغبة في تقبل أعمال المجمع بقبول حسن.
ثم ألقى الأستاذ شوق أمين، بالنيابة عن كاتم سر المجمع، كلمة أجمل فيها ما قام به المجمع من أعمال في العام الماضي وبرنامج العمل في هذا المؤتمر.
وبعد ذلك وقف الأستاذ عباس محمود العقاد فألقى كلمته ف استقبال الأستاذ الشبيبي فقال: إنه يدخل هذا المجمع من أكثر من باب واحد، لأنه شاعر ناقد باحث لغوي ناشر للعلم واللغة.
وعند ما تكلم عن شعره اكتفى بالعرض المجمل، فوصفه بفصاحة اللفظ ونصاعة المعنى وسلامة العبارة، وأنه ينظم اشعر في أغراض شتى ولا يقصره على غرض واحد، وألقى أمثلة من شعره بدأها بأبيات قال إنها من قصيدة نونية.
وقال الأستاذ العقاد: إن الأستاذ الشبيبي أعانه البحث الطويل في الأدب واللغة على تمييز الكلام وتصحيح النقد، وأورد ما قال إنه جاء في مقدمته لديوان الحبوبي تعقيباً على مذهب بقراط وابن خلدون في تكوين الطبائع والأخلاق، وهو (والذي أراه أن لاستعداد الفطرة والغريزة تأثيراً أكبر من تأثير البيئة والوسط، ورب سماء صافية الأديم وضاءة المنظر، وتربة جافة الهواء معتدلة الحرارة تنبت رجلا سمج الطبع والخلق. ورب إقليم شديد الحرارة قليل النور بليل الهواء يخرج رجلا سليم الطبع رقيق الشعور). وفي انصرافنا من الحفل قال لي صاحبي الشاعر العراقي الأستاذ إبراهيم الوائلي: إن الشبيبي لم يكتب مقدمة لديوان الحبوبي، وإنما الذي كتب مقدمة هذا الديوان هو الشيخ عبد العزيز الجواهري، ويظهر أن النص الذي أتى به العقاد مأخوذ من (العراقيات)، وهي مجموعة تضم عشرة من شعراء العراق، فيها ترجمة للحبوبي بقلم الشبيبي. ثم قام الأستاذ الشبيبي فألقى كلمة طيبة في تحية المجمع وشكر الأستاذ العقاد.
ومما قاله أن للشعوب العربية في هذه المرحلة من مراحل يقظتها مطالب، من أحوج ما تحتاج إليه ائتلاف في الأرواح وتقارب في المشارب والأذواق، وتجاوب بين العواطف والأفكار، وهذا مطلب جليل لا يتيسر لنا إلا إذا جمعتنا من لغة العرب جامعة أدبية كبرى، واعتصمنا من هذه الفصحى بحصن حصين، وجدير بهذا الأدب العربي الحديث أن يرى عاملا فعالا من عوامل الإنشاء والبناء، وخليق به أن يتغلب على غيره من العوامل المفرقة الهدامة. وقد جرت تقاليد المجمع على أن يتحدث العضو الجديد في حفلة الاستقبال عن سلفه حديثاً مسهباً، ولكن الأستاذ الشبيبي اكتفى بالإشارة إلى مكانة الأستاذ الكرملي وفضله، واعداً بأن يعود إلى تفصيل الكلام عنه في فرصة أخرى. ثم كان من قسمة الأستاذ خليل السكاكيني أن يقدمه الدكتور منصور فهمي باشا، إذ كشف القناع عن ناحية قال إن الأستاذ السكاكيني لا يحب إثارتها.
ولذلك حذره من الإشارة إلى أي ناحية من جهوده الأدبية الضاربة في ماض بعيد، ربما يستنتج منها مدى عمره المبارك المديد؛ وعلى رغم هذا التحذير مضى الدكتور منصور باشا في هذه الدعاية فروى أن مدرساً كهلا استقبل الأستاذ السكاكيني في حيفا من عدة سنين بخطبة قال فيها إنه سمع عاطر الثناء على فضله وأدبه من المرحومة حماته، وكانت صغرى تلميذات الأستاذ في دار المعلمات.
ثم قال إن الأستاذ سكاكيني يخفى عمره لأنه يدين بفلسفة القوة في كل أمر من الأمور؛ فهو يناوئ الشيخوخة ويكره أن ينتمي إليها أو يذكر بها؛ فإذا انظر من خلال فلسفته إلى اللغة فإنه لا يروقه منها إلا ما اتسم بالقوة والسلامة.
وأفاض بعد ذلك في بيان جهوده في الإصلاح العلمي ومكانته في عالم الأدب واللغة. وكان الدكتور منصور فهمي باشا قد قال في مستهل كلمته إن حلول السكاكيني، وهو من أهل القدس، محل الشيخ مصطفى عبد الرزاق فيه ما يبشر بأن بركة فلسطين ستلتقي بالآثار المباركة لسفله.
.
ولكنه لم يلبث بعد هذا الكلام أن رق في مداعبة معلم الغابرين والحاضرين، ومربي الحموات الفضليات.
. وألقى بعد ذلك الأستاذ السكاكيني كلمة طلية أودعها كثيراً من النظرات الفلسفية الرائعة، وقد قال في أولها: إذا كنتم تقيسون العمر بالسنين فقد بلغت من الكبر عتيا، وإذا كنتم تقيسونه بالأعمال فأنا لا أزال في دور الطفولة، وإذا كنتم تقيسونه بما يلقاه المرء من الهناء والسرور فإني لم أولد ثم أخذ في الحديث عن الشيخ مصطفى عبد الرزاق فحلل صفاته ومواهبه تحليلا وافياً وأفاض عليه بما هو أهله من الثناء والتمجيد، ولكنه جنح في آخر الأمر إلى عبارات مألوفة في التفريظ والمبالغة؛ إذ قال لو لم يسبقه الخليل لكان أول من وضع العروض، ولو لم يسبقه أرسطو لكان أول من وضع المنطق، ولو لم يسبقه ابن خلدون لكان أول من وضع علم الاجتماع.
واستمر في هذه الفروض، ماراً بعديد من العلوم والمعارف وأوائل واضعيها.
نظرات في أدبنا المعاصر: أذاعت محطة لندن العربية يوم الجمعة الماضي حديثاً للدكتور طه حسين بك عنوانه (نظرات في أدبنا المعاصر) قال فيه إن الأدب العربي الحديث في مصر مر بثلاث مراحل، الأولى مرحلة الحرية التي دفع إليها الوعي الوطني بعد الحرب العالمية الأولى، وكان الأدب في هذه المرحلة من حيث علاقته بالشعب ذا صبغتين اتصالية وانفصالية، فكان الأدباء متصلين بالشعب حين يعبرون عن مطالبه وحقوقه السياسية، وكانوا منفصلين عنه حينما كانت تتعلق كتابتهم ببعض النواحي الدينية والاجتماعية، ولكن الشعب لم يلبث بعد ذلك أن تطورت أفكاره وأصبح يستسيغ ما كان ينكره.
والمرحلة الثانية تبدأ من حوالي سنة 1930 حين مال السياسيون إلى أخذ الأمور بالرفق والاعتماد في حل المشاكل على مضى الوقت، في ذلك الحين بدأ الأدباء أيضاً يتراجعون في ميدان الحرية الذي كانوا فيه يركضون، ويحاسبون أنفسهم فيما يكتبون قبل أن تحاسبهم السلطات، فاعترى الجمود الأدب، ولا يزال رانياً عليه.
والمرحلة الثالثة جاءت بعد الحرب العالمية الثانية، وفيها امتداد لجمود المرحلة الثانية ولكنها تتميز بنزوع الأدباء إلى الكتابة في الحال الاجتماعية من حيث تصوير مظاهر الشقاء ومعالجة الأعداء الثلاثة، الجهل والفقر والمرض؛ وهو تصوير يبدو قاتماً لسوء الحال التي يصورها، ويغلب التشاؤم على الأدب لذلك.
وهناك مع هذا أدباء هربوا من ذلك الجمود ومن هذا الأدب الاجتماعي البائس، إلى التاريخ: فهيكل يكتب في حياة محمد وحياة الخلفاء، والعقاد يؤلف العبقريات، ويتجاوزها إلى التأليف في الإله، وطه حسين (المتكلم لا يزال الدكتور طه) يكتب على هاش السيرة ويتجاوز ذلك إلى عثمان وأحلام شهرزاد.
وذلك لأن الأديب يشعر بالحاجة إلى الراحة، وقد وجد أدباؤنا راحتهم في التاريخ. بقية الهاربين: هناك من كبار أدبائنا - غير من ذكرهم الدكتور طه - من هربوا من الأدب كله إلى الرد على رسائل القراء الشاكين من مصلحة التنظيم، وحل معضلات الحب التي تعرض لبعض الشبان والفتيات.
. الشخصية والجريمة: في يوم الجمعة الماضي انعقدت مناظرة بقاعة يورت التذكارية موضوعها (الشخصية والجريمة) اشترك فيها الدكتور أمير بقطر والأستاذ سلامة موسى والسيدة سمية فهمي والأستاذ مظهر سعيد.
وقد دارت المناقشة بينهم في الإجابة عن هذه الأسئلة: ماذا يقصد بالشخصية وبالجريمة؟ وهل الشخصية موروثة أو مكتسبة؟ وهل يورث الإجرام أو يكتسب؟ وإلى أي حد ينبغي أن يعفى المجرم من المسؤولية؟ ومجمل ما اتفقوا عليه أن الشخصية هي مجموعة الصفات الجسمية والوجدانية والأخلاقية وتفاعلها، وأن الشخصية الحسنة هي التي يلائم صاحبها بين تصرفاته وبين المجتمع ويتحمل تبعة أعماله، والسيئة هي غير الملائمة المتخففة من المسؤولية؛ وأن كلا من الشخصية والإجرام يتكون من الوراثة ومن البيئة، وقد اختلف المتناظرون في أيهما - الوراثة والبيئة - أكثر أثراً وإن كانوا متفقين على وجودهما في الشخصية والجريمة. وقد اختلفوا في تعريف الجريمة، فبدأت السيدة سمية بأن الجريمة لا حقيقة لها، لأن ما يعتبره بعض البلاد جريمة قد لا يعتبره كذلك بلد آخر، وما يستنكر ارتكابه في زمن قد يستساغ في زمن آخر، ومثلت لرأيها بفظائع الحرب ومعاونة العلماء على استحداث المدمرات التي آخرها القنبلة الذرية، مما يوصف بالبطولة والوطنية، وهو في الواقع وحشية منكرة.
ووافقها الأستاذ سلامة قائلا إن الجريمة تتبع العرف وإنها ليست إلا الأعمال التي لا يقرها المجتمع.
وخالفهما الدكتور بقطر والأستاذ مظهر ذاهبين إلى أن الجريمة كل تصرف يخرج على النظام ويقع منه ضرر على الفرد والجماعة وهي تكون في زمن معين ومكان محدد.
واشتد الخلاف بينهم عندما عرضوا للسؤال الرابع وهو الخاص بإعفاء المجرم من المسؤولية، فقالت السيدة سمية والأستاذ مظهر بوجوب النظر في حال المجرم من حيث نوع شخصيته، فلا يعاقب ذو الشخصية المريضة كالذي يسمى (السيكوباتي) وغيره مما كونته ظروف البيئة تكويناً سيئاً، وخالفهما الدكتور بقطر والأستاذ سلامة، فقال الثاني إن المجرم من أي نوع متأثر في إجرامه بالوراثة والبيئة على اختلاف تقدير حظه من كل منهما، فكل مجرم لا بد له فيما يرتكب إذا أخذنا بقاعدة الإعفاء من الإجرام الاضطراري.
وقال الدكتور بقطر إنه لاحظ في أثناء وجوده أخيراً بأمريكا، أن الجرائم هناك قد كثرت بفضل علماء النفس الذين يعللون دوافع الإجرام تعليلا يعفي المجرمين من العقاب أو يخففه عنهم، ويفسح القضاة لهذه التحليلات النفسية، ويصدرون أحكامهم بناء عليها. تعقيب: لقد تبينت في خلال هذه المناظرة بالمشاهدة والمثل العملي - أن العامية لا تصلح أبداً لغة للأفكار العلمية، وذلك أن المتناظرين وخاصة السيدة سمية فهمي والأستاذ سلامة موسى، كانوا يلجئون إلى التعبير العامي فلا يسعفهم في إبراز ما يجول بخواطرهم، فيستنجدون بالتعبير الفصيح، فم واتاه بلغ به، ومن استعصى عليه اضطرب وملكه العي، وقد وقعت السيدة من ذلك في حرج شديد، وإن بدا - على رغم تعثر لسانه - تمكنها من دقائق الموضوع، وقد كانت تشكو من ضيق الوقت وعدم اتساعه لمعالجة موضوع المناظرة، والواقع أن الوقت كان يضيع بالتلجلج وتكرار العبارات العامية من غير طائل، ولو أنهم أعدوا للمناظرة ودونوا أفكارهم في (تجربة) قبل الظهور على المسرح، لأتوا بما يرجى منهم في مثل هذه المناظرة، فهم معروفون بالدراسة والبحث وسعة الاطلاع، ولكن الارتجال والاستهانة باللغة الصالحة للتعبير العلمي الدقيق، جعلاهم يقضون نحو ساعتين فيما لا يستحق هذا الزمن من أمثالهم، وقد شعر الحاضرون بذلك، وكانوا جمهوراً كبيراً، أتوا ليستمعوا إلى هؤلاء الأعلام، ولم يضنوا على عقولهم بثمن الدخول الذي تتقاضاه الجامعة الأمريكية ولعلها الوحيدة في مصر التي تفرض أجراً على سماع المحاضرات والمناظرات العامة. عباس خضر